الفصل الخامس – المشاركات

ومنها شركة العقد وهي خمسة أنواع ومنها المزارعة والمساقاة.

الشركة:

الشركة عامة هي عقد بين اثنين أو أكثر على الاشتراك في المال وربحه، أو على الاشتراك في ربحه دون الاشتراك في رأس المال، أو الإشتراك في أجر العمل، أو الإشتراك فيما يباع ويشتري دون أن يكون هناك رأس مال لهم يتجر فيه. (الشيخ علي الخفيف – في الشركات في الفقه الإسلامي – ص 19، 20).

والشركة عقد جائز غير لازم، وأنواعها:

شركَّة العَّنان : وهي أن يشترك إثنان أو أكثر بماليهما على أن يعملا فيهما بأبدانهما والربح بينهما، وهي جائزة بالإجماع. ولا يشترط فيها التساوي في المال أو التصرف أو الربح، فإذا كان ثمة خسارة فتكون بنسبة رأس المال.

شركة الأبدان : وهي أن يشترك إثنان أو أكثر بعمل أبدانهما، وليس فيها رأس مال، وتسمى أيضاً شركة الصنائع لأن رأس مالهما صنعتهما، وشركة التقبل لأنهما يشتركان في تقبل العمل، وشركة الأعمال لأنها مشاركة أعمال. وهي جائزة عند المالكية والأحناف والحنابلة. وذهب الشافعية والإمامية الظاهرية إلى بطلانها.

شركة الوجوه : هي أن يشتري إثنان فأكثر دون أن يكون لهما رأس مال؛ اعتماداً على جاههم وثقة التجار بهما، على أن يكون الربح بينهما، وهي أيضاً شركة  الذمم وشركة المفاليس؛ لأنها تقوم على الذمم من غير صنعة ولا مال ويجوز تفاوتهما في ضمان الملك ويكون الربح بينهما على قدر حصص الضمان. وهي جائزة عند الأحناف والحنابلة. وأبطلها الشافعية والمالكية.

شركة المفاوضة : هي عند الأحناف أن يشترك الرجلان فيتساويان في مالهما وتصرفهما ودينهما، ويكون كل منهما كفيلاً عن الآخر في كل ما يلزمه من عهدة ما يشتريه، كما أنه وكيل عنه. وصفتها عند المالكية هي أن يفوض كل واحد منهما إلى الآخر التصرف مع حضوره وغيبته، ولا يكون شريكه إلا بما يعقدان الشركة عليه، ولا يشترط تساوي المال. ويرى الحنابلة المفاوضة أن يشتركا في جميع أنواع الشركات، مثل أن يجمعها بين شركة العنان والأبدان والوجوه وذهب الشافعية إلى إبطالها.

المضاربة : هي أن يدفع الرجل ماله إلى من يتجر فيه على أن يكون الربح بينهما على حسب ما يتفقان عليه.

المزارعة : هي أن يدفع الرجل أرضه إلى من يزرعها على أن يكون الزرع بينهما على حسب ما يتفقان عليه.

المساقاة : هي أن يدفع الرجل شجره إلى من يسقيه ويقوم عليه على أن يكون الثمر بينهما على حسب ما يتفقان عليه.

الأرض الزراعية

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه“.

على صاحب الأرض الزراعية أن يزرعها بنفسه، فإن لم يتمكن … فيعيرها من يقدر على زراعتها دون مقابل، أو أن يدفعها إلى من يزرعها بآلته وبذره وحيوانه على أن يكون له جزء معلوم مما يخرج منها. واشترط البعض في هذه المعاملة أن يقدم صاحب الأرض البذر أو الآلة.

