القرآن ونظرية التطور
(الجزء الرابع من ثمانية أجزاء)
هذا المقال مقتبس من كتاب : الفهم المعاصر لدلالات الآيات القرآنية في خلق الإنسان وفي خلق الكون. ولا يُغنى عن المفصّل في الكتاب.
في قصة خلق آدم، تتضمن النصوص الأمر الألهي للملائكة بالسجود لآدم، في مرتين، الأولى في إخبار الله الملائكة أنه سيخلق بشرًا وأن عليهم أن يسجدوا له عند إتمام خلقه، والثاني أمرا مباشرًا للملائكة بالسجود لآدم بعد أن إكتمل خلقه.
ورد الأمر الأول –قبل الخلق- في سورة الحجر الآيتين 28 و 29 :{وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرًا من صلصال من حمإ مسنون (28) فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)}سورة الحجر. a
وجاء الأمر الثاني في سورة البقرة في قوله تعالى : { واذ قال ربك للملائكة إنى جاعلٌ فى الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون (30) وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أنى أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (32) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأِدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (33) } سورة البقرة.
مقدمة مختصرة:
قد نفهم من هذه الآيات، أن الله تعالى أخبر الملائكة أنه خالق بشرا من طين، b وأن عليهم أن يسجدوا له إذا سواه الله ونفخ فيه من روحه. كما سنرى فيما بعد، الملائكة لا تعرف الأشياء بأسمائها، ولهذا نستنتج أنهم يعرفون الأشياء بصورها وشكلها. ولا بد أنهم تصوروا البشر الذي أخبرهم الله تعالى عنه، وأنه شبه الأنسان إلا أنه يختلف عن الإنسان في التسوية وأن الله تعالى ينفخ فيه من روحه، فتوقعوه خلقا آخر وإن كان شبه الإنسان.
ثم بعد ذلك بزمن طال أو قصر، والأغلب طال، قال لهم الله تعالى أنه سيجعل في الأرض خليفة، وحيث أنه لم يحدد في الكلام من هو الخليفة أو جنسه، وحيث أن الملائكة عرفوا من هو الخليفة، نستنتج أن آدم كان حاضرًا وأنه هو الخليفة. وحيث أن آدم من نوع الإنسان، والناس كانوا يعيشون على الأرض ويفسدون ويسفكون الدماء، تعجب الملائكة وقالوا {أتجعل فيها من …..} فأجابهم الله تعالى إني أعلم ما لا تعلمون.
الملائكة لم يعرفوا أن آدم – الذي سيجعله الله خليفة – هو أول البشر لأنهم لم يشهدوا الخلق والتسوية والنفخ، ولو عرفوه لسجدوا.
وبعد أن علّم الله تعالى آدم الأسماء وتفوق آدم في معرفتها على الملائكة، أمرهم الله أن يسجدوا له فعرف الملائكة أن هذا هو البشر، لأن الله لم يأمرهم أن يسجدوا لأحد غيره.
نعود الى الآيات التى أوردناها، لنتبينها بشيء من التفصيل لنستدل منها على ما ذكرناه، وقد نضطر الى بعض التكرار والإعادة لأهمية الوصول الى دلالات هذه النصوص:
الواضح أن الملائكة سجدوا لآدم مرة واحدة فقط. ولهذا فالسجود الذي ورد في آية (30) من سورة الحجر c هو نفسه السجود الذي ورد في الآية 33 من سورة البقرة، وأن بين الإخبار بالخلق والأمر بالسجود في الآيات (28) و (29) من سورة البقرة والسجود في الآية (30) من سورة الحجر ومثله في سورة ص؛ زمنا طويلا هو على أقل تقدير ما أستغرقته أحداث الآيات (30-32) من سورة البقرة.
وهذا يضعنا أمام تساؤلان نجيب عليهما كما يلي:
الأول: لماذا لم يسجد الملائكة فور أن أتم الله خلق البشر؟ الإجابة أنهم لم يشهدوا خلق البشر. لأنهم لو شهدوه لسجدوا. وفي قوله تعالى { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا(51)} الكهف. وإن كان “ما أشهدتهم” تعود الى أبليس والكفار كما ذكر المفسرون، إلا أنها قد تشمل الملائكة أيضًا.
الخلق كان يوم خلق الله السماوات والأرض، ولفظ خلق يدل على تقدير ما منه وجود الشيء (قدر: يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته)، فقوله تعالى {إني خالق بشرا من طين} قد تعني الإيجاد من الطين مباشرة، وتعني أيضًا تقدير الخلق الكوني ليكون منه خلق خلية حية من الطين ليبلغ الخلق في منتهاه بشرا. ولهذا فالملائكة لم يشهدوا خلق البشر.
الثاني: لماذا لم يسجد الملائكة فور رؤيتهم آدم في أول المناظرة التي وردت في سورة البقرة؟
الإجابة أنهم لم يعرفوا أن هذا هو البشر الذي أمروا أن يسجدوا له. ولننظر بشيء من التفصيل:
لو عرفت الملائكة أن هذا الخليفة هو البشر الذي أمروا بالسجود له، فهل كانوا ليتأخرون عن السجود فور ظهوره أمامهم، وهل كان قولهم فيه ما جاء عنهم من كونه مفسدا في الأرض وسافكا للدماء. وأما كانوا – لو علموا أن هذا هو البشر قد اكتمل خلقه من الطين- ليسجدون له حين مثل أمامهم إمتثالاً للأمر الإلهي السابق في سورة الحجر وسورة ص، وهم يفعلون ما يؤمرون، لقوله تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ(49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(50) النحل.
