ملاحظة: لتكبير ورؤية أي من الصور بوضوح:
Place mouse on photo, click right and select open image in new tab
منذ ثلاثة سنوات خرجت علينا وسائل الأعلام الأجنبية والعربية بخبر أن جامعة برمنجهام أختبرت مخطوطة قرآنية لديها وأن المختبر في أكسفورد أجرى عليها فحص الكربون المشع وخرج بنتيجة أن هذه المخطوطة تعود الى سنوات بين 568 و 645 ميلادي بنسبة دقة 95.4% . وهذه الفترة الزمنية تبدأ قبل سنتين من مولد الرسول صلى الله عليه وسلم وتمتد حتى ثلاثة عشر سنة بعد وفاته. أي إحتمال أنها تعود الى أي سنة خلال هذه المدة. وصرح البروفيسورديفيد توماس الأستاذ في الجامعة المذكورة أنه بناء على نتيجة الكربون المشع، فمن المحتمل أن يكون كاتب هذه الصفحات عاش في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم تمضى أيام أو شهور حتى قفز المشككون في الإسلام على الخبر. وقالوا أن هذا يدل أن القرآن جُمع من مخطوطات قديمة تسبقه، إذ أخذوا بالتقدير الزمني السابق للبعثة النبوية، بينما غيرهم من المشككين ذهبوا في الإتجاه المعاكس، ورفضوا التاريخ الذي حدده الفحص الكربوني، وأصروا أن الكتابة على هذا الرق كانت في تواريخ متأخرة عنه، لأنهم ما زالوا يحاولون تمرير نظريتهم أن القرآن تتطور ولم يكتمل إلا بعد القرن الهجري الثالث خلال العصر العباسي. وهذه المخطوطة –وهناك الكثير مثلها- تنسف كل ما حاولوا تمريره خلال العقود الأربعة الماضية.
بينما المتخصصون في دراسة المخطوطات، وهم أكاديميون مسلمون وغربيون، ذهب بعضهم –بناء على الخط والفواصل بين الآيات وتنقيط الحروف وعدد الأسطر وغيرهم- أن هذه المخطوطة تعود الى النصف الثاني من القرن الأول بينما أرجعها البعض الى أوائل القرن الثاني الهجري، وذهب واحد منهم فقط الى أنها متأخرة عن ذلك.
وقبل أن ننظر في هذه المخطوطة، سنسرد في إيجاز مسيرة تطور كتابة المصاحف في القرنين الهجريين الأول والثاني، حتى يمكن للمشاهد تتبع موضوع هذه المخطوطة، وغيرها من المخطوطات التي تعود الى القرنين الأول والثاني، وهم كثر الى حد أن الآلاف منهم لم يُدرس بعد.
بصورة عامة، نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُملي النصوص على كتَّاب الوحي والذين بلغ عددهم في بعض الأقوال ثلاثة وأربعين وكان بعضهم منقطعا لهذا العمل، ثم جُمع القرآن في عهد الخليفة الراشدي الأول واستغرق جمعه في مصحف سنة كاملة. ثم في عهد الخليفة الثالث عثمان ابن عفان، الذي شكل لجنة لجمعه في أواخر سنة 24 هجري، ولم تصلنا المدة التي استغرقها جمع القرآن وكتابة المصحف الإمام ونسخ المصاحف الأربعة أو الستة عنه، وهؤلاء الذين أرسلهم الخليفة الى مختلف الأمصار.
ولو فرضنا أن اللجنة أستغرقت في الجمع سنة، وربما أقل لأنه جمع من قبل كما ذكرنا، واستغرقت كتابة المصاحف ثلاثة أو أربعة سنوات، وهذا ربما نتيجة ندرة الجلود والرقاق وبطء النسخ، نتوقع أن الخليفة أرسل المصاحف حوالي سنة 28 هجرية. ونتوقع أنه بعد ذلك، بدأ الناس بنسخ مصاحف أخرى عن هذه المصاحف التي أرسلها الخليفة، ليوزعوها على المدن والقرى المجاورة وعلى المساجد للقراءة والتعليم.
لقد بدأ تدوين القرآن بالخط الحجازي المائل (مثل الذي في مخطوطة برمنجهام)، وكانت الآيات بدون فواصل، الكلمات دون تنقيط ودون تشكيل ودون أي علامات أو زخرفة تفصل بين السور، واستخدم الحبر بلون واحد، وهذا ما كان عليه المصحف العثماني الأول. وكان هذا طبيعي إذ أن الأساس في تلاوة القرآن كان الحفظ، وحفظة القرآن لم يكونوا يحتاجون لنقاط الإعجام والتشكيل، فكانت الكتابة أقرب الى رموزا تعينهم على التلاوة والأغلب أنهم لم يكونوا ينظرون اليها إلا فيما ندر. وقد يسر الله تعالى الذكر فسَّهل حِفظه، وهذا ما نجده حتى يومنا هذا إذ نجد كثير ممن يحفظون القرآن كاملاً حتى من غير العرب. لهذا كان وظيفة النص المكتوب هي التعليم وحفظ القرآن للأجيال اللاحقة.
