القرآن ونظرية التطور
(الجزء السابع من ثمانية أجزاء)
هذا المقال مقتبس من كتاب : الفهم المعاصر لدلالات الآيات القرآنية في خلق الإنسان وفي خلق الكون. ولا يُغنى عن المفصّل في الكتاب.
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } آل عمران:59
يقول القرطبي:”” دَلِيل عَلَى صِحَّة الْقِيَاس . وَالتَّشْبِيه وَاقِع عَلَى أَنَّ عِيسَى خُلِقَ مِنْ غَيْر أَب كَآدَم , لَا عَلَى أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرَاب . وَالشَّيْء قَدْ يُشَبَّه بِالشَّيْءِ وَإِنْ كَانَ بَيْنهمَا فَرْق كَبِير بَعْد أَنْ يَجْتَمِعَا فِي وَصْف وَاحِد ; فَإِنَّ آدَم خُلِقَ مِنْ تُرَاب وَلَمْ يُخْلَق عِيسَى مِنْ تُرَاب فَكَانَ بَيْنهمَا فَرْق مِنْ هَذِهِ الْجِهَة , وَلَكِنْ شَبَه مَا بَيْنهمَا أَنَّهُمَا خَلْقُهُمَا مِنْ غَيْر أَب ; وَلِأَنَّ أَصْل خِلْقَتهمَا كَانَ مِنْ تُرَاب لِأَنَّ آدَم لَمْ يُخْلَق مِنْ نَفْس التُّرَاب , وَلَكِنَّهُ جَعَلَ التُّرَاب طِينًا ثُمَّ جَعَلَهُ صَلْصَالًا ثُمَّ خَلَقَهُ مِنْهُ , فَكَذَلِكَ عِيسَى حَوَّلَهُ مِنْ حَال إِلَى حَال , ثُمَّ جَعَلَهُ بَشَرًا مِنْ غَيْر أَب . وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة بِسَبَبِ وَفْد نَجْرَان حِينَ أَنْكَرُوا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْله : ( إِنَّ عِيسَى عَبْد اللَّه وَكَلِمَته ) فَقَالُوا : أَرِنَا عَبْدًا خُلِقَ مِنْ غَيْر أَب ; فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :” آدَم مَنْ كَانَ أَبُوهُ أَعَجِبْتُمْ مِنْ عِيسَى لَيْسَ لَهُ أَب؟ فَآدَم عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ لَهُ أَب وَلَا أُمّ “ . فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : ” وَلَا يَأْتُونَك بِمَثَلٍ “ أَيْ فِي عِيسَى ” إِلَّا جِئْنَاك بِالْحَقِّ “ فِي آدَم ” وَأَحْسَن تَفْسِيرًا “ [الْفُرْقَان : 33 ] . وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَام قَالُوا : قَدْ كُنَّا مُسْلِمِينَ قَبْلك . فَقَالَ : ( كَذَبْتُمْ يَمْنَعكُمْ مِنْ الْإِسْلَام ثَلَاث : قَوْلكُمْ اِتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا , وَأَكْلكُمْ الْخِنْزِير , وَسُجُودكُمْ لِلصَّلِيبِ ) . فَقَالُوا : مَنْ أَبُو عِيسَى ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: {ِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْد اللَّه كَمَثَلِ آدَم خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب }““ .
أتفق المفسرون الأوائل أن وجه الشبه بين عيسى وآدم عليهما السلام، أن كلاهما خلق من غير أب. وأتفقوا أن هذه الآية نزلت بسبب حديث وفد نجران عن بنوة السيد المسيح، لأنه خلق من غير أب. لتبين أن آدم خلق أيضًا من غير أب وفق تفسيرهم للآية. وقد يكون هذا هو القصد من الآية في تلك المرحلة، أي أن قد يكون هذا التفسير مرحليًا.