أما عن تأجير الأرض الزراعية … فقد منع البعض تأجيرها بجعل ثابت، استناداً إلى نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض. وتعود العلة في المنع إلى أن عقد الإجارة هو عقد تبادل منفعة معروفة بمال معلوم، فالذي يستأجر البيت سوف ينتفع بسكناه ويستطيع رؤية الدار فتتضح المنفعة التى سوف يستفيد منها خلال مدة العقد، أما الأرض الزراعية … فقد يستأجرها المزارع، ويزرعها ويقوم عليها بقصد أن يحصل على منفعتها وهو الزرع، وقد يحصل الزرع وقد لا يحصل؛ فالمعقود عليه هو منفعة الأرض، ويشترط فيه أن يكون مقدور الاستيفاء حقيقة.

وتختلف منفعة الأرض أيضاً عن منفعة سكنى الدار، فمنفعة الأرض المرادة هي في الحصول على نتاجها وليس في زرعها، وقد تتحقق بالعمل والإنفاق عليها، وقد لا تتحقق بهما؛ فقد يقوم عليها المستأجر بماله وجهده ولا تتحقق لآفة تصيب الزرع أو أن لا يسقط مطر ولا يصلها ماء الري. بينما تتحقق منفعة الدار دون عمل، وتتحقق منفعة الآلة بالعمل، وإن لم تتحققا لعيب منهما فلا تجوز الأجرة.

وحيث أن الزراعة تحتاج المال والعمل والأرض؛ والعوض مجهول … كان من العدل اشتراك مالك الأرض والمزارع فيما يرزق الله، وهذا أولى من أن يفوز صاحب الأرض بالأجر دون أن ينتفع بها المستأجر إن لم يصلح زرعها، وفي الحديث الشريف في وضع الجوائح ما يرجح هذا ”أرأيتم إذا منع الله الثمرة، بم يستحل أحدكم مال أخيه؟ وفي رواية أخرى : بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟“.

والعلة الأخرى أن الأرض مال لا يستهلك ولا ينقص؛ أي إنه مضمون بطيبعته ولا يطيب ربحه اتباعاً لقاعدة الغنم بالغرم؛ وفقاً للحديث الشريف الخَراج بالضمان. والقول إن صاحبها قد دفع فيها مالاً جمعه بجهده وعمله، وإنها حزمة منافع مثلها مثل الدار والآلة، يستفاد من منافعها على مر الزمان، فالآلة والدار يستهلكان وينقصان باستهلاك منافعهما، بينما تبقى الأرض على حالها، وما دفعه في شرائها باق فيها ويستعيده حين يبيعها، وله الربح إن باع بأكثر، وعليه الوضيعة إن باع بأقل، وبينما هي في ملكه يدخل عليه جزءاً من محصولها الذي ساهم فيه بالبذر أو غيره من نفقاتها.

وجاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ. وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمُحاقلة. قال والمُحاقَلة كِراءُ الأرض.

ويقول الدكتور محمود أبو السعود في كتاب خطوط رئيسية في الاقتصاد الإسلامي ص 244، 245: ”إذا قلنا إن رأس المال هو مجموع مدخر من مجهودات سابقة في صورة مادية قصد استغلالها في استثمار لاحق، فإن الإسلام يبيح هذا التملك ما دام المستمثر يبذل عملاً أو يتحمل خطراً. والقاعدة الإسلامية في هذا: الغنم بالغرم. ويضيف الدكتور في مكان لاحق: وهذا ينطبق على رجل أدخر مالاً ثم اشترى أرضاً زراعية ولم تسمح له ظروفه باستغلالها بنفسه، هل له أن يكريها أو لا؟ الجواب الذي لا خلاف فيه بالنفي، فكراء الأرض ككراء رأس المال سواء بسواء. ويضيف الدكتور في ص 264 في نفس المرجع وفي معرض المقارنة بين كراء الأرض الزراعية وكراء غيرها فيقول: ما بالنا نسمح لصاحب الدار والآلة أن يؤجر داره وآلته ولا نسمح لصاحب الأرض بمثله، جواب ذلك يسير، فالدار والآلة كلتاهما سلعة استهلاكية وإن كان استهلاكهما طويل المدى، وسيأتي وقت بَعُدَ أم قَصُرَ يصبحان فيه أثراً بعد عين. واستغلالهما هو دون شك استغلال لمنفعتهما؛ يستلزم بحكم الضرورة استهلاكاً للعين ذاتها، وصاحب الآلة والمنزل عليه دواماً أن يعمل على صيانتهما وترميمهما وحفظها من التلف الذي لا يمكن تلافيه كلية سواء استعملا أم أهملا.

