الرد على شُبهة وإدعاء أن القرآن الكريم بشري المصدر

الرد على شُبهة وإدعاء أن القرآن الكريم نُقل من الكتب السماوية التي سبقته وأنه بشري المصدر

1 / 5

الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

ملاحظة: عناوين فيديوهات هذه الحلقات الخمس موجود في نهاية هذه الصفحة.

يوجد على اليوتيوب والأنترنيت قنوات أصبحنا نعرفها، لا تتوانى في استخدام أساليب الغش والكذب والإفتراء بقصد تشكيك المسلمين في دينهم. يظهرون بمظهر الدارس الباحث الأكاديمي الذي يعتمد على مصادر موثوقة وعلى استنتاجات منطقية، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك، مقدماتهم إنتقائية أو كاذبة وأبحاثهم -إن سميناها أبحاثا تجاوزا- لا تعتمد منهجا علميا ولا تأخذ موقفا محايدا من المُعطيات ولا يهمهم سوى الوصول الى النتيجة التي بدأوا بها، وهي أن هذا الدين وهذا القرآن بشري المصدر. وبينكم من ليس لديه الوقت للبحث والدراسة والفحص والتمحيص، يسمعون لهم مرة بعد مرة فيدب الشك رويدا رويدا في قلوب البعض.

القرآن والدين الإسلامي أقوى من هؤلاء جميعًا، مهما كثروا ومهما نشروا من افتراءات وأكاذيب، ولكن واجبنا أن نرد عليهم، ليس من أجلهم ولكن من أجل أخواننا في الدين الذين علينا أن نبين لهم أن ديننا هو دين الحق، ليس لشيء إلا لأنه فعلاً دين الحق. ولهذا أرجوك يا أخي المستمع الكريم، أن تنشر هذا الفيديو لمن ينتفعون به، عسى الله تعالى أن يحفظ ديننا ويقوي إيماننا. والحمد لله إذ هدانا.

سيكون الرد على حلقات تتناول الشبهات التي يطلعون بها علينا –كيفما يقدرنا الله على المتابعة والدراسة والكتابة والإنتاج- وسأبدأ في أول حلقة بالرد على إدعاء  أن مصادر القرآن هي كتب أديان وعلوم من سبقوه، وقد ذهبوا إلى هذا لأنه ورد فيه بعض من  قصص وشرائع أنبياء الأديان الأبراهيمية التي سبقته. ونحن لا نجد غرابة في هذا فالرسالة الإسلامية أعلنت عن نفسها أنها مكملة مصححة خاتمة لما سبقها من الأديان التي تعود الى الله تعالى، ولهذا فمن الطبيعي أن يشتمل القرآن الكريم على قصص الأنبياء الذين ورد ذكرهم في كتب اليهود والنصارى، لأنهم ورسل وأنبياء من عند الله، أنظر قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.. (13)}  الشوري 62

وقبل الخوض في الرد، يجب أن نبين أن هؤلاء الذين يدعون هذا، يتناسون أن القرآن كتاب يختلف كلية عن كل الكتب السماوية التي سبقته، بل ويختلف كلية عن أي منتج بشري، هو ليس كتاب تاريخ أمة وأنبياء يفصل أسماء أولادهم وأحفادهم ككتب اليهود، وهو ليس سيرة نبي معلم تُجمع فيها أقواله وخطبه ومواعظه ومعجزاته كالأناجيل، وليس مثل الأفيستا الزرداشتية مقابلات وأسئلة يجيب عنها الإله. القرآن كتاب لا يهتم بالتسلسل الزمني والتأريخ، لا يهتم بالأماكن والأمصار، يخرج عن حدود الأزمنة والأمكنة. كتاب لا يهتم بأسماء الناس عدا أسماء الأنبياء والرسل. ليس مثل أي شيء سبقه، أو لحقه، كتاب فريد ليس مثل كتب البشر، التي تتكون من موضوعات معنونة في أبواب وفصول ولها فهرس وترتيب وتدرج وبداية ونهاية. إنما هو نسيج متداخل ممتد ينتقل ببراعة وسلاسة من موضوع الى موضوع ومن قصص الأنبياء الى أحكام وتشريعات، من عبادات إلى حكم ومواعظ، من كرائم الأخلاق إلى علوم الكون والخلق، من تكافل ورحمة وجمال إلى إنذار ووعيد وعذاب، من عالم الشهادة الى عالم الغيب، ضمن خطاب قوي جريء متسلط لا يشوبه ذرة من تردد أو محاباة أو مسايرة. لا يقيم وزنًا لا لملك ولا لفرعون ولا لملاك ولا لشيطان، كل شيء خاضع لمشيئته وأوامره.

كل الكتب التي سبقته هي كلام بشر يقصون علينا سير أنبياء يخبروننا بدورهم عن الله سبحانه تعالى، بنبرة واحدة لا وزن فيها ولا جمال ولا بلاغة، بينما القرآن هو كلام الله تعالى يخاطب الرسول والأمم والناس مباشرة، بكلام بليغ منسق مرتب موزون سلس. يخاطب به الله الرسول والناس مباشرة، أنظر كم من الآيات تبدأ بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ،  يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ.

القرآن خطاب مباشر من الله الى الناس كافة، من الله تعالى إلى وإليك مباشرة، لا كهنة ولا أحبار ولا قساوسة ولا شيوخ. أنظر كم من آية تبدأ بقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ، قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا، قل للمؤمنين، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ،  قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا،  قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون. ونجد فيه نسبة الخطاب الى القائل الله تعالى بقوله: إنّا وأنّا، كما في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا}. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}الحجر. القرآن كلام الله الصادر عنه مباشرة الى كل الناس. ولن تجد مثله في أي كتاب آخر. ليس كلام الرسول، إذ يختلف في أسلوبه عن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، يتضح هذا بما نجده في الأحاديث والخطب والرسائل، الفرق بين يعرفه كل من يتحدث اللغة العربية.

بل هل كان من الممكن أن ينتحل الرسول صفة الله ويتكلم بإسمه زورًا، يرد القرآن بقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) } سورة الحاقة. أنظر قوة الرد الذي كان يفهمه المشركون في ذلك الزمان، فهم وإن أشركوا، فإنهم لم ينكروا وجود الله تعالى وإنما أشركوا معه الللات والعزى ومنى، ويعلمون أن الله يغضب لو تقّول عليه أحد ويخافون غضبه.

السؤال هنا، ليس لماذا إشتمل القرآن على هذه القصص؟ فكما ذكرنا أنه لا غرابة أن تذكُر رسالة الله تعالى الرسل والأنبياء الذين أرسلهم من قبل. وإنما السؤال للذين يدّعون بشرية القرآن، هو كيف عرف الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخبار والروايات بهذه الدقة والتفصيل؟ لأن الإتهام ليس فقط أنه نقل عن كتب اليهود والنصارى، وأنما نقل أيضًا عن أديان وحضارات أخرى بعضها بادت واندثرت، منها أديان وعلوم زرادشتية وسومرية وفارسية ويونانية وغيرهم – بل ولو نظرنا الى اليهودية والمسيحية، فبالإضافة الى كتب العهد القديم والأناجيل الأربعة وأعمال الرسل ورسائلهم، هناك كتابات الأحبار والربانيون والقساوسة التي هي في درجة المرويات والتفاسير، وهؤلاء كثر لا يحيط بهم شخص في ذلك الزمان، ولا في أي زمان. فهل كان ليتسنى للرسول صلى الله عليه وسلم – أو غيره من معاصريه في مكة- أن يطّلع على هذا الكم الهائل من المصادر، في عصر لم يكن فيه كتب أو مكتبة أو مُجمّع علماء، فهل يُعقل أن يُلمَ شخص أو مجموعة أشخاص بكل هذه العلوم ويمحصها ثم يختار منها ما يسرده في كتاب واحد كموضوع جانبي ليس من أصل الكتاب. فان كان -وهو من الصعب أن يكون-  فلماذا سلم هؤلاء العلماء هذه العلوم الى الرسول ثم تواروا عن الأنظار واختبئوا ولم نسمع عنهم شيئا.

وهذه الأتهامات ليست جديدة، فقد أعياهم القرآن اليوم كما أعيّا مشركي مكة وكان حسرة عليهم، فإحتاروا فيه ولم يجدوا ما يطعنوا فيه سوى إتهام الرسول بالنقل والتأليف.

في قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} سورة الفرقان الترتيب 42 ص41

كان هذا الإتهام بعد عدة سنوات من بدء الدعوة، وبعد أن نزلت أربعون سورة قبلها. فجاء الرد في الآية التي تلتها: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} الفرقان

وقوله تعالى {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} سنجد فيما بعد –في هذه الدراسة- أن هذا القرآن أحتوى علوما لم يكن أحدا على وجه البسيطة في القرن السابع يعرفها أو حتى يتخيلها، ولهذا لا يمكن أن يكون إلا من عند الذي يعلم أسرار السماوات والأرض.

ثم قال المشركون مثل قولهم الأول كما ورد في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103)} سورة النحل. والأعجم في اللغة هو الرجل الذي لا يفصح، وقولهم: العَجَمُ الذين ليسوا من العرب، وهذا من هذا القياس كأنَّهم لمّا لم يَفْهَمُوا عنهم سَمُّوهم عَجَماً.

 فكان الرد {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}

نزلت هذه الآية في سورة النحل، وترتيب سورة النحل ال 70 في ترتيب نزول السور، أي كانت في حوالي السنة الثامنة بعد البعث. أي أن أكثر من نصف القرآن كان قد نزل قبل هذه الآية، فمن أين أستقى الرسول العلم قبل ظهور هذا الأعجمي.

ولماذا يعرف الأعجمي لو كان روميًا أو نصرانيا علوم زرادشتية وفارسية، ولو كان من الفرس لماذا سيعرف علوم النصاري واليهود واليونان والروم؟ ولو كان هذا الأعجمي يملك كل هذه العلوم لعلا شأنه ولوصلنا ذكره. أضف أن القرآن جاء بلسان عربي مبين، فكيف تم حصر المعلومات وتنظميها وترجمتها وصياغتها ثم سردها ببلاغة ويسر بلسان عربي مبين.

بل والأهم، أن المبادئ والمفاهيم والثوابت الأساسية مثل التوحيد ويوم القيامة والحساب والميزان والجنة والنار والملائكة والشيطان والخلق والأنبياء إبراهيم وموسى وذكر الحضارات البائدة عاد وإرم وثمود وفرعون وذكر الصلاة والصدقة والزكاة وإكرام اليتيم كل هؤلاء ذكروا في السور القصيرة التي نزلت في السنة الأولى من البعث، ثم فُصّلت هذه العنواين الأساسية خلال العشرون سنة التي تلت، وهذا يدل أن القرآن لم يتطور وينمو مع معلومات جديدة تصل الى الرسول عن طريق من قد يستمع إليهم خلال الثلاثة والعشرين سنوات الدعوة، وأنما كان بينا واضحا في أساسياته من الأشهر الأولى من التنزيل. بل وأن القرآن سمى الذين يدخلون الدين الجديد {المسلمين} في سورة القلم وهي ثاني سورة نزلت على الرسول. وفي هذا رد على اللذين يدّعون أن تسمية أتباع الدين بالمسلمين جاءت متأخرة. 

  بل والأسلوب القوي المتحدي الغير مهادن الذي نزل به القرآن في أوائل شهور البعث النبوي لا يمكن أن يصدر عن رجل يتحسس طريقه نحو إنشاء دين جديد أو أنه نتاج فكر بشري يتشكل ويتطور جزءًا جزءًا معتمدا في مضمونه وأساسياته على ما قد يسمعه من بعض الموالي كما يدّعي هؤلاء. بل وأن يهدد –في الوقت الذي كان هو وأتباعه القليلين مستضعفين في مكة – يهدد القرآن أكابر القوم من قريش بالعذاب المهين. 