والتفسير الذي أوردناه عن القرطبي، أحتوى قصة وحديث وفد نجران مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ووفقًا للرواية التي عرضها القرطبي، فان النبي صلعم أجابهم بقوله ” آدَم مَنْ كَانَ أَبُوهُ أَعَجِبْتُمْ مِنْ عِيسَى لَيْسَ لَهُ أَب؟ فَآدَم عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ لَهُ أَب وَلَا أُمّ .“ وهذا يتعارض مع كل الروايات الأخرى عن نفس الحادثة، والتي وردت في تفاسير ابن كثير والطبري، وتختلف أيضًا عن الرواية الثانية عن القرطبي وفق المذكور أعلاه، حيث بينت كل الروايات الكثيرة الأخري، أن الرسول صلعم اما لم يجبهم وانتظر الوحي أو قال غير الذي جاء في رواية القرطبي الأولى. ونورد هنا هذه الروايات كما وردت في التفاسير المشهورة:
ذكر أبن كثير في معرض تفسيره الآية ورواية حادثة وفد نجران: ”قَالَا : فَمَنْ أَبُوهُ يَا مُحَمَّد ؟ فَصَمَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا فَلَمْ يُجِبْهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّه فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمْ وَاخْتِلَاف أَمْرهمْ صَدْر سُورَة آل عِمْرَان إِلَى بِضْع وَثَمَانِينَ آيَة مِنْهَا“ ثم ذكر ابن كثير رواية أخرى فيها :” ثُمَّ سَأَلَهُمْ وَسَأَلُوهُ فَلَمْ تَزَلْ بِهِ وَبِهِمْ الْمَسْأَلَة حَتَّى قَالُوا لَهُ : مَا تَقُول فِي عِيسَى فَإِنَّا نَرْجِع إِلَى قَوْمنَا وَنَحْنُ نَصَارَى يَسُرّنَا إِنْ كُنْت نَبِيًّا أَنْ نَسْمَع مَا تَقُول فِيهِ ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” مَا عِنْدِي فِيهِ شَيْء يَوْمِي هَذَا فَأَقِيمُوا حَتَّى أُخْبِركُمْ بِمَا يَقُول لِي رَبِّي فِي عِيسَى “ فَأَصْبَحَ الْغَد وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة ” إِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْد اللَّه كَمَثَلِ آدَم – إِلَى قَوْله – الْكَاذِبِينَ “ أنتهى
وجاء في تفسير الطبري نفس الرواية من عدة مصادر نذكر منها واحدة: ”حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ ثنا الْحُسَيْن , قَالَ ثني حَجَّاج , عَنْ اِبْن جَرِيج , عَنْ عِكْرِمَة , قَوْله : { إِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْد اللَّه كَمَثَلِ آدَم خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون } قَالَ : نَزَلَتْ فِي الْعَاقِب وَالسَّيِّد مِنْ أَهْل نَجْرَان , وَهُمَا نَصْرَانِيَّانِ . قَالَ اِبْن جُرَيْج : بَلَغَنَا أَنَّ نَصَارَى أَهْل نَجْرَان قَدِمَ وَفْدهمْ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فِيهِمْ السَّيِّد وَالْعَاقِب , وَهُمَا يَوْمئِذٍ سَيِّدَا أَهْل نَجْرَان , فَقَالُوا : يَا مُحَمَّد فِيمَا تَشْتُم صَاحِبنَا ؟ قَالَ : ” مَنْ صَاحِبكُمَا ؟ ” قَالَا : عِيسَى اِبْن مَرْيَم , تَزْعُم أَنَّهُ عَبْد . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” أَجَلْ إِنَّهُ عَبْد اللَّه وَكَلِمَته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وَرُوح مِنْهُ “ , فَغَضِبُوا وَقَالُوا : إِنْ كُنْت صَادِقًا , فَأَرِنَا عَبْدًا يُحْيِي الْمَوْتَى , وَيُبْرِئ الْأَكَمَه , وَيَخْلُق مِنْ الطِّين كَهَيْئَةِ الطَّيْر , فَيَنْفُخ فِيهِ , الْآيَة . .. لَكِنَّهُ اللَّه ! فَسَكَتَ حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيل , فَقَالَ : يَا مُحَمَّد { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّه هُوَ الْمَسِيح اِبْن مَرْيَم } . .. الْآيَة , 5 17 فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” يَا جِبْرِيل إِنَّهُمْ سَأَلُونِي أَنْ أُخْبِرهُمْ بِمَثَلِ عِيسَى “ . قَالَ جِبْرِيل : مَثَل عِيسَى كَمَثَلِ آدَم خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون . فَلَمَّا أَصْبَحُوا عَادُوا , فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْآيَات.“ أنتهى
ومع تعدد الروايات، نجد أن الرسول صلعم في الأغلب لم يقل ما ورد في رواية القرطبي الأولى، وانما انتظر الوحي فنزلت الآية، وعليه يمكن استنتاج أن تحديد وجه التشابه بين عيسي وآدم عليهما السلام أنهما خلقا من غير أب، هو تفسير الأوائل واجتهاد بشري، ويصح أن يكون هذا ما تعنيه الآية ويصح غيره، وفق ما ستدلنا عليه دراسة الآية الكريمة.
تشير الآية الكريمة أن {مثل عيسى عند الله كمثل آدم}، وكان يكفي هذا القول ليعلم الناس أن عيسى عبد الله مثل آدم عبد الله ومن خلقه، لقوله سبحانه وتعالى”عند الله“ حيث أن ”عند“ هنا بمعنى بحكم الله تعالى، وما يحكم به الله فلا خيار فيه ولا اجتهاد، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة ُسُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} القصص، يقول ابن كثير: ” يُخْبِر تَعَالَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِد بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَار وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُنَازِع وَلَا مُعَقِّب قَالَ تَعَالَى : { وَرَبّك يَخْلُق مَا يَشَاء وَيَخْتَار } أَيْ مَا يَشَاء فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَالْأُمُور كُلّهَا خَيْرهَا وَشَرّهَا بِيَدِهِ وَمَرْجِعهَا إِلَيْهِ. وَقَوْله: {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَة} نَفْي عَلَى أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّه وَرَسُوله أَمْرًا أَنْ يَكُون لَهُمْ الْخِيَرَة مِنْ أَمْرهمْ}“.
إلا أن الله سبحانه وتعالى تفضل على الناس وبيَّن وجهين للشبه وهما أن كلاهما خلق من تراب، ثم تلا الخلق من تراب قوله سبجانه وتعالى كن فيكون. الذي نلاحظه أيضًا في الآية المذكورة أنه لم يأتِ ذكر أن وجه الشبه بينهما أن كلاهما خلق من غير أب، وانما ذكر وجهين لهذا التشبيه، الخلق من التراب، ثم الأمر الألهي ”كن فيكون“. كلاهما خلقا من التراب، وكلاهما تكون وفق ارادة الله التي تعلو على القوانين التي وضعها في العالم، أي كلاهما خلق ثم جعل وفق معجزة أرادها الله سبحانه وتعالى، قد تكون المعجزة أنهما خلقا من غير أب، أو شيء آخر.
وجه الشبه الأول، الخلق من التراب، وأصل الخلق التقدير، فهو باعتبار تقدير ما منه وجود المخلوق، وأصل خلق الإنسان والبشر من التراب، وآدم وعيسى كلاهما من جنس البشر، وخلقا من التراب.