ذلك أن طبيعة الأشياء الاستهلاكية أن تفنى باستعمالها، فمالكها مجبر على اقتضاء ثمنها (أو اقتضاء ثمن منفعتها حالة تأجيرها) وإلا استهلكت فاستهلك رأس المال المستغل فيها دون مقابل للجهد المبذول في إنشائها أو صناعتها، وبعبارة أخرى … مثل هذه السلع الإستهلاكية إنما تصنع أو تنشأ حتى يستفيد صاحبها من استثمار عمله فيها، وظاهر أن وضع الأرض مخالف تماماً لمثل هذه السلع، فهي ليست إستهلاكية، ولا تفنى بحكم الاستغلال والاستثمار كما أنها ليست (أو على الأقل ليس أغلبها) من عمل الناس وإنشائهم ولكنها كما سبق القول من عمل الطبيعة ومواهب الخالق تبارك وتعالى. هنا يعرض سؤال آخر : إذ لو قلنا بهذا فما حكم مالك الدار أو الآلة الذي يَرْتَزق من تأجير آلته أو داره ويقوم بعمل آخر؟ هذا عندنا رزق حلال؛ إذ هو أجر لاحق لعمل سابق، وهذا الأجر لن يستمر أبداً بل سينتهى بانتهاء الدار أو الآلة، وحينئذ عليه أن يعمل من جديد ليبني داراً أخرى أو يصنع آلة ثانية، وقياس هذا الوضع بصاحب الأرض بيِّن الخلاف“.

أما من لم يمنع تأجير الأرض إستناداً على الحديث الشريف عن رافع بن خديج – فإما بالذهب والورق فلا بأس – فقد اشترط شروطاً يقدمها المالك مع الأرض كتوفير المياه وغيرها من الشروط التي تقدم منفعة إضافية، أو اشتراط أَلاَّ تدفع الأجرة إلا عند تحقيق المنفعة، أو ربط حق استيفاء الأجرة بسقوط المطر.

جاء في مجموع فتاوي ابن تيمية (جزء 30، ص257) : ”وسئل رحمه الله عمن استأجر أرضاً، فلم يأتها المطر المعتاد فتلف الزرع. هل توضع الجائحة؟ فأجاب : إما إذا استأجر أرضا للزرع فلم يأت المطر المعتاد فله الفسخ باتفاق العلماء، بل إن تعطلت بطلت الإجارة بلا فسخ في الأظهر. وأما إذا نقصت المنفعة، فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقصت المنفعة، نص على هذا أحمد بن حنبل وغيره، فيقال كم أجرة الأرض مع حصول الماء المعتاد؟ فيقال ألف درهم. ويقال كم أجرتها مع نقص المطر هذا النقص؟ فيقال خمسمائة درهم. فيحط عن المستأجر نصف الأجرة المسماة، فإنه تلف بعض المنفعة المستحقة بالعقد قبل التمكن من استيفائها، فهو كما لو تلف بعض المبيع قبل التمكن من قبضه“.

