نحو فهم جديد في فريضة الزكاة

تم إصدار كتاب على منصة أمازون يحتوى على دراسة موسعة بعنوان: نحو فهم جديد لفريضة الزكاة

مقدمة: الإختلاف بين الفقهاء في تطبيق فريضة الزكاة:

يقول فضيلة الدكتور القرضاوي في مقدمة كتابه فقه الزكاة (ص 10 – 11) : ” وعلى هذه الحاجة نبَّه الأستاذ الأكبر المرحوم الشيخ محمود شلتوت[1] في كتابه ”الإسلام عقيدة وشريعة“. حيث قال تحت عنوان “الزكاة ركن ديني عام”: “على رغم ما أعتقد من أن الخلاف النظري يدل على حيوية فكرية قوية، وعلى سماحة النظام الذي يكون في ظله ذلك الخلاف، على الرغم من ذلك، فكم يضيق صدري حينما أرى مجال الخلاف بين الأئمة في تطبيق هذه الفريضة يتسع على النحو الذي تراه في كتب الفقه والأحكام“.  ”هذه الفريضة التي كثيرًا ما تقترن بالصلاة، يجب أن يكون شأن المسلمين فيها أو شأنها عندهم جميعًا كشأنهم في الصلاة، وشأن الصلاة فيهم، تحديد بين واضح لا لبس فيه ولا خلاف، خمس صلوات في اليوم والليلة“.   ”هذه الفريضة تكون معظم جهاتها في الأصل والمقدار محل خلاف بين العلماء، وبالتالي تكون باختلافهم فيها مظهر تفرق في الواجب الديني بين المسلمين جميعًا لاختلافهم في التقليد وتعدد السبل[2]“.

ويضيف فضيلة الدكتور القرضاوي في كتابه فقه الزكاة، تحت باب المال المستفاد:

” ولقد عانيتُ بنفسي من اختلاف المذاهب فيما بينها في هذا الأمر، واختلاف الأقوال والطرائق داخل كل مذهب، واختلاف التصحيحات والترجيحات لكل منها، ووجدت عشرات من المسائل وعشرات من التفريعات عليها، تتعلق بما يُستفاد من المال، وأقسامه وأنواعه، هل يُضم إلى ما عنده أو لا يُضم، أم يُضم البعض دون البعض، هل يُضم في النصاب أم في الحَوْل أم كليهما؟ تذكر بحوث حول هذا الأمر في زكاة الأنعام، وفى زكاة النقود، وفي زكاة عروض التجارة، وفي فروع أخر ؛ مما جعلني أستبعد أن تأتي الشريعة السمحة الميسرة التي تخاطب عموم الناس، بمثل هذه التفريعات المعقدة الصعبة في فريضة عامة يُكلَّف بها جمهور الأمة.“     أنتهى الإقتباس من كتاب فقه الزكاة.

ربما لم يختلف فقهاء الأمة ومذاهبها على أمر مثل إختلافهم في موضوع الزكاة، وقد يرجع هذا إلى أنهم أستدلوا على قواعد الزكاة من أحكام وشروط متفرقة، تختلف من مال إلى مال، مثال ذلك رُبع العشر وشرط انقضاء الحول في النقدين، والعدد والأوقاص في السوائم تؤخذ مرة كل سنة، بينما العُشر ونصف العُشر في الحبوب والتمر تتوجب عند الحصاد، الأولى تؤخذ من الأصل في حالة النقدين، والثانية من الأصل والنماء في حالة السائمة، وكلاهما بعد انقضاء السنة، والأخيرة تؤخذ من النماء وقت حصاده.

