القرآن ونظرية التطور
(الجزء الخامس من ثمانية أجزاء)
هذا المقال مقتبس من كتاب : الفهم المعاصر لدلالات الآيات القرآنية في خلق الإنسان وفي خلق الكون. ولا يُغنى عن المفصل في الكتاب.
مما سبق في الجزء الرابع؛ نجد أهمية هذه الآيات في فهم دلالة آيات خلق البشر، والعلاقة بين الإنسان والبشر وآدم:
{ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإِ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم * وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرًا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين } الحجر : 25-29 .
قال ابن فارس : بشر فى اللغة تدل على ظهور الشىء مع حسن وجمال وسمى البشر بشرًا لظهورهم، ومنه البشرى وذلك يكون بالخير . أما الانسان فهو ظهور الشيء، وكل من خالف طريقة التوحش، والأنسة ضد الوحشة، واستأنس ذهب توحشه.
وقد خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وخلق تعنى أن الله تعالى قدر ما منه وجود الإنسان، أي أن يصبح الصلصال وهو الطين المتغير في مبلغه وكنهه ونهايته إنسانًا، ثم بشر، وفي قوله تعالى فاذا سويته، أي إذا أبلغته أشده ومنتهاه.
وهنا في آيات سورة الحجر، نجد أن هناك فصلا واضحا بين خلق الإنسان وخلق البشر، لقد اهتم القرآن ببيان حقيقة ان الجان خلق قبل الإنسان، وهذا لأنه قدم موضوع خلق الإنسان عن موضوع خلق الجان في سياق ترتيب الإخبار. وقد أدى تقديم خلق الإنسان على خلق الجان في سياق السرد القرآني، الى الفصل بين آيتي خلق الإنسان وخلق البشر، وهما وأن خلقا من نفس المكونات، أختلفت أسمائهما، فهذا إما أن يكون فصلاً بين خلقين مختلفين وان كانا من نفس المكونات، أو تكرارًا، فان كان تكرارًا فلماذا يختلف الأسم.
ونحن نأخذ بالإختلاف النوعي الذي قد تدل عليه الآيات من إختلاف الأسماء، إذ نفترض أن البشر اختلف عن الإنسان، ربما في الخلق، وربما في التطور، وربما في أن الله علمه الأسماء. إذ ليس في الآية ما يمنع أن نفترض ان الإنسان خلق من خلال عملية تطورية استغرقت بلايين السنين. وقد نفترض أن يكون البشر هو الإنسان الذي تطور الى حد يتمكن معه من تلقي العلم، أي أنه مرحلة لاحقة من مراحل التطور، وقد أخذنا هذا المعنى من قوله سبحانه وتعالى : { الرحمن * علَّم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان} الرحمن : 1-4 يقول ابن كثير: ”يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه فقال تعالى ”الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان“ قال الحسن يعني النطق وقال الضحاك وقتادة وغيرهما يعني الخير والشر وقول الحسن ههنا أحسن وأقوى لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن وهو أداء تلاوته وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها“.
وقد وجد علماء التطور ان ظهور الإنسان الحديث – وهو الذي نحن من سلالته – تزامن مع تغير في جمجمة الإنسان الأول من جهة تكون عظام الفك والحلق بما أدى الى تيسير النطق وتسهيل خروج الحروف، مع وصول حجم المخ الى الحجم الحالي. أي أن البشر هو الإنسان الحديث. وآدم هو أول البشر. وقصة تعلم آدم الأسماء كلها وأسماء الإشياء كناية عن اللغة والتعبير، وآدم هو رمز البشر أي الإنسان المفكر، وان الله نفخ في هذا المخلوق من روحه
القصة التي يرويها القرآن عن ظهور الإنسان الحديث – الهوموسابيان- والذي أطلق الله عليه أسم النوع “بشر” وكان أسم أول بشر “آدم”، تخبرنا أن الإنسان تطورحتى استوى واكتمل فأصبح خلقا آخر هو البشر. وكان هذا بإكتمال نمو العقل والفك بما يمكّنه من التفكير والنطق، فملك بذلك القدرة على التعلم والإفصاح، فتعلم اللغة، ومنح الشعور بالذات وحرية الإختيار، ثم جُعل خليفة في الأرض فحمل أمانة مسؤولية الحفاظ عليها وإعمارها.
