هل كان التطور عشوائي أم تطور موّجه وفق تصميم وغاية؟

كنت قد بينت في دراسات سابقة[1]، أن دلالة الآيات المتعلقة بخلق الإنسان تشير إلى خلق تطوري موجه بمشيئة وقدرة الله تعالى . التطور هو سنة الله في الخلق ، إذ نجد التطور أيضا في خلق الكون ، فمن نقطة صغيرة ، تقريبا لا متناهية في الكثافة والضغط والحرارة ، نما النسيج الكوني خلال فترة قصيرة للغاية ، لم تتجاوز بضعة أجزاء صغيرة من الثانية، نما متضخما بمعدل يفوق سرعة الضوء بعدة مرات ، ثم استقر في توسع منتظم مستمر ، فبدأ يبرد نسبيا بما سمح بتكون الجسيمات الأولية Quarks ، والتي اتحدت لتكون البروتونات والنيوترونات والإلكترونات ، وبعد ثلاثمائة ألف سنة برد الكون إلى درجة سمحت لتتكون أول ذرة هيدروجين من اجتماع الإلكترون مع النواة التي تكونت من اتحاد بروتون مع نيوترون . واستمر تكون هذه الذرات لقرابة مائة ألف سنة أخرى حتى اكتمل تكون كل ذرات الهيدروجين الموجودة في الكون حتى اليوم ، وبهذا أنفصل الإشعاع عن المادة وأصبح الكون مرئيا لأول مرة . وأستمر الكون بعد ذلك في التوسع وبعد حوالي 300 مليون سنة تجمعت بعض الغيوم الهيدروجينية تحت قوة الجاذبية ليولد نجوم الجيل الأول ، والتي طبخت في أفرانها العناصر الثقيلة ، وبعد انتهاء مخزون هذه النجوم الأولى من الطاقة ، انفجرت ملقية بالعناصر الثقيلة إلى الفضاء ، والتي دخلت في تكوين نجوم الأجيال اللاحقة ، لتتكون الكواكب التي تدور حول النجم من هذه العناصر الثقيلة ، وأعقب ذلك عبر بلايين السنين تكون نجوم كثيرة تجمعت ضمن مجرات ، حتى بلغ عدد المجرات مئات البلايين مجرة ، في كل مجرة في المتوسط مائتي بليون ( مليار ) نجم . وبعد 9.20 بليون سنة من نشأة الكون ولد نجم جديد تكون حوله عدة كواكب منها كوكب الأرض الذي نحيا عليه .

ما أود قوله هنا إن الكون كما هو عليه الآن ، والأرض التي نحيا عليها لم يظهرا فجأة دون مقدمات ، وإنما نتجا عن عملية مرحلية تطورية بدأت من تجمع طاقة هائلة تحت ضغط هائل وحرارة هائلة ، من نقطة واحدة بدأ الزمن وتمدد المكان، فتكونت الجسيمات الأولية التي اتحدت مع بعضها لتتكون الذرات ، ثم تجمعت الذرات البسيطة لتكون النجوم التي تكون في باطنها العناصر الثقيلة التي منها مادة بناء الكواكب والأقمار، ومنها الأرض ، ثم نفس السنة والطريقة التطورية، تكررت عندما تطور كوكب الأرض الجديد عبر بلايين السنين من كتلة ملتهبة منصهرة لا حياة فيها ، إلى أن ظهرت أول خلية حية على الأرض ، وبعد آلاف أو حتى ملايين الخطوات التطورية ، حتى وصلنا إلى هذا الكوكب المستقر الجميل الذي يزخر بالتنوع الهائل في أنواع الحياة .