لقد نزلت سورة المسد بقوله تعالى{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} سادس السور في ترتيب التنزيل، والذين سبقوا كلهم قصار، نزلت في أول الدعوة تتوعد عم الرسول وزوجته بعذاب النار وذل الآخرة، وهما من أكابر وزعماء مكة؛ هل هذا قول بشر يطمح أن يقنع قومه بالدخول في الدين الجديد؛ أم هو قول عزيز مقتدر.

ويجدر الإشارة هنا أن أبا لهب –الذي بتت الآية الكريمة أن مصيره في النار- مات بعد أربعة عشر أو ثلاثة عشر سنة بعد نزول هذه السورة وظل على كفره طوال هذه السنين فحق عليه دخول النار كما تنبأت بذلك السورة الكريمة، ولو كان آمن لكان إيمانهُ حُجة على الدين الجديد، ولكنه لم يؤمن وصدَقَت الآية الكريمة.

بل ونجد الفرق بين أفعال الرسول  وبين من أنزل القرآن عز وجل، في الآيات التي نزلت في أوائل البعث، في قوله تعالى:

{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)} سورة عبس ترتيبها في النزول 24  أي لم يكن نزل من القرآن 5% منه بعد. (أي جزء واحد من عشرين).

يقول ابن كثير في تفسيره: ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطب بعض عظماء قريش وقد طمع في إسلامه فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم وكان ممن أسلم قديما فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ويلح عليه وود النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعا ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه وأقبل على الآخر فأنزل الله عز وجل ( عبس وتولى ). أنتهى كلام ابن كثير.

نجد هنا الرسول صلى الله عليه وسلم يأمل في إسلام بعض أغنياء وأكابر قريش، فيعبس ويُعرض عن الأعمى الذي جاءه، بينما الله القوي المستغني، يُنزل آية تبت أبا لهب وتب، لا يهمه أحد كبيرا كان أو صغير، غني أو فقير، بل لا يهمه إن آمن أم كفر، إن آمنتم فلأنفسكم وإن كفرتم فعليها. أنظر قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108)} يونس 52 مكية.

بل وما زلنا في أوائل ما نزل من السور، نزلت سورة النجم لتبلغ المشركين عن الآلهة التي يوقرونها ويبجلونها، وكانوا يقولون لمحمد لو ذكرت آلهتنا بخير نؤمن بك وبربك، بينما القرآن لا يأبه بهم ولا بآلهتهم، إذ يقول عز من قائل:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ (20)} يقول عز وجل: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، لا مهادنة أو سياسة هنا، بل مواجهة وتحدي وعدم إكتراث بقوة وسيطرة الخصم في ذلك الزمان.

ويقول لمحمد صلى الله عليه وسلم {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} الإسراء 50 ص 67

ويقول عز وجل : {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ، قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} سورة يونس 51 ص 71 (الأرقام التي بجوار أسم السورة هي ترتيبها في التنزيل)

هذه الآيات كلها مكية نزلت والمسلمين في قلة وضعف. بينما الآيات المنزلة قوية لا تأبه بقوة المشركين وسيطرتهم.

ولو عدنا الى الآية الكريمة { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} النحل 70 ص 130 مكية

وذكر في التفسير مرة بلعام وكان نصرانيا وأخرى يعيش وكان أعجميا ومرة جبر النصراني غلام الحضرمي وذكروا غيرهم، وهؤلاء غلمان موالي لم يكونوا ليفقهوا في علوم الدين وان فعلوا فليسوا ممن قد يجلس معهم الرسول ليتعلم منهم، أضف أن هذا الشخص كان أعجمي اللسان لا يعرف إلا اليسير من العربية.

ثم قال بعضهم بل هو سلمان الفارسي، والآية مكية والرسول لم يعرف سلمان الفارسي ولم يلتقي معه إلا بعد أكثر من ثلاثة عشر سنة من البعث وكان أكثر من نصف القرآن قد نزل عليه وحيا.

والرد القرآني جاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)} النحل يقول ابن كثير: “أخبر تعالى أن رسوله ليس بمفتر ولا كذاب ; لأنه ( إنما يفتري الكذب) على الله وعلى رسوله شرار الخلق ، ( الذين لا يؤمنون بآيات الله ) من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس . والرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا ، معروفا بالصدق في قومه ، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدعى بينهم إلا بالأمين محمد.” أنتهى كلام ابن كثير.

وما ذكرناه على الآية 103 من سورة النحل والتي ذكر فيها الأعجمي، ينطبق على الآية 5 من سورة الفرقان، في قوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} وهنا نجد الإتهام أن هناك من يملي على الرسول وهو يكتب صباحا ومساءا، أي هناك إستمرارية، وحيث أننا ذكرنا أن المفاهيم والمبادئ الأساسية نزلت في أوائل السور، ثم كان تفصيل هذه المبادئ والمفاهيم والقصص الذي استمر حتى أنتهاء التنزيل بعد 23 سنة، فلابد لو صح كلامهم أن هؤلاء اللذين يملون عليه ظلوا معه طوال هذه السنوات، ولا بد أنهم كانوا معروفين للناس حيث أنهم مع الرسول ويرافقونه بكرة وأصيلا، ولو كان كذلك ظاهرٍا للناس وأنكره الرسول فكيف كان يلقب بالصادق الأمين. 

وفي قوله {وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)} الأنعام. هذه الآية ترتيبها في النزول ال 55 وسبقها نزول أكثر من ثلث آيات القرآن،  وأذكر هنا تفسير ابن عاشور إذ يقول رحمه الله: أي نصرّف الآيات مثلَ هذا التّصريف الساطع فيحسبونك اقتبسته بالدّراسة والتّعليم فيقولوا : دَرَسْتَ . والمعنى : أنّا نصرّف الآيات ونبيّنها تبييناً من شأنه أن يصدر من العَالِم الَّذي دَرَس العلم فيقول المشركون دَرستَ هذا وتَلَقَّيتَه من العلماء والكُتب ، لإعراضهم عن النّظر الصّحيح الموصل إلى أنّ صدور مثل هذا التَّبيين من رجل يعلمونه أمِّيّاً لا يكون إلاّ من قِبل وحي من الله إليه. أنتهى كلام ابن عاشور.


الرد على شُبهة وإدعاء أن القرآن الكريم نُقل من الكتب السماوية التي سبقته وأنه بشري المصدر

2 / 5

الجزء الثاني

فإن قال مدعى آخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم درس وتعلم كتب اليهود والنصارى والمجوس وعلوم اليونان والروم والأحناف وعلوم العرب البائدة قبل البعث، ثم خطط للدعوة الى الدين واتبع خطة محكمة يتم فيها إخراج مبادئ الدين وقصص الأنبياء والحضارات البائدة جزءًا جزءًا إضافة إلى التعامل مع المستجدات خلال ال23 سنة من سنوات الدعوة.

وهذا ما لم يقله أحد من مشركي مكة زمن التنزيل، إذ واضح من إدعائاتهم التي أوردها القرآن في الآيات التي سردناها، أن من يُملي عليه ومن يُعلمه كانا بعد البعث، وليس قبله، وانما أذكره هنا لسد هذه الشبهة.

أولاً، نقول من هو الذي تعلم منه الرسول قبل البعث،  لدينا أكثر من شخص قد توجه إليهم اصابع الشك، أولهم الراهب بحيرا أو بحيرى والذي قالوا أنه نسطوري المذهب، والناسطرة يعتقدون  أن المسيح مكون من جوهرين وهما جوهر إلهي وهو الكلمة، وجوهر إنساني وهو يسوع، وأنه حلت عليه كلمة الرب عند ولادته وفارقته عند الصليب. بينما يعتبر الإسلام أن المسيح كله بشري وأنه لم يصلب.  والراهب بحيرى قد يكون قابل الرسول مرة واحدة عندما كان عمر الرسول في رواية تسع سنوات وفي أخرى إثنى عشر سنة وفي ثالثة أربعة عشر سنة، وكانت المقابلة خلال إستراحة مسافر ربما لبضع ساعات أو بضع أيام على أكثر تقدير، أي منهما لا تكفي لتعليم الصبي دينا كاملا، خاصة أنهما لا يتكلمان نفس اللغة. ثم ينتظر هذا الصبي قرابة ثلاثين سنة أخرى قبل أن يبدأ دعوته للدين الجديد، ويتذكر قصص عشرات الأنبياء ويتذكر معتقداتهم، ثم يأت بدين يرفض تأليه سيدنا عيسى ويكّفر من يقول بهذا كالنساطرة وغيرهم من الأطياف النصرانية المؤلهة لعيسى، ويذكر في القرآن قصص تختلف في تفاصيلها عن تلك التي وردت في كتب العهد القديم والأناجيل، ويختلف أيضًا في مفهوم أبليس الشيطان، حيث أنه في المسيحية كان ملاكًا سقط وقاد تمردًا على الله تعالى عما يصفون، بينما في المفهوم الإسلامي كان الشيطان من الجن فعصا ربه فأمهله حتى يوم القيامة.  ناهيك عن آيات الخلق والكون التي سيأتي ذكرها فيما بعد، والتي ليس للنساطرة ولا غيرهم فضل فيها.

الثاني هو ورقة بن نوفل، وهو ابن عم السيدة خديجة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن الجزم هل كان ورقة مسيحيا نصرانيا أو من الأحناف، وقد توفي إما في أول أيام الدعوة أو بعد سنتين أو ثلاث سنوات بعد البعث على أكثر تقدير، أي أنه وإن قبلنا لغرض الدراسة فقط أنه علم الرسول وتدارس معه الدين المسيحي والفارسي المجوسي وعلوم اليونان وغيرهم، وتم التخطيط لظهور دين جديد قالوا أنه يشبه دين النصارى وهم فئة يهودية مسيحية أختلفت عن مسيحية بولس وأدّعوا أنها قالت بما يشبه قول الإسلام في المسيح، وهذا كذب لأن كل أتباع المسيح في القرن الميلادي السابع كانوا يقولون ببنوة وألوهية المسيح. الإختلاف الذي كان حتى القرن الرابع، بين الأروسيين واساقفة مجمع نيقية، كان في طبيعة ألوهية المسيح، هل المسيح إلها مساويا للرب أم كان هناك زمنا لم يكن المسيح موجودا فيه ثم أوجده الرب خلق به العالم أو المسيح هو من خلق العالم، أي كان هناك وقتًا لم يكن فيه موجودا مع الأب، وهؤلاء كانوا يلقبون بالأروسيين. وقال آخرون بل هم الأيبونيين، وهؤلاء فئة من اليهود الذين أتبعوا عيسى، وكانوا في القرن الأول والثاني ميلادي، وقالوا ببشرية سيدنا عيسى، إلا أنهم قالوا أنه ولد من السيدة مريم وزوجها يوسف النجار، ويرفضون معجزة ميلاد المسيح من مريم العذراء. ويطبقون الشرائع اليهودية بإلتزام وتشدد، ويرفضون الأضاحي والتضحية في المعبد، وطعامهم نباتي خالص لا يأكلون اللحم بتاتا، لقولهم أن المسيح وحنا المعمدان كانا نباتيين، ويرفضون القديس بولس لأنه لا يطبق ناموس موسى، ولم يقبلوا أي من ألأناجيل عدا أنجيل متى الذي قبلوه مع بعض التعديل. ويعيش الأيبونيون حياة زاهدة فقيرة (وهذا اسمهم إذ أن لفظ الأيبونيين يعني الفقراء باللغة العبرية) أي أنهم باعوا الدنيا بالآخرة، والمعروف أن كل مخطوطاطهم وكتبهم أتلفت ولم يعد لهم ذكر بعد القرن الرابع ميلادي وربما قبل ذلك، وكل ما وصلنا هو كتابات أعدائهم أتباع بولس الذين أنتصرت معتقداتهم فأزالوا كل الفئات النصرانية الأخرى ومحوا ذكرهم، ثم شاء الله أن تصلنا بعض مخطوطاتهم التي كانت ضمن مخطوطات البحر الميت المسماة بمخطوطات قمران والتي أكتشفت في أربعينات القرن الماضي، تحديدا في سنة 1947.

