هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 3 من 8

هل كان الخلق آنيا إعجازيا أم تطوريا؟

نلخص القواعد التي ذكرناها، كما يلي:

  • شرط الإيمان بالغيب والذي يؤدي إلى شرط غياب الأدلة الحسية التجريبية
  • شرط أن يكون الخلق معقولاً
  • مبدأ التحقق، وهو توافق علومنا ومعارفنا مع ما ورد في القرآن الكريم
  • وأخيراً: لا يمكن معرفة دلالات الآيات الكونية إلا بعد إكتشاف الظواهر والعلوم المتعلقة بها.

وقبل أن نبدأ، علينا أيضًا أن نوضح معنى “الخلق من الطين” الذي ورد عدة مرات في القرآن، هل يعني الخلق مباشرة من الطين، أم هو تعبير أو مصطلح لغوي يقصد به أن بدء خلق النوع الإنساني كان من الطين.

في الآية 37 من سورة الكهف { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)} بالطبع نحن لا نستدل من هذه الآية أن الرجل المخاطب صاحب الجنة أي الحديقة أو المزرعة، خلق مباشرة من التراب، وإنما نفهم منها أن أصل خلق النوع الإنساني الذي ينتمي إليه هذا الرجل كان من التراب، كلنا نفهم هذا ولم يقل أحد منا أن الخلق من التراب في هذه الآية يدل الى الخلق المباشر من التراب. ولهذا فكلما ورد هذا التعبير علينا أن نفكر فيه قبل الحكم أنه إما خلقُا مباشرا من التراب أو أنه يدل أن أصل خلق النوع كان من التراب، وأنه مرت أزمنة ومراحل قبل ظهور المخلوق الأخير.

وفي قوله تعالى { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} سورة الأنعام، وهنا أيضًا المخاطب كل الناس والمعنى أن أصل خلقهم كان من الطين وليس أنهم خلقوا مباشرة من الطين. وفي قوله تعالى { وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا.. } سورة فاطر، وهنا أيضًا الآية الكريمة لا تعنى أننا خلقنا مباشرة من التراب، ولاحظ أن النطفة سبقت الأزواج الذين جعلوا في مرحلة لاحقة. وفي قوله تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} سورة آل عمران:59 نعرف أن سيدنا عيسى لم يخلق مباشرة من التراب. من كل هؤلاء يمكن القول أن التعبير القرآني خُلق من التراب، لا يعني بالضرورة أن المخلوق خلق من التراب مباشرة، وانما يعني أن أصل خلقه وخلق النوع  من التراب. ولو عدنا لمعنى لفظ خلق في اللغة، نجد أنه يدل على تقدير ما منه وجود الشيء (ولفظ قدر : يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته)، ولهذا فقوله تعالى {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ} قد تعني الإيجاد من الطين مباشرة، وتعني أيضًا تقدير الطين ليبلغ في منتهاه بشرا.

أما وقد بينا دلالة الخلق من الطين، علينا أن نبين أن حرف “ثُمَّ” له معنى ودلالة هامة في فهم الآيات التي يرد فيها، ثُمَّ تفيد حتمية الترتيب مع التراخي، أي لو قلنا قمت ثم قعدت، فلا بد أن القيام حصل أولاً وتبعه القعود. ولا يصح أن يكون القعود قبل القيام. وسيبين الإمام الطبري بالتفصيل هذا الشرط في الآية التي سنبدأ بها لهذا السبب.

والآن بعد هذه المقدمة الطويله، ننظر في الآيات التي ورد فيها خلق الحياة، لنرى الدلالات والمعاني التي تتضمنها هذه الآيات الكريمة، وحتى لا نطيل، لن نستطيع أن ننظر هنا آيات الخلق كلها، فهذا استغرق 18 حلقة مدتهم جاوزت عشرة ساعات، وكتاب من حوالي 300 صفحة، وأنما سأعرض هنا آيات قليلة معدودة، يصعب تفسيرها على أن الله تعالى خلق آدم من الطين مباشرة، بل وترجح نفي هذا الخلق. وسنسرد في بعض الآيات جزءًا من تفاسير السلف الصالح لها، وكانت معارفهم في تلك الأزمنة، تقول بالخلق المباشر من الطين، ولهذا فهموا هذه الآيات الكريمة على أنها تدل الى ذلك الخلق، وهذا طبيعي ومتوقع جزاهم الله تعالى كل خير، وسنرى كيف أن هذا الفهم قد تسبب لهم في بعض الصعوبة، إلا أن النص قد صيغ بحيث يسمح بهذا المعنى في التفسير المرحلي الذي كان في تلك الأزمنة.