أي أن التطور هو سُنة الله تعالى في خلقه، وجدنا التطور في خلق الكون، ونجده في خلق الحياة. ولكن أي تطور، تطور دارويني عشوائي أم تطور موجه حتمي ذكي؟ التطور الذي نجده لا هذا ولا ذاك. فقد ثبت وفق نظرية الإحتمالات إستحالة حدوث الضبط الدقيق في الكون عن طريق الصدفة، وإستحالة ظهور الخلية الأولى عن طريق الصدفة، ثم إستحالة تطورها الى هذا التنوع الهائل، وإستحالة ظهور الإنسان المفكر الواعي، إستحالة أن يكون كل هؤلاء نتاج صدفة عمياء، وحيث أنهم كلهم وجدوا ونجحوا، من الضبط الدقيق لقوانين وثوابت الكون، من ظهور الخلية الأولى في ظروف مناخية قاسية، ثم في نجاح تطور الخلية الأولى -في ظروف معادية للحياة- حتى وصلنا الى هذا التنوع الهائل في أنواع المخلوقات، وعلى رأسهم الإنسان. كل هذا لا يترك لدينا أي شك أن هذا نتاج تصميم ذكي، تتحرك آلياته وفق غاية وهدف. 

 أكاد أسمع الملحد يعترض صائحا: أي تصميم وأي هدف ؟ تسعون في المائة من أنواع الحياة التي ظهرت فشلت وانقرضت، أي تصميم والأرض لا تشغل حتى حيز حبة رمل بالنسبة لهذا الكون الهائل ، لماذا الحاجة إلى كل هذا الكون الذي يعجز حتى خيالنا أن يتصور مدى سعته وكبره؛ لو كان التصميم غايته خلق الإنسان على هذا الكوكب المتواضع الصغير ، لماذا نجد خارج الأرض هذا الكون الهائل ، والذي ليس فقط أنه ليس صالحًا للإنسان ، بل هو معاد ومدمر له . ثم لماذا اشتمل التصميم على الزلازل والأعاصير والفيضانات! ولماذا أنتج التصميم الفيروسات والبكتيريا والأمراض التي تفتك بالإنسان! الكثير من الأسئلة التي تناقض فكرة التصميم الذكي ، بل وتجعل التصميم فاشلا ، لو كان هناك تصميم.

وللإجابة على هذه الإعتراضات، نقول أولا ، بالنسبة لحجم الكون ، لا يجب الحكم بمعاييرنا في مثل هذه الأمور ، إذ أن ما نظنه متسعا وكبيرا وهائلا في منظورنا ، قد لا يكون كذلك من منظور آخر ، وما نراه هدرا وتبديدا في المادة والطاقة في هذا الكون الهائل ، نراه كذلك لأننا لدينا حدود في قدراتنا وثرواتنا ، بينما هذا ليس كثيرا عند من لا حدود لديه ، إذ ربما يكون هذا الكون الشاسع كله لا يعادل نقطة من بحر لا نهاية له .

ثم من أين عرفنا أنه لا وجود لحياة إلا على كوكبنا، ألا يعتقد علماءنا أن هناك آلاف بل الملايين من الكواكب التي تشبه كوكبنا، وقد يكون فيها حياة مثلنا.

لهذا فحجم الكون الهائل لا يتناقض مع فرضية التصميم الذكي[2].

أما عن أنواع الحياة التي ظهرت وانقرضت ، وعن الزلازل والأعاصير ، وعن الأمراض والجوائح التي تفتك بالناس، وكذلك احتمالات سقوط النيازك والكويكبات مثل تلك التي أفنت الديناصورات من قبل ، وعن بلايين السنين التي استغرقها هذا التطور حتى استوى الإنسان واكتمل خلقه وبلغ أشده ، هل هؤلاء جميعا نتاج خطة وتصميم ذكي . والإجابة نعم ، إذ يمكن أن يكون كل هؤلاء من متطلبات التصميم ، إذا كان من غاياته إخفاء التصميم ، بمعنى أن لا يدل هذا الخلق بوضوح وبشكل قطعي على الخطة والتصميم والغاية .

