بسم الله الرحمن الرحيم
الفهم المعاصر لدلالات الآيات القرآنية في خلق الأنسان وفي خلق الكون
Contemporary Interpretation of the Quranic Verses related to the Creation of Life & the Universe.
تمهيد
قد يتخلف تفسير النصوص المتعلقة بالموضوعات العلمية في مرحلة ما عن مواكبة تطور المعارف الإنسانية، كما هو حاصل في عصرنا هذا. إذ تعود معظم التفاسير المعتمدة والمجمع عليها، بما فيها تفاسير هذه النصوص العلمية، الى عصور تختلف فيها المعارف الإنسانية عما وصلت إليه في عصرنا هذا، ولا بد أن المفسرين المتقدمين قد تأثروا بتلك المعارف في معرض تفسيرهم هذه الآيات، ومن الطبيعي أن يكونوا قد حمَّلوها بعض المعاني التي تتوافق مع العلوم التي كانت شائعة في زمانهم. وقد نتج عن هذا وجود بعض التعارض بين تفسير السلف الصالح لهذه الآيات وما تدل عليه علومنا الحديثة، بما يتطلب إعادة النظر في معاني هذه النصوص.
الجهد الكبير الذي بذله المخلصون من مفكري هذه الأمة خلال العقود الماضية، قد قطع شوطًا نحو تحقيق هذا الهدف. إلا أن الكثير منهم، ما زال يرفض بعض النظريات العلمية الحديثة، كما هو الحال عند بعض الهيئات المسيحية التي ما زالت ترفض هذه النظريات وتسعى نحو منع تدريسها في بعض المحافل التعليمية الغربية. إلا إن الرسالة التي بين أيدينا تختلف عن الرسالات التي قبلها، حيث أنها جاءت مصححة ومتممة وخاتمة، وتحتوي نصوصها على كثير من المعاني التي عرفها الإنسان المعاصر، عندما أنعكست ألفاظها وتراكيب جملها على مرآة معارفه الحديثة، ومثال ذلك قوله تعالى {والسماء بنيناها بأييدٍ وإنَّا لمُوسعُون}، الجميع فهم منها معنى تمدد الكون واتساعه المستمر، هذا المعنى الذي لم يتوصل العلماء إلى معرفته إلا منذ ثمانية عقود، وهناك مثلها الكثير من الآيات، نذكر منها النصوص التي تصف مراحل تطور الجنين في الرحم.
أديان من سبقنا لم تُفصَّل أو تحتوي نصوصها مثل الكم الكبير الموجود بين أيدينا من الآيات التى أصطلح أن يطلق عليها الآيات العلمية، فلا يصح لنا أن نحذو حذوهم، لهم أن يرفضوا النظريات الحديثة لأنها تتعارض مع نصوصهم التي ربما تدخل البشر فيها بالإضافة أو الحذف، أما نحن فلو أمعنا النظر في النصوص التي حفظها الله لنا، وبذلنا الجهد الذي أمرنا به، والذي يتطلبه البحث الجاد المتعمق في كل لفظ وجملة، فلن نجد إن شاء الله إلا ما وعدنا به سبحانه وتعالى في كتابه الكريم {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
لو أمعنا النظر في تفسيرات السلف الصالح لهذه النصوص العلمية، لوجدنا أنهم قد واجهوا شيئًا من الصعوبة عند تفسير بعض الآيات المتعلقة بخلق الكون والإنسان، والتي يتيسر بيان مرادها وفق علومنا المعاصرة. ولهذا نجد أن علينا مسؤولية كبيرة، وواجب لا يصح أن نمتنع عنه، قانعين بما لدينا من تفاسير مرحلية لهذه الآيات مضى زمانها، راضين بالتفسيرات العصرية المتجزأة، آية من هنا وآية من هناك، التفسير الموضوعي المكتمل يجب أن يشتمل على كل النصوص المتعلقة بالموضوع الجاري بحثه.
إن واجبنا نحو الرسالة القرآنية، هو أن نبذل كل الجهد يحدونا إيماننا أن هذه الرسالة هي القول الحق، المشتمل على كل المعارف التي توصَلنا إليها، والتي قد نتوصل إليها في المستقبل، ويشتمل أيضًا على المعارف التي لن نتوصل إليها في هذه الدنيا. {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
***********
البحث:
يتطلب التفسير أن يكون المفسر ملمًا بعلوم اللغة والقرآن والسنة وأصول الفقه والقياس والمقاصد والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وغيرهم، فإذا تطرق الى موضوعات الكون والطبيعة والحياة، فسيتطلب التفسير الإلمام أيضًا بكافة العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. ولا يستطيع شخص بمفرده أن يلم بكل هذه العلوم. ولهذا قال البعض بتوجب أن يتصدى لهذا العمل السامي هيئة منتقاة من العلماء والفقهاء الراسخين والمتخصصين كلا في مجاله المحدد.