وقال آخرون بل هم الأريوسيين، والذين ذكرناهم، وهؤلاء يؤلهون المسيح وأختلفوا في مجمع نيقية في أنهم قالوا أن المسيح إله أقل من الله، بينما قال الآخرون أنه ليس أقل. وقالوا وقالوا، إذ تجد أحدهم يدعى تبعية الإسلام لبحيرا النسطوري، وآخر للإيبونيين، وثالث للأروسيين، وتخبطوا وهم يعلمون مدى إختلاف العقائد والمبادئ والأساسيات، ويعلمون أن القرآن الكريم يرفض كل هذه المعتقدات التي ضلت عن رسالة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام.

وجاء آخرون ووجدوا أن أتباع المسيح يسمون النصارى في القرآن، فأدعى بعض هؤلاء أن الدين الأسلامي هو نفسه دين النصاري (اللفظ ربما مأخوذ من الناصرة مدينة السيد المسيح، أو من النصارى في قول المسيح للحواريين من أنصارى الى الله)، وأن ورقة بن نوفل والنصارى الذين كانوا في مكة، هم الذين أسسوا لهذه الدعوة النصرانية ضد المسيحية التي أسسها بولس وادعوا أنها كانت سائدة في زمن قديم في بلاد الروم والشام ومصر، والتي طردتهم فأختبئوا في مكة. دون بيان أي سند تاريخي أو علمي. والغريب أننا لم نجد ذكر لأحد من هؤلاء النصارى المزعومين في مكة في ذلك الوقت، ولا دخل أحد منهم دين الإسلام في أول دعوته، فإن كانوا هم من خططوا له، فلماذا لم يدخلوا فيه! وأدعوا أن الوحي أنقطع بوفاة ورقة بن نوفل، ولكننا نعلم أن الوحي أستمر بزخم أقوى بعد موت ورقة ابن نوفل لمدة أمتدت لأكثر من عشرين سنة حتى إكتمل القرآن الكريم.

لقد بنوا إدعائهم هذا لأن القرآن الكريم أشار الى أتباع عيسى ابن مريم على أنهم النصارى، وهؤلاء يسمون دينهم الدين المسيحي وأنهم مسيحيون وليسوا نصارى. وأن النصارى هم فئة يعتبرونهم هراطقة هربوا من البطش المسيحي الروماني الى الجزيرة العربية واستوطنوا عُمان واليمن، وأدعوا أن بعضهم سكنوا الحجاز في مكة لأن اليهود سبقوهم الى يثرب أي المدينة. وأنهم أي النصارى كان لهم كنيسة وأسقف في مكة. ووجود النصارى في مكة إدعاء لا يستند على أي دليل تاريخي ولم يقل به أحد من قبل، لا في المصادر الإسلامية ولا في غير الإسلامية، ولو كان لذكره المشركون في مكة في معرض دفاعهم عن آلهتهم اللات والعزى. ألم يذكروا الأعجمي. ألم يذكروا الذين يملون عليه بكرة وأصيلا، فلماذا لم يذكروا النصارى، بل لم يذكروا ورقة ابن نوفل وهو منهم، نعرف أنهم سألوا يهود يثرب ونعرف عن وفد نصارى نجران، أما نصارى مكة فلا ذكر لهم، لأنه لا وجود لهم.

ويجدر الذكر أن وفد نصارى نجران اختلفوا مع الرسول في طبيعة السيد المسيح، ونزلت آية المباهلة، أي أن نصارى نجران لم يكونوا يعتقدون بما يشبه ما جاء به الإسلام فيما يخص السيد المسيح، وفق ما بنى هؤلاء المدعون إتهامهم أن الأسلام دعوة نصرانية، وأن معتقدات النصارى مثل معتقدات الإسلام، فهذا محض كذب وأفتراء يفتروه دون سند، بل وتبين الأسانيد الكثيرة فساده.

ولو عدنا للمصادر التاريخية ومنها المصادر المسيحية واليهودية، لنرى من هم الذين أتبعوا السيد المسيح، نجد أنهم حتى عشرات السنين بعد صعود السيد المسيح الى السماء في 30 أو 33 ميلادي، كان جميع أتباع عيسى ابن مريم يعرفون بأسم النصارى، وكانوا يؤمنون بشريعة موسى ويلتزمون بها، وقد كانت الدعوة النصرانية في الأول موجهة إلى اليهود، وكانت كنيسة أورشليم تحت رئاسة يعقوب الذي هو عند البعض الأخ الأصغر للمسيح، ولما لم يؤمن من اليهود إلا قليل، قرر الرسل الدعوة والتبشير في الأميين أي الوثنيين، في بلاد الشام واليونان والروم، فخرج الرسل ومنهم بولس وبطرس وبرنابا وابن أخته مرقص يبشرون ويدعون الناس للدين الجديد. إلا أن شرط الإلتزام بشريعة موسى جابه رفضا من الوثنيين لأنه يحرم عليهم كثير من طعامهم كالخنزير ويفرض عليهم شعيرة الختان ويُحرم الربا، فرأى بولس عدم إلزامهم بشريعة موسى والإكتفاء بتعليمات المسيح. وحقق بولس بعض النجاح مع اليونان والرومان. إلا أن الرسل والأباء في أورشليم لم يستحسنوا هذا التوجه ولزم الأمر أن يعود بولس الى أورشليم لمحادثة الرسل والشيوخ واجتمعوا عند يعقوب رئيس منيسة أورشليم، وتكلم بطرس ثم تكلم بولس وبرنابا عن النجاح الذي يتحقق بإيمان الأمم دون شرط الختان وشريعة موسى، فقال يعقوب : “لذلك أنا أرى أن لا يُثقل على الراجعين إلى الله من الأمم. بل يرسل إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام والزنا والمخنوق والدم. لان موسى منذ اجيال قديمة، له في كل مدينة من يكرز به، اذ يُقرأ في المجامع كل سبت”. ويعقوب كان يقصد التدرج مع هؤلاء الوثنيين الى حين أن يقوى إيمانهم، عند ذلك تطبق شريعة موسى عليهم، إلا أن بولس لم يتقيد بهذا الإتفاق وألغى شريعة موسى فبدأ اليهود المؤمنون بالمسيح معارضة بولس. إلا أن فكر بولس هو الذي طغى وهذا ما تشكلت عليه النصرانية التي أنشغلت في القرون التي تلت الخروج من أورشليم سنة 66 م حتى مجمع نيقية سنة 325 م، بإشكالية تحديد طبيعة المسيح من حيث ألوهيته أم بنوته أم بشريته، والتي أنتهت الى عقيدة التثليث التي لم تكن معروفة حتى نهاية القرن الميلادي الثاني، عندما أبتدع أسم التثليث رجل أسمه ترتولين Tertullian born 165 converted 197 EC  يعيش في قرطاجة في نهاية القرن الميلادي الثاني. ومن الواضح من عدد المجامع الماسكونية التي عقدت بعد مجمع نيقية أن موضوع طبيعة المسيح كان مختلفٌ عليها وربما لقرون كثيرة لاحقة.

ولو عدنا لتاريخ الذين أتبعوا السيد المسيح، نجد أنهم حتى بعد عشرات السنين بعد صعوده الى السماء، كانوا جميعًا يسمون النصارى، وكانوا يؤمنون بشريعة وناموس موسى ويلتزمون بها، ولا نجد لفظ مسيحي أو مسيحيين أو دين المسيحية في أي من الأناجيل الأربعة، ولم يُذكر لفظ مسيحيين عن السيد المسيح أو على لسان أي من الحواريين. وأول مرة جاء ذكر كلمة المسيحية كان في أنطاكية ربما سنة 50 ميلادية، أي بعد عشرون سنة من صعود السيد المسيح، نقول جاء ذكر لفظ المسيحية أول مرة في أعمال الرسل 11 تحت عنوان  كنيسة أنطاكية   25 (وَتَوَجَّهَ بَرْنَابَا إِلَى طَرْسُوسَ يَبْحَثُ عَنْ شَاوُلَ  26 . وَلَمَّا وَجَدَهُ جَاءَ بِهِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، فَكَانَا يَجْتَمِعَانِ مَعَ الْكَنِيسَةِ هُنَاكَ سَنَةً كَامِلَةً، وَيُعَلِّمَانِ جَمْعاً كَبِيراً. وَفِي أَنْطَاكِيَةَ أُطْلِقَ عَلَى تَلاَمِيذِ الرَّبِّ أَوَّلَ مَرَّةٍ اسْمُ الْمَسِيحِيِّينَ.) أنتهى، وكان هذا قرابة عشرين سنة بعد صعود المسيح، أي أن أسمهم لم يكن مسيحيين قبل أنطاكية، ولعهد طويل بعدها. ويبدو أن هذا الأسم كان يطلق على غير اليهود من الأميين الذين آمنوا بالمسيح ولم يلتزموا بشريعة موسى.

وتكرر ذكر الأسم مسيحيا و مسيحي مرتين في سفر أعمال الرسل 26: 28 وفي رِسَالَةُ بُطْرُسَ ٱلرَّسُولِ ٱلْأُولَى 4:16   

أما لفظ نصارى، فقد جاء ذكره ليعبر عن كل أتباع عيسى عليه السلام، ففي محاكمة بولس أمام فيليكس الروماني، في أعمال الرسل 24: 5 سُمي كل أتباع عيسى “نصارى”، إذ جاء فيه  “وجَدنا هذا الرّجُلَ مُفسِدًا يُثيرُ الفِتنَ بَينَ اليَهودِ في العالَمِ كُلّهِ، وزَعيمًا على شيعةِ النّصارى” أي أن بولس كان رئيس شيعة أو فرقة النصارى في العالم كله.

ومنه نجد أن أتباع عيسى كانوا يعرفون بالنصارى حتى أضطروا للخروج من أورشليم الى بيلا في شرق الأردن سنة 65 أو 70 ميلادية بعد أن دُمرت أورشليم واُضطهد شعبها في زمن الحاكم الروماني تيطس ، وبعد أن إستفحل الخلاف بين الرسل والشيوخ مع بولس بخصوص شريعة موسى.

ولهذا فلا غرابة أن يدعو القرآن أتباع المسيح بأسمهم الأول وهو النصارى، فهؤلاء هم الأصل الذي خرج منه كل الفرق والشيع الأخرى.

وإذا نظرنا في الإدعاء أن الإسلام دعوة نصرانية، وأكرر هذا لأن بعضهم كتب كتبا بهذا الإدعاء، وبالأضافة الى ما ذكرته عن وفد نصارى نجران، والذين أختلفوا مع الرسول. فلو كان ما يدعيه هؤلاء صحيحًا، ألن نتوقع من هذه الدعوة أن تشير إلى أصلها النصراني، وإلا فما الفائدة التي تعود على من أطلقها على أنها دعوة نصرانية وهي لا تدعو لذلك ولا تقول ذلك، بل ما نجده، هو أبعد ما يكون عن ذلك، إذ لو نظرنا في السور والآيات القرآنية التي نزلت في أول الدعوة لا نجد فيها أي من هذا الفكر النصراني، بل نجد أن الدعوة الجديدة موجهة الى  المشركين، وتتالت السور تُذكر أقوام عاد وثمود ومدين وفرعون، وقصص أنبياء كثيرين هم آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وابراهيم ولوط واسحاق واسماعيل ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهارون ويوشع بن نون وذو الكفل وداوود وسليمان وإلياس وأيوب ويونس واليسع حتى نزل خٌمس القرآن كله ولم يأتِ بعد ذكر زكريا أو يحي المعمدان أو السيدة مريم أو عيسى عليهما السلام، ثم نزلت سورة مريم ربما في السنة الخامسة بعد البعث. فلماذا لو كان هذا هو دين النصارى أو دعوة نصرانية، يتأخر ذكر سيدنا عيسى وذكر أمه مريم العذراء، ليس أي قصة وأنما الأسم فقط، ذكر القرآن أسماء معظم الأنبياء ولم يذكر في خمس سنوات من نزول القرآن أسم السيد المسيح عيسى ابن مريم، أما لفظ النصارى –الذي بنوا عليه إفترائهم وأفتراضاتهم- فلم يأت ذكر لفظ النصارى في القرآن إلا بعد الهجرة.