لو افترضنا أن هذا من متطلبات الخطة ، أي أن لا يدل التطور بوضوح إلى خطة وتصميم وهدف ، لو افترضنا هذا ، ترى كيف سيكون هذا الخلق ؟   قد لا أستطيع أن أتخيل خلقا يعتبر هذا الشرط ، سوى هذا الخلق الذي بين أيدينا ، خلق تطوري يسير مسارات نادرة قليلة ناجحة وأخرى كثيرة فاشلة ، بما يمكن أن نعيده إلى الآليات العشوائية العمياء ، فهذه الآليات العشوائية تفسر لنا العدد الهائل من المحاولات الفاشلة التي أدت إلى انقراض – وفق قولهم – تسعين في المائة من الأنواع ، ثم نقول أن الحظ حالفنا – ولو كان احتمال حدوث ذلك يقترب من الاستحالة – نقول حالفنا الحظ في نجاح هذه الآليات التطورية العمياء بإنتاج نوعنا وبقية الأنواع ، هذا يرضي العلماء لأنهم يصرون أن الكون والخلق معقولا ، أي يمكن عقله وفهمه وتلخيصه في بضع معادلات بسيطة ، وهذا رغم أنهم يصطدمون بمعضلات لا يجدون حلولا لها ، مثل بدء الكون والزمن فجأة من لا شيء ، واستحالة ظهور الخلية الأولى وفق مبدأ الصدفة ، وكذلك استحالة نجاح التطور العشوائي في الزمن المتوفر . لكنهم يقولون إن هذه المستحيلات الكثيرة ، ما هي إلا فجوات معرفية سوف نجد لها تفاسير وحلولا علمية في المستقبل .

الحاصل اليوم ، أنه لا توجد دلائل قطعية على صحة التطور العشوائي ، ولا توجد دلائل قطعية على صحة التطور الذكي الموجه ، والإعتقاد بأيهما يعود إلى درجة رفض الآخر عند كل إنسان . الملحد يرفض التصميم للأسباب التي أوردناها وغيرها ، والمؤمن يرفض التطور العشوائي القائم على مبدأ الاحتمالات والصدفة ، ولاستحالة حدوثه في الزمن المتوفر سواء كان عمر الأرض أو حتى عمر الكون كله .

نعود لما أفترضناه من مشيئة الخالق سبحانه وتعالى إخفاء التصميم، وما نجده في الطبيعة أن الخلق والتطور المشاهد يؤكدان هذه الفرضية، ولكن لماذا وضعنا هذا الفرض وكيف نبين صحته.

سبق وقلنا إنه بناء على الرسالة القرآنية ، جعل الله تعالى الحياة الدنيا دار اختبار ، ومنح الإنسان حرية الاختيار ، وأعلمنا أننا سنحاسب في الآخرة على قدر أعمالنا في هذه الحياة . فإذا بانت وظهرت الخطة والتصميم بوضوح ، دلت على الخالق بأدلة قطعية ، مما يجعل الاختبار غير ذي معنى ، كأنك تعطي الطالب ورقة الإجابة مع ورقة الأسئلة ، فإن كان كذلك؛ فما الفائدة من الامتحان .

كنا قد بينا في دراسات سابقة ، أن الإيمان يشترط فيه الإيمان بالغيب . إضافة إلى الإيمان بالغيبيات كالملائكة والجنة والنار وغيرهم، الإيمان بالغيب يدل أيضا الإيمان مع غياب الأدلة القاطعة، والتصميم الذكي دليل قاطع. ونجد صفة الإيمان بالغيب أول صفات المتقين وردت في أول الكتاب، في قوله تعالى :

{الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)}سورة البقرة.

ومنذ بدء نزول القرآن ، وهو معجزة الإسلام، أذن الله بإنتهاء عصر المعجزات وبداية العصور العلمية، فمنع الله تعالى الأدلة المطلقة كالمعجزات، وبين أنها إذا وقعت ، لا جدوى بعد ذلك من الاختبار ، إذ متى جاءت المعجزة قضي الأمر وانتهى الاختبار، كما هو مبين في قوله تعالى :

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158) سورة الأنعام 6

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} سورة البقرة     

{وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9)} سورة الأنعام 6

وإخفاء الأدلة ليس إخفاء كاملا، إذ يمكن بطرق الإستدلال العقلي إستنباط النتائج وإن لم تكن في مستوى اليقين، أي ما أخفي هو الأدلة المادية المطلقة، بما يترك دورا للإستنباط والإستدلال العقلي ثم التصديق والإيمان.

