هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 1 من 8
هل كان الخلق آنيا إعجازيا أم تطوريا؟
يقول الخلقيون من أهل الكتاب creationists أن الله خلق الأنواع خلقًا إعجازيا آنيا كل نوع على حدة ، ويقول التطوريون evolutionism أن الكون وجد من نشأة مفردة توسعت حتى ظهرت المجرات والنجوم والكواكب وأن الحياة بدأت من خلية واحدة ظهرت وتطورت وتفرعت خلال أزمنة ودهورا طويلة حتى ظهرت الأنواع المختلفة بعد زهاء أربعة بلايين سنة.
قد يبدو الإختلاف كبير بين الدين والتطور، ولكن الواقع غير ذلك، فنحن في الإسلام، حبانا الله تعالى بكتاب حفظه لنا، يدلنا الى الصواب، أذ نجد أن آيات الخلق فيه وإن تشابهت بصورة عامة مع ما ذكر في كتب من قبلنا من أهل الكتاب، إلا أنها إختلفت في التفاصيل بما يشير الى الخلق التطوري وليس الإعجازي المباشر، وسنعرض في هذه الدراسة بيان الأدلة على قولنا هذا.
القاعدة الأساسية المتفق عليها بين جميع الأوساط العلمية والدينية هي أن هذا الكون قد بدء ووجد على صورة فائقة الدقة والإتزان والضبط الى درجة تسمح لإمكانية وجود حياة ذكية فيه.
والإختلاف يأتي في كيفية الخلق، هل هو آني لحظي أو تطوري، وإن كان تطوري هل كان هذا التطور موجها أو مسيرًا وفق خطة وهدف وتصميم، أم كان عشوائيا لا تحكمه سوى القوى الطبيعية العمياء، أي بدون وجود هدف محدد.
الفرق الأساسي بين التصميم والعشوائي في خلق الكون، يكمن في نقطة البدء، وهو لماذا وكيف وجدت القوى والثوابت الطبيعية وغيرهم على المقادير التي هي عليها، والتي لولا الدقة والإتزان في إختيار هذه المقادير لما نجح هذا الكون. أنظر قوله تعالى {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} سورة القمر، وقوله تعالى {………… وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} سورة الفرقان، وقوله تعالى {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)} سورة الرحمن
الخلق الموجه هو الذي يتم فيه بعث الكون من نقطة البدء مودعا فيه كل ما منه تكونه وتطوره وفق التصميم والهدف المحدد، فيستمر نشوء الكون وفق الخطة حتى تظهر فيه النجوم والكواكب ثم الحياة كما نجد حولنا. والمسير هو ما يتم فيه بعث الكون من نقطة البدء مثل الموجه إلا أنه في مراحل معينة يتدخل الخالق، وربما مثال على ذلك تطوير النوع الإنساني ليصبح قادرا على التفكير والوعي والنطق.
لو نظرنا الى خلق الحياة، نجد أن الخلق الآني المباشر هو خلق إعجازي، لا يقبله العلم استنادًا الى الأدلة العلمية التي تشير الى التطور في خلق الكون وفي خلق الحياة. وأجد أن القرآن الكريم جعل الخلق معقولا، أي يمكن معرفة الكيفية التي بدء واكتمل بها، لقوله تعالى { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ …… (20)} سورة العنكبوت، وهذا ينفي الخلق الآني الإعجازي الذي لا يخضع للأسباب من قوى وقوانين الطبيعة، ويجعلنا في هذه الدراسة ننظر في فرضية الخلق التطوري الذي يمكن للبشر أن يفهموا آلياته، وان كان موجها أو مسيرا أو عشوائيا.
نعلم من نظرية الإنفجار العظيم أن الكون له بدء ونشأة، وأنه تمدد وتتطور بعد البدء لمدة 13,7 مليار سنة، حتى وصل الى ما هو عليه الآن. ونعلم أن هذا الكون وجد وتطور وفق ضبط وإتزان دقيق للغاية، فقد وجد العلماء إتزانا فائق الدقة في القوى التي تحكمه والقوانين التي تُسيّره، وفي مقادير الثوابت الطبيعية، وفي التوزيع الأولي للمادة والطاقة، وفي سرعة الضوء، ونسبة كتل البروتونات والإلكترونات، مما يجعل إمكانية حدوث كوننا وتطوره حتى وصل الى ما نحن فيه، هو إحتمال 1 على عشرة يتبعها 123 صفر، أي أن إحتمال وجود هذا الكون بطريق الصدفة هو إحتمال متناهي في الصغر يصعب حتى تخيله، ولهذا فوجود الخطة والتصميم حتمي، وتدل الخطة إلى المصمم وبالتالي يدل هذا على وجود الأله الخالق. وليتحاشى العلماء القول بوجود الهدف والخطة والتصميم، لجئوا إلى فرضية الأكوان المتعددة، والتي تقول أنه لوكان هناك عددا لا نهائي من الأكوان التى نشأت بقوانين وثوابت وصفات مختلفة، وهم يقصدون فعلاً عدد قريب من اللا نهائي ، بمعنى عدد هائل كبير يصل الى 1 أمامه 123 صفر، إذا كان عدد الأكوان المختلفة التي نشأت بهذا العدد، فلا بد أن يكون هناك كون واحد على الأقل، له القوانين والثوابت مثل التي في كوننا والتي تؤدي الى نجاحه، بينما فشلت كل الأكوان الأخرى، ولأننا نحيا في كون ناجح، ندرك أن هذا قد حصل فعلاً، وندرك كم نحن محظوظين. بالرغم أن فرضية الأكوان المتعددة لا يمكن إثباتها أو نفيها علميًأ. أي أنها ليست علمًا، إلا أن كثيرا من العلماء يلجئون إليها لحل معضلة الإتزان والضبط الدقيق. السؤال هنا هل لو تقدم العلم قد يجد تفسيرًا أفضل من تفسير الأكوان المتعددة، نحن لا نستطيع الجزم بلا، ولكن الأغلب لا، لأن هذه المعضلة ليست ناتجة عن نقص العلم، ليتحجج العلماء بحجة إله ملأ الفجوات، وإنما نتجت هذه المعضلة عن إكتمال العلم، إذ بإكتماله عرفوا مدى الأتزان والضبط والدقة المتناهية التي يتوقف عليها نجاح حدوث هذا الكون.
هذا عن الكون، أما الحياة فقد وجدت وتطورت الى درجة من التنوع والتعقيد لدرجة أن يكون إحتمال أن تصل الى ما وصلت إليه وفق آليات التطور العشوائية في الزمن الذي توفر شبه مستحيل. وكلما تقدمت العلوم البيولوجية، وجد العلماء صعوبة جمة، في توفيق نظرية التطور بكل آلياتها في تفسير وصول الحياة الى ما هي عليه من تنوع المخلوقات ودقة صنعها، إذ يوجد لديهم مشاكل عديدة، مثل مشكلة التعقيد الغير قابل للإختزال، أو الآلات الجزيئية. والتي تحتاج أن تتطور أجزاء مختلفة كلا على حدة تقوم بعمل ما والتي في مجموعها ستكون وحدة أو آلة تقوم بعمل محدد وتخدم وظيفة واحدة. وهناك معضلة المعلومات، والإستحالة الزمنية، وهي عدم كفاية الزمن الذي توفر للتطور للوصول الى هذه الخلايا والأعضاء البالغة في التعقيد، ومعضلة الخلية الأولى، ومعضلات الحفريات والإنفجار الكمبري، أضف الى توفر الإتزان الدقيق في الأرض وفي البيئة التي توفر العناصر الملائمة لهذه الحياة. حتى قال بعض العلماء بمثل ما قيل عن حدوث الكون، من أن إحتمال أن توجد الصدفة حياة ومعلومات بالتعقيد الذي نراه هو شبه مستحيل وقال آخرون الإحتمال صفر أي معدوم. حتى أن البروفيسور فريد هويل قال أن الحياة أصلها جاء من عند كائنات فضائية ذات حضارة متقدمة زرعت بذرتها في كوكب الأرض في زمن سحيق سابق. كل هذا ليتحاشى العلماء القول بوجود الهدف والخطة والتصميم، تمامًا مثل ما واجهوه في خلق الكون. لم تسعفهم هنا فرضية الأكوان المتعددة اللانهائية، بالرغم أننا نعلم أن في هذا الكون عددا يقدر بآلاف البلايين من النجوم التي لها كواكب، إلا أن المشكلة هنا ليست في العدد فقط، وإنما في ضيق الزمن المتوفر والذي لا يكفي لتتطور الحياة الى ما وصلت إليه حتى ولو اعتبرنا عمر الكون كله وليس عمر الأرض فقط. وفي استحالة إمكانية تطور وحدوث الآلات الجزيئية وفق آليات تطورية عمياء، ومع هذا يصرون أن التطور العشوائي الأعمى، والصدف السعيدة هم ما أوجدوا هذه الحياة بتنوعها وتعقيداتها.
مع هذه الصعوبات التي يواجهها العلم الحديث، نحن نُبقي كل التفسيرات حية وممكنة، فنحن لا نعرف ماذا قد تكتشفه العلوم المستقبلية، وهل لميكانيكا الكم والكوانتم بيولوجي أي دور في توجيه النشأة والتطور، أو أي عوامل أو علوم أخرى لا ندري عنها اليوم، ما يهمنا في هذه الدراسة هو اليوم، ما نعلمه اليوم، وهو ما ذكرناه من شبه الإستحالة، أما ما قد يحدث في المستقبل، فهذا له دراسة أخرى في المستقبل.