****

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ………..(11)} سورة الأعراف

يقول الإمام الطبري: “القول في تأويل قوله : {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ(11)}

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

…………………………………….

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ)، ولقد خلقنا آدم (صَوَّرْنَاكُمْ)، بتصويرنا آدم، كما قد بينا فيما مضى من خطاب العرب الرجلَ بالأفعال تضيفها إليه, والمعنيُّ في ذلك سلفه، وكما قال جل ثناؤه لمن بين أظهر المؤمنين من اليهود على عهد رسول الله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ، [سورة البقرة: 63]. وما أشبه ذلك من الخطاب الموجَّه إلى الحيّ الموجود، والمراد به السلف المعدوم, فكذلك ذلك في قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)، معناه: ولقد خلقنا أباكم آدم ثم صوَّرناه.

وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب, لأن الذي يتلو ذلك قوله: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ)، ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر الملائكة بالسجود لآدم، قبل أن يصوِّر ذريته في بطون أمهاتهم, بل قبل أن يخلُق أمهاتهم.

و ” ثم ” في كلام العرب لا تأتي إلا بإيذان انقطاع ما بعدها عما قبلها، وذلك كقول القائل: ” قمت ثم قعدت “, لا يكون ” القعود ” إذ عطف به بـ” ثم ” على قوله: ” قمت ” إلا بعد القيام، وكذلك ذلك في جميع الكلام. ولو كان العطف في ذلك بالواو، جاز أن يكون الذي بعدها قد كان قبل الذي قبلها, وذلك كقول القائل: ” قمت وقعدت “, فجائز أن يكون ” القعود ” في هذا الكلام قد كان قبل ” القيام “, لأن الواو تدخل في الكلام إذا كانت عطفًا، لتوجب للذي بعدها من المعنى ما وجب للذي قبلها، من غير دلالة منها بنفسها على أن ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين, أو إن كانا في وقتين، أيهما المتقدم وأيهما المتأخر. فلما وصفنا قلنا إنّ قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، لا يصح تأويله إلا على ما ذكرنا.”

وأضاف الإمام الطبري لاحقًا: ” في أنه غير جائز أن يكون أمرُ الله الملائكةَ بالسجود لآدم كان إلا بعد الخلق والتصوير، لما وصفنا قبل.” أنتهى كلام الإمام الطبري.

     ولو عدنا الى الآية الكريمة: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ………..(11)} نجد أن المعنى المباشر دون أي تكلف أو تحميل الألفاظ معانٍ ليست منها: المخاطب هو عامة الناس {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ}: خلقنا النوع، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، أي جعلناكم على الصور والهيئة والشكل الذي أنتم عليه، {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} وهنا أصطفى الله آدم من النوع الإنساني الذي خلقه وأمر الملائكة أن يسجدوا له.

النص صريح، المخاطب نحن أي الناس أي النوع الإنساني أي البشر (وهم آخر حلقات التطور)، لقد خلقناكم أيها الناس (بدأتم خلية من الطين) ثم صورناكم أي طورناكم (خلقناكم في مراحل وأشكال وصور كما فصّل النص في آيات أخرى سنوردها فيما بعد) حتى بلغتم الصورة التي أنتم عليها، (ثم –كما فصّل القرآن في آيات قرآنية أخرى- فلما أستوى المخلوق أصطفينا آدم ونفخنا فيه من روحنا وجعلناه خليفة وعلمناه الأسماء  وكل هؤلاء مسكوت عنهم في هذا السياق) – ثم  قلنا للملائكة إسجدوا لآدم …

وهذا المعنى المباشر الذي تدل عليه الآية أن خلق النوع سابق لخلق آدم ينفي الخلق المباشر من الطين وتوافقه فرضية التطور.

الرابط الألكتروني لفيديو هذه الحلقة على قناة المضاربة:

هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري    3 من 8   Creation or Evolution

يتبع في الحلقة التالية