إلا أنه مع انتشار الإسلام ودخول غير العرب في الدين الجديد كثر اللحن وهو الخطأ في القراءة، فأصبح مطلوبا تشكيل الأحرف ليُعرف المرفوع من المنصوب من المكسور، والفاعل من المفعول به. وكان أول من شكل الكلمات أبو الأسود الدؤولي المتوفي سنة 69 هـ /688 م إذ وضع نقاط على الحروف بلون مغاير للون حبر الكلمات، لإضافة الضمة والكسرة والفتحة والتنوين. الفتحة نقطة فوق الحرف والكسرة نقطة تحته وهكذا. ولأنه وضعها بطلب من زياد ابن أبيه عندما كان والى البصرة (وزياد تولاها في 44 هـ الى أن توفى في 53 هـ)، فيمكن حصر تاريخ وضع نقط التشكيل بين سنة 45 هـ الى 53 هـ .
ونعرف أن نصر بن عاصم الليثي (المتوفى 89 هـ ) ويحي بن يعمر (المتوفي 129 هـ) (وهما من تلاميذ أبو الأسود الدؤولي) هما اللذان وضعا نقاط الإعجام أي النقط على الحروف المتشابه رسمها والمختلف لفظها، كالباء والياء والثاء، والسين والشين، وهكذا في بقيتهم. وكان هذا بناء على أمر الخليفة الأموي عبدُ الملك بن مروان (حكم 65 – 86 هـ) إذ أمر الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق (75-95هـ) أن يضع علاجًا لمشكلة تفشي العجمة، وكثرة التصحيف، فاختارهما الحجاج لهذه المهمة؛ ولهذا يمكن حصر تاريخ وضع النقاط على الحروف بين 75 هـ و 86 هـ
ولتلخيص ما سبق، وضعت نقاط التشكيل في نهاية الربع الثاني من القرن الأول. ووضعت النقط على الحروف في بداية الربع الأخير من القرن الهجري الأول.
ثم تبعها بعد ذلك وضع خطوطا وعلامات ربما على شكل زخرفة لتفصل بين السور.
وعندما صعبت الكتابة لأن الكتاب كانوا يرسمون الكلمات ونقاط الإعجام بالحبر الأسود ثم يغيرون الحبر ليضعوا نقاط التشكيل وهي حركات الإعراب بلون حبر آخر كان في الأغلب اللون الأحمر، ولا بد أنهم في نفس هذه الفترة بدءوا بوضع التنقيط للفصل بين الآيات، فكثرت النقط بين تشكيل وإعجام ونقط رؤوس الآيات. أصبح من المطلوب تغيير نقاط الحركات للتسهيل على الكاتب فيكتب الجميع بحبر وقلم واحد. وليسهل على القارئ التمييز بين نقاط الأحرف ونقاط التشكيل. فتولى الخليل بن أحمد الفراهيدي (ولد في 100 – توفى 173 هـ = 718 – 789 م) هذه المهمة في القرن الهجري الثاني إذ قام بتغيير رسم الحركات في الكتابة فجعل الفتحة خطا صغيرا مائل فوق الحرف، والكسرة مثله تحت الحرف، والضمة واواً صغيرة فوقهُ. أما إذا كان الحرف منوناً كرر الحركة، ووضع الشدةِ والسكون والهمزة. وكان هذا في الربع الثاني من القرن الثاني الهجري. وبهذا تكون قواعد الكتابة والتشكيل قد اكتملت الى ما هي عليه اليوم. أي أن الكتابة وصلت الى منتهاها خلال 140 سنة من الهجرة.
ما سردناه هو المتفق عليه بصورة عامة، ولكنه ليس قاطعًا، لأنه تبين أن هناك بعض المخطوطات والنقوش التي تعود الى عصور سابقة بها نقاط إعجام على بعض الحروف وليس كلها، منها بردية تعود الى سنة 22 هجري، ومنها نقوش وكتابات نذكر منها الكتابة في مسجد الصخرة بالقدس والذي أنتهى بناءه في سنة 72 هجرى، حيث احتوى النقش التأسيسي الأموي المكتوب بالفسيفساء على الكثير من الحروف التي عليها نقاط الإعجام، كما نرى في الصورة، وكل هذا يبين أنه كان هناك تنقيط على بعض الحروف وليس كلها، قبل الربع الأخير من القرن الأول، وسنة 72 هجري تسبق التاريخ الذي وضع فيه نصر الليثي ويحي معمر النقط على الحروف.