مما سبق، نرد على الملحدين الذين يظنون واهمين أن العلم يجيب على كل الأسئلة ويفسر لنا الكون والحياة دون الحاجة الى الله تعالى، هذا كلام اللذين لا يعلمون، أما العلماء الذين تبحروا في العلم، فهؤلاء يعرفون أنهم كلما أكتشفوا جديدا، ظهرت لهم معضلات ومشكلات لا يستطيع العلم أن يفسرها، ولم تعد حجة إله الفجوات تسعفهم، فمشكلاتهم ليست نابعة من الفجوات أو نقص العلم، وأنما من تقدمه وكثرته وانتفاء الفجوات فيه.
وقد أسأل نفسي، طالما أجد في النظريات العلمية كل هذه المشاكل والمعضلات، لماذا أقبل نظرية التطور حتى الموجه أو المسير منها؟ بينما يرفضها الكثير من الباحثين المسلمين المعاصرين، إن لم يكن معظمهم. السبب أن ما أجده في القرآن الكريم يشير الى الخلق المعقول، أي الذي يمكن للإنسان فهمه، وهذا غير الخلق المباشر الإعجازي.
يتبع في الحلقة القادمة
يمكن مشاهدة فيديو هذه الحلقة على الرابط :
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 2 من 8
هل كان الخلق آنيا إعجازيا أم تطوريا؟
قبل النظر في آيات الخلق، يجب أن نأخذ في الإعتبار قواعد ومبادئ بينها القرآن لنا تساعدنا في فهم الأسلوب الذي صيغ به القرآن الكريم، إذ وضع القرآن الكريم لنا قواعد أساسية نذكر منها بإيجاز ما يلي:
القاعدة الأولى: شرط الإيمان بالغيب، من الشروط التي وضعها الإسلام شرط الإيمان مع غياب الدليل الحسي التجريبي الفيزيائي، فقد منع الله تعالى عنا الدليل القاطع، وترك لنا الأدلة المنطقية التي وإن كانت مقنعة إلا أنها يجب أن لا تكون قاطعة حاسمة ، وموضوع قبولها أو رفضها أمر إختياري يقرره الناس وفق إرادتهم الحرة. وهذا يدلنا الى نتيجة هامة علينا أن ننتبه إليها، أن شرط الإيمان بالغيب يدل بالضرورة على غياب الأدلة القطعية على وجود الله، كدليل التصميم الذكي، لأنها أي الأدلة القطعية لو وجدت سينتفي شرط الإيمان بالغيب، لهذا فلن نجد الأدلة القطعية الحتمية على وجود الله تعالى في أي من علومنا الطبيعية التجريبية، أو في غيرها. لأنه وإن تركها الله تعالى لنا لنراها ونحسها، أخفى عنا الأدلة القطعية.
في قوله تعالى في أول كتابه الكريم بعد الفاتحة: {الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)} سورة البقرة. أي يؤمنون بالغيبيات مع غياب الأدلة الحسية على وجودها، لأنه لو وجدت الأدلة الحسية على وجودها، لا تكون غيبيات.
جاء في تفسير القرطبي: “وقال عبد الله بن مسعود : ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ : الذين يؤمنون بالغيب . قلت : وفي التنزيل : وما كنا غائبين وقال : الذين يخشون ربهم بالغيب فهو سبحانه غائب عن الأبصار ، غير مرئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال.” أي أن الإيمان بالله يكون مع غياب الدليل الحسي القطعي.
يقول الطاهر ابن عاشور “والمراد بالغيب ما لا يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صريحا بأنه واقع أو سيقع مثل وجود الله، وصفاته، ووجود الملائكة، والشياطين، وأشراط الساعة، وما أستأثر الله بعلمه. فإن فُسر الغيب بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفا مستقرا فالوصف تعريض بالمنافقين، وإن فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية، كانت الباء متعلقة بيؤمنون، فالمعنى حينئذ: الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك.” أنتهى.
ويتضح من هذا أن الإيمان يجب أن يكون غيبيًا، وهذا منطقيا إذا قبلنا بفكرة الوجود البشري في مرحلة الإختبار، إذ تنهار فكرة الإختبار، والخير والشر، وتصبح الحياة الدنيا بلا معنى فور ظهور الإثبات القاطع، وفي قوله سبحانه وتعالى ما يبين مثل هذا { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} البقرة 210، وقوله تعالى: { … وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ …} سورة محمد 4 ، فجُعل هذا في غير متناول البشر وخارج عن حدود قدراتهم، ولهذا حتى القرآن ذاته وهو كلام الله تعالى، ليس مفروضًا فيه أن يكون دليلاً قاطعًا، إذ يمكن أن تعمى عنه القلوب والأفئدة. يقول الله تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)}
إلا ان الرسالة بينت أن القرآن فوق قدرات البشر، وقد تحدت من أنكروه أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله، أو بسورة واحدة مثله، وقضت بعدم إستطاعتهم، وهذا الدليل القاطع لا يراه إلا المؤمن، أما الكافر فقد يجادل فيه. أي أن هذا التحدى بالرغم من قطعه بفشل كل من يحاول أن يأت بمثله، لم يؤدي في حينه الى إسلام كل مشركي مكة، وهو بهذا لا يكون الدليل القاطع.
ولو شاء الله لآمن كل من في الأرض، إلا أن الأرض دار إختبار، كما يتبين في قوله تعالى: (…وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ…) المائدة. وقوله (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) الأنعام. وقوله (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل.
ولهذا، فآلية التطور -إن صحت- فلن تكون حتمية، أي أنه سيكون فيها جزء عشوائي، وهو ما يسميه البعض صدفة، ولهذا فسوف نجد تصميم وخطة ولكنها لن تكون حتمية قاطعة الدلالة.
والقاعدة الثانية أن يكون الكون معقولا بصورة عامة، لقوله تعالى {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} سورة العنكبوت وهنا يأمرنا الله بالسير في الأرض والنظر والتدبر في كيفية الخلق، والأمر يدل على قدرة المأمور على التوصل الى المعرفة المذكورة، أي أن خلق الكون وخلق الحياة كلاهما كان خلقًا معقولا، وليس إخلقًا إعجازيًا لا يترك آثارًا، أي أن الآية تنفي الخلق اللحظي الإعجازي. ولهذا يمكن للبشر أن يتوصلوا الى كيفية حدوثه من خلال سبل المعرفة العلمية، كنتيجة لعمل القوانين والآليات الطبيعية وحدها، ولكن شرط ألا يدل هذا على التصميم بصورة قاطعة بينة لا تقبل الشك، لأن هذا سيدل على الخالق وهذا ينافي شرط الإيمان بالغيب، بمعنى غياب الدليل القطعي.
أذن كيف يكون الخلق معقولا ولا يدل على التخطيط والتصميم الذكي بصورة قطعية، سؤال جيد ولكن ربما لا يمكننا الإجابة عليه بمنطقنا البشري، إلا أن العجيب أن هذا هو ما نجده اليوم، يمكننا فهم التطور الى درجة معقولة، في كل من خلق الكون وخلق الحياة، إلا أننا لم نتمكن من البت بقطعية وحتمية صحة هذا التفسير، ونلجأ إلى فرضية الإحتمالات لتفسير وجوده بطريق التطور، ويبقى الإختيار بالأخذ بهذا التفسير أو عدم الأخذ به موضوعا إعتقاديا أكثر منه علميًا، حتى علماء التطور الدارويني العشوائي الأعمى، لا يملكون الأجابة على كثير من المعضلات التي تواجههم، ولكنهم يعتقدون أنهم سيجدون لها إجابات في المستقبل، ويتمسكون بالتطور الدارويني الحديث وكأنه دين وعقيدة، وتمر السنوات والعقود، وتزداد المعضلات كلما تقدم العلم وظهرت عجائب وتعقيدات الخلية والسلسلة الأهليجية، وظهر إتساع الكون وغرابة الكوانتم، ويظلون على إعتقادهم العلمي بالتطور الأعمى، وهذا جيد، لأنه يحثهم على البحث ويحقق التقدم العلمي الذي به يحقق الإنسان واجب إعمار الأرض والحفاظ عليها.
أما القاعدة الثالثة، فإن الله تعالى، لم يتركنا هكذا نتخبط بين الإيمان الغيبي والخلق المعقول، فهناك مبدأ التحقق، والذي بموجبه نعلم أن الله تعالى سوف يُري الناس الآيات في الآفاق (أي الكون) وفي أنفسهم (أي الحياة) ليعرفوا أنه الحق، أي أن القرآن هو الحق، ولماذا القرآن، ما علاقة القرآن بخلق الكون والحياة. القرآن اشتمل على آيات تتعلق بخلق الكون وصفاته ونهايته وخلق الحياة وخلق الإنسان والبشر، وعندما يتوافق المذكور في الآيات القرآنية مع التصورات العلمية الصحيحة، يعرف الناس أنه أي القرآن حق. في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} سورة فصلت وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)} سورة النمل. فإن تذاكي أحدهم وقال إذا كانت العلوم الحديثة مذكورة في القرآن فلماذا لا نستخرج منه العلوم بدلاً من الإنتظار لآلاف السنين وبذل الجهد والمال في إكتشافها. نقول لا يمكن معرفة دلالات الآيات الكونية إلا بعد أن تصل المعارف البشرية الى هذه الحقائق بالعلم، لقوله تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أي أننا سنرى الآيات وهي المعجزات الكونية أولاً (كل الخلق الكوني وخلق الحياة معجز)، ومتى أكتشفناها ورأيناها وعلمناها، ثم بعد ذلك وجدنا ما يدل عليها في القرآن، عرفنا أنه الحق (والهاء هنا تعود على القرآن). لهذا لا يصح من يقول أن علينا إستخراج العلوم من القرآن وأنما الإعجاز أن الآيات التي نزلت قبل ألف وأربعمائة سنة توافق ولا تتعارض مع أي من علومنا الحديثة الصحيحة. وأنظر قوله تعالى : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} أي أن الله تعالى سوف يبينه لنا في زمان مستقبلي، حيث أن “ثم” تفيد التراخي الزمني.
وأخيرًا هناك شرط أن لا يؤثر القرآن الكريم على التطور المعرفي العلمي للبشر، أي أن يتوافق النص الذي يتعلق بالطبيعة والخلق والكون، مع معارف البشر التي اعتقدوا صحتها في عصر ما، حتى لا يسبب لهم العلم الصحيح المخالف لإعتقادتهم المعرفية، بلبلة فكرية تضر بمسيرة التقدم الطبيعي للعلوم والمعارف. وقد بينت هذا بالتفصيل في دراسات سابقة. ولهذا نجد التفسير المرحلي، وهو أن دلالات الآيات القرآنية تتأتى من تفاعل النص الثابت مع المعارف البشرية في أي عصر، ولهذا نجد الآيات الكريمة صيغت بحيث لا تتعارض مع ما توافق عليه البشر من تصورات عن كيفية الخلق في العصور القديمة، ونفس النص الثابت، تبين أنه لا يتعارض مع علومنا الحديثة، وفي هذا إعجاز أكبر من لو كان النص موافقًا لعلومنا الحديثة فقط، وبالتالي معارضًا لمعارف البشر في زمن التنزيل، والتي كانت بعيدة عن الصحة والصواب. وقد تبين بالتفصيل بعد دراسة كل الآيات المتعلقة بخلق الحياة وخلق الكون، في كتاب الخلق المنشور في موقع المضاربة، وفي حلقات دلائل الآيات القرآنية في آيات الخلق، تبين دلالة هذه الآيات الى الخلق التطوري الموجه، والتوجيه يكون إما أن الله تعالى خلق الكون ووضع فيه عند البدء القوانين والأسباب التي تؤدي الى ما نحن عليه، أو أن الله تعالى وملائكته يسيرون الكون وفق مشيئة الله تعالى والتي تضمنت خطة تطورية وهدف. ولنبين هذا ننظر مرة ثانية في آيات الخلق، ولنبدأ بآيات خلق الحياة.
الرابط الألكتروني لفيديو هذه الحلقة على قناة المضاربة:
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 2 من 8 Creation or Evolution
يتبع في الحلقة التالية
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 3 من 8
هل كان الخلق آنيا إعجازيا أم تطوريا؟
نلخص القواعد التي ذكرناها، كما يلي:
- شرط الإيمان بالغيب والذي يؤدي إلى شرط غياب الأدلة الحسية التجريبية
- شرط أن يكون الخلق معقولاً
- مبدأ التحقق، وهو توافق علومنا ومعارفنا مع ما ورد في القرآن الكريم
- وأخيراً: لا يمكن معرفة دلالات الآيات الكونية إلا بعد إكتشاف الظواهر والعلوم المتعلقة بها.
وقبل أن نبدأ، علينا أيضًا أن نوضح معنى “الخلق من الطين” الذي ورد عدة مرات في القرآن، هل يعني الخلق مباشرة من الطين، أم هو تعبير أو مصطلح لغوي يقصد به أن بدء خلق النوع الإنساني كان من الطين.
في الآية 37 من سورة الكهف { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)} بالطبع نحن لا نستدل من هذه الآية أن الرجل المخاطب صاحب الجنة أي الحديقة أو المزرعة، خلق مباشرة من التراب، وإنما نفهم منها أن أصل خلق النوع الإنساني الذي ينتمي إليه هذا الرجل كان من التراب، كلنا نفهم هذا ولم يقل أحد منا أن الخلق من التراب في هذه الآية يدل الى الخلق المباشر من التراب. ولهذا فكلما ورد هذا التعبير علينا أن نفكر فيه قبل الحكم أنه إما خلقُا مباشرا من التراب أو أنه يدل أن أصل خلق النوع كان من التراب، وأنه مرت أزمنة ومراحل قبل ظهور المخلوق الأخير.
وفي قوله تعالى { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} سورة الأنعام، وهنا أيضًا المخاطب كل الناس والمعنى أن أصل خلقهم كان من الطين وليس أنهم خلقوا مباشرة من الطين. وفي قوله تعالى { وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا.. } سورة فاطر، وهنا أيضًا الآية الكريمة لا تعنى أننا خلقنا مباشرة من التراب، ولاحظ أن النطفة سبقت الأزواج الذين جعلوا في مرحلة لاحقة. وفي قوله تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} سورة آل عمران:59 نعرف أن سيدنا عيسى لم يخلق مباشرة من التراب. من كل هؤلاء يمكن القول أن التعبير القرآني خُلق من التراب، لا يعني بالضرورة أن المخلوق خلق من التراب مباشرة، وانما يعني أن أصل خلقه وخلق النوع من التراب. ولو عدنا لمعنى لفظ خلق في اللغة، نجد أنه يدل على تقدير ما منه وجود الشيء (ولفظ قدر : يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته)، ولهذا فقوله تعالى {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ} قد تعني الإيجاد من الطين مباشرة، وتعني أيضًا تقدير الطين ليبلغ في منتهاه بشرا.
أما وقد بينا دلالة الخلق من الطين، علينا أن نبين أن حرف “ثُمَّ” له معنى ودلالة هامة في فهم الآيات التي يرد فيها، ثُمَّ تفيد حتمية الترتيب مع التراخي، أي لو قلنا قمت ثم قعدت، فلا بد أن القيام حصل أولاً وتبعه القعود. ولا يصح أن يكون القعود قبل القيام. وسيبين الإمام الطبري بالتفصيل هذا الشرط في الآية التي سنبدأ بها لهذا السبب.
والآن بعد هذه المقدمة الطويله، ننظر في الآيات التي ورد فيها خلق الحياة، لنرى الدلالات والمعاني التي تتضمنها هذه الآيات الكريمة، وحتى لا نطيل، لن نستطيع أن ننظر هنا آيات الخلق كلها، فهذا استغرق 18 حلقة مدتهم جاوزت عشرة ساعات، وكتاب من حوالي 300 صفحة، وأنما سأعرض هنا آيات قليلة معدودة، يصعب تفسيرها على أن الله تعالى خلق آدم من الطين مباشرة، بل وترجح نفي هذا الخلق. وسنسرد في بعض الآيات جزءًا من تفاسير السلف الصالح لها، وكانت معارفهم في تلك الأزمنة، تقول بالخلق المباشر من الطين، ولهذا فهموا هذه الآيات الكريمة على أنها تدل الى ذلك الخلق، وهذا طبيعي ومتوقع جزاهم الله تعالى كل خير، وسنرى كيف أن هذا الفهم قد تسبب لهم في بعض الصعوبة، إلا أن النص قد صيغ بحيث يسمح بهذا المعنى في التفسير المرحلي الذي كان في تلك الأزمنة.
****
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ………..(11)} سورة الأعراف
يقول الإمام الطبري: “القول في تأويل قوله : {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ(11)}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
…………………………………….
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ)، ولقد خلقنا آدم (صَوَّرْنَاكُمْ)، بتصويرنا آدم، كما قد بينا فيما مضى من خطاب العرب الرجلَ بالأفعال تضيفها إليه, والمعنيُّ في ذلك سلفه، وكما قال جل ثناؤه لمن بين أظهر المؤمنين من اليهود على عهد رسول الله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ، [سورة البقرة: 63]. وما أشبه ذلك من الخطاب الموجَّه إلى الحيّ الموجود، والمراد به السلف المعدوم, فكذلك ذلك في قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)، معناه: ولقد خلقنا أباكم آدم ثم صوَّرناه.
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب, لأن الذي يتلو ذلك قوله: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ)، ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر الملائكة بالسجود لآدم، قبل أن يصوِّر ذريته في بطون أمهاتهم, بل قبل أن يخلُق أمهاتهم.
و ” ثم ” في كلام العرب لا تأتي إلا بإيذان انقطاع ما بعدها عما قبلها، وذلك كقول القائل: ” قمت ثم قعدت “, لا يكون ” القعود ” إذ عطف به بـ” ثم ” على قوله: ” قمت ” إلا بعد القيام، وكذلك ذلك في جميع الكلام. ولو كان العطف في ذلك بالواو، جاز أن يكون الذي بعدها قد كان قبل الذي قبلها, وذلك كقول القائل: ” قمت وقعدت “, فجائز أن يكون ” القعود ” في هذا الكلام قد كان قبل ” القيام “, لأن الواو تدخل في الكلام إذا كانت عطفًا، لتوجب للذي بعدها من المعنى ما وجب للذي قبلها، من غير دلالة منها بنفسها على أن ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين, أو إن كانا في وقتين، أيهما المتقدم وأيهما المتأخر. فلما وصفنا قلنا إنّ قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، لا يصح تأويله إلا على ما ذكرنا.”
وأضاف الإمام الطبري لاحقًا: ” في أنه غير جائز أن يكون أمرُ الله الملائكةَ بالسجود لآدم كان إلا بعد الخلق والتصوير، لما وصفنا قبل.” أنتهى كلام الإمام الطبري.
ولو عدنا الى الآية الكريمة: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ………..(11)} نجد أن المعنى المباشر دون أي تكلف أو تحميل الألفاظ معانٍ ليست منها: المخاطب هو عامة الناس {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ}: خلقنا النوع، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، أي جعلناكم على الصور والهيئة والشكل الذي أنتم عليه، {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} وهنا أصطفى الله آدم من النوع الإنساني الذي خلقه وأمر الملائكة أن يسجدوا له.
النص صريح، المخاطب نحن أي الناس أي النوع الإنساني أي البشر (وهم آخر حلقات التطور)، لقد خلقناكم أيها الناس (بدأتم خلية من الطين) ثم صورناكم أي طورناكم (خلقناكم في مراحل وأشكال وصور كما فصّل النص في آيات أخرى سنوردها فيما بعد) حتى بلغتم الصورة التي أنتم عليها، (ثم –كما فصّل القرآن في آيات قرآنية أخرى- فلما أستوى المخلوق أصطفينا آدم ونفخنا فيه من روحنا وجعلناه خليفة وعلمناه الأسماء وكل هؤلاء مسكوت عنهم في هذا السياق) – ثم قلنا للملائكة إسجدوا لآدم …
وهذا المعنى المباشر الذي تدل عليه الآية أن خلق النوع سابق لخلق آدم ينفي الخلق المباشر من الطين وتوافقه فرضية التطور.
الرابط الألكتروني لفيديو هذه الحلقة على قناة المضاربة:
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 3 من 8 Creation or Evolution
يتبع في الحلقة التالية
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 4 من 8
هل كان الخلق آنيا إعجازيا أم تطوريا؟
يقول سبحانه وتعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (9)} سورة السجدة
لو إعتقدنا أن الله تعالى خلق آدم من الطين، بالطريقة التي ورد ذكرها في سفر التكوين في العهد القديم عند أهل الكتاب: (وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً.) أي كان خلق آدم أول الناس، ومنه خلقت حواء ومنهما جاء الناس. فيكون معنى الآية أن الله بدأ خلق آدم من الطين، أي خلقه وأكمله من الطين، ثم جعل نسله أي أولاده يتناسلون منه من ماء مهين، ثم بعد ذلك –رجع الى آدم- فسواه أي أكمله وأتمه وجعل له ولنا السمع والبصر ونفخ فيه من روحه.
وهذا مثل ما قاله السلف الصالح، لأن علمهم في ذلك الوقت كان مثل ما ورد في سفر التكوين، أن الله تعالى صور آدم من التراب ونفخ فيه فصار نفس حية. فقد ورد في تفاسير السلف:
(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ)(7) قال ابن كثير:
”يَعْنِي خَلَقَ أَبَا الْبَشَر آدَم مِنْ طِين،“ وقال مثله الطبري والقرطبي.
(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)(8) قال أبن كثير: ”أَيْ يَتَنَاسَلُونَ كَذَلِكَ مِنْ نُطْفَة تَخْرُج مِنْ بَيْن صُلْب الرَّجُل وَتَرَائِب الْمَرْأَة“. وقال الطبري: ”يَعْنِي ذُرِّيَّته مِنْ سُلَالَة , يَقُول : مِنَ الْمَاء الَّذِي انْسَلَّ فَخَرَجَ مِنْهُ“. وقال القرطبي: ”مِنْ مَاء مَهِين “ ضَعِيف“.
(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)(9)
قال أبن كثير:” ” ثُمَّ سَوَّاهُ“ يَعْنِي آدَم لَمَّا خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب خَلَقَهُ سَوِيًّا مُسْتَقِيمًا ”وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحه وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْع وَالْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَة“ يَعْنِي الْعُقُول.“
قال الطبري: ” ثُمَّ سَوَّى الْإِنْسَان الَّذِي بَدَأَ خَلْقه مِنْ طِين خَلْقًا سَوِيًّا مُعْتَدِلًا , {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحه} فَصَارَ حَيًّا نَاطِقًا.“
ونجد أن أبن كثير والطبري لم يعقبا على أن “ثم سواه” التسوية تعود الى آدم، وأن حرف العطف ثم يدل أن هذه التسوية حدثت بعد أن كان له نسل وذرية، وهذا غير جائز، إذ كيف أن آدم كان له نسل قبل أن يكون أستوى ونُفخ فيه الروح. أي قبل أن يصير حيا ناطقا كما قال الإمام الطبري “{وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحه} فَصَارَ حَيًّا نَاطِقًا.“
قال القرطبي في الآية (9) أي الثالثة والأخيرة في السياق: ” رَجَعَ إِلَى آدَم , أَيْ سَوَّى خَلْقه ” وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحه “ . ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ذُرِّيَّته فَقَالَ : ”وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْع وَالْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَة “ وَقِيلَ : ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَاء الْمَهِين خَلْقًا مُعْتَدِلًا , وَرَكَّبَ فِيهِ الرُّوح وَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسه تَشْرِيفًا. ..“
مما سبق يقول لنا المفسرون أن بدأ خلق آدم من طين، ثم جعل الله ذريته تتناسل من الماء المهين الذي أنسل منه، ثم رجع الى آدم فسواه – أي أكمل خلقه سويًا مستقيما معتدلاً ونفخ فيه من روحه وكما قال الطبري فصار حيًّا ناطقًا، وجعل له ولنا السمع والأبصار والأفئدة.
ولما وجدوا أن الترتيب غير صحيحا – لأنهم أفترضوا أن بدأ الخلق كان آدم، أي هو المعني في الآية (7) الأولى، تجاوزوا معنى ’ثم’ اللغوي وقالوا في التسوية والنفخ والجعل – الآية الثالثة في الترتيب- أن الله بعد أن ذكر وجود نسل آدم وذريته عاد ليخبرنا عن آدم في أحداث تسبق أحداث ذريته المذكورة في الآية الثانية، أي أن الترتيب وفق فرض أن آدم خلق من الطين مباشرة سيكون “وبدأ خلق الإنسان من طين”(7)، يتلوه “ثم سواه ونفخ فيه من روحه”(9)، يتلوه “ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ”(8). كان إعادة ترتيب الآيات ممكنا لو كان حرف العطف ’و، أو التعقيب ’ف’، أما وقد ورد في السياق حرف التعقيب ’ثم’ فلا يصح أن يبدأ ما بعدها قبل إنتهاء ما قبلها، وهذا يمنع أن يكون التسوية والنفخ قبل تناسل ذرية المخلوق الأول.
وحيث أن الآيات القرآنية ليست وفق هذا الترتيب الذي رتبناه ليصلح التفسير الذي أوردناه عن السلف، فالتسوية والنفخ حدثا بعد أن كان المخلوق له نسل وسلالة، ونعرف أن آدم هو الذي نفخ فيه من روح الله، لقوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)}سورة الحجر، وهذا البشر هو آدم، لأنه هو الذي سواه الله ونفخ فيه من روحه، ولأنه هو الذي أمر الملائكة ليسجدوا له، وكان هذا قبل أن يكون له نسل وذرية، ولهذا فلا بد أن آدم، هو المعني بالآية الأخيرة وليس الأولى. وعليه فالذرية المذكورة في الآية (8) ليست ذرية آدم، وان المخلوق الذي خلق من الطين في الآية الأولى، ليس آدم، وأنما هو مخلوق بدائي، ومن هنا جاء لفظ وبدأ خلق الإنسان من طين، إذ أن إضافة لفظ بدأ له دلالالة البدء والمرحلية ثم الإنهاء، إذ لو كان الخلق آنيا مباشرًا إعجازيًا، فالأغلب أن لا يكون له بدأ. ثم تناسل هذا المخلوق البدائي عبر سلالة من ماء مهين، حتى أستوى أي أكتمل، نفخ الله فيه من روحه وجعل له ولنا أي النوع الإنساني السمع والبصر والفؤاد.
دعونا ننظر الى الآيات من مفهومنا الحديث، أن النوع الإنساني الحديث، أي البشر، وأول ظهور له كان في شخص أطلق القرآن عليه أسم آدم، فيكون آدم هو آخر سلسلة الخلق التطورية وليس أولها، أي أنه هو الموصوف في الآية الثالثة (الآية 9) وليس الآية الأولى (الآية 7). وعليه يكون دلالة الأيات المذكورة كما يلي: تدلنا هذه الآيات من سورة السجدة أن الإنسان قد بدأ خلقه من طين، ثم تخلق عبر سلسلة من الكائنات التي تناسلت بدءًا من الكائن الأول، حتى إذا أستوى واكتملت صورته على هيئة إنسان، نفخ الله فيه من روحه، وبهذا نكون قد بلغنا المخلوق الجديد وهو آدم أبو البشر.
وهكذا، نجد الآيات دون أي تكلف أو تحميل الكلمات فوق أو غير معانيها المباشرة، وبدون إعادة ترتيب الآيات، تدلنا على الخلق التطوري المنتهي بالبشر، وليس الخلق الذي يبدأ به. ومع الإلتزام بالدلالة اللغوية لحرف “ثم” أسأل أخواننا أصحاب فرضية الخلق المباشر أن يفسروا هذه الآيات دون تكلف.
في قوله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا …….}(11) سورة فاطر،
يقول القرطبي في تفسيره:”قوله تعالى : والله خلقكم من تراب ثم من نطفة قال سعيد عن قتادة قال : يعني آدم عليه السلام، والتقدير على هذا: خلق أصلكم من تراب، ثم من نطفة قال: أي التي أخرجها من ظهور آبائكم . ثم جعلكم أزواجا قال : أي زوج بعضكم بعضا”. وذكر مثله المفسرون الآخرون. وهنا تجاوز المفسرون إشكالية أن النطفة التي يشيرون إليها تأتي من الذكر والأنثى، واللذين لم يُجعلا بعد وفق سرد الآية الكريمة، لقوله بعد ذكر النطفة،{ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا}، لأن ثم تستوجب أنتهاء ما قبلها قبل حدوث ما بعدها، ولم يبينوا كيف جاءت النطفة من ظهور الآباء في الوقت الذي لم يُجعل المخلوق بعدٌ أزواجا.
والنطفة هي الماء قل أو كثر، جاء في لسان العرب: “قال أَبو منصور: والعرب تقول للمُويْهة القليلة نُطفة، وللماء الكثير نُطفة، وهو بالقليل أَخص”. وقوله عز وجل: خُلِقَ من ماءٍ مَهينٍ؛ أَي من ماء قليل ضعيف. ولو عدنا للآية من سورة السجدة {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8)} نجد أن الماء المهين هو النطفة.
وهنا نجد أن النطفة سبقت الجعل أزواجًا، بما يدل أن النطفة في هذا السياق، ليست هي المني والبويضة –كما هي عليه في آيات أخرى تتعلق بالأجنة في الأرحام- نقول ليست هي المني أوالبويضة المخصبة، لأن الأزواج لم يكونوا جعلوا ووجدوا بعد. ولهذا فالنطفة المذكورة لا بد أن تكون مرحلة تطورية مبكرة من مراحل خلق الحياة التي بدأ خلقها من تراب، ولأنها كانت تتناسل لقوله (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)، فان لم تكن تتناسل بالتزاوج، لأن الأزواج لم يكونوا قد جعلوا بعد، يبقى لدينا التناسل بالإنقسام، ونستنتج هذا أيضًا من قوله تعالى { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} سورة الزمر، وهنا خلقت أول خلية حية ثم أنقسمت على نفسها، وتكاثرت بالإنقسام.
ولهذا فالدلالة المباشرة للآية يدل على الخلق من التراب ثم من خلية -نطفة- تتكاثر بالإنقسام ثم بالتزاوج ذكر وأنثى.
ولاحظ أن هذه الآية مرت على المراحل الأساسية لخلق الحياة، من تراب ميت لا حياة فيه، الى نطفة حية (وحيدة الخلية) تتكاثر بالإنقسام لمثلها، ثم مخلوقات ذات خلايا متعددة مجتمعة مركبة أزواجًا تتكاثر بالتوالد عن ذكر وأنثى.
ونحن نعلم أن أول المخلوقات من التراب كان منذ أكثر من 3 وربما 4 بليون سنة، كائن أولي بسيط ذو خلية واحدة دون نواة، يتكاثر عن طريق الإنقسام. حتى قبل 1,7 بليون سنة عندما ظهرت كائنات أكثر تطورًا وبالرغم أنها كانت وحيدة الخلية إلا أنها احتوت على نواة وأجهزة لتخزين الطعام والتنفس وبدأت قبل 1,2 بليون سنة تتوالد عن طريق التزاوج بدلاَ من الإنقسام. وأدى هذا الى البدء في ظهور أنواع جديدة، وحتى بليون سنة قبل الآن تطورت حتى ظهرت الكائنات المتعددة الخلايا التي تنوعت ثم ظهر الإنسان منذ بضع مليون سنة.
والسرد المذكور في الآية يدل على الخلق من التراب ثم من خلية تتكاثر بالإنقسام ثم بالتزاوج. ويسمح السرد في نفس الوقت بتفسيره كما فسره الأوائل وفق علومهم دون أن يسبب لهم إرباكاً وبلبلة.
في قوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } سورة آل عمران:59
نعرف أن سيدنا عيسى لم يخلق مباشرة من التراب، وإنما أصل خلقه من التراب، وكما تبين من الآيات التي درسناها، أن آدم أيضًا لم يخلق مباشرة من التراب، ولهذا نجد أن عيسى مثله مثل آدم خلقهما الله تعالى من تراب، بمعنى أن أصل خلق النوع من التراب، والمعنى هنا يبين ويؤكد بشرية سيدنا عيسى كونه من النوع الإنساني الذي بدأ خلقه من التراب. وهذا هو ما كان عليه إستفسار النصارى التي كانت هذه الآيات إجابة عنه.
يمكن مشاهدة فيديو هذه الحلقة على الرابط :
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 4 من 8
يتبع في الحلقة التالية
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 5 من 8
هل كان الخلق آنيا إعجازيا أم تطوريا؟
في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} سورة التين.
تقويم : من قوم وهى أصلان الأول يدل على جماعة ناس، والثانى يدل على انتصاب وعزم .وهنا يعنى ان الانسان خلق فى أحسن انتصاب وقيام، وهذا ما نعرفه إذ أنه لا يوجد فى المخلوقات من له حسن انتصابه، ويحدثنا العلم أن وقوف الإنسان مكنه من استخدام يديه في أمور عديدة منها صنع الأدوات الحجرية التي أعانته على التفوق على غيره من المخلوقات الأقوى منه. ولا يشك أحد أن قدرة الإنسان الوقوف على قدميه كان مرحلة في غاية الأهمية في تاريخ تطوره، حتى وصل المخلوق الى مرحلة الإنسان ذو القامة المنتصبة – الواقف – Homo-erectus.
وعندما يذكر القرآن الكريم أن الإنسان خلق في أحسن تقويم، أي وقوف وانتصاب، إنما يؤكد أهمية هذه الصفة التي يتميز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات، إلا أن هذه الخطوة لم تكن قد وصلت به بعد الى مرحلة كونه المخلوق المكرم، بل أن هذه المرحلة جعلته قادرًا كما قلنا على صنع بعض الأسلحة الحجرية البدائية، التي وإن أعانته على الصيد ومجابهة غيره من الحيوانات الأقوى منه جسدًا، إلا أنه أستخدمها أيضًا ضد أبناء نوعه من الإنسان فقتل من جنسه وأفسد في الأرض، وهو يفعل ذلك منذ ان خلق في أحسن تقويم وحتى يومنا هذا، فكان قوله تعالى {ثم رددناه أسفل سافلين}، حيث اننا لا نعلم من المخلوقات الأخرى من يفسد ويقتل حتى من جنسه مثل الإنسان.
وقد يكفى هذا المعنى إلا أن من الباب قوّمت الشىء تقويماً؛ وأصل القيمة الواو؛ وأصله أنك تقيم هذا مكان ذاك. وقد يدل هذا على أن الانسان قام مكان غيره وهو أحسن تركيبًا ممن قام مكانهم، فهو بذلك أحسن ما بلغته هذه العملية التطورية الخلاقة التى بلغت أحسن التصميمات الفيزيولوجية وهو الانسان.
وفي قوله سبحانه وتعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ(133)} سورة الأنعام
قوله تعالى {كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} نجد هنا معنى هام، إذ نحن – أي النوع البشري – نشأنا من ذرية قوم آخرين، لاحظ هذا الطبري، إذ يقول في تفسيره: “يهلك خلقه هؤلاء الذين خلقهم من ولد آدم {ويستخلف من بعدكم ما يشاء} يقول: ويأت بخلق غيركم، وأمم سواكم يخلفونكم في الأرض من بعدكم، يعني: من بعد فنائكم وهلاككم . {كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم” .بينما ذهب ابن كثير الى ان الله تعالى كما أذهب القرون الأولى وأتى بالتي بعدها كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين، ولكنه لم يتعرض لشرح دلالة لفظ من ذرية قوم آخرين.
فان كان هؤلاء الناس نشأوا من ذرية قوم سبقوهم، فالسابقون أجدادهم وقومهم، وليسوا ’قوم آخرون’، والقوم تجوز على الإنسان والملائكة والجن، واصل اللفظ من القيام. وجاء المعنى أيضًا في {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} وخلق جديد يصح أن يدل على نوع جديد، وليس خلق مثلكم.
الجنس أو النوع الإنساني الحديث (هوموسابيان) والذي نحن منه، نشأ من ذرية نوعا آخر يسبقه، (وقد سبقنا وتزامن معنا أنواع أخرى كثيرة منها الإنسان ذو القامة المنتصبة Homo erectus والنيانديرتال Neanderthal وغيرهما وقد أنقرضوا جميعًا ولم يبقي غيرنا)، ونحن وهم فروعا عن أصل إنساني قبلنا، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة، إذ بالرغم أننا جئنا من ذريتهم، أي أنهم أجدادنا، إلا أنهم قوم آخرون، والإختلاف هنا في النوع لا في النسب. والإنشاء يستدعي بما يحمله اللفظ من معانى البدء في الخلق واستمراره مع النمو والإرتفاع والظهور، أي ان لفظ الإنشاء يتضمن إمتدادًا زمنيًا. وهذا يناسب تطور الأنواع من نوع الى نوع بما لهذا التطور من امتداد زمني ونمو وظهور.
وفي قوله سبحانه وتعالى: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا(1)} سورة الإنسان
يبين الله تعالى لنا أن الإنسانِ قد مضى عليه بعد خلقهِ حينٌ من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، ويدل لفظ الدهر على طول المدة الزمنية.
ولو أخذنا معنى لفظ الإنسان هنا على أنه آدم، أول إنسان خلق، كما فعل كل المفسرون الأوائل، فسنقع في إشكالية أن آدم خلق وتعلم وأكرم (بالأمر للملائكة بالسجود له) في وقت قصير، وأن أبناء آدم وسلالته كرموا من بعده لقوله تعالى { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70)} الإسراء. وعليه فإن تكريم بني آدم يحتم بالضرورة أن تعود الآية {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا}، على من هم ليسوا من بني آدم، وسواء كانوا قبل آدم أو بعده فهم ليسوا من أبناءه أو ذريته، وبهذا لا بد ان يكون هناك سلالة إنسانية سابقة لآدم.
القول هل أتى على الإنسان دهرًا، يدل ان الإنسان كان موجودًا ولكنه لم يكن شيئا مذكورًا، أي لم يكن شيئا يستحق الذكر، نحن نعلم أن الإنسان الذي كان نتاج عملية تطورية أستغرقت بلايين السنين، قد مر عليه فعلاً الجزء الأكبر من عمر هذه العملية التطورية ولم يك شيئًا مذكورًا، بل ومنذ ظهوره كآخر حلقات هذه العملية التطورية، مضي عليه قرابة عشرة ملايين سنة لم يكن فيها قد نضج واكتسب حجم المخ الكافي، أي لم يكن قد بلغ مبلغه واستوى بعد.
وفي قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} سورة آل عمران
الإصطفاء بمعنى الإختيار والإجتباء، يستدعي وجود من يُصطفى منهم أو عليهم، وهؤلاء من إصطفاهم الله على العالمين، وقد جاء ان العالمين هم الأنس والجن، ولو استثنينا آدم، نحن نعلم أن نوح وآل ابراهيم وآل عمران، مصطفون ومفضلون على الناس، وآدم بفرض عدم وجود ناس في زمانه، لا يكون مصطفى إلا على الناس من بعده، ويصح المعنى بذلك، ويصح المعنى أيضًا لو كان هناك ناس في زمانه، وانه اختير واجتبي منهم وفضل عليهم.
وفي قوله تعالى:{ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩ (58)} سورة مريم
هنا نجد ذرية آدم، وبفرض ان آدم كان أول الناس، فكل الناس ستكون من ذرية آدم، ولن يوجد ذرية أخرى، وبالتالي لا داعي لتحديدها. أما لو كان هناك أناس معاصرون لآدم، فيتوجب تحديدها.
الرابط الألكتروني لفيديو هذه الحلقة على قناة المضاربة:
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 5 من 8
يتبع في الحلقة التالية
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 6 من 8
هل كان الخلق آنيا إعجازيا أم تطوريا؟
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)} سورة الحجر
قال ابن فارس : بشر فى اللغة تدل على ظهور الشىء مع حسن وجمال وسمى البشر بشرًا لظهورهم، ومنه البشرى وذلك يكون بالخير .
أما الإنسان، فقد قال ابن فارس : “أنس أصل واحد هو ظهور الشيء، وكل شيء خالف طريقة التوحش. وجاء في القاموس المحيط: “واسْتأْنَسَ: ذَهَبَ تَوَحُّشُهُ”
ولقد خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وخلق تعنى أن الله تعالى قدر ما منه وجود الإنسان، أي أن يصبح الصلصال وهو الطين المتغير في مبلغه وكنهه ونهايته إنسانًا، ثم بشر، وفي قوله تعالى فاذا سويته، أي إذا أبلغته أشده ومنتهاه.
وهنا في آيات سورة الحجر، نجد أن هناك فصلا واضحا بين خلق الإنسان وخلق البشر، لقد اهتم القرآن ببيان حقيقة ان الجان خلق قبل الإنسان، وهذا لأنه قدم موضوع خلق الإنسان عن موضوع خلق الجان في سياق ترتيب الأخبار. وقد أدى تقديم خلق الإنسان على خلق الجان في سياق السرد القرآني، الى الفصل بين آيتي خلق الإنسان وخلق البشر، وهما وأن خلقا من نفس المكونات، أختلفت أسمائهما، فهذا إما أن يكون فصلاً بين خلقين مختلفين وان كانا من نفس المكونات، أو تكرارًا، فان كان تكرارًا فلماذا يختلف الأسم.
ونحن نأخذ بالإختلاف النوعي الذي قد تدل عليه الآيات من إختلاف الأسماء، إذ نفترض أن البشر اختلف عن الإنسان، ربما في الخلق، وربما في التطور، وربما في أن الله علمه الأسماء. إذ ليس في الآية ما يمنع أن نفترض ان الإنسان خلق من خلال عملية تطورية استغرقت بلايين السنين. وقد نفترض أن يكون البشر هو الإنسان الذي تطور الى حد يتمكن معه من تلقي العلم، أي أنه مرحلة لاحقة من مراحل التطور، وقد أخذنا هذا المعنى من قوله سبحانه وتعالى : { الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) } الرحمن : 1-4 يقول ابن كثير: ”يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه فقال تعالى ”الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان“ قال الحسن يعني النطق وقال الضحاك وقتادة وغيرهما يعني الخير والشر وقول الحسن ههنا أحسن وأقوى لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن وهو أداء تلاوته إنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها“.
وقد وجد علماء التطور ان ظهور الإنسان الحديث – وهو الذي نحن من سلالته – تزامن مع تغير في جمجمة الإنسان الأول من جهة تكون عظام الفك والحلق بما أدى الى تيسير النطق وتسهيل خروج الحروف، مع وصول حجم المخ الى الحجم الحالي. أي أن البشر هو الإنسان الحديث. وآدم هو أول البشر. وقصة تعلم آدم الأسماء كلها وأسماء الإشياء كناية عن اللغة والتعبير، وآدم هو رمز البشر أي الإنسان المفكر، وان الله نفخ في هذا المخلوق من روحه.
القصة التي يرويها القرآن عن ظهور الإنسان الحديث – الهوموسابيان- والذي أطلق الله عليه أسم النوع “بشر” وكان أسم أول بشر “آدم”، تخبرنا أن الإنسان تطورحتى استوى واكتمل فأصبح خلقا آخر هو البشر. وكان هذا بإكتمال نمو العقل والفك بما يمكّنه من التفكير والنطق، فملك بذلك القدرة على التعلم والإفصاح، فتعلم اللغة، ومنح الشعور بالذات وحرية الإختيار، ثم جُعل خليفة في الأرض فحمل أمانة مسؤولية الحفاظ عليها وإعمارها.
ونفهم من هذه الآيات أن الإنسان كان حلقة قبل الأخيرة من حلقات التطور وأن البشر هم الحلقة الأخيرة، وهذا واضح لأن الذي أمر الملائكة أن يسجدوا له هو البشر وليس الإنسان. وهذا غير الذي يقول به المفكرون المعاصرون، والذي أختلف معهم فيه، لأن الأدلة واضحة في هذه الآيات التي تناولتها هنا وفي غيرها. فيكون الإنسان هو من تطور عنه البشر وأول البشر آدم ونحن من بني آدم أي بشر. وبالتالي فكل بشر إنسان، ولكن ليس كل إنسان بشر.
****
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} سورة البقرة
إن قول الملائكة {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} يوحي بعلمهم بأمر واقع أو سبق وقوعه، وقد تحير المفسرون في كيفية معرفة الملائكة أن هذا المخلوق الجديد -أو ذريته- سوف يفسد في الأرض في زمان مستقبلي، إذ لا يعلم الغيب المستقبلي إلا الله سبحانه، وقد نحا بعض المفسرون علم الملائكة بأنهم قد سألوا الله تعالى: ما صفة هذا المخلوق الجديد. فقال لهم أنه -أو نوعه- سيفسد في الأرض وسيسفك الدماء، فقالوا لله جل جلاله أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. لكن هذا التفسير على ضعفه لا يصح، حيث أن الله قد خلق البشر ليعمروا الأرض ومنهم الصالح ومنهم المفسد؛ ولم يكن الله تعالى ليقول عن البشر جميعًا مثل ذلك، وهو سبحانه وتعالى يعلم أنه سيكون منهم أنبياء ورسل وأتقياء وأمم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
بل أن قوله تعالى {إني أعلم ما لا تعلمون} يدل أنه لم يعلمهم بشيء من أمر هذا الخليفة، لأنهم لو كانوا سألوه وأجابهم، لكانت { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } تدل أن إجابته سبحانه وتعالى عما يصفون كانت غير كاملة، فهم أي الملائكة ظلوا على حيرتهم وتعجبهم بعد سماع الجواب وما أعلمهم به الله تعالى ما سيكون من أمر هذا البشر، فإن كان أعلمهم فكيف أجابهم سبحانه وتعالى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
وقال آخرون: عن ابن عباس ، قال : أول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . عن ابن عباس : أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم ، فقالت الملائكة ذلك ، فقاسوا هؤلاء بأولئك . وهذا أيضًا لا يصح لأن الآيات لا تدل من قريب أو بعيد الى مثل هذا القياس، بل والقياس ليس صحيحًا فلا علاقة أو شبه بين الأنس والجن. ووفق هذا الفرض، على أي شيء يقيسون وهم لم يروا إنسا قبل هذا البشر ولا علموا عنه شيئا. بل أنهم لم يعرفوا أن الذي أمامهم هو البشر الذي قال لهم الله تعالى عنه: { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} لأنهم لو عرفوا أن هذا هو البشر المذكور في هذا الأمر لسجدوا فورًا له كما أمرهم الله ولم يكونوا ليقولوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} بالطبع هم لم يعرفوه ولم يقيسوا البشر على الجن، ووجود الجن على الأرض وحربهم مع بعضهم أو مع الملائكة كل هذا لم يرد ما يدل عليه في أي من آيات القرآن الكريم.
ولهذا يمكن القول أن الملائكة لم تسأل الله تعالى ولم يعلمهم وأن الملائكة لم تقيس البشر على الجن، وهذا يعيدنا الى السؤال: كيف عرفت الملائكة أن البشر سوف يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.
بل لماذا تقول الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؛ وليس : أتجعل فيها من سيفسد أو من سوف يفسد فيها، يمكن تفسير ذلك بفرض أن الإنسان كان موجودًا ومفسدًا في الأرض، ولهذا لم يحتاج الملائكة للسؤال وإنما كان قولهم الفوري كما جاء عنهم، وهذا رد طبيعي بناء على علمهم بما هو واقع في ذاك الزمان، ولهذا كان الفعل يفسد مضارع وليس فعل مستقبلي.
