هل كان الخلق آنيا إعجازيا أم تطوريا؟
يقول الخلقيون من أهل الكتاب creationists أن الله خلق الأنواع خلقًا إعجازيا آنيا كل نوع على حدة ، ويقول التطوريون evolutionism أن الكون وجد من نشأة مفردة توسعت حتى ظهرت المجرات والنجوم والكواكب وأن الحياة بدأت من خلية واحدة ظهرت وتطورت وتفرعت خلال أزمنة ودهورا طويلة حتى ظهرت الأنواع المختلفة بعد زهاء أربعة بلايين سنة.
قد يبدو الإختلاف كبير بين الدين والتطور، ولكن الواقع غير ذلك، فنحن في الإسلام، حبانا الله تعالى بكتاب حفظه لنا، يدلنا الى الصواب، أذ نجد أن آيات الخلق فيه وإن تشابهت بصورة عامة مع ما ذكر في كتب من قبلنا من أهل الكتاب، إلا أنها إختلفت في التفاصيل بما يشير الى الخلق التطوري وليس الإعجازي المباشر، وسنعرض في هذه الدراسة بيان الأدلة على قولنا هذا.
القاعدة الأساسية المتفق عليها بين جميع الأوساط العلمية والدينية هي أن هذا الكون قد بدء ووجد على صورة فائقة الدقة والإتزان والضبط الى درجة تسمح لإمكانية وجود حياة ذكية فيه.
والإختلاف يأتي في كيفية الخلق، هل هو آني لحظي أو تطوري، وإن كان تطوري هل كان هذا التطور موجها أو مسيرًا وفق خطة وهدف وتصميم، أم كان عشوائيا لا تحكمه سوى القوى الطبيعية العمياء، أي بدون وجود هدف محدد.
الفرق الأساسي بين التصميم والعشوائي في خلق الكون، يكمن في نقطة البدء، وهو لماذا وكيف وجدت القوى والثوابت الطبيعية وغيرهم على المقادير التي هي عليها، والتي لولا الدقة والإتزان في إختيار هذه المقادير لما نجح هذا الكون. أنظر قوله تعالى {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} سورة القمر، وقوله تعالى {………… وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} سورة الفرقان، وقوله تعالى {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)} سورة الرحمن
الخلق الموجه هو الذي يتم فيه بعث الكون من نقطة البدء مودعا فيه كل ما منه تكونه وتطوره وفق التصميم والهدف المحدد، فيستمر نشوء الكون وفق الخطة حتى تظهر فيه النجوم والكواكب ثم الحياة كما نجد حولنا. والمسير هو ما يتم فيه بعث الكون من نقطة البدء مثل الموجه إلا أنه في مراحل معينة يتدخل الخالق، وربما مثال على ذلك تطوير النوع الإنساني ليصبح قادرا على التفكير والوعي والنطق.
لو نظرنا الى خلق الحياة، نجد أن الخلق الآني المباشر هو خلق إعجازي، لا يقبله العلم استنادًا الى الأدلة العلمية التي تشير الى التطور في خلق الكون وفي خلق الحياة. وأجد أن القرآن الكريم جعل الخلق معقولا، أي يمكن معرفة الكيفية التي بدء واكتمل بها، لقوله تعالى { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ …… (20)} سورة العنكبوت، وهذا ينفي الخلق الآني الإعجازي الذي لا يخضع للأسباب من قوى وقوانين الطبيعة، ويجعلنا في هذه الدراسة ننظر في فرضية الخلق التطوري الذي يمكن للبشر أن يفهموا آلياته، وان كان موجها أو مسيرا أو عشوائيا.
نعلم من نظرية الإنفجار العظيم أن الكون له بدء ونشأة، وأنه تمدد وتتطور بعد البدء لمدة 13,7 مليار سنة، حتى وصل الى ما هو عليه الآن. ونعلم أن هذا الكون وجد وتطور وفق ضبط وإتزان دقيق للغاية، فقد وجد العلماء إتزانا فائق الدقة في القوى التي تحكمه والقوانين التي تُسيّره، وفي مقادير الثوابت الطبيعية، وفي التوزيع الأولي للمادة والطاقة، وفي سرعة الضوء، ونسبة كتل البروتونات والإلكترونات، مما يجعل إمكانية حدوث كوننا وتطوره حتى وصل الى ما نحن فيه، هو إحتمال 1 على عشرة يتبعها 123 صفر، أي أن إحتمال وجود هذا الكون بطريق الصدفة هو إحتمال متناهي في الصغر يصعب حتى تخيله، ولهذا فوجود الخطة والتصميم حتمي، وتدل الخطة إلى المصمم وبالتالي يدل هذا على وجود الأله الخالق. وليتحاشى العلماء القول بوجود الهدف والخطة والتصميم، لجئوا إلى فرضية الأكوان المتعددة، والتي تقول أنه لوكان هناك عددا لا نهائي من الأكوان التى نشأت بقوانين وثوابت وصفات مختلفة، وهم يقصدون فعلاً عدد قريب من اللا نهائي ، بمعنى عدد هائل كبير يصل الى 1 أمامه 123 صفر، إذا كان عدد الأكوان المختلفة التي نشأت بهذا العدد، فلا بد أن يكون هناك كون واحد على الأقل، له القوانين والثوابت مثل التي في كوننا والتي تؤدي الى نجاحه، بينما فشلت كل الأكوان الأخرى، ولأننا نحيا في كون ناجح، ندرك أن هذا قد حصل فعلاً، وندرك كم نحن محظوظين. بالرغم أن فرضية الأكوان المتعددة لا يمكن إثباتها أو نفيها علميًأ. أي أنها ليست علمًا، إلا أن كثيرا من العلماء يلجئون إليها لحل معضلة الإتزان والضبط الدقيق. السؤال هنا هل لو تقدم العلم قد يجد تفسيرًا أفضل من تفسير الأكوان المتعددة، نحن لا نستطيع الجزم بلا، ولكن الأغلب لا، لأن هذه المعضلة ليست ناتجة عن نقص العلم، ليتحجج العلماء بحجة إله ملأ الفجوات، وإنما نتجت هذه المعضلة عن إكتمال العلم، إذ بإكتماله عرفوا مدى الأتزان والضبط والدقة المتناهية التي يتوقف عليها نجاح حدوث هذا الكون.
