القسط في اليتامى والزواج من مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ

في قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا}(3) سورة النساء

أقوال السلف الصالح:

ورد في تفسير الأمام الطبرى ذكر الأقوال المختلفة في تفسير هذه الآية وقمت بترقيم الأقوال للتسهيل والبيان:

مقتبس من تفسير الطبري:

“” القول في تأويل قوله : وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

1) فقال بعضهم: معنى ذلك: وإن خفتم، يا معشر أولياء اليتامى، أن لا تقسطوا في صداقهن فتعدلوا فيه، وتبلغوا بصداقهنَّ صدقات أمثالهنّ، فلا تنكحوهن، ولكن انكحوا غيرَهن من الغرائب اللواتي أحلّهن الله لكم وطيبهن، من واحدة إلى أربع، وإن خفتم أن تجورو – إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة- فلا تعدلوا، فانكحوا منهن واحدة، أو ما ملكت أيمانكم.

2) وقال آخرون: بل معنى ذلك: النهي عن نكاح ما فوق الأربع، حِذارًا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم  وذلك أن قريشًا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدمًا، مال على مال يتيمه الذي في حجره فأنفقه أو تزوج به. فنهوا عن ذلك، وقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها -فلا تعدلوا فيها، من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مُؤن نسائكم، فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربعٍ- وإن خفتم أيضًا من الأربع أن لا تعدلوا في أموالهم، فاقتصروا على الواحدة، أو على ما ملكت أيمانكم.

في 3) وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن القوم كانوا يتحوّبون في أموال اليتامى أن لا يعدلوا فيها، ولا يتحوبون في النساء أن لا يعدِلوا فيهن، فقيل لهم: كما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن، ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلى الأربع، ولا تزيدوا على ذلك. وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضًا في الزيادة على الواحدة، فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم.

4) وقال آخرون: معنى ذلك: فكما خفتم في اليتامى، فكذلك فتخوفوا في النساء أن تَزْنُوا بهن، ولكن انكحوا ما طاب لكم من النساء.

5) وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى اللاتي أنتم وُلاتهن، فلا تنكحوهن، وانكحوا أنتم ما حل لكم منهن.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: تأويلها: ” وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجورُوا فيه منهن، من واحدة إلى الأربع، فإن خفتم الجورَ في الواحدة أيضًا، فلا تنكحوها، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن “.

وإنما قلنا إنّ ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها وخَلطها بغيرها من الأموال، فقال تعالى ذكره: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا . ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرّجوا فيه، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرّج في أمر النساء، مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى، وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيهن، كما عرّفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى، فقال: انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم، ما أبحت لكم منهن وحلّلته، مثنى وثُلاث ورباع، فإن خفتم أيضًا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة، بأن لا تقدروا على إنصافها، فلا تنكحوها،  ولكن تسرَّوا من المماليك، فإنكم أحرى أن لا تجوروا عليهن، لأنهن أملاككم وأموالكم، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور.

ففي الكلام -إذ كان المعنى ما قلنا- متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره. وذلك أن معنى الكلام: وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم، فلا تتزوجوا منهنّ إلا ما أمنتم معه الجور مثنى وثلاث ورباع، وإن خفتم أيضًا في ذلك فواحدة. وإن خفتم في الواحدة، فما ملكت أيمانكم- فترك ذكر قوله: ” فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء “، بدلالة ما ظهر من قوله تعالى: ” فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم “.””    

 أنتهى الإقتباس من الإمام الطبري.

ونعرض هنا فهم جديد – يختلف عما ورد عن السلف الصالح:

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} (3) سورة النساء

 المخاطب في هذه الآية هو رجل لديه يتامى (أطفال صبيان وبنات)، وهؤلاء اليتامى ليسوا أولاده (اليتيم هو من فقد الأب، واليُتْمُ واليَتَمُ: فِقْدانُ الأَب) بل هم من تكفل هو بهم من أولاد توفى عنهم أبائهم فأصبحوا في كفالته. اليتامى بالضرورة فقدوا أباهم، وربما فقدوا أيضًا أمهم. فإن لم يفقدوا أمهم، فهم معها إن لم تكن قد تزوجت، أو إن تزوجت يكفلهم في الأغلب زوجها.

