هل كان الخلق آنيا إعجازيا أم تطوريا؟
قبل النظر في آيات الخلق، يجب أن نأخذ في الإعتبار قواعد ومبادئ بينها القرآن لنا تساعدنا في فهم الأسلوب الذي صيغ به القرآن الكريم، إذ وضع القرآن الكريم لنا قواعد أساسية نذكر منها بإيجاز ما يلي:
القاعدة الأولى: شرط الإيمان بالغيب، من الشروط التي وضعها الإسلام شرط الإيمان مع غياب الدليل الحسي التجريبي الفيزيائي، فقد منع الله تعالى عنا الدليل القاطع، وترك لنا الأدلة المنطقية التي وإن كانت مقنعة إلا أنها يجب أن لا تكون قاطعة حاسمة ، وموضوع قبولها أو رفضها أمر إختياري يقرره الناس وفق إرادتهم الحرة. وهذا يدلنا الى نتيجة هامة علينا أن ننتبه إليها، أن شرط الإيمان بالغيب يدل بالضرورة على غياب الأدلة القطعية على وجود الله، كدليل التصميم الذكي، لأنها أي الأدلة القطعية لو وجدت سينتفي شرط الإيمان بالغيب، لهذا فلن نجد الأدلة القطعية الحتمية على وجود الله تعالى في أي من علومنا الطبيعية التجريبية، أو في غيرها. لأنه وإن تركها الله تعالى لنا لنراها ونحسها، أخفى عنا الأدلة القطعية.
في قوله تعالى في أول كتابه الكريم بعد الفاتحة: {الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)} سورة البقرة. أي يؤمنون بالغيبيات مع غياب الأدلة الحسية على وجودها، لأنه لو وجدت الأدلة الحسية على وجودها، لا تكون غيبيات.
جاء في تفسير القرطبي: “وقال عبد الله بن مسعود : ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ : الذين يؤمنون بالغيب . قلت : وفي التنزيل : وما كنا غائبين وقال : الذين يخشون ربهم بالغيب فهو سبحانه غائب عن الأبصار ، غير مرئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال.” أي أن الإيمان بالله يكون مع غياب الدليل الحسي القطعي.
يقول الطاهر ابن عاشور “والمراد بالغيب ما لا يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صريحا بأنه واقع أو سيقع مثل وجود الله، وصفاته، ووجود الملائكة، والشياطين، وأشراط الساعة، وما أستأثر الله بعلمه. فإن فُسر الغيب بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفا مستقرا فالوصف تعريض بالمنافقين، وإن فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية، كانت الباء متعلقة بيؤمنون، فالمعنى حينئذ: الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك.” أنتهى.
ويتضح من هذا أن الإيمان يجب أن يكون غيبيًا، وهذا منطقيا إذا قبلنا بفكرة الوجود البشري في مرحلة الإختبار، إذ تنهار فكرة الإختبار، والخير والشر، وتصبح الحياة الدنيا بلا معنى فور ظهور الإثبات القاطع، وفي قوله سبحانه وتعالى ما يبين مثل هذا { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} البقرة 210، وقوله تعالى: { … وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ …} سورة محمد 4 ، فجُعل هذا في غير متناول البشر وخارج عن حدود قدراتهم، ولهذا حتى القرآن ذاته وهو كلام الله تعالى، ليس مفروضًا فيه أن يكون دليلاً قاطعًا، إذ يمكن أن تعمى عنه القلوب والأفئدة. يقول الله تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)}
إلا ان الرسالة بينت أن القرآن فوق قدرات البشر، وقد تحدت من أنكروه أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله، أو بسورة واحدة مثله، وقضت بعدم إستطاعتهم، وهذا الدليل القاطع لا يراه إلا المؤمن، أما الكافر فقد يجادل فيه. أي أن هذا التحدى بالرغم من قطعه بفشل كل من يحاول أن يأت بمثله، لم يؤدي في حينه الى إسلام كل مشركي مكة، وهو بهذا لا يكون الدليل القاطع.
ولو شاء الله لآمن كل من في الأرض، إلا أن الأرض دار إختبار، كما يتبين في قوله تعالى: (…وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ…) المائدة. وقوله (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) الأنعام. وقوله (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل.
ولهذا، فآلية التطور -إن صحت- فلن تكون حتمية، أي أنه سيكون فيها جزء عشوائي، وهو ما يسميه البعض صدفة، ولهذا فسوف نجد تصميم وخطة ولكنها لن تكون حتمية قاطعة الدلالة.
والقاعدة الثانية أن يكون الكون معقولا بصورة عامة، لقوله تعالى {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} سورة العنكبوت وهنا يأمرنا الله بالسير في الأرض والنظر والتدبر في كيفية الخلق، والأمر يدل على قدرة المأمور على التوصل الى المعرفة المذكورة، أي أن خلق الكون وخلق الحياة كلاهما كان خلقًا معقولا، وليس إخلقًا إعجازيًا لا يترك آثارًا، أي أن الآية تنفي الخلق اللحظي الإعجازي. ولهذا يمكن للبشر أن يتوصلوا الى كيفية حدوثه من خلال سبل المعرفة العلمية، كنتيجة لعمل القوانين والآليات الطبيعية وحدها، ولكن شرط ألا يدل هذا على التصميم بصورة قاطعة بينة لا تقبل الشك، لأن هذا سيدل على الخالق وهذا ينافي شرط الإيمان بالغيب، بمعنى غياب الدليل القطعي.