وجد السلف في اختيار لفظ الزكاة وفي الآيات القرآنية دلالة على علاقة الزكاة بالنماء، ثم وجدوا النماء في الزرع والسوائم، ولم يجدوه في النقدين، وانما وجدوا الزكاة تفرض في النقدين على أصل المال. وحيث أن النقود لها قدرة النماء لو دُفع بها في تجارة أو إستثمار، استدلوا أن الزكاة تتوجب في المال النامي حقيقة أو حكمًا، والنامية حكما هي الأموال التي لها خاصية النماء ولكنها لم تنمو. وقاسوا بقية الأموال على هذين، ربع عشر الأصل عند إنقضاء الحول، الأعداد والأوقاص في السوائم، وعُشر النماء في الزروع عند الحصاد. واختلفوا في أمور أخرى مثل هل تتوجب الزكاة في كل الزروع أم في الحبوب والتمر فقط، ولم يخرجوا بقاعدة واحدة تطبق على كل الأموال، يتساوى فيها المفروض على المال أي كانت صورته وأي كانت سبل تنميته، زراعة كانت أو تجارة أو صناعة أو إجارة أو غيرهم، ويسهل بموجبها على المسلم معرفة المتوجب عليه، دون الحاجة الى البحث والسؤال، ثم الوقوع في الحيرة اذا ما اختلفت الفتاوي والآراء.

أن أمرًا يتعلق بأموال الناس وله هذه الأهمية في تحقيق التكافل الإجتماعي وصلاح الأمة، لا يصح لنا أن نظن أنه ترك بهذا الغموض، هذا ما ذهب إليه الشيخان الكبيران محمود شلتوت رحمه الله والقرضاوي حفظه الله فيما أوردنا عنهما، يقول الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله: ”يجب أن يكون شأن المسلمين فيها أو شأنها عندهم جميعًا كشأنهم في الصلاة، وشأن الصلاة فيهم، تحديد بين واضح لا لبس فيه ولا خلاف، خمس صلوات في اليوم والليلة“ ويقول الدكتور القرضاوي: ”مما جعلني أستبعد أن تأتي الشريعة السمحة الميسرة التي تخاطب عموم الناس، بمثل هذه التفريعات المعقدة الصعبة في فريضة عامة يُكلَّف بها جمهور الأمة“. نعم هي صدقة يخرجها المتصدق عن طيب نفس، ولكن له أن يعلم المتوجب عليه، ثم بعد ذلك له التقدير والخرص والتيسير والتسهيل، ثم أن هناك حق من لهم في مصارف الزكاة. ولهذا فلابد أن يكون المفروض جليا واضحا، قاعدة بسيطة يسهل تحديدها وحسابها.

وحتى نجد هذه القاعدة علينا العودة والبحث في مصادر الفقه.

تحديد أموال الزكاة:

في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (البقرة 267)

{ مَا كَسَبْتُمْ } : يقول القرطبي:” الْكَسْب يَكُون بِتَعَبِ بَدَن وَهِيَ الْإِجَارَة وَسَيَأْتِي حُكْمهَا , أَوْ مُقَاوَلَة فِي تِجَارَة وَهُوَ الْبَيْع وَسَيَأْتِي بَيَانه“

ويقول في {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}  ”يَعْنِي النَّبَات وَالْمَعَادِن وَالرِّكَاز , وَهَذِهِ أَبْوَاب ثَلَاثَة تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَة“

تتعلق هذه الآية بالصدقة المفروضة وهي الزكاة، وتحدد الآية صفة الأموال التي تتوجب منها الزكاة، أنها من ” طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ “ ومن ” وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ “، والكسب هو ما يكسبه الرجل فوق ماله، يقول تعالى { مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}، والمال معروف أما الكسب فلا يعرف إلا عند حدوثه، كما في قوله تعالى { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا }. والآية { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } تحدد ان الإنفاق أي صدقة الزكاة تكون من الكسب، وعليه يمكن الإستدلال أنها ليست من أصل المال، وأنها جزء من الكسب وليس كله.