ولو افترضنا صحة إكراء الأرض بجعل ثابت … فإن عقد الإجارة هو عقد بيع منفعة معروفة، مقدورة الاستيفاء حقيقة، ويشترط القدرة على تسليم العين مع اشتمالها على المنفعة، والمنفعة هي ما تطلب العين من أجلها، ومنفعة الأرض الزراعية تتمثل في قدرتها الإنباتية، تلك الخاصية التي أودعها لله فيها، ولهذا طلبها الناس؛ فالمباع هنا هو هذه الخاصية ولا يظهر أثرها إلا بصلاح الزرع، ومتى تحقق شروط استيفاء المنفعة وجب الأجر، ولكن هذه المنفعة مجهولة القدر وقت التعاقد، وقد تنبت الأرض محصولاً وافراً أو أقل من ذلك، لهذا … فمن العدل أن يكون الأجر أو ثمن المنفعة متناسباً مع قدر استيفاء هذه المنفعة ولا يكون هذا إلا أن يكون الأجر جزءاً شائعاً مما تنبته، وهذه هي المزارعة.

وإن قيل إن الآفة التي تصيب الزرع لا علاقة لها بخاصية الأرض الإنباتية فالنبات قد ظهر قبل حدوث الآفة … فإن خاصية الإنبات والآفة والريح المدمرة كلها من عند الله سبحانه وتعالى، والخَراج بالضَّمان فصاحب الأرض له من خراجها بضمانه منفعة الإنبات، ولا يستفاد من هذه الخاصية إلا بصلاح الزرع، والمستأجر أو المزارع لا يضمن العين المستأجرة – الأرض شاملة منفعتها – والتي دفع بها صاحبها مزارعة … إلا بما أتلفت يده أو إذا تعدى، والتعدي هنا يكون في عدم زرعها أو إهمالها مما يؤدي إلى تلف الزرع أو أن يتعمد إتلافه … فإن تعدى يكون عليه ضمان ما أتلف وهو قيمة المنفعة وتحسب بنصيب صاحب الأرض في مزارعة مثلها، وعليه إصلاح الأرض إن أصابها ضرر.

المــزارعــة

معنى المزارعة في اللغة هي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها، ومعناها هنا هو إعطاء الأرض لمن يزرعها على أن يكون له نصيب بجزء شائع، مما يخرج منها كالنصف أو الثلث أو وفق ما يتفقان عليه.

والمزارعة هي نوع من التعاون بين المزارع وصاحب الأرض بقصد الكسب لهما، فقد يكون المزارع ماهراً في الزراعة وهو لا يملك أرضاً، وقد يكون مالك الأرض عاجزاً عن زراعتها، فشرعها الإسلام لما تعود به بالنفع على الطرفين وعلى المجتمع ككل. وهي مشاركة بين الطرفين في النماء الحاصل بالعمل.

وقال محمد الباقر بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا ويزرعون على الثلث والربع. ويستدل من هذا انتشار المزارعة في المدينة. وزارع على رضى الله عنه وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين. رواه البخاري.

ويشترط أن يكون نصيب كل طرف غير معين بمقدار أو بجزء معين من مساحة الأرض أو بنوع مما تنتجه لو اختلف نتاجها، بل يكون نصيب كل طرف جزء مما تنتجه الأرض فيتساويا في النوع والجودة وغيرهما مما قد يختلف فيه الزرع أو الثمار، فيأخذ كل منهما نصيبه الذي اتفق عليه. وقد اشترط هذا لضمان عدالة توزيع منافع هذه المعاملة … فإن اشترط جزء معين من الأرض لأحدهما … فقد يسلم الزرع في هذا الجزء، ويهلك في الجزء الآخر فيظفر بالثمر والزرع من اشترط له، ولا ينال الآخر شيئاً، وتكون المزارعة في هذه الحالة فاسدة لما فيها من الغرر والجهالة، ولأنها تؤدي إلى النزاع والشقاق.

وقد ذكر البخاري في صحيحه : أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه عامل الناس على : إن جاء عمر بالبذر من عنده، فله الشَّطر (النصف)، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا.

حديث جابر : عن الأوزاعي عن عطاء بن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها، فإن أبى فليمسك أرضه.