من الظاهر من آيات سورة البقرة أن الملائكة لا تعرف الأشياء بأسماءها، وانما تعرفها بالصورة والشكل وربما بالرؤية وربما بالأفكار، كيف قال لهم الله تعالى فهذا من الغيبيات التي لا يمكن لعلومنا الخوض فيها، ونكتفى أن الله تعالى أخبرنا أنه أعلمهم بالقول –قولاً أو مجازًا– أنه تعالى سوف يخلق بشرا. فعرفوه صورة وشكلا، وكان يشبه الإنسان الذي يحيا على الأرض، (إما في زمان القول أو ظهر فيما بعد)، وحيث أنهم لم يشهدوا الشرط الثاني وهو {فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين (29)} لهذا لم يأت عليهم أوان السجود.
كانوا على يقين أن المخلوق الجديد ليس هو الإنسان الموجود على الأرض وإن كان يشبهه. توقعوا أن البشر سيكون مكرّما ومتفوقا لأن فيه نفخة من روح الله ولأن عليهم أن يسجدوا له. بينما الناس الذين يسكنون الأرض ينطبق عليهم قوله تعالى { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} سورة التين.
نستطيع أن نستنتج من تصرفهم هذا أن الملائكة لم يعرفوا آدم ولحكمة إلهية لم يخبرهم الله أنه البشر، فلما أنبأهم آدم بالأسماء وتبين لهم ما خصه الله به من العلم والبيان، أمرهم الله بالسجود له في قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأِدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} البقرة:34 والأمر هنا بالسجود لآدم، عندئذ فقط عرفوا أنه البشر الذي أُمروا بالسجود له في زمان سابق، حيث أنهم لم يؤمروا بالسجود لأحد غير الله إلا في ذاك الأمر السابق.
ولكن لماذا قال الله للملائكة بمشيئة الخلق والسجود أول مرة مع علمه أنهم لن يعرفوا البشر ليسجدوا له، أما كان يكفي أن يقول لهم بعد خلقه اسجدوا له، كما أمرهم بعد أن أنبأهم آدم بالأسماء.
خلق الله الحياة الدنيا، وهي المخلوقات التي نشأت من الماء والتراب، (المخلوقات الكربونية) وكانت أقل بدرجات كثيرة عن الملائكة وربما عن الجن أيضًا، وكان منهم النوع الإنساني، الذي كان مفسدًا في الأرض سافكا للدماء.
كانوا يعرفون بما أخبرهم الله به، أن من هذا النوع من الخلق من الطين، سيخلق الله بشرًا سيكون أفضل منهم، لأن عليهم أن يسجدوا له.
وأصطفى الله آدم من بين الناس وسواه أي أتم خلقه بمعنى طوره في الجسم فكبرت الجمجة لتوفر حجم أكبر لمخ يمكنه من التفكير والتحليل والإستنياط وتعدل تركيب الفك بما يسمح بالنطق وإصدار الأصوات والبيان والتواصل، ثم أكرمه بأن نفخ فيه من روح الله، وهذا قد يكون تعبير عن منحه الوعي والشعور بالذات conscious وقدرة المشيئة وحرية الإختيار. فحمل آدم الأمانة وهي مسؤولية الحفاظ على الأرض وإعمارها. فأصبح بذلك خلقًا آخر غير الإنسان هو البشر، ولو أنه من ذرية الإنسان. أنظر قوله تعالى: {كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ }.
ثم جاء به أمام الملائكة وقال لهم أنه سيجعله خليفة في الأرض.
لم تعرف الملائكة أن آدم هو البشر الذي أخبرهم الله عنه من قبل، وأنما عرفوه أنه من جنس الإنسان الذي يعيش في الأرض ويفسد فيها ويسفك الدماء. فتعجبوا أن يُفضل عليهم ويُجعل هذا المفسد خليفة يحمل مسؤولية حفظ مصالح الرعية من ناس وحيوانات وطيور وزواحف وأسماك ونباتات، وقومه يقتلون ويسلبون ويفسدون في الأرض. اعتبر الملائكة الخلافة تكريم لآدم يرفعه الى مصافهم وربما أعلى بينما هم أولى بالتكريم لأنهم يسبحون بحمد الله ويقدسونه. لهذا تعجبوا فقالوا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}.
وفي تعجبهم هذا عرفنا أن آدم ليس أول إنسان، وأن الناس كانوا قبله يعيشون ويتزاوجون ويتكاثرون، وأنه أول البشر، الذين منحهم الله القدرة على التفكير والنطق والتواصل بلغة الكلام.
وأجابهم الله تعالى: {قال إنى أعلم ما لا تعلمون (30)} فهذا الخليفة هو البشر الذي رفعته والذي له ستسجدون. وأن من ذريته أنبياء ورسل وعابدون أمم تحمل أمانة إعمار الأرض.
وأنه تعالى ميز آدم بالعقل والنطق والبيان، ومنحه حرية الإختيار والأرادة وحمله مسؤولية أمانة أعمار الأرض والحفاظ عليها.
*** يتبع في الجزء الخامس ***
- ومثلهما في سورة ص الآيتين 71 و 72 { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)} سورة ص (back)
- ومن صلصال من حمأ مسنون (back)
- و (73) من سورة ص (back)