ويمكن أن نحدد الكسب أنه كل مال جديد يأتي الرجل فوق ماله نتيجة عمل أو نماء أو إجارة، وهذا يكون إما من أجر عمل جسدي أو فكري، أو نماء المال الذي يملكه، سواء كان نتيجة استثماره أو من نمائه الطبيعي. ويضاف إليه ما أخرج الله من الأرض وهو النبات والمعدن وغيره من الثروات التعدينية، ويقاس عليهم صيد البر والبحر.

إختيار لفظ الزكاة مصطلحًا للتعبير عن الصدقة المفروضة: ولو نظرنا في لفظ الزكاة فى اللغة نجد أنه مصدر من فعل زَكَا ، زَكَا أى نما وازداد، ويقول ابن فارس زكى الزاء والكاف والحرف المعتل أصلٌ يدل على نماء وزيادة.

وقد أختار القرآن الكريم لفظ الزكاة ليدل على الصدقة المفروضة التي بموجبها يؤخذ مال من أغنياء المسلمين ويصرف على فقرائهم. لفظ الزكاة يدل أن صفة هذا المال أنه الزيادة والنماء. وقد بينت الآية في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 2/219 أن الإنفاق يكون من الفاضل عن الحاجة ، ”وهُوَ الْعَفْو مِنْ مَال الرَّجُل ; إذْ كَانَ الْعَفْو فِي كَلَام الْعَرَب فِي الْمَال وَفِي كُلّ شَيْء هُوَ الزِّيَادَة وَالْكَثْرَة , وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله جَلَّ ثَنَاؤُهُ : {حَتَّى عَفَوْا} 7 /95  بِمَعْنَى : زَادُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَد وَكَثُرُوا“. ويقال عفا الشيء إذا كثر.

ثم حددت الآية  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} بأن المال الذي ينفق هو من الكسب ومما أخرج الله من الأرض.

مما سبق نجد أن الإنفاق يكون من العفو، أي المتروك والفائض عن الحاجة، وجاء عن ابن عباس {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} يقول: ما لا يتبين في أموالكم. وهذه كما ورد عند الجمهور كانت نفقة التطوع، ثم فرضت الزكاة فأصبح الإنفاق من الكسب ومما أخرج الله من الأرض. أما العفو، وهو ما يملكه المسلم ويفيض عن حاجته، فهذا لا يجوز إكتنازه، إذ الواجب عليه أن يدفع به في استثمار فان كسب فعليه زكاة جزءًا من هذا الكسب أو النماء.

وعليه يمكن القول أن الزكاة فرضت على أموال الأغنياء تؤخذ من الزيادة التي تطرأ عليها كالربح أو النماء ويفترض لذلك أن لا تؤخذ من الأصل، إذ أن الأصل يجب تشغيله حتى يدير عجلة الإقتصاد وينتج ربحًا يفيد صاحبه، ويفيد الفقراء وغيرهم من مستحقي الزكاة بنصيبهم من هذا الربح الذي حددته أحكامها، إضافة أن تشغيل المال يوفر فرص عمل تغني هؤلاء الفقراء والمساكين عن الحاجة للصدقة. أي أن وظيفة المال هو أن يدفع به صاحبه في استثمار أو تجارة أو غيرهما  بما يؤدي الى خلق نشاط إقتصادي يستفيد منه كل أفراد المجتمع. ولهذا حافظ النظام الإقتصادي الإسلامي على رأس المال، وأوجب حق الزكاة من نماءه، وهذا يتضح في المعنى المباشر لقول الرسول ﷺ ” مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ“ لأن الصدقة تؤخذ من الزيادة ويبقى أصل المال لصاحبه. وقد نهى القرآن الكريم عن الكنز وهو تعطيل المال وحجزه عن المشاركة في إنماء إقتصاد الأمة.