****
ننظر الآن في بعض الآيات القرآنية التي تعلقت بموضوع خلق آدم :
{وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين} الحجر : 27-28 . {قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون } 32-33 الحجر
{ وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين * قال ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } ص 71-76
ما سبق يدل أن الله خلق آدم – البشر من طين، وهذا أيضًا ما يعبَر به في القرآن عند ذكر خلق الناس عامة، مثل الآية 37 من سورة الكهف {قال له صاحبه أتكفر بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً } وبالطبع ليس المقصود هنا أن الله تعالى قد خلق هذا الشخص المخاطب من التراب ثم سواه رجلا، وإنما هي طريقة للتعبير بتبعية الرجل للجنس الإنساني الذي كان أول خلقه من تراب. وأيضًا {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ……..} الأنعام 2 . ولفظ خلق يدل على تقدير ما منه وجود الشيء (قدر : يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته)، فقوله تعالى {إني خالق بشرا من طين} قد تعني الإيجاد من الطين مباشرة، وتعني أيضًا تقدير الطين ليبلغ في منتهاه بشرا، وتعني أيضًا تقدير بدء نشأة الكون ليبلغ في منتهاه يشرا .
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن في آيات خلق آدم، {وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرًا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين} الحجر : 27-28 هل القول الأول أعقبه الخلق فورًا أو كان بينهما فترة زمنية؛ قد تكون دهرًا طويل الأمد، إذ وإذا حرفا توقيت، إذ للماضي وإذا للمستقبل، وقد توضع أحدهما موضع الأخرى، والحرف ”ف“ يدل على التعقيب والأرجح التعقيب الفوري، بينما ثم يدل على التعقيب والترتيب والتراخي الزمني كما جاء سابقًا، إذ –وهذا في زمان ماض – يقول الله للملائكة إني خالق بشر من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، التعقيب الفوري بالفاء في ”فإذا“ هو تعقيب كلامي، أي أن الجملتين قيلتا في تعاقب فوري وفي الزمان الماضي. بينما ”إذا“ تعبر عن توقيت مستقبلي، قد يكون قريبًا وقد يكون بعيدًا، والفاء في فقعوا له ساجدين هي تعقيب فوري أو قريب، أي ان السجود يكون فور –أو بعد فترة يسيرة من – تسوية هذا البشر والنفخ فيه من الروح، (ويجب ملاحظة أن ما نسميه فترة يسيرة هو أمر نسبي). من هنا نجد أن الخلق كان سابقًا للتسوية، وأن الجملة الخاصة بالتسوية والنفخ مستقبلية تحتمل المستقبل القريب وتحتمل المستقبل البعيد.
{ واذ قال ربك للملائكة إنى جاعلُُ فى الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون} البقرة :30
وهنا الحديث كله بإذ للدلالة على الماضي، والقول إني جاعل في الأرض خليفة (هو آدم)، والجعل لا تعني بالضرورة اني خالق في الأرض خليفة، بل تعني أن الله صيَّره خليفة، جعله خليفة بعد ان لم يكن كذلك، كقوله تعالى: {وجعلني نبيًا..}، وفي قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } تكون جعلنا بمعنى خلقنا، ولكن جاعل هنا ليست لشيء وإنما لمكانة ولمهمة ومسؤولية، وهؤلاء الجعل فيهم يكون مثل قولنا: جعل الناس أبو بكر أميرا عليهم أي صيروه أميرًا عليهم. وبهذا المعنى يكون استعمال إذ في حال الجعل وفي حال السجود أيضًا يبين أن الحادثتين وقعتا في الزمان الماضي. ولا تدل هذه الآيات أن آدم قد خلق من الطين في ذلك الوقت.
إن قول الملائكة {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} يوحي بعلمهم بأمر واقع أو سبق وقوعه، وقد تحير المفسرون في كيفية معرفة الملائكة أن هذا المخلوق الجديد -أو ذريته- سوف يفسد في الأرض في زمان مستقبلي، إذ لا يعلم الغيب المستقبلي إلا الله سبحانه، وقد نحا بعض المفسرون علم الملائكة بأنهم قد سألوا الله تعالى: ما صفة هذا المخلوق الجديد. فقال لهم أنه -أو نوعه- سيفسد في الأرض وسيسفك الدماء، فقالوا لله جل جلاله أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. لكن هذا التفسير على ضعفه لا يصح، حيث أن الله قد خلق البشر ليعمروا الأرض ومنهم الصالح ومنهم المفسد؛ ولم يكن الله تعالى ليقول عن البشر جميعًا مثل ذلك، وهو سبحانه وتعالى يعلم أنه سيكون منهم أنبياء ورسل وأتقياء وأمم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
بل أن قوله تعالى {إني أعلم ما لا تعلمون} يدل أنه لم يعلمهم بشيء من أمر هذا الخليفة، لأنهم لو كانوا سألوه وأجابهم، لكانت { إني أعلم ما لا تعلمون } تدل أن إجابته سبحانه وتعالى عما يصفون كانت غير كاملة، فهم أي الملائكة ظلوا على حيرتهم وتعجبهم حتى بعد سماع الجواب، أي أن الجواب لم يكن كاملا، وهذا مما يتنزه الله تعالى عنه، وبناء على ما سبق يمكن الجزم أنهم لم يسألوا، وبالتالي نعود الى مسئلة كيف عرف الملائكة أن هذا الخليفة -الذي ما زالت تصرفاته وأعماله في الغيب المستقبلي- سيفسد في الأرض ويسفك الدماء.