المحاولات الفردية في هذا العصر، هي محاولات يقوم بها أصحابها من الذين لديهم معلومات عامة تغطي معظم أو بعض هذه العلوم، ولكن ينقصهم التخصص والتعمق فيها، ولهذا يجب أن تؤخذ نتائجهم على أنها إجتهادات إبتدائية، بقصد عرضها للبحث والتدقيق والمراجعة، على أن يقوم بهذه المراجعة أكثر من عالم وفقيه، من الراسخين في علومهم، كلا ينظر في هذه الإجتهادات من زاوية العلم الذي يتخصص فيه، حتى يرتقي هذا العمل درجة بعد درجة، ليصل الى مستوى التفسير المرحلى الذي قد تجتمع عليه الأمة.
هذا البحث هو اجتهاد، يضاف إلى سلسلة طويلة من اجتهادات المخلصين لهذا الدين القيم، هو محاولة لفهم النصوص وفق المعارف الحديثة. كنت قبله كلما قرأت القرآن الكريم، أمر على الآيات المتعلقة بخلق الكون والإنسان، فأستشعر منها معانٍ تدور في نفس الإطار الذي يشير إليه التصور العلمي المعاصر. وهذا ما يتوقعه المؤمن، فالقرآن من عند الله تعالى، والنظريات تُستنبط من الكون الذي أوجده الله سبحانه وتعالي، كلا من عند الله.
إلا أنني وجدت غير تلك المعاني التي وردت في كتب تفاسير السلف الصالح، الذين فسروا هذه الآيات العلمية وفق معارف عصرهم، فأحسنوا جزاهم الله خيرًا في الوصول الى التفسير المرحلي الذي اطمئن الناس اليه إذ وافق علومهم. أما وقد تغيرت المعارف والعلوم، توجب علينا النظر فيها.
فتوكلت على الله وعزمت على أن أخوض في هذا الأمر الجلل، فكان هذا البحث الذي توخيت فيه الخشية والإتقاء والحذر. لقد ترددت كثيرًا قبل عرضه، بين أن أتركه فأكون قد منعت علمًا قد يكون نافعًا، أو أعرضه فأكون قد تجاوزت قدري، وليس لي في الأمر إلا غيرتي على هذا الدين القيم، وأخيرًا توكلت على الله تعالى راجيًا أن يوفقنا ,ان يغفر لي إن جانبني الصواب.
وعليه، فهذا البحث هو اجتهاد، ينحصر في محاولة فهم دلالات النصوص المتعلقة بالموضوعات العلمية في الكون المشاهد، وما وضعه هنا إلا لعرضه على علماء الأمة، وما التوفيق إلا من عند الله سبحانه وتعالى.
وسيم محمد رفيق
1427هـ – 2006م
*********
مقدمة الكتاب
يُفضل أن يُجرى البحث في موضوع ما، بمعزل عن ودون التأثر بالمعاني المسبقة في الذهن، إلا أن هذا قد يستحيل علينا، لأننا نبحث في معاني ألفاظ وتراكيب لغوية، وينبثق معني الكلام من توافق الألفاظ مع الصور الذهنية الموجودة في العقل، والتي تتكون من نتاج المعارف المكتسبة من قبل. ولهذا فلا مفر من البحث في معاني هذه النصوص ولدينا فكرة مسبقة لما يفترض أن تدل عليه a ، وبهذا فنحن معنيين بالمقارنة، وسيقتصر بحثنا على المقارنة وبالتالي بيان مدى وجود أو عدم وجود أي تعارض.
وقد لاحظنا أن النص ذاته لم يتعارض مع المعارف الشائعة في العصور السابقة، والتي اتفق علماء تلك العصور على صحتها آنذاك، حيث أنهم فسروه الى حد ما وفقًا لتلك المعارف واطمئنوا إلي هذه التفسيرات، وما عصى عليهم – مثل أيهما خلق أولاً الأرض أم السماء – أرجعوه الى المتشابهات وقالوا آمنا به كلا من عند ربنا، إلا أن معظمه وافق تصوراتهم في خلق آدم مباشرة من الطين وخلق السماوات والأرض في ستة أيام، وما ساعدهم وطمأنهم أن مثله كان قد ورد في شرع من قبلهم.