 

هل الزكاة في المال النامي حقيقة أم حكمًا :

لقد أكد الفقهاء هذا الأمر، فجعلوا الزكاة تتوجب في المال النامي حقيقة أو حكمًا، أي في كل الأموال التي لها خاصية النماء. أما الأموال التي لا تنمو ولا يقصد النماء فيها لأنها ليست من الفضل مثل أموال القنية، كالبيت والسيارة والأثاث وغيرهم مما يحتاجه الرجل لمعاشه ومعاش أهله، فليس فيها زكاة.

يقول ابن رشد فى المقدمات ص 201: ”أن الزكاة سميت بذلك لأنها لا تؤخذ إلا من الأموال التى يبتغى بها النماء لا من العروض المقتناه، فالزكاة فى اللغة النماء وسميت بالنماء لتعلقها به“ .

ويقول الزيلعى صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ص 253 عن سبب اشتراط مضى الحول : ”لكون الواجب جزءا من الفضل لا من رأس المال لقوله تعالى { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} أى الفضل والنمو وإنما يتحقق فى الحول غالبا فأقيم السبب الظاهر وهو الحول مقام المسبب وهو النمو“.

وقد انتهى الجمهور الى أن الزكاة تؤخذ من الأموال التي يبتغى بها النماء ولم يشترطوا تحقق هذا النماء. وهذا غير ما بينته الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} والتي تحدد ان الإنفاق يكون من الكسب أي من النماء ذاته وليس من الأموال التي يبتغى بها النماء. أنظر قول الزيلعي ”لكون الواجب جزءا من الفضل لا من رأس المال“، ولكن جمهور الفقهاء لم يشترطوا تحقق النماء، وفرضوا الزكاة على كل الأموال النامية حقيقة أو حكمًا. وربما يكون الذي دفعهم الى هذا الرأي، هو زكاة النقود، وهذه ليس فيها نماء، وتتوجب من الأصل، وتؤخذ بنسبة ربع العشر متى حال الحول، ومثلها زكاة السوائم، وإن كان فيها نماء، إلا أنها تؤخذ من الأصل والنماء معًا.

لقد حددت الآية أن الزكاة تجب من الكسب ومن ما يخرج من الأرض، ولو نظرنا الى زكاة الزروع، فهي عُشر المحصول لو كان هناك زرع، فإن لم يكن زرع فلا زكاة. الزرع هو نماء الأرض الزراعية، ومنفعة الأرض ونفقتها هما أصل المال النامي، فإن لم يتحقق زرع أي لم يتحقق نماء فلا  زكاة فيها. وعليه نفترض استدلالاً من الآية الكريمة ومن هذا الطرح، أن الأصل أن لا تؤخذ الزكاة من رأس المال، وإنما تؤخذ من النماء. وهذا صحيح لقول الرسول ﷺ ” مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ”.

الحديث الشريف: ” ليس في المالِ زكاةٌ حتى يحولَ عليه الحَوْلُ“  لم ينف الزكاة عن رأس المال وإنما أشترط الحول وهو إنقضاء سنة على ملكه، بعدها تتوجب الزكاة منه. وهذه الأموال كالذهب والورق والفلوس، ليس لها نماء ذاتى ولم يتحقق منها أو فيها أي نماء بعد مضي الحول، وهنا يصبح فرض الزكاة متعلق بالأصل وليس بالنماء. وكذلك فى السائمة والتى وإن كان فيها نماء، تؤخذ بعض الزكاة أو كلها من أصولها أي من أصل المال. أي لدينا هنا مسألتين:

الأولى: أن زكاة النقدين تؤخذ من أصل المال (أو رأس المال) وزكاة السوائم تؤخذ من مجموع الأصل والنماء معاً.

والثانية: أن هذه الزكاة التي تؤخذ من رأس المال يشترط أن يحول الحول على المال أي تنقضي سنة قبل أن تتوجب فيه الزكاة.

في السوائم، الحول هو المدة الزمنية التي ستنمو فيها هذه الثروة الحيوانية حقيقة، بعدها تؤخذ الزكاة التي قدرها وحددها الشرع من الأصل والنماء معًا. أما النقود فليس لها نماء ذاتي، وإن مضى الحول عليها فستبقى كما هي عددا ووزنا.