(البخاري)

أحاديث رافع بن خديج : روى البخاري عن رافع ابن خديج قال : كنا أكثر أهل الأرض – أي المدينة – مزروعاً، كنا نكري الأرض بالناحية منا تسمى لسيد الأرض، فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض، وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا.

وروى مسلم عن رافع بن خديج قال : إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله بما على الماذيانات – ما ينبت على حافة النهر ومسايل الماء وإقبال الجداول – أوائل السواقي وأشياء من الزرع. فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كرى إلا هذا فلذلك زجر عنه.

وروى البخاري عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما تصنعون بمحاقلكم (مزارعكم)؟ قالوا نؤجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير. قال : لا تفعلوا – ومعنى هذا أنهم كانوا يحددون لهم مكيلاً معيناً يأخذونه من فوق الرؤوس – كما يقال – ثم يقتسمون الباقي مع المزارعين على الربع.

وعن البخاري عن أن رافع بن خديج قال لابن عمر حين سأله ابن عمر وكان يكري مزارعة : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. فقلت : بالذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق فلا بأس. رواه الخمسة إلا الترمذي. وفي لفظ آخر : فأما بشئ معلوم مضمون فلا بأس.

والحديث المسند إلى رافع بن خديج في كراء الأرض بالذهب والفضة يبطله ما ورد عن عيسي بن سهل بن رافع انه قال : إني يتيم في حجر جدي رافع بن خديج وحججت معه، فجاء أخي عمران بن سهل قال : أكرينا أرضنا فلانة بمائتي درهم. فقال : دعه فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض.

ويقول الدكتور محمود أبو السعود في كتاب خطوط رئيسية في الاقتصاد الإسلامي ص 254 : ”وقد جاء في كتب الحديث الصحيحة ما لا يدع مجالاً للشك في أنها جميعاً تحرم كراء الأرض لا بذهب ولا بفضة ولا بغير ذلك. وقد فصل ابن حزم في المحلى هذا البحث وأورد كثيراً من الروايات التي تبطل ما أسند إلى رافع بن خديج قوله : فأما بالذهب والورق فلم ينهنا“.

وقد ذهب إلى ذلك جماعة من السلف رضى الله عنهم. فكان طاووس فقيه اليمن والتابعي الجليل يكره أن يؤاجر أرضه بالذهب والفضة ولا يرى بالربع والثلث بأساً. ولما احتج عليه بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض؛ قال: قدم علينا معاذ بن جبل – مبعوث رسول الله إلي اليمن – فأعطى الأرض على الثلث والربع فنحن نعملها إلى اليوم. (فكأنه يرى الكراء المنهي عنه هو الكراء بالذهب والفضة أما المزارعة فلا بأس) – وقد روي مثل هذا عن محمد بن سيرين وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أنهما كانا لا يريان بأساً أن يعطي أرضه على أن يعطيه الثلث أو الربع أو العشر، ولا يكون عليه من النفقة شيء. (كما ورد في كتاب الحلال والحرام في الإسلام للدكتور يوسف القرضاوي).

المُســـاقاة

وهي دفع الشجر المثمر لمن يقوم بسقيه ويتعهده حتى يبلغ تمام نضجه نظير جزء معلوم من ثمره. فهي مشاركة بين صاحب الشجر والمساقي يكون فيها الشجر من جانب والعمل فيه من جانب، والثمرة الحاصلة مشتركة بينهما بنسبة وفق ما يتفقان عليه كالنصف والثلث ونحو ذلك.

وقد اتفق الفقهاء على جوازها للحاجة إليها، ما عدا أبى حنيفة الذي رأى أنها لا تجوز.

وفي نيل الأوطار : قال الحازمي : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلي وابن شهاب الزهري، ومن أهل الرأي أبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن، فقالوا : تجوز المزارعة والمساقاة بجزء من الثمر أو الزرع. قالوا : ويجوز العقد على المزارعة والمساقاة مجتمعين، فتساقيه على النخل وتزارعه على الأرض كما جرى في خيبر.