وما ذكرناه، لا يعني أن نقاط التشكيل أو نقاط الإعجام أي تمييز الحروف المتشابهة، شاع وانتشر بسرعة في كل أرجاء الدولة، بالرغم من أنه في الحالتين كانا أول مرة بطلب الوالي والثانية بأمر الخليفة الأموي، بما نتوقع معه أن نقاط الإعجام ستشيع في كل البلاد لأن هذه هي رغبة الخليفة، إلا أنه بالإضافة الى بُعد المسافات في تلك الأزمنة، كره كثير من الصحابة والتابعين إدخال أي شيء على رسم مصحف الإمام، أي مصحف عثمان رضي الله عنه، خشية منهم على سلامة النص. إلا أن هذه الكراهة زالت تدريجيًا بعد أن تبين لهم فائدتها خاصة بعد إنتشار الإسلام في أقوام لا يجيدون اللغة العربية.
وهناك رأي أن نقاط الإعجام التي تميز الحروف، كانت معروفة إلا أنها لم توضع أساسًا في المصحف الإمام حتى تسمح بإختلاف القراءات (وفق القراءات السبعة). ونعلم أن الخليفة عثمان أرسل مع كل مصحفًا قارئ يقرأه على الناس ويعلمهم، وهذا يعود بنا الى أن الحفظ كان هو الأساس، إذ لا يحتاج هذا القارئ لعلامات التشكيل ولا لنقط الحروف للتمييز بينها.
ويجدر الإشارة هنا الى نقطة هامة للغاية، أن التطور الذي حدث والذي أوجزناه فيما سبق، كان تطورًا في رسم الخطوط وتشكيل وتنقيط الحروف، وفي طريقة تهجئة الكلمات وكتابتها كما بينا سابقًا، أما اللفظ والتلاوة أي القراءة فلم تتغير منذ أنزل الله تعالى القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا، أي أن قارئ المصحف اليوم يتلوه تمامًا مثل القراء الحفظة الذين أرسلهم الخليفة عثمان مع المصاحف الأولى الى مختلف الأمصار ومثل قراءة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. الذي تغير وتقدم وتتطور هو في رسم وتنظيم المصحف. المصحف الإمام كان خاليًا من التنقيط والتشكيل وعلامات رؤوس الآيات والفواصل بين السور، وغلب عليه حذف أو عدم كتابة حرف الألف والهمزة، وكان فيه سطرًا متروكا بين السورة والتي خلفها. وتطور تدريجيا حتى وصل الى مصحف اليوم الذي نجده مليء بنقاط الإعجام والتشكيل والهمزات وفواصل الآيات وأرقامها، وزخرفة أول السور وأسماءها وأرقامها، وعلامات السجود وأجزاء الحزب إضافة الى علامات وزخرفات أخرى كثيرة تعين القارئ على التلاوة و الحفظ.
ولهذا فكل من يخرج علينا يوحى أن المصحف تتطور، بقصد أن النص تتطور، فهذا كذب وإفتراء، لأن الذي تتطور هو رسم الكتابة فقط. وهذا غير ما حدث لمعظم لغات العالم، ويكفى أن نقرأ لشكسبير لنعرف كم تطورت وتغيرت اللغة الإنجليزية خلال أربعمائة سنة فقط، بينما نحن نقرأ مصحفنا وكتب سطرت قبل أكثر من ألف سنة، بلغة وألفاظ مماثلة للغتنا اليوم. القرآن الذي بين أيدينا هو نفسه الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تمسسه يد بشر بتغيير أو تحريف، وكان الأوائل يخشون أن ينقطو ويشكلوا ويضعوا علامات فيه خشية أن يأت من بعدهم فيظنوا هذا من القرآن.