مما سبق، نجد أن زكاة الأرض الزراعية هي الوحيدة التي ينطبق عليها الفرض الذي وضعناه من أن الزكاة على كل الأموال تكون العُشر من نماءها، وليس من الأصل، وأنها تتوجب عند تحقق النماء. أما المتوجب في زكاة النقدين وزكاة السوائم، ففي الظاهر أنهما لا يتبعان هذا الفرض، بل ويتعارضا معه، لأن الزكاة فيهما تؤخذ من الأصل وبعد إنقضاء الحول. ولهذا علينا أن ندرس كل منهما على حدة ليتبين لنا هل يصح الفرض الذي وضعناه عليهما.

 

زكاة النقدين

المال هو مال الله تعالى، أستخلف فيه الأنسان لينفق منه، قال تعالى {ءامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} [الحديد:7]، قال ابن جرير: ”أي: أنفقوا مما خولكم الله من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم فجعلكم خلفاؤهم فيه“.وقال القرطبي: ”فيه دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة.”

فان كان في المال فضل عن حاجته فواجبه أن يثمره ولا يعطله، لأن تعطيله كَنز يضر بالمجتمع، وقد نهى الإسلام عن كنز المال لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) ۞ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} سورة التوبة، وحث على استثمار المال وتنميته، بما يؤدي الى خلق نشاط إقتصادي يستفيد منه أصحاب التجارة والحرف ويوفر فرص عمل للعمال والمحتاجين والمساكين والفقراء، فتغنيهم الأجور عن السؤال.

فاذا عطًل المال ولم يستثمره، ولم يدفع به الى من يثمره، وجب عليه فيه الزكاة وان لم يكن فى المال نماء، وتفسير ذلك يكمن فى عقد المضاربة، فلو دفعت بمال الى صاحب عمل بقصد إستثماره وتنميته وفق عقد مضاربة؛ فأهمله ولم يتجر فيه أو يثمره، فقد خالف الشرط، وبهذا تفسد المضاربة وعليه ربح المثل، يدفعه لصاحب المال وفق الشرط بينهما (أي وفق النسب التي أتفقا عليها)، لأنه فوت بإهماله تنمية المال فرصة الربح على صاحبه، ويكون لصاحب المال حقًا عند المضارب يعادل نصيبه من ربح المثل.

ولو طبقنا هذا على المال الذي أستخلفه الله فيه ليثمره وينميه، بشرط عشر الربح يؤديها زكاة، فاذا تجر بالمال أو استثمره فربح فعليه عشر الربح يؤديها لمستحقي الزكاة، وإن أهمل ولم يستثمر المال وعطله، ودليل تعطيله مضي حولا كاملا، فقد خالف الشرط وعليه عُشر ربح المثل يؤديها لمستحقي الزكاة، فقدر الشرع ربح المثل فى الحول ربع رأس المال، أي 25% من رأس المال[3]، فكان فيه العُشر أسوة بزكاة الزروع، فكانت زكاة المثل عُشر الربع من المال المعطل، أي 2.5%.

قال النبي ﷺ: ” ليس في المالِ زكاةٌ حتى يحولَ عليه الحَوْلُ“ أخرجه ابن ماجه؛ المال المذكور ليس الكسب أو الزرع الذي تتوجب زكاته عند حصاده، وإنما الأصل، وهو المال الذي جاوز النصاب، لا زكاة فيه حتى يثبت تعطله، فان مر عليه الحول وهو في حوزة صاحبه، كان مالا معطلا فتوجبت فيه زكاة المثل، لأن الرجل قد يعطله عدة أشهر في انتظار فرصة جيدة لإستثماره، فجعلت السنة، وفيها كل الشهور وكل المواسم، ليثبت أنه خالف الشرط وعطل المال.