ويشترط في عقدها ما يشترط في العقود، وصيغتها الإيجاب والقبول. ويشترط فيها أيضاً أن يكون الشجر المساقي عليه معلوماً، وأن تكون مدتها معلومة ولو انتهت مدتها قبل نضج الثمار … تترك للمُساقي إلى أن تنضح، وأن يكون العقد قبل بدء الصلاح، وأن يكون للمساقي جزء معلوم مشاع من الثمر كالنصف والثلث.

وتفسد المساقاة متى فقد شرط من هذه الشروط، فإن كان قد مضى فيها المساقي ونما الشجر بعمله فله أجر مثله، ونَماء الشجر لمالكه.

وجاء في بداية المجتهد: ”واتفق القائلون بالمساقاة على أنه إن كانت النفقة كلها على رب الحائط – أي صاحب الشجر – وليس على العامل إلا ما يعمل بيده أن ذلك لا يجوز، لأنها إجارة بما لم يخلق“.

وما يقوم به المساقي من عمل كما جاء عن النووي: ”إن عليه كل ما يحتاج إليه في إصلاح الثمر، واستزادته مما يتكرر كل سنة، كالسقي وتنقية الأنهار وإصلاح منابت الشجر وتلقيحه وتنحية الحشيش والقضبان عنه وحفظ الثمرة وجذاذها ونحو ذلك“.

وقال مالك : ”إذا عجز العامل وقد حل بيع الثمر لم يكن له أن يساقي غيره، ووجب عليه أن يستأجر من يعمل. وإن لم يكن له شئ استؤجر من نصيبه من الثمر“.

وقال الشافعي تنفسخ المساقاة بالعجز.

وإذا مات أحد المتعاقدين … يستمر العمل في الشجر، الذي لم يبد صلاحه، حتى ينضج.

 

معاملة الأنصار والمهاجرين:

روي البخاري عن ابي هريرة رضي الله عنهما إن الأنصار قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال : لا. فقالوا – أي قالت الأنصار للمهاجرين – تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة قالوا : سمعنا وأطعنا؛ أي إن الأنصار أرادوا أن يشركوا معهم المهاجرين في النخيل؛ فعرضوا ذلك على رسول الله ” فأبى فعرضوا أن يتولى المهاجرين المؤونة ولهم الشطر من الثمر فأجابهم.

ومن الصعب القياس على هذه المعاملة لظروفها الخاصة، وكونها لاحقةً للعرض الأول، وهو أن يَهِبَ الأنصار بعض نخلهم للمهاجرين. والمنح قد جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه. والقصد هنا – والله أعلم – أن تُعَارَ الأرض لا أن تملك، وأن يكون صاحبها غير قادر أو غير راغب في زرعها، وأن من تعطى له قادر على زراعتها. ولم تكن لدى المهاجرون خبرة الزراعة، فأبقى الرسول صلى الله عليه وسلم الأرض على ملك أصحابها من الأنصار، ونتج عن هذا أن تعلم المهاجرين حرفة الزراعة وانتفع الجميع بما يخرج من الأرض.

يهود خيبر:

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس، أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشَطْر ما يخرج منها من زرع أو ثمر.

ومن الروايات الأخرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع أرض خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم، بشَطْر ما يخرج منها من ثمر أو زرع.

وقد روي عن مالك مرسلاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لليهود: أقركم ما أقركم الله.

وروي عن هشيم أخبرنا ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : ”دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر – أرضها ونخلها – إلى أهلها مقاسمة على النصف“.