أذن كيف يكون الخلق معقولا ولا يدل على التخطيط والتصميم الذكي بصورة قطعية، سؤال جيد ولكن ربما لا يمكننا الإجابة عليه بمنطقنا البشري، إلا أن العجيب أن هذا هو ما نجده اليوم، يمكننا فهم التطور الى درجة معقولة، في كل من خلق الكون وخلق الحياة، إلا أننا لم نتمكن من البت بقطعية وحتمية صحة هذا التفسير، ونلجأ إلى فرضية الإحتمالات لتفسير وجوده بطريق التطور، ويبقى الإختيار بالأخذ بهذا التفسير أو عدم الأخذ به موضوعا إعتقاديا أكثر منه علميًا، حتى علماء التطور الدارويني العشوائي الأعمى، لا يملكون الأجابة على كثير من المعضلات التي تواجههم، ولكنهم يعتقدون أنهم سيجدون لها إجابات في المستقبل، ويتمسكون بالتطور الدارويني الحديث وكأنه دين وعقيدة، وتمر السنوات والعقود، وتزداد المعضلات كلما تقدم العلم وظهرت عجائب وتعقيدات الخلية والسلسلة الأهليجية، وظهر إتساع الكون وغرابة الكوانتم، ويظلون على إعتقادهم العلمي بالتطور الأعمى، وهذا جيد، لأنه يحثهم على البحث ويحقق التقدم العلمي الذي به يحقق الإنسان واجب إعمار الأرض والحفاظ عليها.
أما القاعدة الثالثة، فإن الله تعالى، لم يتركنا هكذا نتخبط بين الإيمان الغيبي والخلق المعقول، فهناك مبدأ التحقق، والذي بموجبه نعلم أن الله تعالى سوف يُري الناس الآيات في الآفاق (أي الكون) وفي أنفسهم (أي الحياة) ليعرفوا أنه الحق، أي أن القرآن هو الحق، ولماذا القرآن، ما علاقة القرآن بخلق الكون والحياة. القرآن اشتمل على آيات تتعلق بخلق الكون وصفاته ونهايته وخلق الحياة وخلق الإنسان والبشر، وعندما يتوافق المذكور في الآيات القرآنية مع التصورات العلمية الصحيحة، يعرف الناس أنه أي القرآن حق. في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} سورة فصلت وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)} سورة النمل. فإن تذاكي أحدهم وقال إذا كانت العلوم الحديثة مذكورة في القرآن فلماذا لا نستخرج منه العلوم بدلاً من الإنتظار لآلاف السنين وبذل الجهد والمال في إكتشافها. نقول لا يمكن معرفة دلالات الآيات الكونية إلا بعد أن تصل المعارف البشرية الى هذه الحقائق بالعلم، لقوله تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أي أننا سنرى الآيات وهي المعجزات الكونية أولاً (كل الخلق الكوني وخلق الحياة معجز)، ومتى أكتشفناها ورأيناها وعلمناها، ثم بعد ذلك وجدنا ما يدل عليها في القرآن، عرفنا أنه الحق (والهاء هنا تعود على القرآن). لهذا لا يصح من يقول أن علينا إستخراج العلوم من القرآن وأنما الإعجاز أن الآيات التي نزلت قبل ألف وأربعمائة سنة توافق ولا تتعارض مع أي من علومنا الحديثة الصحيحة. وأنظر قوله تعالى : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} أي أن الله تعالى سوف يبينه لنا في زمان مستقبلي، حيث أن “ثم” تفيد التراخي الزمني.
وأخيرًا هناك شرط أن لا يؤثر القرآن الكريم على التطور المعرفي العلمي للبشر، أي أن يتوافق النص الذي يتعلق بالطبيعة والخلق والكون، مع معارف البشر التي اعتقدوا صحتها في عصر ما، حتى لا يسبب لهم العلم الصحيح المخالف لإعتقادتهم المعرفية، بلبلة فكرية تضر بمسيرة التقدم الطبيعي للعلوم والمعارف. وقد بينت هذا بالتفصيل في دراسات سابقة. ولهذا نجد التفسير المرحلي، وهو أن دلالات الآيات القرآنية تتأتى من تفاعل النص الثابت مع المعارف البشرية في أي عصر، ولهذا نجد الآيات الكريمة صيغت بحيث لا تتعارض مع ما توافق عليه البشر من تصورات عن كيفية الخلق في العصور القديمة، ونفس النص الثابت، تبين أنه لا يتعارض مع علومنا الحديثة، وفي هذا إعجاز أكبر من لو كان النص موافقًا لعلومنا الحديثة فقط، وبالتالي معارضًا لمعارف البشر في زمن التنزيل، والتي كانت بعيدة عن الصحة والصواب. وقد تبين بالتفصيل بعد دراسة كل الآيات المتعلقة بخلق الحياة وخلق الكون، في كتاب الخلق المنشور في موقع المضاربة، وفي حلقات دلائل الآيات القرآنية في آيات الخلق، تبين دلالة هذه الآيات الى الخلق التطوري الموجه، والتوجيه يكون إما أن الله تعالى خلق الكون ووضع فيه عند البدء القوانين والأسباب التي تؤدي الى ما نحن عليه، أو أن الله تعالى وملائكته يسيرون الكون وفق مشيئة الله تعالى والتي تضمنت خطة تطورية وهدف. ولنبين هذا ننظر مرة ثانية في آيات الخلق، ولنبدأ بآيات خلق الحياة.
الرابط الألكتروني لفيديو هذه الحلقة على قناة المضاربة:
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 2 من 8 Creation or Evolution
يتبع في الحلقة التالية