فيكون الرجل المخاطب هو الذي لديه يتامى إما 1) توفت أمهم أو تخلت عنهم، أو 2) يكون الرجل تزوج أمهم بعد وفاة والدهم وكفلهم.  3) كفل الأولاد وهم في حجر أمهم الغريبة عنه.

أما الحالة الأولى، وهي تخص يتامى دون أمهم، فإنه إن تزوج زوجة واحدة فقط فقد لا تعطف عليهم أو تحبهم، وخاصة إذا رزقت بأولاد لها فقد تكرههم ولا تعدل ولا تقسط بينهم جميعًا، ولتوفير كل العوامل التي ترجح تمتع هؤلاء اليتامى بحنان وحب زوجة أب تكون لهم بمثابة الأم، سُمح للأب بالزواج بأثنين وثلاث وأربع، فيجد اليتامى الحب عندهن أو على الأقل عند أحداهن. ونلاحظ الآية لم تذكر الواحدة لما ذكرناه، أن الواحدة قد لا تحبهم أو تقسط فيهم.

أما الحالة الثانية، وهي أن اليتامى معهم أمهم، فالسماح بالزواج من أكثر من واحدة يؤدي الى تشجيع الرجال على الزواج من اللاتي فقدن أزواجهن وفي حجرهن أطفال أيتام، فلو كان المُشرع له واحدة فقط لعزف عن الزواج بأرملة وعن كفالة أولادها اليتامى فسمح الشرع لهؤلاء الرجال بأكثر من واحدة. والحالة الثالثة أن سمح له بزواج أمهم لما في هذا من فائدة لليتامى وتيسير للعلاقة بينهما فلا تعود غريبة بما يضع موانع أمام زيارة اليتامى الذين كفلهم.

وأشتُرط على الرجل أن يعدل بين زوجاته، فإن لم يستطع أن يعدل بينهن وأن ينفق عليهن فواحدة. أي أن القدرة على الإنفاق والعدل بين الزوجات قدم على القسط في اليتامى، لأن الرجل إن لم يعدل أو لم يستطع الإنفاق جعل حياة هذه العائلة تعيسة فلا سعدت الزوجات ولا سعد الإيتام، وقد يدفعه ضيق حاله الى النظر في مال الأيتام الذين في كفله.

هذا السماح بالزواج من أكثر من واحدة حتى أربعة له علاقة وثيقة بمصلحة اليتامى ومصلحة أمهم، ويؤدي لتشجيع الرجال على كفالة الأيتام والزواج من الأرامل اللاتي يعولن أيتاما، وفي هذا خير وفائدة كبيرة للمجتمع. ولكن هل يدل هذا أن السماح بالزواج من أربعة مرتبط بإما يكون الرجل قد كفل يتامى أو تزوج من أرملة لديها يتامى؟ فان كان متزوجًا من واحدة وليس في حجره أو كفالته يتامى ولم يتزوج الثانية أرملة معها يتامى، هل -وفق هذا القول- لا يرخص له بمثنى وثلاث ورباع؟ الإجابة لا، يرخص له للأقوال التي وردت عن الإمام الطبري وعن غيره من المفسرين. والله تعالى أعلم.

وماذا عن الأرامل اللاتي ليس في حجرهن أيتام، أي مات عنها زوجها ولم تنجب، هؤلاء لا يعولن أطفال ويشملهن الزواج من أولى ومن ثانية إذا كان في حجره أيتام. وهؤلاء قادرات على التصرف في أمورهن ولا يعوقهن مسؤولية رعاية أطفال، وقد يرغب الرجال في الزواج بهن أكثر من رغبتهم في الزواج من أم اليتامى، فجعل الشرع لأم اليتامى ما يشجع الرجال على الإقتران بها، حفظًا لها ولأولادها وللمجتمع. والله تعالى أعلم.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*