التعبير القرآني خُلق من التراب، لا يعني بالضرورة أن المخلوق خلق من التراب مباشرة، وانما أصل خلقه من التراب. في قوله تعالى {والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجًا .. } فاطر 11، وقوله تعالى: {قال له صاحبه أتكفر بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً} الكهف 37، وفي هذا التعبير القرآني a، المعنى المتفق عليه، وهو أتكفر بالذي بدأ خلقك من تراب، ولا تعني الآية في سورة فاطر ان الناس خلقوا من التراب مباشرة، كما لا تعني الآية في سورة الكهف أن الرجل المخاطب خلق مباشرة من التراب.
ووجه الشبه هذا، لا يجمعهما وحدهما فقط، وانما يجتمع فيه كل الناس؛ بل وكل المخلوقات في الأرض، وقد ورد هذا الشبه في الآية ليبين أن عيسي إنسان وبشر، وأنه من هذا النوع والجنس، وفي هذا الرد على من يدعي بنوة المسيح أو ألوهيته معاذ الله وتعالى عما يصفون، فهو مخلوق من التراب مثله مثل كل الناس، ومثل آدم أول البشر.
والذي قد يدلنا على هذا المعنى أن قوله تعالى كن فيكون، كان ليكون كافيًا لخلق عيسى وخلق آدم، وأنما أضاف الخلق من التراب قبل الأمر الإلهي لتأكيد بشرية عيسى. في قوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (82) يس، وقوله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (40) النحل، نجد أن الله فعال لما يريد، دون الحاجة للخلق من التراب أو الإيجاد التطوري.وقوله تعالى {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (35) مريم، لم يأتِ ذكر الخلق من التراب.
أما وجه الشبه الثاني بينهما، فهو أنه وبعد خلقه أو تقدير ما منه وجوده، قال له كن فكان ما أراد الله تعالى، أي أنه بالرغم أن بدء خلقهما كان مثل كل الناس، أي أنهما من جنس البشر، إلا أن الله أمر شيئًا أراده.
وقد يكون مجرد القول الألهي ”كن“ يكفي كوجه تشابه بينهما، أما مضمون هذا القول فقد يختلف، وجه الشبه بينهما أن الله منح كلا منهما شيئًا لم يسبق أن منحه لغيرهما من الناس. قلنا أن مجرد القول الإلهي كن فيكون، يكفي كوجه تشابه بينهما، لأنه لم يأتِ مثله في القرآن لغيرهما من البشر، إذ لم يذكر في خلق يحي b وخلق إسحاق c ، وكلاهما خلق بفضل من الله ومشيئته، والتي تجاوزت بعض القوانين الطبيعية التي وضعها سبحانه وتعالى.
ولو نظرنا في آيات القرآن الأخرى التي ذكرت إعجاز خلقهما، نجد أنهما تشابها أيضًا في ورود مصطلحي ” ونفخت فيه من روحي“ في خلق آدم، و ”فنفخنا فيها من روحنا d “ في خلق عيسى. هذا وجه تشابه يتعلق بمراحل الخلق، لم نجده عند أحد غيرهما وفق ما ورد في النصوص القرآنية.
وعيسى عليه السلام جعله الله تعالى آية للعالمين، {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}، إذ ولد من غير أب، ويكلم الناس في المهد وكهلاً، {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} آل عمران.
وآدم أبو البشر اصطفاه الله وجعله خليفة في الأرض، وعلمه البيان، وتفوق على الملائكة بمعرفة الأسماء، وسجد له الملائكة، وحُمَّل الأمانة وعُهد إليه، ومُنح الأرادة وحرية الإختيار، وأنيط به وبذريته مسؤولية إعمار الأرض.
إن القدرة على الكلام البين، هي ما ميز نوعنا على كل الأنواع الأخرى التي خلقها الله تعالى في الأرض، هي المعجزة الدائمة الباقية حتى تأتي الساعة. القدرة على الكلام البين تحمل معها بالضرورة العقل القادر على التفكير، والقادر على الإختيار. وهذه نعمة أنعم الله بها على آدم ومن بعده بنيه، وقد تكون قد حدثت بأمر إلهي كن فكان في نفس اللحظة، أو بارادة وأمر الهي، نتج عنه تطور المخلوق الذي بدء خلقه من التراب، حتى استوى وبلغ مبلغه ليصبح انسانا عاقلا وناطقا.
