هذا المقال مقتبس من كتاب : الفهم المعاصر لدلالات الآيات القرآنية في خلق الإنسان وفي خلق الكون – الباب الأول – الفصل الأول.
يشترط الدين الإيمان بالغيب، وأركان الايمان هي الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الأخر والبعث بعد الموت وبأن القدر خيره وشره من الله تعالى. والإيمان بالغيبِ، يعني أيضًا الإيمان دون توفر الأدلة والبراهين الحسية، ويرى البعض أن في هذا تغييبا للعقل، وهذا صحيحًا في مجاله فقط، أي فيما يتعلق بالأمور الغيبية، إلا أن بعض الفقهاء، يعممون هذا الشرط فيضعون النقل فوق العقل في كل شيء، ويجعلون وظيفة العقل تنحصر في فهم النص والعمل به c .
قلنا يقوم الإيمان على شرط التصديق الغيبي، والغيبي هنا هو ما غاب عن الحواس. والعقل لا يدرك إلا ما يحسه، وما يقيسه ويستنبطه عما يحسه.
قد نجد أسبابا كثيرة لنبين لأنفسنا لماذا تطلب منا الأديان أن نؤمن بالغيب المطلق، أي نؤمن دون أن نشاهد أو نلمس أو نجد دليلاً بيّنًا قاطعًا، ربما أهمها أن عقولنا لا تستطيع الخوض في أمور لا يمكن الإستدلال عليها أو إستنباطها. ولا شك أننا سوف نصل الى طرق مسدودة كلما توغلنا في هذه العوالم الغيبية، أيا كان الإتجاه الذي نتوجه فيه، وقد يدلنا هذا الى أن العقل الذي نشأ ونما في كون مشاهد رباعي الأبعاد d ومغلق، يعجز عن تصور أي نظام أو تكوين يختلف عما نشأ فيه، سواء كان هذا النظام داخل أو خارج كوننا. فبفرض أن كوننا متعدد الأبعاد لأكثر مما نعرف، فلن يستطيع عقلنا تخيل كون ذو خمسة أو عشرة أبعاد، وهذا بالرغم أن بعض العلماء يعتقدون أننا نحيا فعلا في كون ذي عشرة أبعاد، أما ما هو خارج هذا الكون فيستحيل علينا محاولة التفكير العلمي في ماهيته لو كان مختلفًا عن كوننا e ، وأي تخيل له سيكون مضيعة للوقت وعبثًا ولغوا لا خير فيه، ولهذا كان التحذير بل الأمر أن نؤمن بالغيب رحمة بنا. والعجز العقلي لم يكن يومًا دليلاً على عدم وجود الشيء، ولهذا فالطرق المسدودة التي نصل اليها كلما حاولنا التوغل في هذه الغيبيات، لا يعني بالضرورة أنه لا شيء هناك، وانما يدلنا ببساطة أن قدراتنا العقلية تعجز عند هذه الحدود، والموضوع ليس فقط حدود قدرات، وأنما قد يتعداه الى أن البديهيات والمسلمات التي نبني عليها كل أحكامنا وتصوراتنا؛ قد تكون محلية وتصلح فقط في هذا الكون وربما في الجزء المشاهد منه فقط، وقد يكون لعوالم الغيب بديهيات ومسلمات تختلف عما نعرفه.
وهذا بالضبط ما سيتوقعه الفكر العلمي الحديث، فالعقل الذي هو –وفق الفكر العلمي الحديث- نتاج عملية تطورية حدثت على كوكب منعزل، أي أنه من نتاج هذا الكوكب وهذا الكون، وظيفته أن يمنح هذا المخلوق قدرات محددة تساعده على بقاء واستمرار النوع، أما الفرد الذي يهتم بما سيؤول اليه بعد موته، فيسأل الأسئلة الكثيرة التي نسألها، فيبدو أنه لم يكن ضمن الخطة التطورية لو صح التعبير، بالطبع سيقول علماء التطور أنه لم يكن هناك خطة تطورية كما ذكرنا تجاوزًا، وأنما تطورت الحياة عن طريق موائمتها للظروف المحيطة بها ونتيجة عوامل أخرى مما شرحته بإسهاب نظريات التطور المختلفة. وعلى أي حال، فالعقل الذي نشأ ولم تتعدى قدرته قدر حاجته للتعايش مع ما يحيط به وما يدركه من خلال الحواس التي تنقل اليه المعلومات عن العالم المدرك الذي يحيا فيه، يكون عاجزًا عند محاولة الأبحار الفكري خارج حدود الكون المشاهد أو خارج الأبعاد الكونية الأربعة التي نشأ فيها.
ومتى سلمنا بعجز العقل الإنساني، نجد أن شرط الإيمان بالغيب يصبح ضرورة، وليس تغييبًا للعقل، بل تنويهًا الى قصوره وعجزه، والملحد وان يرفض الإيمان بالغيب، يقبل أن احتمال وجود عوالم خارج كوننا وخارج حدود إدراكنا ممكن، ويتفق أيضًا ان عقلنا البشري عاجز وقاصر عن الإبحار العلمي في هذه المجالات.
وعليه، نجد أن عقلنا البشري تنحصر قدراته في فهم العالم المشاهد المدرك بالحواس، وما يستنبط منه ويقاس عليه، يقابله عالم الغيب وهو الغير مدرك بالحواس ولا يقاس عليها أو يستنبط بها، وهناك الغيب الممكن استنباطه ومعرفته بالقياس، وهو بعض الغيب الزمني، الذي يمكن ادراكه وعقله سواء كان ماض أو مستقبلي طالما هو متعلق بهذا الكون المعقول، مثل أنباء الغيب وقصص الأنبياء، أما اذا كان الغيب مكاني أو زماني متعلق بشيء خارج هذا الكون، وربما داخله ولكنه خارج حدود الإدراك، فهذا يستحيل عقله. أي أن عالم الغيب هو ما لا ندركه بحواسنا ولا يماثل ما ندركه بحواسنا.
وأي دراسة علمية، يجب أن تنحصر ضمن موضوعات الكون المدرك بالحواس أي الممكن عقله، أما الموضوعات المتعلقة بعالم الغيب الغير مدرك، فهذه تخرج عن نطاق هذه الدراسة، وهذه ما أشار اليها الكتاب في قوله تعالى ” الذين يؤمنون بالغيب”، والأمور الغيبية في القرآن، هي جزء منه وليس كله، إذ أن الباقي معقول، أي يمكن عقله وفهمه ومقارنته بالواقع، ومتى صح وصلح المعقول المدرك مما ورد في الكتب السماوية، فللإنسان أن يصدق بالغيبيات الواردة أخبارها في هذه الكتب، مع أخذنا في الاعتبار أن لغتنا وألفاظنا لا تعبر عن هذه المعاني بدقة، وأنما تقدم أقرب تشبيه في عالمنا للأشياء الغيبية التي ليس لها مثل عندنا.