 أي بعد أكثر من 13 سنة من بدء الدعوة وبعد أن نزل أكثر من نصف القرآن ولم تُذكر فيه كلمة النصارى مرة واحدة، فإن كان هؤلاء أي النصارى هم من خططوا ونفذوا وألفوا وزوروا الدين والقرآن وفق هذا الإدعاء الواهي. فكيف؟ 

أدعوا أنهم أي النصارى، فرقة هربت من بطش السلطة المسيحية المدعومة من الأمبراطورية الرومانية، فلو كانوا فعلاً مؤمنين بالله تعالى، أكانوا سيكذبون على الله والناس بإختلاقهم هذا الدين الذي يعلمون أنه ليس من عند الله، وهم وفق رواية المدعون، هربوا الى الصحراء لأنهم لم يرضوا أن يبدلوا دينهم وأن يقولوا زورًا على الله والمسيح، فهل مثل هؤلاء من يزوّر دينًا كاملا ويدعي أنه من عند الله؟ هراء وتخريف لا يصمد أمام أي منطق سليم.  

ثم أليس النصارى هم من قال القرآن عنهم:  {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} سورة المائدة، فلماذا يُعنفهم ويُخطئهم  كتاب الدين النصراني الذي هم الذين أخترعوه وفق إدعائهم!!  

بل ويدعو الدين الجديد المسلمين أن لا يصادقوا النصارى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}

بهذا يكون القرآن نفسه قد رد على هذا الإدعاء الكاذب. كتب ألفت ودراسات نشرت، كلها بنيت على تخيلات مؤلفيها وإفتراضات خاطئة مضللة، لا تجد فيها أي سند تاريخي أو مرجع علمي للإفتراضات التي يتخيلوها ثم يبنون عليها نتائجهم.


الرد على شُبهة وإدعاء أن القرآن الكريم نُقل من الكتب السماوية التي سبقته وأنه بشري المصدر

3 / 5

الجزء الثالث

قبل أن أترك هذا الموضوع بخصوص الرد على الشُبهات التي يثيرها اللذين أعياهم هذا الدين القيم وملأ قلوبهم حسرة  لعظمته وقيمته في قلوب المؤمنين به، أود الرد بإختصار على الذين يدعون أن ما يسمونه الغزو الأمبريالي العربي في القرن السابع لم يكن قائما على دين، وأنما وبعد الإنتصار والنجاح في تكوين أمبراطورية عربية، فكر الحكام الأمويين في تأليف دين يدعم ويوحد إمبراطوريتهم، أي أن الأمبراطورية وجدت أولا ثم أوجدت الدين، وأدعى هؤلاء أن الأمويين بدءا من معاوية ولدرجة أكبر عبد الملك ابن مروان من معه هم من ألف الدين الإسلامي، وأنهم زوروا لهذا الدين قرآنا وتاريخا أرجعوه الى زمان سيدنا محمد. وما دعاهم الى ذلك إدعائهم هذا، أنه لا يوجد مصادر تاريخية غير إسلامية تذكر نشأة الإسلام أو الرسول أو مكة، كأن المصادر التاريخية –خارج كتابات اليهود والنصارى- تمتلأ بذكر عيسى وموسى وأبراهيم وغيرهم من أنبياء ورسل العهد القديم، الذين لم يأت ذكر أي منهم في أي من وثائق ومخطوطات الرومان والفرس والفراعنة المصريين. ومع هذا فقد ذكر المؤرخ الأرميني سيبيوس في سنة 656 م أي 24 سنة بعد وفاة الرسول، ذكر محمد بالأسم وكان يتحدث عن أحداث وقعت سنة 630 ميلادية وأن وفقًا لأوامر الرب ظهر في العرب واعظ أسمه محمت تاجر وأعطاهم القانون وفقًا لأوامر الرب وأمرهم أن يعبدوا الله ويتبعوا الطريق المستقيم، وأن لا يشربوا الخمر ولا يأكلوا الميتة ولا يتكلموا كذبا ولا يزنوا، ثم ذكر حربهم مع الفرس ومع بيزنطة وذكر معاوية.

القول أن الإسلام زور أواخر القرن السابع وأوائل الثامن ميلادي، فرضية ظهرت في السبعينات من القرن الماضي، ورفضها معظم الباحثون الأكاديميون في أوروبا، إلا أن البعض عاد يثيرها من جديد منذ عدة سنوات، وقد رد عليهم أغلب أساتذة الأديان والتاريخ ورفضوا أقوالهم، وقد أنتهوا من هذه الفرية، ويتفق معظم المؤرخون والأكاديميون والباحثون الغربيون أن سيدنا محمد كان موجودا في نهاية القرن السادس وبداية السابع، ولم يعد هذا مجالا للبخث أو التشكيك. إلا أن هؤلاء ما زالوا يكررون في اليوتيوب والأنترنيت فرية أن الإسلام منتج أواخر القرن السابع ميلادي وتطور في القرنين اللاحقين، وبالرغم أنني ذكرت أن هذا رد عليه وحسم أمره، إلا أنني أو أد أزيد هنا على ردود الأساتذة والعلماء الذين رفضوا هذه الفرضية.

لو كان عبد الملك ابن مروان (حكم 65 – 86 هـ) (685م – 705م) (وهو من بني أمية) هو من ألف الإسلام، فهل كان عبد الملك ابن مروان الخليفة الأموي ليختار محمد بن عبد الله وهو من بني هاشم ليكون نبي ورسول هذا الدين. ومعروف للجميع مدى التنافس بين الفرعين القرشيين بنو هاشم وبنو أمية ابن عبد شمس، ولماذا يؤلف سيرة يجعل فيها جدهم مؤسس الدولة الأمويه، يجعل أبا سفيان زعيما للمشركين المكيين، اللذين ناصبوا الرسول العداء وأخرجوه وقاتلوه قرابة عشرين سنة، حتى هزمهم الرسول وفتح مكة. أموي يؤلف قصة ينهزم فيها أبا سفيان الذي أبنه معاوية مؤسس الدولة الأموية، فهل يعقل أن يؤلف هؤلاء الأمويون دينًا يجعلوا نبيه ورسوله من بني هاشم، وأن يجعلوا النصرة له على جدهم! ثم يقتل الأمويين حفيدي النبي ويستبيحوا مكة والمدينة. ثم يروجون لهذا الدين والقرآن والرسول لأنه وفق قول هؤلاء المدعون سيوحد مملكتهم ويدعمها. أي عاقل يقول مثل هذا. أصحاب هذه الأقوال من الأوربيين لا يعرفون شيئًا عن عادات العرب وعن العصبية القبلية والتنافس العائلي.  ومعروف أيضًا أن الدولة الأموية نفسها زالت وأبيدت على يد العباسيون الذين هم من أهل بيت الرسول، والذين أخذوا شرعيتهم من قرابتهم للرسول صلى الله عليه وسلم. أي أن الأمويين -اللذين بإدعاء هؤلاء- ألفوا الإسلام ليوفروا وحدة وعمقًا للأمبراطورية التي صنعوها أو صنعها العرب، ألفوا دينا وأختاروا له نبيًا، فنسبوه الى أعدائهم ومنافسيهم، بما أسفر عنه أنهم فقدوا شرعيتهم ودولتهم، إذ جمع العباسيون الناس وثاروا على الأمويين فأعملوا فيهم القتل وأبادوهم فلم يتركوا منهم إلا أميرا واحدا هو عبد الرحمن الذي هرب الى الأندلس في أقصى الأرض! وكان هذا بعد خمسين سنة فقط بعد أن ألف عبد الملك ابن مروان هذا القرآن والدين الذي قضى على مملكته وأباد أحفاده ومحا أسم عائلته.  ترى من هو الذي يمكنه أن يؤلف مثل هذه الرواية المفتراة.

أضف أن عبد الملك ابن مروان حكم سنة 65 هجرية، أي بعد 53 سنة هجرية من وفاة الرسول، فهل يظن عاقل أن بمقدور أي أحد، أن يؤلف دينا وينسبه لرسول عاش منذ خمسين أو ستين سنة، ويمرره على الناس الذين عاصر كثير منهم ذلك الزمان وسيتذكر هل ظهر رسول أم لم يظهر.

ومؤخرًا جاء الرد عليهم بمخطوطة قرآن برمنجهام، وبقيتها في باريس، المخطوطة تتكون من  صفحتين تبين باختبار الإشعاع الكربوني أنهما يعودان الى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أو الخلفاء الراشدين على أقل تقدير، لا زمان الأمويين، بل زمان الرسول والخلفاء الراشدين، ولو نظرت في صور الصفحتين، تجد صفحة تحتوي الآيات 17-31 من سورة الكهف، وصفحة تحتوي الآيات 91 – 98 من سورة مريم وتلاها 13 آية من سورة طه. وتجد أن الآيات تتطابق كلمة كلمة بل وحرف حرف، مع القرآن الذي بين أيدينا اليوم. ويقول هؤلء المدعون أن القرآن بدء تجميعه زمن عبد الملك ابن مروان مائة سنة بعد التاريخ الذي حدده إختبار الإشعاع الكربوني. لقد حيرهم هذا القرآن وقوة إيمان المسلمين به، وحيرهم ظهور هذا الدين العظيم والقرآن المعجز من بطن الصحراء فجأة وبدون أي مقدمات، حمله المسلمون وخرجوا من صحرائهم فهزموا القوتين العظيمتين الروم والفرس بعد أن كانتا تسيطران على العالم لألف عام سبقت، وأسسوا لحضارة إسلامية أمتدت من المحيط الأطلسي حتى أطراف الصين، كل هذا حدث في سنوات قليلة فبدا كأنه طفرة ليس لها مثيل في التاريخ البشري. حيرهم هذا فما فتأوا يحاولون النيل من الإسلام ومن القرآن، ولن يستطيعوا لا هم ولا غيرهم، لأنه أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض.

والآن وبعد أن فندنا الإدعاءات ورددنا عليها، يتبقى لنا أن نذكركم بأن الرد القرآني على كل هذه الإتهامات الكثيرة والمختلفة التي ذكرناها حتى الآن، نجده في الآيات التالية:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}  الإسراء  مكية

في قوله تعالى:{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)} سورة هود مكية

وقوله تعالى {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} يونس مكية

 وفي قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} سورة البقرة أول سور التنزيل المدني.

في هذه الآيات 3 منها مكية وآية واحدة مدنية، تحداهم القرآن والمسلمين ضعفاء في مكة، ثم تحداهم في المدينة والمسلمين يحيط بهم اليهود بعلومهم وتوراتهم. 

وسورة يونس المكية، التي جاء فيها التحدى أن يأتوا بسورة واحدة من مثله، كان قد نزل قبلها 50 سورة كلهم قصار فيما عدا سورة الأعراف، أي كان يمكنهم أن يأتوا بسورة من بضعة آيات أسوة بأغلب السور التي كانت بين أيديهم في ذلك الوقت. ثم تكررت الدعوة في سورة البقرة التي نزلت في المدينة، وليس عندنا في المدينة مشركي مكة وإنما منافقين ويهود وكفار، وهؤلاء كان معهم اليهود الذين معهم التوراة، ولو كان القرآن منقولا عن التوراة لسهل عليهم أن يأتوا بمثله.