جاء فى صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: ” مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْض فَلْيَزْرَعْهَا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَزْرَعهَا وَعَجَزَ عَنْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ الْمُسْلِم وَلَا يُؤَاجِرهَا إِيَّاهُ“ وهذا يبين أهمية عدم تعطيل أي مال عن القيام بدوره كمحرك للنشاط الإقتصادي، ولأن في الزرع وهو نماء الأرض حق الزكاة ومصالح الأمة. لهذا فان لم يستطع زراعة الأرض لا يصح أن يعطلها بل يمنحها الى من يزرعها ومن يخرج زكاة حصادها.

مما سبق نجد أن الأصل في أي من النقدين مما جاوز النصاب، أن يدفع به في تجارة أو إستثمار، فان ربح فعليه العشر من الربح زكاة، وإن لم يكن ربح فلا زكاة عليه، وأن عطله صاحبه فقد خالف وعطل المال، ودليل تعطيل المال إنقضاء الحول، ومتى انقضى الحول والمال معطل فعليه عشر ربح المثل يؤديها زكاة من أصل المال.

وكما تبين: نجد أن قاعدة الزكاة عُشر الربح الصافي تتوجب وقت حيازة الربح بعد سلامة رأس المال، تنطبق وتصح على النقود.

زكاة السائمة

وأما زكاة السائمة، وهي من النماء الطبيعى فى السائمة، في السنوات الأولى للهجرة، كان على الدين الجديد أن يبين لهم مقادير الزكاة فى السوائم من الإبل والغنم والبقر، فاما يفرض العشر من النماء، أو يقدره إذا تعذر تحديد النماء؛ بجزء من الأصل والنماء معا.

النماء ليس فقط فى النتاج مما يولد، ولو كان مما يولد فقط لهان الأمر، إذ تعد السائمة أول الحول وفي آخره، والزيادة هي النماء، إلا أن النماء أيضاً هو التقدم في العمر، فبنت مخاض تصبح بعد حول بنت لبون وهكذا، وقيمة بنت اللبون شاتين أكثر من قيمة بنت المخاض. فالعد لا يكفى إذن؛ بل علينا أن نحدد الأعمار لكل واحدة، ثم أن هناك الحليب والوبر والسمن والمنافع الأخرى، أضف الى كل هذا إختلاط الأصل مع النماء، بما يصعب معه فصل النماء عن الأصل. لهذا نجد أن الشرع يبسط ويسهل وييسر ويقلل على الناس، لهذا كله والله أعلم قدر الشرع النماء وفرض الزكاة من الأصل والنماء معًا، فكان ما وصلنا من الواجب على الإبل والشياه وغيرهما. وحتى فى عصرنا هذا وقد تقدم العلم وبين أيدينا من الوسائل ما يساعدنا على دقة الحساب؛ إلا أننا سنجد أيما صعوبة في حساب النماء، وسنجد

أن تقدير الشرع فى مقدار زكاة السائمة أيسر وأفضل وأعدل، لأن النماء كما ذكرنا يشمل اللبن والصوف والوبر والسمن وفيه التقدم في العمر والمرض والموت والذبيحة وغيرها، وهؤلاء جميعا متغيرات يصعب ضبطها وحسابها. والزكاة صدقة تحمل فى مقاصدها التيسير لا التصعيب، فان نحن صعبنا حسابها أكلت تكلفة حسابها منها، ولقلتها ولعدم تناسب مقدارها مع هذا التعقيد فى الحساب كان وما زال من الحكمة أن تفرض كما فرضها الشرع. إلا أن هذا لا يجب أن يفهم على أنه زكاة تؤخذ من رأس المال، وإنما هى من النماء، فقدرها الشارع جزءا من الأصل والنماء معًا تسهيلا ورحمة بالناس.