وهذا يدل على حرصهم الشديد إلا ينقصوا أو يزيدوا فيه، فلا تصدقوا من يتكلم بطريقة يوحي بها لمن يستمع اليه أن النص تتطور وأن فيه ألفاظ من لغات أخرى بدلها المسلمون بإضافة حرف أو أنقاص آخر، وما يشير إليه لا يتعدى خطأ أملائيا بسيطا في حرف منسي يوجد في مخطوطات معدودة من بين مئات المخطوطات التي تتكرر فيها نفس الكلمة دون خطء، فركزوا على الواحدة واستنبطوا منها التطور، مع أن التفسير بين واضح، خطء من الكاتب أو من الذي يملي على الكاتب. فمثلا يورد هذا الشخص كلمة (كلاله) وأنها مكتوبة (كله) وبدلا أن يقول أن الناسخ نسي اللام الثانية حيث أنها تكتب (كلله) في الخط الحجازي، يقول هذا الشخص أن (كله) هي الصحيحة وأنها كلمة آرامية تعنى الميت، بينما كلاله أو كلله بالرسم الحجازي تعني في العربية الميت الذي ليس له والدٌ أَو ولد يرثه، وهذا المعنى ما تصلح عليه الآية الكريمة. هذا الناسخ أو الكاتب نسي حرفا واحدا هو اللام بينما نفس الآية والكلمة كتبت كلاله في مئات الصحف الأخرى التي أهمل هذا الشخص ذكرها ولم يقدم الا التي بها نسيان اللام.
الحقيقة الواضحة التي أتفق عليها معظم المتخصصون، أن القرآن الذي بين أيدينا هو نفسه الذي جمعه الخليفة عثمان ابن عفان رضي الله عنه سنة أربعة وعشرين من الهجرة، أي بعد ثلاثة عشر سنة فقط من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وحيث أن الصحابة أرتضوا هذا المصحف، فهذا دليلا أنه هو ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
ما سبق كان موجزًا يعطى القارئ فكرة عامة عن خطوات تطور كتابة المصاحف.
نعود الى مخطوطة برمنجهام، قلنا أن نتيجة التأريخ بالكربون المشع أعاد المخطوطة الى فترة زمنية تمتد حتى الربع الأول من القرن الهجري الأول. أي الى ثاني سنوات خلافة الخليفة عثمان ابن عفان رضي الله عنه. إلا أن أهل التخصص في هذه العلوم رجح أغلبهم أن تكون في النصف الثاني من القرن الأول وبداية القرن الثاني، وذهب واحد فقط الى نهاية الثاني وبداية الثالث، ووصلوا الى هذه الترجيحات إستنادا على رسم الكتابة التي في المخطوطة، وأشاروا الى الأمور التالية:
- الأحرف في المخطوطة منقطة، ولم يعرف تنقيط الحروف إلا في بداية الربع الأخير من القرن الأول.
- يوجد فصل بين الآيات على شكل خمس نقط.
- يوجد زركشة بلون أحمر تفصل بين السور.
- ترتيب السور يتبع ترتيب السور في المصحف الإمام.
- الخط يتبع قراءة ابن عامر الشامي، ولهذا فيجب أن يكون لاحقًا له.
- التأريخ بواسطة إختبار الكربون يكون للجلد وليس للحبر، والجلد قد يكون حفظ وترك فترة طويلة ثم كتب عليه أو أنه كتب عليه من قبل ثم غسل جيدًا لإزالة الكتابة السابقة ثم كتب عليه مرة ثانية، أي أن عمر الكتابة متأخر عن عمر الجلد.
- نتائج الإختبار الكربوني قد تخطىء وتعطى تاريخ في حدود 50 الى 100 سنة أبكر من التاريخ الفعلى الذي يتحدد وفقًا لعلوم الخطوط واللغة.
مخطوطة برمنجهام عبارة عن رقين من الجلد، مكتوب على الجهتين، أي المجموع أربعة صفحات. وتحتوى الصفحات على أجزاء من سورة مريم وسورة الكهف وسورة طه. وهي مكتوبة بالخط الحجازي المائل وهو أول الخطوط ويعود أغلبه الى القرن الهجري الأول، وهو أول ما دون به القرآن في مكة والمدينة، ثم ظهر الخط الحجازي الحديث وهو القائم وليس به
ميل مثل سابقه، وتدريجيًا أصبحت معظم الكتابة بالخط الكوفي. بالطبع هناك تداخل بين هذه الحقب تبعا لإختلاف البلاد وبطء إنتقال المعارف.
ويجدر الإشارة أنه بالمقارنة بين مخطوطة برمنجهام والقرآن الكريم الذي بين أيدينا اليوم، أهم ما نجده هو التطابق التام كلمة كلمة بين القراءة في الصفحات الأربعة مع القراءة من المصحف في عصرنا هذا.
فيما سبق ذكرنا النقاط السبع التي أثارها المتخصصون، وسنتاول هذه النقاط بالتفصيل في الحلقة القادمة إن شاء الله.
عنوان الفيديو على قناة المضاربة في يوتيوب:
مخطوطة برمنجهام وكتابة مصاحف القرن الأول