إن تحدي المشركين والكفار وغيرهم من اليهود وربما النصارى، أنه إذا كانوا يقولون أن مصدر القرآن بشر من عجم أو يهود أو نصارى أو غيرهم، أو أن محمد أفتراه، أي ألفه من عند نفسه، فكما ألف محمد أو نقل، فألفوا وإنقلوا مثله أن كنتم صادقين، فكما تقولون يُملى على محمد فليملي هؤلاء على أي منكم وليأتي هذا بمثل ما أوتي محمد.

وهذا صحيح، لماذا لم يؤلفوا مثله؟ لم يستطع الكفار المشركين وغيرهم من أهل الكتاب أن يأتوا بمثل سورة منه، سورة واحدة فقط، ليس عشرة وليس كله. لا تستمعوا لمن يقولون اليوم أن هذا التحدى لا معنى له، وأنهم إن يأتوا بشيء مثله فهو هو، لأنه لو إختلف فليس مثله، هذا كله لغوٌ يقصد به البلبلة والتشكيك وليس فيه شيء من الصحة، التحدي واضح، تقولون أنه بشري المصدر، وأنه أساطير الأولين، وأنه منقول عن كتب الآخرين، وتقولون أنما يعلمه بشر، وتقولون وتقولون، فإن كان، قولوا مثل سورة واحدة من أكثر من مائة سورة يتضمنها هذا القرآن. سورة واحدة فقط. نعلم أن زعماء قريش وأثرياءها كانوا يعادون هذا الدين، ولم يوفروا مالا أو جهدًا ليقضوا عليه، وكانت هذه فرصتهم.

ولو نظرنا من الجهة الأخرى، لو كان الرسول إفتراه كما يدعون، فهل كان ليخاطر بمثل هذا التحدي وهو يعرف أنهم سيستطيعون كما استطاع هو!! بل ولو كنتم مكانه، وأنتم من ألف القرآن، لخشيتم أن هؤلاء بإمكانياتهم وأموالهم ومصادرهم سوف يأتون بمثله إن لم يكن بأحسن منه. ولابد أن المشركين تكتلوا ووفروا المال والخبرة والعلم والأدباء وتآمروا مع اليهود -كما فعلوا في الإختبار الذي أدى الى نزول سورة الكهف – كانت هذه فرصتهم لأنهم لو قالوا مثله لربحوا التحدى ولقضوا على هذا الدين الذي يهدد آلهتهم وإستقرارهم السياسي والإقتصادي ومكانتهم بين القبائل. أليس هذا ما كانوا يهدفون إليه حتى أخرجوا المسلمين في هجرة الحبشة الأولى ثم الثانية ثم أخرجوا الرسول والمؤمنين من ديارهم تاركين خلفهم أهلهم وأموالهم وبيوتهم. كانت هذه فرصتهم ولا بد أنهم حاولوا، لا تدعوا أحد يقلل من أهمية هذا التحدي، الذي لم يكن ليطلقه مُدعي في فترة ضعفه وهوانه. ولا بد أن المشركين حاولوا وفشلوا، لماذا، لأن القرآن ليس فقط قصص الأنبياء والحضارات التي بادت، وليس فقط شرائعهم وعقائدهم، بل يقدم مفاهيم جديدة حديثة في زمانها، رسمت خطوطا عريضة لهداية البشر في أمور معاشهم وفي العبادات والشرائع، وفي علوم الإجتماع والإقتصاد والقانون، وفي العلوم الكونية بما فيها الخلق والظواهر الطبيعية، وعلوم الغيب والحساب والجنة والنار. بالإضافة الى أنه كتاب هدى وتوجيه. وجاء أيضًا ليخرج أهل الأنجيل مما هم فيه من إختلاف في طبيعة المسيح وليحسم النقاش الذي كان دائرًا في محافلهم في الستمائة سنة التي سبقت البعث.

وكما سبق أن قلنا، أن القرآن لا يشبه أي من كتب الأديان التي سبقته، ولو كان منقولا عنها لإتبع أسلوبها وترتيبها، ولكنه جاء فريدا يختلف عن كل الكتب السماوية والبشرية التي سبقته.

وفي قوله تعالى {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (14)} سورة هود مكية. أنظر منطقية وسلاسة وهدوء هذا الرد.

وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا …………………} (24)} سورة البقرة مدنية، ما حسم به الله تعالى هذا التحدى وجزم أنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بسورة واحدة من مثله، ولم يكرر عرض التحدى بعد هذه الآية. وسنرى أيضًا فيما بعد في هذا البحث، لماذا هذا القرآن فريد معجز يفوق قدرات البشر، وفي هذا أيضًا الرد القاطع على كل ما يأتون به من شبهات واهية.

لو عدنا إلى قصص الأنبياء كمثال لما يدعيه البعض عن أخذ القرآن عمن سبقه. ورد ذكر سيدنا إبراهيم وسيدنا موسى في عشرات السور. في كل سورة جزء مكملا أو سابقًا أو مكررًا، واستمر خلال التنزيلين المكي والمدني، فهل كان الأعجمي أو غيره يسرد القصة على أجزاء في حلقات استمرت لعشرين سنة، في كل حلقة يسرد أجزاء من القصة بعضها سابق وبعضها لاحق، ولو حدث لتناقضت الرواية واختلفت مع ما ذكر منها سابقًا!  أنظر قوله تعالى{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} النساء (82) .

قلنا جاء ذكر سيدنا أبراهيم وموسى عليهما السلام في عشرات السور، وكذلك قصة آدم، بينما سردت قصة يوسف كاملة في سورة واحدة، ليبين القرآن القدرة على سرد أي قصة مرة واحدة، بينما جُزأت  قصتي إبراهيم وموسى ليناسب كل مقطع منها أحوال ومتطلبات المسلمين الأوائل في ذلك الزمن.

فلو كان لدى الرسول كتاب -وهو في الأغلب أمي لا يقرأ ولا يكتب- أو كان هناك من يُملي عليه فهل كان ليجزء القصص مع إمكانية أن يقص القصة كاملة كما حدث في قصة سيدنا يوسف. وهل لو كان جّزء الرواية وكرر أحداثها، أكان يستطيع هذا الراوي أن يحافظ على صحة الأجزاء وعدم تعارض بعضها البعض وأن لا يخطء في الترتيب وفي التفصيل ونحن نتحدث عن مدة زمنية بلغت 23 سنة، لا يُدرى أيعيش الراوي أو يموت أو يرحل. فلا تكتمل القصة أو الموضوع. بالطبع لا، فالذي ينقل ينقل مرة واحدة وإلا فالخطء والتعارض والإختلاف وارد.

لقد نزل القرآن منجما، على أجزاء طوال 23 سنة، فلو قال قائل أنه جُزء لأن الرسول وصلته القصص على أجزاء، فكان كلما عرف جزء أضافه في وقته، نرد أن الأجزاء فيها ما كان مكملا يسرد أجزاء جديدة من القصة، وفيها ما هو مكررًا تكرر لأنه يذّكر المسلمين بهذا الجزء الذي يكون له علاقة بحالهم ووضعهم في ذاك الزمان، أي يصبرهم ويشجعهم ويعظهم، ولو شاء الله لسرد القصة كاملة مرة واحدة كما في قصة يوسف التي رويت كاملة بتفاصيلها، ليبين أنه لو شاء الله لقص كل القصص مثل قصة يوسف، ولكن شاء الله أن ينزل القرآن منجمًا ليثبت به الرسول والمسلمين. وكما ذكرنا لو كان الذي يجزأ القصة ويكرر الأحداث بشرا لأخطأ في التفاصيل أو الترتيب وهذا لم يحدث.

وقبل أن نترك اليهود والنصارى، أضيف أن القرآن يختلف مع اليهود في أنه يصدق نبوة المسيح وهم ينكرونها، ويختلف مع المسيحيين في بنوة وألوهية وصلب عيسى ابن مريم، وهم يؤلهوه ويعبدوه. فأين النقل والإختلاف بين.


الرد على شُبهة وإدعاء أن القرآن الكريم نُقل من الكتب السماوية التي سبقته وأنه بشري المصدر

4 / 5

الجزء الرابع

أما لو إنتقلنا إلى إدعاء التأثر والنقل عن الديانة الزرادشتية، فيجب التوضيح أولا أننا في هذا العصر ليس لدينا معلومات بدقة كافية عن الدين الزرادشتي ولا عنه أو عن المجوسي الذي كان زمان تنزيل القرآن، وهذا لأن ما لدينا من مخطوطات زرداشتية تعود الى سنة 1320 ميلادي أي منذ 700 سنة فقط، وهذه متأخرة عن أقدم أجزاء من نسخ القرآن بسبعمائة سنة. أي أنها سطرت في القرن الهجري الثامن، ولهذا فلا نستطيع ولا يستطيع أحد أن ينفى إحتمال أن أوجه التشابه وجد لأن كاتب هذه المخطوطات تأثر بمرويات الإسلام.

ثانيًا، أن الديانة الزرادشتية تعتبر نفسها ديانة توحيدية بالرغم من قولهم بوجود إله للشر، ولو كانت فعلا ديانة توحيدية –والله أعلم- فقد تنضم الى الأديان الصحيحة التي نزلت من عند الله تعالى، لأنه تعالى أخبرنا أنه مرسل في كل أمة رسولا، ولو صح هذا الفرض فلا عجب أن تتشابه المعتقدات.

ولكننا نعرف أن هذه الديانة التي يعود عمرها الى ما بين ألفين وثلاثة آلاف سنة، قد تغيرت وحرفت عبر التاريخ وما وصلنا ووصل زمان البعث الإسلامي لم يكن هو  الذي أنزله الله على نبيه لو صح الفرض الذي وضعناه.

مؤسس الزرادشتية هو زرادشت، وهو وفق معتقداتهم، النبي الذي أرسله أهورا مازدا للعالم، ولا يؤمن الزرادشتيون بنبي غيره. بينما يؤمن المسلمون بجميع الأنبياء والرسل، ليس فقط رسل وأنبياء الأديان الإبراهيمية، بل رسل آخرون لم يأت ذكر أسماءهم في القرآن الكريم وأنما ذكروا في الآية الكريمة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ ..} آية 78 سورة غافر وقوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} الإسراء   وقوله {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا } آية 36 سورة النحل ، وقوله تعالى : {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)} سورة يونس

وكما ذكرنا، يبدو أن الديانة الزرادشتية كانت في بدايتها توحيدية، إلا أنها أعتقدت أن الله خير محض، لا يصدر عنه الشر، فكان لزاما أن يوجد إله آخر هو إله الشر، وبهذا فهم يقولون أن الزرادشتية تؤمن بالتوحيد ولكن بمنظور ثنائي أهورامازدا إله الخير وأهرامان إله الشر. وبحسب الديانة الزرادشتية فالكون خلق قبل 12000 سنة حكم إله الخير منها ثلاثة آلاف سنة ، كان فيها إله الشر في الظلام طيلة حكم إله الخير، ثم ظهر إله الشرّ وواجه فيها إله الخير وقد اعطاه إله الخير مدة 9000 سنة ليتقابلوا فيها، وقد كان إله الشر مطمئنا للفوز بالإلوهية إلا أن ظهور زرادشت ونشره الدين الجديد والخير، جعل الناس تنفر من إله الشر مما أدى إلى هزيمته وبقي إله الخير يحكم الكون، وهو الذي خلق الخليقة والاكوان وتربع على عرش الربوبية، ووزع خيره على الكائنات جميعاً، لذا يجب اطاعة اوامره.  وهذا بالطبع مختلف تماما عن الوحدانية في الإسلام، فالله تعالى هو الملك الجبار المسيطر وكل ما هو غيره عبيد له بما فيهم الشيطان الذي أُمهل بمشيئة الله تعالى الى يوم الحساب، لتتحقق المشيئة الإلهية في أن تكون الدنيا دار إختبار. بينما في الديانة الزراداشتية الشر له إله يقابل ويعارض إله الخير، وهذا شرك لا يقبله الإسلام، فلا شبه هنا؟

أمر زرادشت أتباعه ألا يلوثوا العناصر الأربعة وهم النار والتراب والهواء والماء، وأن من يلوث أي من هذه العناصر فسوف يتعذب. وقال أن الله يفضل المتزوج على غير المتزوج، ويفضل من له أولاد عمن ليس له أولاد، وحرم الطلاق.