كلاهما خلق من تراب، وكلاهما منح قدرات لم تكن لتكون لديه لولا فضل الله ونعمته. ان قدرات عيسى وقتية وتخصه هو ومن شهدها من الناس ومن صدق بها، بينما القدرات التي تلقاها آدم دائمة باقية، وانتقلت الى ذريته، وعمت بالخير على الجنس البشري وتظل فائدتها حتى تقوم الساعة. قد يقول قائل أن كل الناس يتمتعون بهذه القدرات وعليه فليست معجزة، إلا أن آدم كان أول من نطق وتعلم البيان، وكان هذا من اكتمال صورة وتركيب الفك والحلق بالصورة التي تمكنه من النطق المبين، ثم كان أول من تعلم الأسماء. قد يكون هذا قد حدث من جراء تطور النوع البطيء أو بطفرة، ويبين لنا القرآن أن هذا التكوين تم بمشيئة الله وأرادته وأمره. وعليه فان أثر معجزة تكوين آدم عندنا، أي لنا نحن البشر، هي في وجودنا كبشر عاقل قادر على إعمار الأرض وقادر على تلقي الرسالة.
المهم في الآية أن الخلق حدث قبل القول له كن، أي أن القول أدى الى حدوث شيء غير الخلق، والذي كان قد تم إما فعلاً أو تقديرًا، وفي الآية {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (35) مريم، والآية {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (47) آل عمران. تدل الآيتان على قدرة الله أن يخلق عيسى بالقول والمشيئة، بينما الآية التي نحن بصددها فصَّلت هذا الخلق، أن الخلق حدث أولاً من التراب، ثم تلى الخلق من التراب الأمر الإلهي. وقضى أمرًا أي قرره وقدره وأحكمه وفرغ منه، وعليه فان خلق عيسى من غير أب حدث قبل الأمر الإلهي كن، والأرجح أن التعبير القرآني (فنفخنا فيها من روحنا) هو ما أدى الى الخلق من غير أب.
أما بالنسبة الى آدم، وفي ضوء الآيات الأخرى التي درسناها، نجد أن لدينا إحتمالين، الأول أن آدم خلق مباشرة من الطين، من غير أب ولا أم، مماثلاً ومساويًا للنوع الإنساني الذي تطور من الخلية الأولى، وخلق أيضًا بنفس التعبير القرآني في قوله (فاذا سويته ونفخت فيه من روحي). ثم منح قدرات أعلى من تلك التي كانت عند الإنسان الذي تطور، نتجت عن تعديل خلق الفك والحلق. {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذى خلقك فسواك فعدلك * فى أى صورة ما شاء ركّبك} الانفطار:6-8. والإحتمال الثاني أن الله تعالى قد اصطفاه من النوع الإنساني عندما بلغ هذا الجنس مرحلة معينة من التطور، أي أن يكون الجنس الإنساني قد تطور وفقًا لنظم التطور الطبيعي، حتى وصل الى درجة من النماء العقلي وتكوين الجمجة والفكين والحنجرة، بما يمكنه من التفكير والنطق، فاصطفاه الله وعلمه البيان وجعله خليفة في الأرض وكرمه وفضله. وفي الحالتين، كان آدم أول النوع الإنساني الجديد، والذي تفوق على الأنواع الأخرى، فاندثرت وبقى هذا النوع الذي نحن جميعًا من ذريته. والأرجح هو الإحتمال الثاني بناء على الآيات الأخرى التي ننظر فيها.