أقوال الرسول ﷺ :

قوله ﷺ حين بعث معاذاً ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن: ” فأعْلِمْهُمْ أنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عليهم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِن أغْنِيائِهِمْ فَتُرَدُّ في فُقَرائِهِمْ“ فجعل محل الزكاة المال. والمال هو الذي يستثمر فتؤخذ الزكاة من نماءه، وهذا الحديث والآيات التي ذكرت أن الزكاة تؤخذ من أموال المسلمين، لم تحدد من أي الأموال تؤخذ، والتي حددتها الآية من سورة البقرة أنها {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} كما بينتها الآية التي سبقتها في التنزيل في قوله تعالى {ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو} أى الفضل والنمو.

قال رسول الله ﷺ: ” اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة “ وجاء الحديث في رواية أخرى ” مَنْ وَلِىَ يَتِيمًا فَلْيَتَّجِرْ لَهُ وَلاَ يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ“ وفي رواية ثالثة  ” ابْتَغُوا فِي أموال اليتامى لا تستهلكها الصدقة“. وكلهم يؤدون الى نفس المعنى.

والقصد من الحديث أن لا يعطل المال، لما سبق ذكره عن نهي الشارع عن الكنز وتعطيل المال،  ولأن في نماءه حق الزكاة، فان عطل أستحقت الزكاة فأخذت من رأس المال، وبهذا فأنها تأكل منه وتستهلكه، فينقص سنة بعد سنة، فان عطل عشرة سنوات، نقص قرابة الخمس، وان عُطل عشرين سنة، نقص الخُمسين تقريبًا (40%)، وفي هذا ضررًا لليتيم وللمجتمع، اليتيم في نقص ماله والمجتمع في تعطيل انتاجية هذا المال. فان هو استثمره وربح، تؤخذ الزكاة عشر الربح ويبقى رأس المال.

ولكن التجارة فيها الربح والخسارة، وقد يدفع الولي بمال اليتيم في تجارة فيخسر فيها جزءًا من المال، أو يسلم رأس المال ولا يتحقق ربح، ووفقًا لمفهوم الزكاة الحالي، فأن الزكاة تتوجب فيما تبقى من رأس المال ان بلغ النصاب وحال عليه الحول، وبهذا تكون الزكاة قد أكلت من المال حتى لو استثمره، وهذا يناقض معنى الحديث، وعليه ففرض توجب الزكاة من رأس مال التجارة إن لم يكن فيه نماء لا يصح.

ولكن لو كانت الزكاة المتعلقة بالمال النامي حقيقة، تؤخذ من النماء بعد سلامة رأس المال، فان لم يكن في المال نماء فليس منه زكاة، نجد أن هذا يتناسب مع ما يدل إليه الحديث الشريف، إذ لو أتجر الولي في المال، أو استثمره في صناعة أو زراعة أو غيرهما، طوال عشر أو بضع عشر سنة حتى يبلغ اليتيم أشده، لا تؤخذ أي زكاة من رأس المال أبدًا، وأنما تؤخذ من الربح إن كان في المال ربح، فإن لم يكن ربح فلا زكاة في المال، أما لو عطله ولم يثمره أو يتجر به، توجبت الزكاة من رأس المال لأنه عطله وفوت فرصة الكسب الذي منه حق الزكاة.

“مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ “

قال رسول الله ﷺ : ” مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ “. الزكاة تؤخذ من النماء والربح ولهذا لا ينقص أصل المال أبدًا من صدقة الزكاة، لأنه لو لم يكن في المال ربح فلا زكاة منه. إلا لو عَطل المال وكنزه، فيكون أخل بالشرط وعليه عُشر ربح المثل، فلا تكون الصدقة التي أنقصت المال وإنما أنقصه فساد تصرف ولي المال أو صاحبه.

