الباب الخامس: المضاربة بالقدرات الممتدة

الباب الخامس

المضاربة بالقدرات الممتدة

 

الفصل الأول

قدرات العامل

مفهوم المضاربة المتعارف عليه هو أنها معاملة يدفع فيها رب المال مالاً إلى من ينميه بالعمل، وسمي الطرف الذي يستلم ويتصرف في هذا المال ”العامل“؛ لأنه يقوم بالعمل أو الأعمال التي يُتوقع أن ينتج عنها نماء المال؛ أي إن صفة هذا العمل أنه عمل بشري يتميز بالقدرة على تنمية المال. وهذا ما قصده رب المال من دفعه ماله مضاربة إلى العامل؛ فهو لم يقصد العمل ذاته فليس له غرض في هذا العمل، ولو كان يقصد منفعة العمل المباشرة لاستأجره عليه، وهو إن فعل لكان عليه وحده مسؤولية تقديم الفكر والإدارة، وهذا ليس من اختصاصه ولا في حدود قدراته؛ فالعامل هو صاحب الفكر والعمل، وهو القادر على إنماء المال، وليس رب المال.

والذي يهمنا هنا أن رب المال ليس له قصد في عمل العامل، بل وقد لا يعرف ما هو العمل المطلوب بذله لإنماء المال، ولا يقصد سوى نماء ماله، وعليه … فهو لا يود أن يقّيم ما يقدمه العامل إلى المضاربة سوى بمعيار استيفاء الغاية التي يقصدها … وهي إنماء ماله، فإن لم يحدث نماء … فهو لم يستوف الغاية التي عقد عليها ولا يكون ملزماً بعوض للمضارب؛ لأن عمله في هذه الحالة ليس له قيمة وفق هذا المعيار. والمضارب ليس له قصد في استيفاء عوض منفعة عمله عن طريق الأجر المحدد المعلوم على هذا العمل، ولم يكن له أن يقصد هذا لجهالة العمل. وإنما هو يرغب في التصرف في المال وفق ما يراه هو الأصلح، فتكون له الحرية الكاملة في التصرف لقاء جزء من النماء الذي قد يحققه، فهو يريد أن يكون عوضه بجزء من النماء يقابل جهده وخبرته. فإن كان ثمة ربح … فقد تولد عن الأصلين المال والعمل، لرب المال نصيب المال منه، وللعامل نصيب العمل.

وإذا لم يتحقق ربح … تكون قيمة العمل معدومة، ونماء المال معدوماً، ويعود المال إلى صاحبه، فإن كان فيه خسارة تحملها رب المال وحده لقاء الضمان، الذي كان سيحلل له كسبه من النماء لو كان قد تحقق.

ويجب التنويه هنا أن لفظ الربح في المضاربة يستعمل مجازاً للتعبير عن الفائض في المال بعد إعادة رأس المال إلى صاحبه، فهو ليس ربح التجارة الصافي كما نعرفه، فهو نماء المال ويشتمل على مجموع: عوض منفعة العمل مقيَّمة بمعيار هذا النماء، ونماء هذا العوض – وكلاهما للعامل – ونماء المال الصافي والعائد إلى المال وهذا لربه.

وما نعنيه بنماء المال هو في الحقيقة النماء الحاصل من المال والعمل فيُستحق لهما، فيكون نماء المال قد يقصد به الفائض بعد إعادة رأس المال، أو يقصد به نصيب رب المال من النماء وهو جزء من المقصود في المعنى الأول، وقد ورد لفظ نماء المال على المعنيين، ويُرد إلى أحد المعنيين وفق موضوعه ووفق المعنى المقصود في النص.

النفقـة

جاء في باب المضاربة أن الفقهاء أجمعوا على أن نفقة المضارب تكون من ماله مادام مقيماً، وأجازوا أن تكون من مال المضاربة أو ربحها إذا اتفقا على ذلك، وبفرض أنهما لم يتفقا على ذلك، وكانت النفقة من ماله … فإن المضارب لا يحق له اقتطاع جزء من مال المضاربة لنفسه، ولا يحق له بالتالي أن يجعل لنفسه أجراً أو معاشاً أو مصروفاً من مال المضاربة أو من ربحها، وإن كانت من مال المضاربة كره أن يعمل في مال آخر في نفس الوقت.

جاء في روضة الطالبين (جزء 5 ص 135): ”ولا أن ينفق منه على نفسه في الحضر قطعاً“.

وقاال الحنابلة في الأنصاف (جزء 2 ص 437): ”متى اشترط النفقة على رب المال فقد صار أجيراً له، فلا يضارب لغيره“.

وجاء في المغني (جزء 5 ص 53): ”ان دفع إليه مضاربة واشترط النفقة فكلمه رجل في أن يأخذ له بضاعة أو مضاربة ولا ضرر فيها. فقال أحمد: إذا اشترط النفقة صار أجيراً له فلا يأخذ من أحد بضاعة، فإنها تشغله عن المال الذي يضارب به. قيل: فإن كانت لا تشغله؟ فقال: ما يعجبني أن يكون إلا بإذن صاحب المضاربة، فإنه لابد من شغل. وهذا والله أعلم على سبيل الاستحباب وإن فعل فلا شيء عليه لأنه لا ضرر على رب المضاربة“.

وهذا يبين العلاقة بين النفقة والأجر فلا يستحب أن يجتمعا، والحقيقة أن النفقة سواء شرطت له أم لم تشترط … فإن قيمة منفعة عمله – مشتملة النفقة إن لم يشترط – مستحقة له بشرط الربح كما سيأتي فيما بعد.