ولماذا تقول الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؛ وليس : أتجعل فيها من سيفسد أو من سوف يفسد فيها، يمكن تفسير ذلك بفرض أن الإنسان كان موجودًا ومفسدًا في الأرض، ولهذا لم يحتاج الملائكة للسؤال وإنما كان قولهم الفوري كما جاء عنهم، وهذا رد طبيعي بناء على علمهم بما هو واقع في ذاك الزمان، ولهذا كان الفعل يفسد مضارع وليس فعل مستقبلي.
وعليه فسياق الحديث الذي تم قد يكون كما يلي: واذ قال ربك للملائكة إنى جاعلُُ فى الأرض خليفةً، وكان آدم حاضرًا أمامهم، وقد اصطفاه الله، فعرف الملائكة من هيئته وصورته أنه يشبه الإنسان، وكان الإنسان موجودًا آنذاك على الأرض، كان مفسدًا وكان يسفك الدماء ويقتل من غير جنسه أكثر مما يحتاج لغذائه، ويقتل من جنسه مع سعة الأرض، ولم يكن يعبد الله ولا يسبح له، وبهذا يكون من أسوأ المخلوقات قاطبة، فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، وكان قولهم من باب السؤال عن الحكمة الإلهية. قال إنى أعلم ما لا تعلمون. حيث أن هذا هو البشر الذي جاء ذكره من قبل، قد منح القدرة على البيان، وأنه من سيحمل الأمانة.
والخليفة هنا لا تعني كما نحى اليه البعض، من أنها نظام الخلائف وهو ما يتبعه النوع البشري من خلافة الجيل لما قبله، أي نظام الخلف والتوالد، فكافة المخلوقات من الحيوانات والطيور والإسماك وحتى الأشجار والنباتات، تتبع هذا النظام، وليس فيه ما يجعل النوع الإنساني أفضل من غيره، ولا يستدعي هذا المعنى تعجب الملائكة بقولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، فالمعنى لا بد أن يحمل شيئًا من التفضيل والعلو والمسؤولية بل والولاية . ولا شك إن إعمار الأرض وظيفة منوطة بالبشر فقط دون غيرهم من المخلوقات. ولا يجب أن ننسى في هذا المقام أن المحافظة على الطبيعة والمخلوقات من حيوانات وغيرها من المسؤوليات المناطة وفقًا لمتطلبات الخلافة والأمانة التي عُهد بها إلى الإنسان الحديث.
والخَليِفة كما قال ابن الأثير: ”من يقوم مقام الذاهب ويسد مسدّه.“ وقد يكون معناه إضافة الى الولاية، أن آدم وذريته سوف يقومون مقام الإنسان ويسدون مسده.
لماذا يريد الملائكة أن يكونوا خلفاء في الأرض ؟ لماذا المقارنة بينهم وبين ذلك الخليفة ؟ ما العلاقة بين الملائكة والإنسان. الملائكة درجات، منهم من يصطفي الله ويميزهم عن غيرهم، {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(75)} الحج، وهذا يوضح أن هناك درجات عند الملائكة، والدرجات تستدعي التنافس بينهم لإرضاء الله تعالى، والتنافس يستدعي المقارنة، ومع علمهم المسبق بأمر السجود لكائن مخلوق من طين، لا عجب أن يقارنوا أنفسهم بهذه المخلوقات.
والتساؤل الأخير لدينا، هو لماذا أمتنع إبليس عن السجود لآدم، إذا كان أُخبر من قبل بأن عليه أن يسجد لبشر يخلقه الله من طين؛ ولم يعترض في حينه. الأرجح أن إبليس لم يكن حاضرًا عند الإخبار الأول وإنما كان حاضراً عندما أخبر الله الملائكة بجعل آدم خليفة على الأرض، وما تبعه من تفوق آدم على الملائكة بمعرفة الأسماء، وما تلى ذلك من الأمر بالسجود، ورجحنا هذا لأن إبليس بنى إعترضاه أن آدم خلق من طين، ولو علم ذلك قبلا لما صح إعتراضه آنذاك.
*** يتبع في الجزء السادس ***