إلا أننا في بحثنا هذا، سنفترض أن نفس النص الثابت سوف لن يتعارض مع معارفنا العلمية الحديثة، ولا مع المعارف المستقبلية، أي أننا نفترض أن النص القرآني الثابت قد صيغ ليكون قادرًا على عدم التعارض مع المعارف المرحلية -المتفق عليها بين العلماء- في أي من عصور التطور المعرفي الإنساني. فإن صح هذا الفرض، وتبين عدم التعارض مع معارفنا الحديثة، يكون في هذا النص إعجازًا أكبر من إعجاز النص الذي يستدل منه فقط على الحقيقة العلمية المطلقة، فلا يصلح إلا في عصر اكتشافها، ويسبب بلبلة فكرية في كل العصور التي تسبقه.
ويقوم منهج البحث على الإطلاع –بصورة عامة- على أحدث المعارف الإنسانية والنظريات العلمية المقبولة والمجمع على صحتها من قبل معظم الأوساط العلمية. والإطلاع على المعارف والعلوم التي كانت معروفة زمن التنـزيل. ثم تجميع الآيات القرآنية المتعلقة بموضوعي خلق الحياة وخلق الكون، كلاً على حدة، واعتماد معاني الألفاظ كما وردت في معاجم اللغة المتقدمة، ثم الإطلاع على تفاسير السلف الصالح لهذه الآيات، ثم الإستدلال الى المعنى المباشر الذي يتأتى من معاني الألفاظ وتراكيب الجمل، وبيان مدى توافقه أو تعارضه مع المعارف العلمية الحديثة.
والنتيجة التي يبينها هذا البحث، أن النص الثابت، فيما يتعلق بموضوعي خلق الكون وخلق الحياة، لا يتعارض مع المعارف العلمية الحديثة، وهذا ما يدل عليه البابين الثالث والرابع من هذا الكتاب.
تناول الباب الأول موضوع الرسالة والعلم. وناقش الفصل الأول بعض الأسس المنهجية للفكرين الديني والعلمي ومناطق إتفاقهما حتى ينحصر فيها التحاور بينهما. وتناول الفصل الثاني المعرفة البشرية وقضية الإستدلال بالتصميم، والثالث محددات الخطابين الديني والعلمي ومدى يقينية العلم.
يقدم الباب الثاني موجزًا لما توصل اليه العلم المعاصر من نظريات ثبت صحتها بالتجربة ومن تصورات نظرية وافقت توقعاتها صفات الكون المشاهد. ثم يوجز الباب تاريخ قصة الخلق في مسيرة المعرفة الإنسانية b .
وخصص الباب الثالث لموضوع خلق الحياة والإنسان، والباب الرابع لموضوع خلق الكون وصفاته، ودُرس الموضوعين (في الحدود التي قدرنا الله عليها) كما وردا في الآيات القرآنية الكريمة. مع بيان تفاسير السلف الصالح لهذه النصوص، واعتماد معاني الألفاظ من معاجم اللغة المعتمدة.
وسيم محمد رفيق
تعريفات:
ونشير هنا إلى أنه كلما ورد في هذا الكتاب أي من الألفاظ التالية فأنها يقصد منها المعاني المبينة هنا:
النص؛ النصوص؛ الآيات؛ الآيات العلمية أو الآيات الكونية: القصد منها يكون الآيات القرآنية الكريمة المتعلقة بالكون المشاهد والموضوعات العلمية والطبيعة وخلق الكون والحياة والإنسان. وقد بينا ذلك قدر الإمكان في بعض الكتاب، واكتفينا بلفظ النص أو الآيات الكريمة في البعض الآخر تجنبًا للتكرار وحيث أن السياق يشير إلى التخصيص.
الكون؛ العالم : الكون المشاهد هو عالم المكان والزمان، وهو كل ما ندركه وما يمكن أن ندركه بحواسنا وعلومنا التجريبية، وهو كل ما يخضع للقوانين الكونية والثوابت الطبيعية.
العلم، العلوم، العلمي، العلم الحديث، علوم الطبيعة، الفكر العلمي: هي طريقة التفكير والعلوم التي تقوم على مبدأ السببية وتعتمد التجربة ما أمكن.
<< Index الفهرس | next page >> |