عيسى خلق من أم دون الحاجة الى أب، بينما آدم خلق وفق الرواية الشائعة من غير أب ومن غير أم، وهذا ليس تشابهُا لأن عيسى خلق من وفي رحم امرأة، وولد طفلاً ونشأ حتى كبر وبلغ أشده، بينما آدم وفق الرواية الشائعة كان طينًا وتحول الطين الى رجل مباشرة، ثم خلقت منه زوجته. وقد نجد أن أقرب تشبيه لعيسى هي زوجة آدم، التي خلقت من رجل دون الحاجة الى أمرأة. أيضًا نجد أن خلق انسان من بويضة امرأة ممكنًا وفق قواعد الاستنساخ في عصرنا الحديث، إذ يمكن تخصيب البويضة بخلية من الأم نفسها، دون الحاجة الى رجل. أما خلق رجلاً سويًا من الطين مباشرة فهذا خارج حدود حتى التخيلات العلمية، أي أنه معجزة من وجهة نظر العلم، يجعل وجود الإنسان غير ممكنا عقله. وحيث أن الآية الكريمة لم يرد فيها أن كلاهما خلق من غير أب، فليس لنا أن نقَّول ألفاظ الآية بما لم تقله. لو أخذنا بأسباب النزول فسوف يتضح لنا لماذا أتجه المفسرون الأوائل لهذا التفسير، إلا أن الآيات القرآنية يجب أن تفسر أيضًا بما تدل عليه لأنها موجهة الى كل الناس في كل الأزمان، وتجيب على ادعاء اتباع المسيح كلها، سواء كانت الخلق من غير أب، أو قدراته التي أودعها الله تعالى فيه، كإحياء الموتى، وشفاء المرضى، والخلق من الطين كهيئة الطير، وغيرهم. لأننا لو حصرنا الآية بمعنى أنه خلق من غير أب، فسيقولون من من الناس يقدر على ما يقدر عليه عيسى عليه السلام، فجاءت الآية بالأمر الإلهي كن، لتبين أن الله منحه هذه القدرات بمشيئته وإذنه، وأن هذه القدرات عند الله يسيرة وبسيطة، كما جعل آدم ناطقًا ومفكرًا ومكرمًا وخليفة. أما لنا نحن البشر، فلولا معجزة آدم لما كنا لنقدر أن نعي الرسالات، بما فيها رسالة ومعجزات عيسى.
خلق عيسى كان معجزة في عصره وسيظل كذلك حتى تقوم الساعة، واكتمال خلق آدم كان معجزة في زمانه وسيظل كذلك حتى تقوم الساعة، وخلقهما لم يكن المعجزة الوحيدة التى مُنحت لهما، وانما الإعجاز يتبين في القدرات التي منحا إياها، جعل عيسى آية للناس فكان يحي الموتي ويخلق من الطين طيرًا بإذن الله، وجعل آدم خليفة في الأرض وتعلم البيان وسجدت له الملائكة. وكانا وحدهما اللذان جاء فيهما ذكر النفخ من روح الله، ووحدهما من البشر اللذان جاء فيهما ذكر الأمر الإلهي كن.
خلق عيسى بمعجزة وكان الناس قد خلقوا من قبله، وخلق آدم بمعجزة تمام خلق الإنسان من التراب ثم اصطفيَّ من الناس الذين كانوا في زمانه ومنح القدرة على التفكير والبيان.
*** يتبع في الجزء الثامن (الأخير) ***
- ونلاحظ أيضًا التعبير القرآني في قوله: خلقكم من تراب، ويتفق الجميع أن هذا التعبير لا يقصد به أننا خلقنا مباشرة من التراب وانما كان بدء خلقنا من التراب وانه بيننا وبين هذا الخلق أجيالا كثيرة – ولا يوجد ما يمنع أن يكون أيضًا مراحل ومخلوقات كثيرة – ودهورًا زمنية طويلة – ولا يوجد ما يمنع أن تكون بضعة آلاف من السنين، أو بليون سنة أو عدة بلايين من السنوات. (back)
- {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيَّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} مريم 7-8 (back)
- {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عجيبٌ} هود 72 (back)
- الآية {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء، والآية {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} التحريم. (back)