وعليه فسياق الحديث الذي تم قد يكون كما يلي: واذ قال ربك للملائكة إنى جاعلُُ فى الأرض خليفةً، وكان آدم حاضرًا أمامهم، وقد اصطفاه الله، فعرف الملائكة من هيئته وصورته أنه يشبه الإنسان، وكان الإنسان موجودًا آنذاك على الأرض، كان مفسدًا وكان يسفك الدماء ويقتل من غير جنسه أكثر مما يحتاج لغذائه، ويقتل من جنسه مع سعة الأرض، ولم يكن يعبد الله ولا يسبح له، وبهذا يكون من أسوأ المخلوقات قاطبة، فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، وكان قولهم من باب السؤال عن الحكمة الإلهية. قال إنى أعلم ما لا تعلمون. حيث أن هذا هو البشر الذي جاء ذكره من قبل، قد منح القدرة على البيان، وأنه من سيحمل الأمانة.
والخليفة هنا لا تعني كما نحى اليه البعض، من أنها نظام الخلائف وهو ما يتبعه النوع البشري من خلافة الجيل لما قبله، أي نظام الخلف والتوالد، فكافة المخلوقات من الحيوانات والطيور والإسماك وحتى الأشجار والنباتات، تتبع هذا النظام، وليس فيه ما يجعل النوع الإنساني أفضل من غيره، ولا يستدعي هذا المعنى تعجب الملائكة بقولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، فالمعنى لا بد أن يحمل شيئًا من التفضيل والعلو والمسؤولية بل والولاية . ولا شك إن إعمار الأرض وظيفة منوطة بالبشر فقط دون غيرهم من المخلوقات. ولا يجب أن ننسى في هذا المقام أن المحافظة على الطبيعة والمخلوقات من حيوانات وغيرها من المسؤوليات المناطة وفقًا لمتطلبات الخلافة والأمانة التي عُهد بها إلى الإنسان الحديث. ومن هنا نجد أن المحافظة على الطبيعة والمخلوقات وقضايا الإحتباس الحراري وكل ما يضر بكوكبنا هو مسؤولية يسألنا الله تعالى عنها يوم الحساب.
والخَليِفة كما قال ابن الأثير: ”من يقوم مقام الذاهب ويسد مسدّه.“ وقد يكون معناه إضافة الى الولاية، أن آدم وذريته من البشر سوف يقومون مقام الإنسان ويسدون مسده.
قلنا لم تعرف الملائكة أن آدم هو البشر الذي أخبرهم الله عنه من قبل، وأنما عرفوه أنه من جنس الإنسان الذي يعيش في الأرض ويفسد فيها ويسفك الدماء. فتعجبوا أن يُفضل عليهم ويُجعل هذا المفسد خليفة يحمل مسؤولية حفظ مصالح الرعية من ناس وحيوانات وطيور وزواحف وأسماك ونباتات، وقومه يقتلون ويسلبون ويفسدون في الأرض. اعتبر الملائكة الخلافة تكريم لآدم يرفعه الى مصافهم وربما أعلى بينما هم أولى بالتكريم لأنهم يسبحون بحمد الله ويقدسونه. لهذا تعجبوا فقالوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ }.
وفي تعجبهم هذا عرفنا أن آدم ليس أول إنسان، وأن الناس كانوا قبله يعيشون ويتزاوجون ويتكاثرون، وأنه أول البشر، الذين منحهم الله القدرة على التفكير والنطق والتواصل بلغة الكلام.
وأجابهم الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} فهذا الخليفة هو البشر الذي أصطفيته والذي له ستسجدون. وأن من ذريته أنبياء ورسل وعابدون. وأنه تعالى ميزه بالعقل والقدرة على النطق والبيان، ومنحه حرية الإختيار والأرادة وحمله مسؤولية وأمانة إعمار الأرض والحفاظ عليها.
الرابط الألكتروني لفيديو هذه الحلقة على قناة المضاربة:
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 6 من 8
يتبع في الحلقة التالية
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 7 من 8
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} سورة المؤمنون
لو إعتبرنا سلالة بمعنى جماعة من الناس أو الحيوانات تنحدر من نسب معين، فانه من الممكن القول أن الإنسان هو الذي جاء من نتاج هذه السلالة التي أولها كان من الطين. لكن في مرحلة محددة لاحقة تم إنشاؤه خلقًا آخر، وهنا نجد أن الآيات لا تتحدث فقط عن خلق الإنسان وإنما عن خلق نوعا آخر جاء منه. أي أن الإنسان خلق من سلالة من طين، حتى أصبح على الشكل الذي نعرفه، وتناسل بالطريقة المذكورة في الرحم، وبعد دهرًا من الزمان، أنشأه الله خلقًا آخر، هو البشر بدءًا بأبوهم آدم. أنظر قوله تعالى{ ثم أنشأناه خلقًا آخرَ ، ألا يتفق هذا مع قوله تعالى{ كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين}.
والآن نعيد النظر في الآيات إذ قد نجد فيها المعنى المرحلي الذي يصف خطوات تطور خلق الإنسان بدءًا من الطين.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ..} أي قدرنا ما منه سيكون الإنسان، { مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ..} أي أنه ينحدر من سلالة أو سلسلة أولها من الطين المتغير. نعلم من علومنا الحديثة، وجدت أول خلية حية من عملية كيميائية من المواد الموجودة في الطبيعة، الطين والهواء، كانت هذه الخلية بسيطة لها القدرة على الإنقسام، أي تصنع خلية ثانية مثلها، أنظر قوله تعالى {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} الزمر، وهكذا كانت هذه الخلايا تتكاثر بالإنقسام، وكان لهذه الخلية البدائية النوى، جدار خارجي يحميها ويحمي جزئيها الهيولي وشبيه النواة، ويوجد في منطقة شبيه النواة الشفرة الجينية للحمض النووي والذي كان أولاً (أر ان ايه) ثم تطور الى (دي ان ايه). وليس لنواة هذه الخلية جدار نواة. والبكتيريا من الكائنات وحيدة الخلية من نفس النوع بدائي النوى وكذلك الطحالب الزرقاء المخضرة، وقد وجدت هذه الخلية منذ أكثر من 3,5 بليون سنة.
والخطوة التي تلت الخلية البدائية النوى، هي ظهور الخلية حقيقية النوى، تميزت عن الأولى أن الحمض النووي يستقر في نواة لها جدار مضاعف قوي يحمي النواة، وقد ظهرت هذه الخلية منذ حوالي 2 بليون سنة، وهذه الخلية هي ما ينبني بها أجسام كل الأحياء متعددة الخلايا (مثل الحيوانات والنباتات والفطريات).
اذا كانت الحياة تُعرّف بأنها آلية التكاثر، فان الحمض النووي هو هذه الآلية، والخلية توفر له غرضين هامين، أولاً توفير الحماية للسلسة الوراثية الضعيفة جدًا (دي ان ايه)، وثانيًا توفير المكان الملائم لتتم عمليات التطور البيولوجي المعقدة. وحيث أن الحمض النووي هو الذي يحمل تعليمات السلسلة الوراثية، وهو الذي يحفظ تطورها، فان الحمض النووي هو الذي قدر له أن يتطور.
{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } وتدلنا الآية أن النطفة وهي القليل من الماء ويمكن أن تكون تعبيرًا عن الحمض النووي المقدر له أن يتطور حتى يصبح إنسان، قد جعلت في قرار مكين، وهو نواة الخلية حقيقية النوى ذات الجدار المضاعف القوي.
{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ….}
والعلقة هي الكائنات متعددة الخلايا، والتي ظهرت عندما تعلقت الخلايا مع بعضها البعض، وأول ما ظهر من العلقة Lichen هي الكائنات الرخوية مثل الدودية، والأسفنج والمرجان والسمك الهلامي، ثم تطورت عنها المضغة، وهي الحيوانات اللافقارية اللاعظمية البدائية، ثم خلقت المضغة عظامًا وهي الكائنات التى لها درع عظمي خارجي مثل الأصداف البحرية والقواقع والمحار ثم الحيوانات البحرية القشرية وذات الأظهر الفقارية والزواحف، وبعدها كسي العظم لحمًا فظهرت الثدييات ذات الدم الدافيء ومنها الحيوانات والإنسان الأول { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } ثم أنشأ خلقًا آخر هو البشر.
****
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)} سورة الأنعام
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(6)} سورة الزمر
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)} سورة النساء
{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(28)} سورة لقمان
تعود النفس الواحدة الى أول خلية حية ظهرت على هذا الكوكب، ثم انقسمت الى خليتين، حيث كان التكاثر في المرحلة الأولى بطريق الإنقسام، كما هو حال البكتيريا اليوم، وعندما انقسمت الخلية الأولى الى خليتين، خلق منها زوجها، والزوج في اللغة مطابق للأصل، وهذا بالضبط ما حدث للخلية الأولى، أما الإشارة الى {…خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ….}سورة النساء، فإن ما بين النفس الواحدة وزوجها حتى كثرة الرجال والنساء سلالات كثيرة وزمانا طويلا يقدر ببلايين السنين، كما هو طول الزمان في قوله : {وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ(20)} سورة الروم .