ومع مرور الزمن، ، وبعد أن ضاع معظم تراث هذا الدين عندما أحرق الإسكندر الأكبر المقدوني مدينة وكتب الديانة الزرادشتية سنة 330 قبل الميلاد، حاول أردشير في أوائل القرن الثالث ميلادي أي بعد أكثر من خمسمائة سنة بعد حرق الإسكندر للكتب والمدن الزرادشتية، إعادة جمع ما تبقى من الدين، إلا أن الذي نتج كان غير دين زرادشت الأصلي، إذ كان خليطا متنافرا يجمع بين مجوسية مادا ووثنية فارس ووثنية اليونان وبقايا زرادشتية محرفة. فمن الإعتقاد بثنوية الخير والشر، الى عقيدة تعظيم النار كرمز للرب على أفضل تقدير، وهذا هو الدين الذي أطلق عليه العرب اسم المجوسية أي عبادة النار، دخل جزيرة العرب قبل البعث، وورد أن سادات بني تميم اعتنقوا المجوسية، وكان في اليمن وفي البحرين مجوس.

أوجه الشبه مع الزرادشتية لا يتعدى في الصلاة فهي خمس صلوات في اليوم والليلة وان اختلفت طريقة الصلاة، فصلاتهم اليومية فردية أمام النار في إتجاه الشمس والقمر ليلا، وعلى المُصلي فك وعقد الحزام المقدس في كل صلاة ويقول أدعية مأثورة، بينما صلاة المسلمين جماعة أو فردية ولا تشبه صلاتهم. بينما الصلاة في الدين المانوى أربع صلوات في اليوم وكل صلاة تؤدى في أثنتى عشر ركعة وسجدة، ولا ندري أيهم كان في القرن السابع ميلادي.  أما الزكاة فهي ثلث المال عند زرادشت بينما هي أقل بكثير في الإسلام لا تتجاوز ربع العشر في النقود والسوائم والعشر ونصف العشر في الزروع، وهذا ليس وجها في الشبه إذ أن كل الأديان تفرض صدقة كالعشور عند النصارى.

وهناك قطع يد السارق، وكان هذا في الدين الزرادشتي الأصلى، أما الدين الذي دان به من ذكرناهم من العرب زمن الرسالة، فكان قد حُرف ومُنع فيه قطع أي عضو واستبدل بخرق أذن أو أنف السارق. أما حد الردة، فهو القتل في الزرادشتية، بينما هو مُختلف فيه في الإسلام إذ لا يوجد نص في القرآن بقتل المرتد، بل يدل النص أن لا إكراه في الدين فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وقال بعض الفقهاء القتل يكون فقط للمرتد المحارب، أي الذي يحارب المسلمين.

يؤمن الزرادشتيون أن الروح تهيم لمدة ثلاثة ايام بعد الوفاة قبل أن تنتقل إلى العالم الأخر، وتختلف الزرادشتية في أنهم كانوا لا يدفنون موتاهم ولكن يتركون جثامين الموتى للطيور الجارحة على أبراج خاصة تسمى أبراج الصمت، بينما في الإسلام إكرام الميت دفنه.

كان الصوم ثلاثين يوم في شهر واحد ثم سبعة أيام في كل شهر بعد ذلك، إلا أنه أصبح محرما في الديانة الزرادشتية التي كانت زمان الرسول. والصوم موجود في كل الأديان فما الشُبهة في ذلك، بل أن آية فرض الصوم في القرآن تذكر ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة.

الدين الزرادشتي اليوم وربما زمان الرسول ليس دعوة عالمية لكل الناس لأنه لا يقبل منضمين جدد له، كما لا يسمح بالتزاوج مع معتنقي الأديان الأخرى. في حين أن رسالة الإسلام عالمية موجهة الى كل البشر.

أما الشبه في مفهوم البعث والحساب والجنة والنار، فهل كان العرب في زمان الدعوة الإسلامية يعرفون هذه المفاهيم، الواضح من الآيات القرآنية أن العرب المعاصرين لزمن النبي لم يكونوا يعرفوا هذه المفاهيم، لأنهم تعجبوا وسخروا من فكرة البعث بعد الموت، وسخروا من فكرة أنهم سيبعثون بعد أن تفنى أجسادهم وعظامهم. أنظر قوله تعالى{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ۗ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)} سورة سبأ وقوله تعالى: {  وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)} الإسراء وقوله تعالى {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)} الواقعة وقوله تعالى { بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ۖ ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)} سورة ق .

من الواضح أن هؤلاء العرب لم يسمعوا قبل القرآن عن فكرة البعث بعد الموت والحساب والجنة والنار. ولهذا فالقول أن العرب كانوا يعرفون عن الديانة الزرادشتية ليس فيه شيء من الصحة، أو أن الزرادشتية التي عرفوها لم تتضمن هذه المفاهيم عن البعث والحساب والجنة والنار. وفي كلتا الحالتين، لا يصح القول أن هذا المفهوم نقل عن المجوس العرب، لأنه لو كان معروفا، فلما هذا التعجب والإستهزاء.

وهناك القول بالشبه أنه في العشر سنوات الأولى من دعوة زرادشت لم يؤمن به احد وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ايضا ً لم يؤمن به الا قليل في سنوات دعوته الثلاثة عشر في مكة. ولكن هذا ليس شُبهة، فليس من المنطق السليم أن نظن أن الرسول له يد في عدم دخول الناس في الدين في أول الدعوة. وهناك أيضًا من يدعي أن زرادشت بدأ دعوته عندما بلغ عمره أربعين سنة وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والحقيقة أن زرادشت بدء دعوته عندما بلغ عمره ثلاثين سنة، والتشبيه هنا يكون مع سيدنا عيسى وليس مع الرسول، وهذا ما يقال عن المسيحية إذ لم تسلم الأديان الأخرى من ما يتعرض له الإسلام . واليهود والنصارى ليسوا في منأى من إتهامات شبهة النقل عن زرادشت والتي يطلقها الملحدون بغية تشكيك الناس في معتقداتهم. إذ لم يقتصر الإدعاء بتأثير الدين الفارسي على الإسلام، بل سبقته في شُبهة التأثر الأديان “اليهودية” و”المسيحية” وهذا ليس محله هذا البحث.

وهناك شبهة الإسراء والمعراج، فقد أسري وعرج بالنبي الى السماء، وكذلك في ما يروى عن زرادشت أن الملاك أخذ بيده وعرج الى السماء حيث مثل في حضرة أهورا مزدا وتلقى الرسالة التي توجب عليه أن يبلغها الى الناس. أي أن الغرض من المعراج كان تبليغه الرسالة التي سيبلغها بدوره الى الناس، أي كانت هي بدء الدعوة. بينما إسراء ومعراج النبي حصل بعد ربما عشرة سنوات من بدء دعوة الرسول، يقول تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} سورة الإسراء. فكان غرضه أن يُري الرسول الآيات لتثبيت فؤاده وأن يزيد يقينًا، أنظر قوله تعالى في نفس السورة:  {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} . إذ كان الرسول والمسلمون في هذه الفترة يمرون في أحلك أيام ضعفهم وهوانهم بين الناس، في قوله تعالى في نفس سورة الإسراء: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)}. نجد لا علاقة البتة بين معراج زرادشت وإسراء ومعراج الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي كان يتلقى الرسالة القرإنية عن طريق الوحي وجبريل.

وهناك قصص أخرى كثيرة منها أن زرادشت كان في الغار سبع سنوات ثم جاءه ملك، ومن الواضح أن المرويات في كل الأديان تأخذ من بعضها البعض، وكما قلنا أن هناك إحتمال أن كاتب المخطوطات الزرادشتية الذي كتبها بعد سبعمائة سنة بعد نزول القرآن قد يكون قد تأثر بالمرويات الإسلامية التي كانت منتشرة في ذلك الزمان!  

بل ويجدر الذكر أن المسلمين الأوائل كانوا يشعرون بإنتمائهم الى أهل الكتاب لأن الرب واحد، أما رب الفرس وهم أصحاب الديانة المجوسية، فقد أنف منهم المسلمون، وهذا واضح من حزن المسلمين لهزيمة الروم على يد الفرس، في الوقت الذي فرح المشركون والوثنيون بنصر الفرس. أنظر قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 1-5]. فكيف يمكن أن نقبل فكرة نقل الإسلام عن المجوس الزرادشتيين، والقرآن أخذ موقفًا معاديًا لهم.

هذه أدعاءات لا تقوم على أي سند أو مرجع علمي تاريخي ذو قيمة علمية، وإنما هي إفتراضات بل تخيلات من يحقدون على هذا الدين القيم ولا يتوانون في الكذب والتزوير لزرع الشك في نفوس الذين يستمعون لهم وينقصهم الوقت للدراسة والتحقق.


الرد على شُبهة وإدعاء أن القرآن الكريم نُقل من الكتب السماوية التي سبقته وأنه بشري المصدر

5 / 5

الجزء الخامس

نعود الى شبهة النقل عن المصادر اليونانية والزرادشتية والفارسية والصابئة واليهودية والمسيحية وغيرهم، ولو كان- وهو كما ذكرنا – من المحال أن يكون –  السؤال هو لماذا إختلف القرآن الكريم مع هذه الكتب والأديان في أمور عقائدية وتشريعية، وفي العبادات، وفي الشئون الإجتماعية والإقتصادية، وفي المحرمات والعقوبات، وفي علوم الغيبيات، وفي الأمور التي نسميها اليوم العلوم الطبيعية ومنها خلق الحياة وخلق الكون.

إذا كان ينقل منها فلماذا يختلف مع هذه المصادر، أليس كان الأجدر بمن ينقل أن يلتزم بما ينقله بدقة، أليس هذا من طبيعة الذي ينقل عن الآخرين. إلا لو كان أذكى وأعلم منهم ينقل عنهم ويصحح عليهم، وهنا علينا أن نضيف صفة العبقرية الى سعة العلم التي شملت علوم هذه الأديان والحضارات، بالإضافة الى قوة الذاكرة، حتى لا تتعارض الأجزاء التي نزلت على فترات بينها سنوات مع بعضها البعض. ولو قبلنا وجود هذا العبقري واسع العلم والحكمة، الذي شاء أن يظل في الخفاء ويترك المجد لغيره، وظل جوار الرسول طوال ثلاثة وعشرين سنة ولم يلحظه أحد من الصحابة أو المشركين.

لقد دعا الرسول 13 سنة وجابه العذاب والألام في مكة فلم يؤمن إلا القليل، فلم يضعف أو ييأس، بل استمر القرآن يتنزل عليه بأسلوبه الواثق المنتصر القوي المتكبر، بينما يعاني الرسول ومن معه من المسلمين المستضعفين العذاب على أيدي المشركين.

نقول لماذا الذي ينقل يختلف مع الكتب والعلوم التي ينقل عنها، لأننا كما سنرى، أن الإختلاف مع ما ورد في هذه التي أعتبرها هؤلاء المفترون المصادر من كتب اليهود والنصارى، والتي هي في أغلبها تسقط أمام العقل السليم وأمام العلوم الحديثة نتيجة أخطاءها الفادحة، بينما نجد ما ورد في القرآن الكريم والذي اختلف فيه عن المصادر التي اتهم انه نقل عنها – ولماذا الإختلاف لو صح النقل- نقول أن ما اختلف فيه، كان في الحقيقة تصحيحا للأخطاء العلمية خاصة والتي اشتملت عليها هذه الكتب، التي تدخل البشر فيها بل وأضاعوا أصولها التي نزلت من عند الله تعالى، وما تبقى لديهم منها إلا كلام البشر نقلا عن أنبياء الله، بما اشتمل عليه من إضافات بشرية وحذف.