وما جاء يعني – في المضاربة في العصر الحديث – أن صاحب العمل لا يأخذ لنفسه شيئاً ولا يحدد لنفسه قدراً يقتطعه من الربح قبل التوزيع، إلا لو اتفقا على ذلك ونحن في هذا الباب سنفترض أن رب المال لم يأذن.

وبفرض أن صاحب العمل شركة، وباعتبار الشركة شخصية معنوية ذات ذمة منفصلة تختص بها … فإن نفقتها، هي مصروفاتها التي تصرفها سواء قامت بأعمال المضاربة أم لم تقم، وهذه تشمل أجور مكاتبها ورواتب جهازها الإداري وغيرها من المصروفات الثابتة، التي على أساسها يقوم هيكلها وخبرتها وسمعتها، والتي من أجلها توجه أصحاب المال إليها. أي إن نفقة الشركة هي كل مصاريفها الإدارية الثابتة والتي لا تتغير سواء عقدت المضاربة أم لم تعقد.

والمتفق عليه في عصرنا هذا، والذي أخذ شكل العرف، هو أن تُحمل الشركة العامل جزءاً من مصاريف مكتبها الرئيسي على مشروع المضاربة بنسبة هذا المشروع إلى حجم أعمالها، وأن تدفع لنفسها من مال المضاربة أو من ربحها هذه التكاليف، وهذا من الامور التي يجب الاتفاق عليها، ويجوز لرب المال ألا يقبل تحمُلها من ماله أو من النماء، بل إن هذا يُمثل الأساس الذي ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ فالنفقة من مال العامل مادام مقيماً، إلا بشرط كما قال الحنابلة ولرب المال أن يقبل أو أن يمتنع، أي إن قبول رب المال هو ما يُشترط الاتفاق عليه.

ويجب ملاحظة أن النفقة ليست الأجور، فالنفقة هي ما يصرفه الرجل على نفسه وعلى من يعول في أمور معاشه الأساسية، والأجر في الأغلب أكثر من ذلك … فإن لم تجز النفقة، فالأولى ألا يجز الأجر.

جاء في بدائع الصنائع (جزء 6 ص 101): ”قال أبو يوسف إذا استأجر الرجل أجيراً كل شهر بعشرة دراهم ليشتري له ويبيع، ثم دفع المستأجر إلى الأجير دراهم مضاربة، فالمضاربة فاسدة والربح كله للدافع ولا شيء للأجير سوى الأجرة، وقال محمد المضاربة جائزة ولا شيء للأجير في الوقت الذي يكون مشغولاً بعمل المضاربة، وجه قول محمد أنه لما دفع المضاربة فقد اتفقا على ترك الإجارة ونقضها فما دام يعمل بالمضاربة فلا أجر له، ولأن الاجارة شركة لهذا لا تقبل التوقيت ولو شاركه بعدما استأجره جازت الشركة فكذا المضاربة، ولأبى يوسف لأنه لما استأجره فقد ملك عمله فإذا دفع إليه مضاربة فقد شرط للمضارب ربحاً بعمل قد ملكه رب المال وهذا لا يجوز، ولأن المضارب يعمل لنفسه فلا يجوز أن يستوجب الربح والأجر، ولا يجوز أن ينقض الاجارة بالمضاربة لأن الاجارة أقوى من المضاربة لأنها لازمة والمضاربة ليست بلازمة والشيء لا ينتقض بما هو أضعف منه، وما ذكر محمد أن المضاربة شركة فالجواب أن الشريك يستحق الربح بالمال والمضارب بالعمل ورب المال قد ملك العمل فلا يجوز أن يستحق المضارب الربح، ولأن الشريك يعمل لنفسه فكأنه امتنع من عمل الاجارة فيسقط عنه الاجرة بحصته والمضارب يعمل لرب المال فبقى عمله على الاجارة“.

ويقول السرخسي في المبسوط (جزء 22 ص 149): ”وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف على أن للمضارب بما عمل في المال أجرا عشرة دراهم كل شهر، فهذا شرط فاسد ولا ينبغي له أن يشترط مع الربح أجراً لأنه شريك في المال بحصته من الربح، وكل من كان شريكاً في مال فليس ينبغي له أن يشترط أجراً فيما عمل، لأن المضارب يستوجب حصة من الربح على رب المال بإعتبار عمله له، فلا يجوز أن يستوجب بإعتبار عمله أيضاً اجراً مسمى عليه، إذ يلزم عوضان لسلامة عمل واحد له. وإن اعتبرنا معنى الشركة في المضاربة كان رأس مال المضاربة عمله ورأس ماله، فلا يجوز أن يستوجب باعتبار عمله على رب المال أجراً، فإن عمل على هذا الشرط فربح فالربح على ما اشترطا ولا أجر للمضارب في ذلك، لأنه ما سلم عمله بحكم الاجارة على رب المال، والمضاربة شركة والشركة لا تبطل بالشرط الفاسد إذا كان لا يؤدي ذلك إلى قطع الشركة بينهما في الربح بعد حصوله“.

وعلى ما سبق … فالنفقة على العامل ومن ماله إلا بالشرط، ونصيبه في الربح يشتمل على عوضها وقد يكون أكثر منها أو أقل؛ لأنها كمنفعة عمله مخاطر بها، فطاب له الأكثر عملاً بمبدأ الغنم بالغرم.

<< previous page next page >>