والذي يدعونا الى ترجيح هذا المعنى هو ما أشارت إليه الآيات الي درسناها سابقًا، وأن آدم كان قبله ناس على الأرض، أضافة أن الإشارة الى آدم وردت في القرآن بلفظي بشر وآدم، بينما لفظ ”نفس“ يستخدم للتعبير عن أي ذات حية، والجسد، وعين الشيء أي كنهه وجوهره، والروح {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (28) الفجر، وليس ما يمنع أن يشير اللفظ ”نفس واحدة“ الى آدم البشر، أو أن يشير الى أول كائن حي يمكن أن يخلق منه زوجه، ويعرف الكائن الحي بالذي لديه القدرة على التكاثر. ويكون هذا في أول خلية حية بسيطة ظهرت ثم انقسمت فكان منها زوجها. في قوله تعالى {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يخبرنا الله أن خلقنا وخلق كل الأنواع من حيوانات وطيور وأسماك ونباتات بدء من خلية حية واحدة، أنقسمت فخلق منها زوجها، ثم تطورت عبر بلايين السنين الى أن بلغت كل أنواع الحياة التي نعرفها.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ(98)} سورة الأنعام
كل مخلوق حي يبدأ من خلية واحدة وفي حالة الإنسان تكون هذه الخلية هي البويضة المخصبة، والتي تنقسم على نفسها، أي منها يخلق زوجها، وتتوالى الإنقسامات، ليبدأ بعدها الإنقسامات المتخصصة التي تكون الأعضاء والأجهزة المختلفة في الجسم الحي.
أي أن كل مخلوق يبدأ خلقه من خلية واحدة، ويستقر في نواتها الحمض النووي الذي هو بمثابة كتاب مودع فيه كافة معلومات بناء هذا المخلوق وكيفية بناءه، بل أن هذا الكتاب يصبح مصنعًا لإنشاء المخلوق حيث يرسل تعليمات وأوامر بناء الى المواقع
المحددة التي يتم فيها بناء كل عضو وجهاز، وفق برنامج زمني محدد. النفس أو الخلية مستقر ومستودع، المستقر هو القرار المكين في نواة الخلية والمحمي بجدار خارجي وآخر داخلي حول المكان الذي تقبع فيه سلسلة الحمض النووي، والمستودع هو المكان الذي تحفظ فيه المعلومات وأوامر البناء. وهذا يكفي لتفسير أننا جميعًا أنشأنا الله سبحانه وتعالى من نفس واحدة هي البويضة المخصبة، والتي انقسمت على نفسها فجعل منها زوجها ثم منهما خلق الكائن.
ولو عدنا الى أول خلية نشأت على الأرض (أو في قاع المحيط)، تكون النفس الواحدة هي أول خلية بسيطة تكونت، ثم انقسمت على نفسها، ثم تطورت إما الى مخلوق ذو خلية وحيدة كالبكتيريا، أو الى مخلوق متعدد الخلايا، تطور وتفرع عنه كافة أنواع الحياة المعقدة التركيب، ويحمل كل موجود حي خلايا تتطورت عبر مراحل كثيرة عن نفس الخلية الأولى، وفي كل من هذه الخلايا توجد نسخ مطابقة عن السلسلة الإهليجية له، تورث نوع بعد نوع، وجيل بعد جيل، وقد تتطور وتتبدل وتتحسن، تحمل في جزء منها كافة المعلومات الموروثة والأوامر اللازمة لتكوين نفس الجسم الحي، ومعلومات تبين تاريخ تطوره، وربما تاريخه هو وسجل إعماله، والله أعلم سبحانه يخلق ما يشاء.
الرابط الإلكتروني لفيديو هذه الحلقة على قناة المضاربة:
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 6 من 8
يتبع في الحلقة التالية
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري الحلقة الأخيرة 8 من 8
في قوله {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}(36) يس، وفي هذا توحيد لمواد الخلق الأخرى غير الماء، ونجد في هذا التشابه بين الإنسان والمخلوقات الأخرى، أي أن كل الأزواج خلقت من نفس المكونات، قد يدل هذا أيضًا أنها خلقت من نفس المكونات ذاتها، أي خلقت عبر عملية تطورية واحدة، من أصل واحد.
والأمثلة على الجمع بين الإنسان والأنواع الأخرى كثيرة في القرآن، منها قوله تعالى : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ(38)} سورة الأنعام. وفي قوله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (28)} سورة لقمان، والمخاطب هنا هو الناس.
****
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} سورة نوح
جاء في تفسير القرطبي: ”أي جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده. قال ابن عباس: ”أطوارا“ يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة; أي طورا بعد طور إلى تمام الخلق, كما ذكر في سورة ”المؤمنون“. والطور في اللغة: المرة; أي من فعل هذا وقدر عليه فهو أحق أن تعظموه. وقيل: ”أطوارا“ صبيانا, ثم شبابا, ثم شيوخا وضعفاء.“
والأطوار من طور، يقول ابن فارس أنها أصل صحيح يدل على معنى واحد وهو الامتداد في شيء من مكان أو زمان، وجاء عن ابن منظور الطور التارة، تقول طورا بعد طور أي تارة بعد تارة، وجمع الطور أطوار، والناس أطوار أي أخياف على حالات شتى، والطور الحال والأطوار الحالات المختلفة والتارات والحدود، واحدها طور أي مرة ملك ومرة هلك ومرة بؤس ومرة نعم.
ولهذا فان الله تعالى جعل من صفات خلقنا أنه أطوارًا أي مراحل زمانية متتابعة، وهذه تنطبق على مراحل نمونا في الرحم من نطفة الى علقة الى طفلا الى رجلا، وتنطبق أيضًا على مراحل الخلق التطوري من الطين حتى وصلنا الى الإنسان ثم البشر.
****
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) } سورة آل عمران
في رأي لابن عباس أن المحكمات هي التي يؤمن بها ويعمل بها؛ أي هي آيات التشريع العملي من أحكام وحدود وفرائض، أما المتشابهات فهي التي يؤمن بها ولا يعمل بها.
وعليه فالمتشابهات تشمل كل ما يتعلق بالغيبيات وآيات الخلق الكوني وخلق الحياة والأمثال والقصص.
وهذه الآية الكريمة تعلمنا أن المتشابهات تحمل معلومات صحيحة قد تم عرضها بأسلوب وبكلمات وأسماء مغايرة لتناسب فهم الناس في مختلف العصور، وأن علينا إعمال الفكر والتدبر والجهد لنتمكن من الوصول الى المعنى الصحيح. وهذا الأسلوب المعجز ما هو إلا رحمة بالناس في العصور التي سبقت العلوم الحديثة.
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} سورة الرحمن
تدلنا هذه الآيات الى خلق أول خلية حية في الفتحات الحرارية في قاع البحار والمحيطات، وكيف أن إلتقاء الماء القلوي النابع من هذه الفتحات مع ماء البحر المالح ينتج عنه تدرج بروتيني تتولد عن تدفقه طاقة كيميائية أدت إلى تكون الخلية الأولى التي هي أصل الحياة على كوكب الأرض.
أنظر العنوان “مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ“ للإطلاع على الموضوع الذي نشر في القناة وفي هذا الموقع.
***
الواضح مما سبق أن دلالة النصوص التى عرضنا لها، لا تدل أو تشير إلى أن خلق النوع الإنساني كان خلقًا آنيًا فوريًا مباشرة من الطين. وإنما عبر تدرج مرحلي له بدء واكتمال. ويمكن تفسيرهذه النصوص – دون فرض معنى محدد عليها، مثل خلق آدم مباشرة من الطين – بكل يسر ووفق معانيها الظاهرة الواضحة، لنجد أنها تدل الى الخلق التطوري الذي توصلت إليه علومنا الحديثة. الإعجاز القرآني في موضوع خلق الإنسان يظهر جليًا في الآيات التي تدل بيسر ووضوح، الى أن خلق الإنسان كان تطوريًا عبر دهرًا من الزمن حتى ظهر آدم أول البشر بما لديه من القدرة على النطق والبيان.
وقلنا أن النص القرآني معجز لأنه خالف الفكر السائد في زمان التنزيل، وخالف الرسالات التي سبقته، ولوكان من عند غير الله تعالى لما خالف الفكر السائد ولا خالف أديان من سبقوه، هو معجزلأنه سبق علوم الإنسان في موضوعي خلق الحياة وخلق الكون. ولم يتسع المجال لبيان موضوع خلق الكون هنا في هذه الحلقات؛ إلا أن الدراسة المفصلة تجدونها في موقع المضاربة وفي حلقات “القرآن والعلم المعاصر” على هذه القناة، ولو قدرني الله تعالى، قد أفرد لها حلقات مثل هذه في المستقبل إن شاء الله.
يقول سبحانه وتعالى:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} صدق الله العظيم.
وقد بينت دلالة الآيات القرآنية الى ما توصل اليه العلم الحديث في هذا الموضوع، وبهذا تتوافق التصورات العامة للعلوم الحديثه ولا تتعارض مع أي من نصوص القرآن الكريم، شاملاً تصورات العلم فيما يتعلق بخلق الكون وخلق الحياة وتطورها حتى ظهر الإنسان ثم تطور حتى اكتمل ثم أصطفى الله تعالى آدم وجعله خليفة في الأرض.
القرآن الكريم هو الكتاب المقدس الوحيد الذي تدل آياته دلالة واضحة مباشرة على الفكرة العامة لما توصل إليه العلم الحديث وفق التصورات الإجمالية لنشأة وتطور الكون والحياة، بما فيها أصل الأنواع ومرحلة التضخم وتعدد الأبعاد. البحث العلمي المفصل والذي نظر في كل الآيات المتعلقة بخلق الكون وخلق الحياة تجدونه في هذا الموقع وفي قناة المضاربة.
الرابط الإلكتروني لفيديو هذه الحلقة على قناة المضاربة:
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 8 من 8
وبهذا نكون قد وصلنا الى نهاية هذه الحلقات،،، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،