ذكرنا من قبل التحدى أن يأتِ أحد بسورة من مثل القرآن، ونذكر هنا دليل آخر على أن القرآن حق ولا يمكن لبشر أن يكون ألفه أو إفتراه، في قوله سبحانه وتعالى : {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} سورة فصّلت. حيث أن الهاء في أنه الحق تعود على القرآن الكريم. أي أن الناس سيرون في المستقبل آيات الله في الكون وفي أنفسهم فيجدون الإشارة إليها في آيات القرآن فيعرفوا أنه أي القرآن حق منزل من عند الله تعالى وليس كلام البشر.

وهذا يأخذنا الى موضوع الأعجاز العلمي للقرآن الكريم، كثر من يخرج علينا هذه الأيام بعناوين مثل وهم الإعجاز العلمي، خرافة الإعجاز العلمي، ونهاية ألإعجاز العلمي وهكذا. وأقول لكم أن هؤلاء جميعًا جهلة لا يفقهون حديثا، والأدلة موجودة حاضرة.

 نعود لموضوع شبهة النقل، لو أخذنا موضوع خلق الحياة والكون، نجده في القرآن مختلفا عن الذي ورد في الأديان السابقة، وهذا الإختلاف بل هذا التصحيح، هو ما جعل الدلالات المباشرة لهذه الآيات القرآنية تؤدي إلى معنى الخلق التطوري للكون والحياة، بما يوافق ما وصلت إليه العلوم الحديثة. هذه حقيقة لا يستطيع أي كتاب مقدس آخر أن يدّعيها. فكيف إستطاع الرسول أو من يُملون على الرسول، نقول كيف استطاعوا أن يصححوا ويتجنبوا الأخطاء الجسيمة التي نجدها في قصص الخلق التي وردت في سفر التكوين وفي كتب المجوس وفي علوم اليونان وغيرهم، حتى يخرج هذا القرآن بما لا تتعارض أي من دلالاته المباشرة مع أي من علومنا الحديثة.

وحيث أننا سنورد بعض الإختلاف بين القرآن والكتب السماوية وعلوم البشر التي سبقته، يجب أن أذكر هنا أن لي بحثا مستفيضا أستغرق عشرات السنين، مفصل الى درجة قد يمل منها البعض، بيّن بوضوح وبالدلائل اللغوية العلمية، توافق الآيات الكونية القرآنية التي تناولت خلق الحياة والإنسان مع ما توصلت اليه علومنا الحديثة. وهو منشور في موقع المضاربة هذا، وللتسهيل وضعته في حلقات على اليوتيوب بلغت 18 حلقة منشورة على هذه قناة المضاربة، ويستطيع أي إنسان التأكد من دقة وصحة ما أقوله هنا. فقط أردت التنويه لأن هذا البحث الذي نحن بصدده لا يتسع لبيان كل هذه الأدلة والبراهين، والتي كما ذكرت موجودة ومفصلة في الحلقات المذكورة. عند زيارتك قناة المضاربة أضغط على شعار هذه القناة وستأخذك الى قائمة “القرآن والعلم المعاصر Quran, Creation & Science     

دعونا ننظر الى أمثلة قليلة عن بعض المعلومات الأساسية التي اختلف فيها القرآن عن الكتب السماوية التي سبقته:

ورد في سفر التكوين -وهو أول كتب العهد القديم لليهود وللنصارى- أن الله تعالى خلق كل أنواع الحياة في الأيام الستة الأولى وكان خلق كل نوع دفعة واحدة: النباتات والأشجار خلقت في اليوم الثالث، المخلوقات البحرية والطيور في اليوم الخامس، البهائم والوحوش والمخلوقات البرية ثم الأنسان في اليوم السادس.

بينما القرآن نفى خلق أي من أنواع الحياة في أيام الخلق الستة، وبين أن خلق السماوات والأرض فقط كانا في هذه الأيام الستة. وفصّل خلق السماوات والأرض في هذه الأيام في الآيات من 9 الى 12 من سورة فصّلت.

أي أن القرآن لم يذكر خلق أي حياة في الأيام الستة. وذكر أن الأرض التي خُلقت في الأيام الستة غير الأرض، وأن اليوم كان خمسين ألف سنة مما تعدون، أي أن الستة أيام كانت ثلاثمائة ألف سنة من السنين التي نعرفها اليوم.

والعلم يقول لنا أن الكون بعد مرور ثلاثمائة ألف سنة بعد نقطة البدأ، ما يطلق عليها الإنفجار الكبير. وهي في الدين، بعد مرور ستة أيام طول اليوم الواحد خمسين الف سنة، لقوله تعالى {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} المعراج، عن أيام يوم القيامة ومثلهم أيام بدء الخلق لقوله تعالى {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ} سورة الإنبياء، فبعد مرور استة أيام، أي 300,000 سنة، أصبح الكون مرئيا لأول مرة في عمره، لأنه في ذلك الوقت، أنفصل الإشعاع عن المادة فتكونت وثبتت نوى ذرة الهيدروجين. وأنتهت بذلك مرحلة الخلق أو التخليق الكوني. ولم يكن هناك حياة أو أثر لشيء حي في هذه الآيام الكونية الستة.

السؤال هنا لماذا الذي نقل قصة الخلق في الأيام الستة عن العهد القديم، لم ينقل خلق النباتات والأشجار والأسماك والطيور والحيوانات والإنسان في هذه الأيام الستة، هؤلاء من الوضوح بحيث لا يستطيع من ينقل ألا يراهم! تُرى لماذا أسقطهم عند النقل! أم هل عرف أنهم خطأ علميا جسيمًا فصححه! في الحالتين ليس هذا ضمن قدرات البشر في القرن السابع.

وورد في العهد القديم سفر التكوين عن خلق آدم (وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً.)

الذي ينقل سوف يقول مثل هذا، لماذا قد يخالج فكر أي بشر في القرن السابع أن هذه المعلومة ليست صحيحة، وهي في كتاب مقدس، يؤمن به اليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب، ويؤمن به الرسول، بل والهدف دين جديد وكتاب أعلن عن نفسه أنه تكملة للتوراة والأنجيل، ومصدقا لهذه الكتب، ويعلم الرسول أن اليهود يراقبونه ويمحصون كل كلمة ترد فيه ويقارنون مدى توافقها مع كتبهم، ويحكمون على دعوته بموجب هذا القياس، والمشركون سماعون لهم، فلماذا يخالفهم؟ من الطبيعي أن لا يخالف ما ينقل عنه. ولكنه خالفه، إذ ليس في القرآن كله ما يؤدي الى هذا المعنى، أو إلى أي خلق فوري من التراب. القرآن ذكر بدء خلق الإنسان من طين، وذكر مرحلية الخلق، ولو درست الآيات التي تناولت خلق آدم أو الإنسان أو البشر لن تجد جملة صريحة مثل التي وردت في سفر التكوين. قد تجدها في التفاسير والمرويات لأن هذا مدى علمهم آنذاك، ولأنهم كانوا يلجأون للإسرائيليات لفهم ما قد يعصى عليهم، ولكنك لن تجده في القرآن الكريم، مهما بحثت، فالقرآن لا يدخله الباطل أبدًا.

التعبير القرآني الخلق من الطين أو التراب، واضح أنه يدل على أن بدء الخلق كان من الطين، ويُطلق على كل الناس، ليس فقط آدم، بل على كل الناس الذين بدء خلق نوعهم من الطين، أنظر قوله تعالى في الآية 37 من سورة الكهف { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) } المخاطب ليس آدم، وليس عيسى، بل هو إنسان عادى مثلي ومثلك، ولهذا فليس المقصود هنا أن الله تعالى قد خلق هذا الشخص المخاطب من التراب ثم نطفة ثم رجلا مباشرة، وإنما هي طريقة للتعبير بتبعية هذا الرجل للجنس الإنساني الذي كان أول خلقه من تراب. وأنظر أيضًا قوله تعالى{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (2) } الأنعام 2 والكلام هنا موجه الينا كلنا كنوع إنساني، ونحن لم نخلق من الطين مباشرة، وإنما أول خلق نوعنا كان من الطين. وفي قوله {وَٱللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍۢ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍۢ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَٰجًا ۚ} والكلام موجه الى كل الناس أنهم خلقوا من التراب، ولاحظ أن النطفة سبقت جعل الناس أزواجا ذكرا وأنثي، ولهذا فالنطفة ليست ما يتأتي من الذكر والأنثى، وأنما هي مرحلة من مراحل الخلق.

ولفظ خلق في اللغة العربية يدل على تقدير ما منه وجود الشيء (قدر : تدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته)، فقوله تعالى {إني خالق بشرا من طين} قد تعني الإيجاد من الطين مباشرة، وتعني أيضًا تقدير الطين المخلوق ليبلغ في منتهاه بشرا .  أما ما جاء في المرويات والتفاسير الإسلامية عن خلق آدم مباشرة من الطين، فهؤلاء أتبعوا علوم زمانهم وغلب عليهم النقل من الإسرائيليات. وهذا ما قد كنا لنتوقعه أيضًا في القرآن لو كان القرآن بشري المصدر، إلا أننا لا نجد فيه مع تكرار آيات الخلق وتنوعها، أيٌ من هذه المعارف والمعاني-الغير صحيحة علميًا- التي كانت منتشرة في ذلك الزمان.

والآن نعيد النظر في الآيات إذ قد نجد  فيها المعنى المرحلي الذي يصف خطوات تطور خلق الإنسان بدءًا من الطين.

في خلق الإنسان، يقول الله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12)} المؤمنون . أي أنه ينحدر من سلالة أو سلسلة أولها من الطين المتغير، بل ولو أكملنا هذه الآيات هنا سنجد حلقات سلسلة التطور حتى الإنسان الأول، وبعد الإنسان الأول { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ} أي ثم أنُشأ الأنسان خلقًا آخر هو البشر.

وأنظر قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} 20 سورة العنكبوت، هنا يأمرنا الله تعالى أن نسير في الأرض – كما فعل تشارلز داروين – لنعرف كيف بدأ الخلق، أي أن بدء الخلق معقولاً بمعنى يمكن معرفته بالعقل، تُرى لو كان الخلق حدث كما جاء في سفر التكوين  (وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً.)، وهذا خلقا إعجازيًا لحظيًا فوريًا لا يتكرر، لو كان هذا ما حدث، فهل كان الله تعالى ليأمرنا بالسير في الأرض لنرى كيف بدأ الخلق، بالطبع لا، القرآن لم يختلف مع العهد القديم فقط، وأنما ذكر العلم الصحيح في خلق الحياة والإنسان. فكيف؟

وقوله سبحانه وتعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (9) }7-8-9 السجدة

أنظر لفظ بدأ وهو ما يدل أنه لم يكن خلقًا لحظيًا آنيا فوريًا وأنما هو خلقا مرحليا أستمر زمنا قد يكون قصيرا وقد يكون أمدًا طويلا، وأنه جعل المخلوق يتناسل عبر سلسلة طويلة، حتى استوى أي اكتمل فلما أكتمل وبلغ مبلغه نفخ الله فيه من روحه -وهذا آدم أول البشر- وجعل لنا –والمخاطب هنا أصبح نوعنا- السمع والأبصار والأفئدة. أنظر التشابه مع آية سفر التكوين – والذي كان لازمًا لأن العرب كانوا يرجعون لليهود والنصارى للحكم على صدق الرسالة الجديدة – والإختلاف الذي أضاف البدء والمرحلية وسلسلة التناسل حتى استوى واكتمل المخلوق فاصبح له بصرا وسمعا ووعيا، والإختلاف هو ما جعل الآية متوافقة مع علومنا الحديثة.