وجاء فى المغنى لابن قدامة (جزء5 ص 384): ”هذا أمر مشهور عمل به رسول اللهصلى الله عليه وسلم  حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدين حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم، ولم يبق فى المدينة أهل بيت إلا عمل به. وعمل به أزواج النبى صلى الله عليه وسلم من بعده … ومثل هذا مما لا يجوز أن ينسخ، لأن النسخ إنما يكون فى حياة رسول الله صلعم  فإما شئ عمل به إلى أن مات، ثم عمل به خلفاؤه بعده وأجمعت الصحابة – رضوان الله عليهم – عليه، وعملوا به ولم يخالف فيه منهم أحد. فكيف يجوز نسخه؟ فإن كان نسخه فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم  فكيف عمل به بعد نسخه؟ وكيف خفى نسخه فلم يبلغ خلفاءه مع إشتهار قصة خيبر وعملهم فيها؟ فأين كان راوى النسخ حتى لم يذكروه ولم يخبرهم به“.

واعتمد الفقهاء على معاملة خيبر فيما اعتمدوا عليه فى جواز المزارعة، بينما اعتبرها بعض الفقهاء شاذة عن القاعدة؛ لأن أرض خيبر هى أرض فيء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن هزمهم، قبل رجاءهم بأن يبقيهم، يعملون فى الأرض ويشاطرهم نصف ما يخرج منها. وهذه المعاملة لم تتوفر فيها إرادة أحد الطرفين الحرة، وعليه … فلا يجوز عندهم التشريع على أساسها، وهذا صحيح إلا أن ما عمل به الصحابة رضى الله عنهم ومن بعدهم من مزارعة صحيح أيضاً، ولا ينطبق شذوذ معاملة يهود خيبر على المزارعات الأخرى التى عمل بها.

ولهذا فمعاملة خيبر وغيرها من المزارعات، يقاس عليهم بجواز المزارعة والمساقاة، ولأن هذه المعاملات من المشاركات مثل المضاربة ولا يشوبها ما يؤدى إلى أكل المال بالباطل أو ربا أو غَرر، أو ظلم لأى من المتعاقدين.

ويقول ابن تيمية فى مجموع الفتاوَى (جزء30 ص 226): ”إن المزارعة على الأرض كالمساقاة على الشجر، وكلاهما جائز عند فقهاء الحديث كالإمام أحمد وغيره، مثل ابن خزيمة وابن المنذر وعند ابن أبى ليلى وأبى يوسف ومحمد وعند الليث ابن سعد وغيرهم من الأئمة جائزة، كما دل على جواز المزارعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجماع أصحابه من بعده، والذين نهوا عنها ظنوا أنها من باب الإجارة، فتكون إجارة بعوض مجهول وذلك لا يجوز“.

ويضيف فى صفحة 356: ”ومن تدبر الأصول تبين له أن المساقاة والمزارعة والمضاربة أقرب إلى العدل من المؤاجرة، فإن المؤاجرة مخاطرة والمستأجر قد ينتفع وقد لا ينتفع بخلاف المساقاة والمزارعة فإنهما يشتركان فى الغنم والغرم، فليس فيها من المخاطرة من أحد الجانبين ما فى المؤاجرة“.

ويقول ابن تيمية فى مجموع الفتاوى (جزء29 ص94): ”وذهب جميع فقهاء الحديث الجامعون لطرقه كلهم، كأحمد بن حنبل وأصحابه كلهم من المتقدمين والمتأخرين، وإسحاق بن راهوية وأبى بكر بن أبي شيبة وسليمان بن داوود وأبى خيثمة زهير بن حرب، وأكثر فقهاء الكوفة كسفيان الثورى ومحمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى وأبى يوسف ومحمد صاحبى أبى حنيفة، والبخاري صاحب الصحيح، وأبى داوود وجماهير فقهاء الحديث من المتأخرين، كابن المنذر وابن خزيمة والخطابي وغيرهم، وأهل الظاهر وأكثر أصحاب أبى حنيفة إلى جواز المزارعة والمؤاجرة ونحو ذلك اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم  وسنة خلفائه وأصحابه وما عليه السلف“.

<< previous page next page >>