 

الملخص

تتوجب الزكاة من نماء كل مال فائض عن الحاجة، والذي لا ينمو ذاتيا كالسوائم، فالشرط فيه أن ينميه صاحبه أو من لديه حيازته، فإذا نما المال فالعشر من النماء وقت تنضيضه، وهو الذي يتبقى بعد سلامة أصل المال، وأن لم يستثمره وعطله حولا كاملا فعليه نصيب الزكاة العشر من نماء المثل، والذي قدره الشرع بربع العشر.

ونقول أن النماء أو الربح –فيما يخص الزكاة- هو ما يتبقى بعد سلامة أصل المال، لأن هذا النماء أو الربح يشمل قيمة عمل الرجل بيده أو بمعداته، وهذه القيمة هي أثمان منافع عليها أيضًا زكاة هي العُشر ولهذا لا تخصم كتكلفة من الربح أو النماء، إلا لو أستأجر الغير أو من الغير فيكون هذا الأجر من أصل المال الذي أشترطنا سلامته، فيخصم من الربح ثم يزكي عُشر ما بقي. أي أن بيع المنافع مع بقاء الأصل هو كسب تتوجب الزكاة منه إذا كان يفضل عن الحاجة.

تنويه هام:

نلفت انتباه المشاهدين إلى أن نتائج هذا البحث منشورة هنا بهدف عرضها على الفقهاء للدراسة والمناقشه، وان هذا البحث هو إجتهاد لا يصح إتباعه أو العمل بما جاء فيه، إلى أن يوافق عليه أهل الفقه والأفتاء، وإلى أن تصدرفتوى بشأنه من قبل سلطة فقهية مخولة بالإفتاء. وحتى تصدر هذه الفتوى، يستمر الناس في أخراج زكاة أموالهم وفق القواعد المعروفة والمُجمع عليها.

                                                           والله سبحانه وتعالى أعلم.

روجع وعدل وأنهي بفضل الله تعالى وحمده في رمضان 1433هـ

المراجع:

كتاب فقه الزكاة الجزء الأول لفضيلة الدكتور القرضاوي حفظه الله.

كتاب المضاربة والمشاركة – النظرية والتطبيق وتقييم التجربة.

[1]  الأستاذ المرحوم الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت (تولى مشيخة الأزهر سنة 1958م) مقتبس من كتابه “الإسلام عقيدة وشريعة” (ص109 – ط . دار القلم بمصر)

[2]  وأضاف الشيخ محمود شلتوت رحمه الله “هذا يزكى مال الصبي والمجنون، وذاك لا يزكيه، وهذا يزكى كل ما يستنبته الإنسان في الأرض، وذاك لا يزكى إلا نوعًا خاصًا أو ثمرة خاصة، وهذا يزكى الدين وذاك لا يزكيه، وهذا يزكى عروض التجارة وذاك لا يزكيها، وهذا يزكى حلى النساء وذاك لا يزكيه، وهذا يشترط النصاب وذاك لا يشترط وهذا وهذا إلى آخر ما تناولته الآراء فيما تجب زكاته وما لا تجب، وفيما تصرف فيه الزكاة وما لا تصرف. “

[3] فإن قال قائل أن تقدير ربح المثل بربع رأس المال كثير، نقول أن ربح المثل بهذه النسبة والناتج من عدة تجارات متوالية (شراء وبيع عدة مرات) خلال مدة سنة يعتبر معقولاً، وخاصة أننا نحسب الربح على رأس المال ولا توجد تكاليف تمويل وفوائد بنكية. وهذه النسبة تقدير ويتوجب في هذا التقدير الأخذ بالأعلى للحث على الإستثمار، ولرعاية الفقير المحتاج. لهذا قدر الشارع ربح المثل بالربع فكان ما وصلنا من ربع العُشر. والزكاة صدقة يؤخذ في حسابها بالتقدير والتيسير والتقليل كما رأينا في الزروع، إلا عند تعطيل المال وكنزه، فهنا يؤخذ بالتقدير نحو الأكثر لما ذكرناه، ولأن التعطيل والكنز في حد ذاته أثم منهيٌ عنه.