وأنظر قوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} آية  11 الأعراف

المخاطب هنا النوع الإنساني  : خلقناكم حتى تطورتم ووصلتم الى الصورة التي أنتم عليها ثم بعد ذلك جاء ذكر آدم، أي أن النوع الإنساني كان سابقًا لآدم. ويجب التنويه هنا الى أهمية دلالات لفظ ثم. ثم في كلام العرب تدل قطعًا على إنتهاء الحدث الذي قبلها قبل إبتداء الحدث الذي بعدها. أي أن النوع الإنساني كان مخلوقا على صورته قبل السجود لآدم، والسجود لآدم كان قبل ذريته، ولهذا فالنوع الإنساني سابق لآدم ولذرية آدم، الذين نحن منهم. 

وهناك الكثير الكثير من آيات خلق الحياة والخلق الكوني، لم تختلف فقط مع المصادر التي يدعى البعض أن القرآن نقل عنها، بل أنها اختلفت مع كل المعارف والعلوم البشرية التي كانت في أي من الحضارات الإنسانية في ذلك الزمان، أي إختلفت عن علوم ومعارف البشر في القرن السابع ميلادى والأول هجري، بل وعن علوم البشر حتى قبل قرنين من اليوم. وقد بينت دلالات كل هذه الآيات الكريمة في موضوعي خلق الكون وخلق الحياة في البحث الذي يمكنكم الإطلاع عليه في قناة المضاربة.

نعود الى العهد القديم سفر التكوين الذي جاء فيه أن الله تعالى خلق الإنسان على صورة الله. إذ جاء فيه: وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا)

أختلف القرآن كلية هنا إذ يقول سبحانه وتعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 11 الشورى

الله تعالى خالق هذا الكون وليس منه أو فيه، وكل الصفات التي تعود الى شكل وشبه الإنسان هي تراكيب لتتوائم مع الظروف التي حوله ولتلائم طبيعة حياته واحتياجاته ومعاشه على كوكب الأرض، أما الله تعالى فليس مثله شيء في هذا الكون لأنه خارج الكون والمكان والزمان، ولا علم لنا بما هو خارج الكون وهذا ما يقوله لنا العلم الحديث ويخرج عن مجاله.

ورد في العهد القديم أن الله تعالى خلق زوجة آدم من ضلع آدم أثناء نومه وسماها حواء. إذ جاء في سفرالتكوين 21: (فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. 22وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. 23فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ».   ويقول: وَدَعَا آدَمُ اسْمَ امْرَأَتِهِ «حَوَّاءَ» لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ.)

أما القرآن الكريم فلم يسمي زوجة آدم حواء، ولم يذكر لنا كيف خلقت، لأنها واحدة من أفراد الجنس الإنساني – وأول ذكر لها ورد في قوله تعالى: {وَيَا ءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(19)} سورة الأعراف، ومثله في سورة البقرة، وهنا نجد ظهور زوجة آدم كان دون مقدمات، وهذا ما نتوقعه لو كانت زوجة آدم موجودة ولم تخلق آنذاك من ضلعه أو من الطين. ولو كانت خلقت من ضلع آدم أو خلقت خلقًا إعجازيا آخر لأشار النص الى هذا الخلق، وحيث أن النص لم يشر الى خلق زوجة آدم، لا بد أن زوجة آدم كان خلقها مثل خلق بقية الناس.

أما الآية { {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ….(6)} الزمر ، فالنفس هنا تعود الى خلق أول خلية حية والتي ظلت تتوالد بالإنقسام طيلة بليوني سنة كما يقول لنا العلم الحديث، وكما قالت لنا الآية الكريمة من قبل. ونلاحظ في كل الآيات التي ورد فيها خلق النفس لم يذكر في أي منها أن النفس هي آدم، وإنما صيغت بحيث تسمح للناس أن يفهموها هكذا، في الأزمان التي كانوا يعتقدون فيها أن زوجة آدم خلقت منه، وهذا من إعجاز الصيغة القرآنية، ومتى تطورت معارف الناس وبلغت الى الحقائق المثبتة، إستطاع الناس أن يجدوا في الآية ما يتوافق مع علومهم الحديثة. وهذا يدخلنا في موضوع كثر الكلام فيه، وهو إذا كنا نقول بالإعجاز العلمي للقرآن، فلماذا لا نستخرج منه إكتشافات ونظريات علمية؟ الإعجاز العلمي ليس في استخراج نظريات علمية من القرآن، لأنه لو أحتوى نظريات علمية متقدمة عن الفكر البشري في أي عصر، فإن هذا سيحدث بلبلة في فكر من ليسوا مؤهلين لتلقيه وفهمه، ويضر بالتطور المعرفي الطبيعي البشري، وتعليم الناس علوما نظرية وتطبيقية، ليس من أهداف الدعوة وليس المطلوب منها إحداث طفرة علمية. وإنما الإعجاز العلمي هو في عدم تعارض المذكور في القرآن مع ما نكتشفه من صحيح العلوم، وهذا ما نجده في القرآن ولا نجده في أي من الكتب المقدسة الأخرى. ولأن ما كتب منذ الف وأربعمائة سنة لا يتعارض مع علومنا الحديثة، فهذا هو الإعجاز. وستجدون التفصيل لكل آية في بيان دلالات هذه الآيات في موقع وقناة المضاربة.

وأعود الى قصة زوجة آدم، وإضيف أن النص القرآني –خلافا للقصص الشائعة- لم يُحمّل زوجة آدم مسؤولية العصيان والخطيئة الأولى كما ورد في الروايات عند اليهود والنصاري، وأنما أشار إلى أنهما أكلا من الشجرة معاً، بل وفي الآيات من سورة طه، هناك بيان واضح أن آدم هو الذي حُذر من الشيطان وهو من وسوس إليه الشيطان. ولا وجود في القرآن لحية وحواء تأكل من التفاحة المحرمة ثم تطعم آدم، فيقع في الخطيئة الأولى بسبب المرأة زوجته.

وهناك التفريق بين نوع/جنس الإنسان والبشر، لم تفرق كتب اليهود والنصارى بين نوع الإنسان ونوع البشر، بينما بين القرآن أن نوع البشر هو نوعا متطورًا عن نوع الإنسان وأول البشر هو آدم الذي تعلم الأسماء والبيان وتولى هو ونسله من بعده مسؤولية الخلافة في الأرض، أي الحفاظ عليها وإعمارها. أنظر قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} المؤمنون والخلق الآخر الذي إنشأ في نهاية سلسلة خلق الإنسان هو آدم أول البشر.

مما سبق نجد أن القرآن الكريم يدل على الخلق التطوري الذي شمل كل أنواع الحياة والنباتات حتى بلغ الإنسان ثم البشر، وأن هذا الخلق التطوري الذي استغرق زمنا ودهورا طويلة لم يحدث ولم يبدأ في الآيام الستة، وفي هذا يختلف كلية عن كتب اليهود والنصارى التي تتعارض مع العلوم الحديثة وما زال بعض أتباع هذه الأديان من اليهود والنصارى ينكرون ويحاربون علماء التطور ويمنعون تدريس هذه الفرضية في المحافل العلمية.

نكتفى بهذا القدر اليسير من الآيات العلمية الكونية. وقبل أن نختم نود التعليق على شُبهة الشبه الظاهري بين قول السيد المسيح الذي جاء في أنجيل مرقص 10: 25 : (مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ) وتكرر نفس القول في أنجيل متَّى وإنجيل لوقا. وبين وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ40} سورة الأعراف.

تدل الآية في الأنجيل إلى إستحالة دخول الغني الى ملكوت الله، بينما قد يكون هذا الغني خيّرًا مؤمنًا متصدقًا مزكيًا مصلياً متقيًا ورعًا، وهذا وفق القرآن ثوابه وأجره عند الله جنات عرضها السماوات والأرض، أما الذي يستحيل دخوله الجنة، فهو المتكبر الكافر بما أنزل الله تعالى، وهذا المعنى الذي ورد في الآية القرآنية يبين عدل الله تعالى، أما المعنى الوارد في الأنجيل، فقد شمل الغني التقي مع الغني الفاجر في إستحالة دخولهما ملكوت الله. ولهذا فالإدعاء أن القرآن نقل هذه الجملة غير صحيح، الإنجيل يتكلم عن الغني، والقرآن يتكلم عن الكافر المتكبر، وشتان بينهما. بل والرد عليه أن القرآن صوب ما حرفه الناس على لسان سيدنا عيسى، وأعاده الى أصله.

وقبل أن ننهى موضوعنا نشير ألى أمثلة أخرى عن الإختلاف مع قصص العهد القديم، وهي كثيرة إلا أننا لقصر الوقت سنورد أثنين أو ثلاثة فقط. نجد في العهد القديم أن هارون هو الذي صنع العجل الذي عبده اليهود فترة غياب موسى، بينما هارون نبي في الإسلام والذي صنع العجل هو السامري، ونجد في العهد القديم قصص يأمر الرب فيها اليهود بقتل وسبي نساء وأطفال من هم من غير اليهود كالكنعانيين، ونجد مصارعة يعقوب مع الرب والذي سماه الرب بعد المصارعة إسرائيل، ونجد أن الرب يأمر العبرانيات أن يسرقوا أمتعة فضة وذهب من جاراتهن المصريات قبل الخروج من مصر،  ونجد الكثير الكثير الذي لا تقبله الطبيعة الإنسانية، بينما لا نجد مثله في القرآن الكريم. الذي جاء فيه (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)) البقرة ونجد فيه {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ } فلا يحمل أحد خطيئة آخر، وفيه ألا تأخذوا أموال الناس بالباطل في قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} البقرة. ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. أنظر قوله تعالى{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} سورة الحجرات.

وقبل أن ننتهى من شُبهة النقل، هناك أيضاً شبهة -ضعيفة- وهي تتعلق بشبهة النقل من أشعار أمرؤ القيس وحاتم الطائي وغيرهم ممن قيل زورًا أن شعرهم تضمن كلاما يشبه ما نزل في القرآن، وتبين أنه شعر منحول كتب بعد الإسلام ونسب الى من ذكرناهم وغيرهم من شعراء العصر الجاهلي، أي أن الحقيقة أن هذا الشعر ليس لأمرؤ القيس وليس لحاتم الطائي، وأنما كتب في القرون التالية وأن هذا الشعر هو الذي نقل من القرآن الكريم. أما شعر أمية ابن الصلت فهذا قال عنه أهل الأدب والعلم أنه إما منحول ونسب له وأما له وفي هذه الحالة أنه هو من تأثر بالقرآن لأنه كان معاصرًا له ، والقول الأرجح عند معظم العلماء أنه شعر منحول كتب بعد وفاة أمية ابن الصلت بزمن ونسب إليه.

لقد رددنا على أكثر الأفتراءات المتعلقة بشبهة النقل، ولم نزور ونؤلف مثل ما يفعلون، بل توخينا الصدق والأمانة العلمية، ودرسنا وبينا الأدلة والإستنتاجات ملتزمين بأصول الفكر السليم والمنطق الصحيح . وتبين ما أخبرنا به الله تعالى، إنما أنزله الذي يعلم السر وأخفى.  ونعلم أنهم تمتلأ قلوبهم حقدا وحسرة، ولن يتوقفوا وسيعودون بافتراءات جديدة وسيكررون الإفتراءات القديمة، فلا تصدقوهم ولا تستمعوا إليهم، واعلموا وتأكدوا أن هذا القرآن الذي بين أيدينا، والذي حفظه الله لنا، هو المعجزة الحية، التي لا يراها إلا من شاء الله له أن يهتدي، والحمد لله الذي هدانا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عناوين الفيديوهات للحلقات الخمس على قناة المضاربة:

 1)             https://www.youtube.com/watch?v=fbvJp8OaDaw

2)            https://www.youtube.com/watch?v=M9iMHloGTrI

3)            https://www.youtube.com/watch?v=VygdZRMBYcE

4)          https://www.youtube.com/watch?v=W09nRLrHTFw

5)        https://www.youtube.com/watch?v=2W_vVokgPM8

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*