يقول الله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15)} سورة طه 20

قال المفسرون أكاد أخفيها أي أكاد أخفيها عن نفسي، وأيضًا يمكن فهم أكاد أخفيها أي أن يكون الإخفاء بين البينين، لا هي ظاهرة بينة ولا هي مخفية إخفاءً تامًا، فالساعة لها علامات تسبقها.

مما سبق نعلم أن الله تعالى منع عنا الأدلة المادية الواضحة، ومنها المعجزات ومنها كذلك وضوح التصميم الدال قطعًا على الخالق سبحانه وتعالى، فأخفى سبحانه الدليل القاطع وترك الأدلة الظنية التي يستدل عليها المؤمن بعقلهِ، وبما أخبره الله تعالى به في القرآن الكريم. وترك حرية الإختيار للإنسان، كما في قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} سورة الكهف

وبهذا نصل إلى نهاية هذه الحلقة، والتي قصد منها بيان أن التطور الموجه وفق تصميم وهدف، ليس هو التطور المستقيم الحتمي ذا الخطوات المحددة الناجحة دومًا، وإنما هو تطورًا -ويمكن القول مجازًا- في معظمه عشوائي بما يخفي الخطوات النادرة البطيئة الناجحة الموجهة نحو هدف، لا يَستدلُ عليه إلا من آمن فيزداد إيمانًا. وهذا ما وعدتنا به الآية الكريمة:  {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} سورة فصلت 41


لمشاهدة الفيديو على اليوتيوب:

هل كان التطور عشوائي أم تطور موّجه  وفق تصميم وغاية؟   

                        


الدراسة الكاملة في موضوع خلق الإنسان وخلق الحياة، يمكن الإطلاع عليها في الدراسات التالية وينصح بالترتيب التالي، والروابط في صفحة الوصف أسفل الشاشة:

  1. التأويل والتفسير المرحلي لآيات خلق الكون وخلق الحياة في ضوء معارفنا وعلومنا الحديثة.
  2. هل كان الخلق إعجازيا آنيًا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري الموجه بمشيئة وقدرة الله تعالى.
  3. مناقشة حلقة الدكتور إياد قنيبي: فانظروا كيف بدأ الخلق، هل أشار القرآن لتطور الإنسان؟
  4. ثم نتبعهم بهذه الدراسة: هل كان التطور عشوائي أم تطور موّجه وفق تصميم وغاية؟

 


 [1] ( وضعت عنوانيها وروابطها في أسفل الصفحة وفي صفحة الوصف أسفل هذا الفيديو )

[2]  بل ألا نرى أن هذا الكون الهائل لم يثني علماءنا عندما إكتشفوا الضبط الدقيق في ثوابت وقوانين هذا الكون، والذي لولاه لما كانت نجوم ولا كواكب ولا حياة. عندما أكتشفوا هذا الضبط الدقيق، لم يثنهم حجمه الهائل أن يدعوا أن هذا الكون هو واحدٌ من عدد لا متناهي من الأكوان الأخرى، التي ولدت وفق ثوابت وقوانين مختلفة، فشلت كلها بينما نجح كوننا لأنه أختار هذه المجموعة من القوانين والثوابت. قلتم الكون كبير أكبر مما نحتاجه، بينما رضيتم بحدوث عدد يقترب من أن يكون عددا لا نهائياً من الأكوان الفاشلة التي منها ما هو أكبر حجمًا، لتفسروا ظهور كوننا ذو الضبط الدقيق على أنه يمكن حدوثه صدفة وفق مبدأ الإحتمالات، الذي يقول أنه لو كان هناك عددا هائلا من المحاولات، والتي فشلت كلها إلا واحدًا، هو الذي نحيا فيه.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*