هذا عن الكون، أما الحياة فقد وجدت وتطورت الى درجة من التنوع والتعقيد لدرجة أن يكون إحتمال أن تصل الى ما وصلت إليه وفق آليات التطور العشوائية في الزمن الذي توفر شبه مستحيل. وكلما تقدمت العلوم البيولوجية، وجد العلماء صعوبة جمة، في توفيق نظرية التطور بكل آلياتها في تفسير وصول الحياة الى ما هي عليه من تنوع المخلوقات ودقة صنعها، إذ يوجد لديهم مشاكل عديدة، مثل مشكلة التعقيد الغير قابل للإختزال، أو الآلات الجزيئية. والتي تحتاج أن تتطور أجزاء مختلفة كلا على حدة تقوم بعمل ما والتي في مجموعها ستكون وحدة أو آلة تقوم بعمل محدد وتخدم وظيفة واحدة. وهناك معضلة المعلومات، والإستحالة الزمنية، وهي عدم كفاية الزمن الذي توفر للتطور للوصول الى هذه الخلايا والأعضاء البالغة في التعقيد، ومعضلة الخلية الأولى، ومعضلات الحفريات والإنفجار الكمبري، أضف الى توفر الإتزان الدقيق في الأرض وفي البيئة التي توفر العناصر الملائمة لهذه الحياة. حتى قال بعض العلماء بمثل ما قيل عن حدوث الكون، من أن إحتمال أن توجد الصدفة حياة ومعلومات بالتعقيد الذي نراه هو شبه مستحيل وقال آخرون الإحتمال صفر أي معدوم. حتى أن البروفيسور فريد هويل قال أن الحياة أصلها جاء من عند كائنات فضائية ذات حضارة متقدمة زرعت بذرتها في كوكب الأرض في زمن سحيق سابق. كل هذا ليتحاشى العلماء القول بوجود الهدف والخطة والتصميم، تمامًا مثل ما واجهوه في خلق الكون. لم تسعفهم هنا فرضية الأكوان المتعددة اللانهائية، بالرغم أننا نعلم أن في هذا الكون عددا يقدر بآلاف البلايين من النجوم التي لها كواكب، إلا أن المشكلة هنا ليست في العدد فقط، وإنما في ضيق الزمن المتوفر والذي لا يكفي لتتطور الحياة الى ما وصلت إليه حتى ولو اعتبرنا عمر الكون كله وليس عمر الأرض فقط. وفي استحالة إمكانية تطور وحدوث الآلات الجزيئية وفق آليات تطورية عمياء، ومع هذا يصرون أن التطور العشوائي الأعمى، والصدف السعيدة هم ما أوجدوا هذه الحياة بتنوعها وتعقيداتها.
مع هذه الصعوبات التي يواجهها العلم الحديث، نحن نُبقي كل التفسيرات حية وممكنة، فنحن لا نعرف ماذا قد تكتشفه العلوم المستقبلية، وهل لميكانيكا الكم والكوانتم بيولوجي أي دور في توجيه النشأة والتطور، أو أي عوامل أو علوم أخرى لا ندري عنها اليوم، ما يهمنا في هذه الدراسة هو اليوم، ما نعلمه اليوم، وهو ما ذكرناه من شبه الإستحالة، أما ما قد يحدث في المستقبل، فهذا له دراسة أخرى في المستقبل.
مما سبق، نرد على الملحدين الذين يظنون واهمين أن العلم يجيب على كل الأسئلة ويفسر لنا الكون والحياة دون الحاجة الى الله تعالى، هذا كلام اللذين لا يعلمون، أما العلماء الذين تبحروا في العلم، فهؤلاء يعرفون أنهم كلما أكتشفوا جديدا، ظهرت لهم معضلات ومشكلات لا يستطيع العلم أن يفسرها، ولم تعد حجة إله الفجوات تسعفهم، فمشكلاتهم ليست نابعة من الفجوات أو نقص العلم، وأنما من تقدمه وكثرته وانتفاء الفجوات فيه.
وقد أسأل نفسي، طالما أجد في النظريات العلمية كل هذه المشاكل والمعضلات، لماذا أقبل نظرية التطور حتى الموجه أو المسير منها؟ بينما يرفضها الكثير من الباحثين المسلمين المعاصرين، إن لم يكن معظمهم. السبب أن ما أجده في القرآن الكريم يشير الى الخلق المعقول، أي الذي يمكن للإنسان فهمه، وهذا غير الخلق المباشر الإعجازي.
يتبع في الحلقة القادمة
يمكن مشاهدة فيديو هذه الحلقة على الرابط :
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري