هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 4 من 8

هل كان الخلق آنيا إعجازيا أم تطوريا؟

يقول سبحانه وتعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (9)} سورة السجدة

لو إعتقدنا أن الله تعالى خلق آدم من الطين، بالطريقة التي ورد ذكرها في سفر التكوين في العهد القديم عند أهل الكتاب: (وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً.)  أي كان خلق آدم أول الناس، ومنه خلقت حواء ومنهما جاء الناس. فيكون معنى الآية أن الله بدأ خلق آدم من الطين، أي خلقه وأكمله من الطين، ثم جعل نسله أي أولاده يتناسلون منه من ماء مهين، ثم بعد ذلك –رجع الى آدم- فسواه أي أكمله وأتمه وجعل له ولنا السمع والبصر ونفخ فيه من روحه.

وهذا مثل ما قاله السلف الصالح، لأن علمهم في ذلك الوقت كان مثل ما ورد في سفر التكوين، أن الله تعالى صور آدم من التراب ونفخ فيه فصار نفس حية. فقد ورد في تفاسير السلف:

(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ)(7)  قال ابن كثير:

     ”يَعْنِي خَلَقَ أَبَا الْبَشَر آدَم مِنْ طِين،“ وقال مثله الطبري والقرطبي.

(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)(8)  قال أبن كثير: ”أَيْ يَتَنَاسَلُونَ كَذَلِكَ مِنْ نُطْفَة تَخْرُج مِنْ بَيْن صُلْب الرَّجُل وَتَرَائِب الْمَرْأَة“. وقال الطبري: ”يَعْنِي ذُرِّيَّته مِنْ سُلَالَة , يَقُول : مِنَ الْمَاء الَّذِي انْسَلَّ فَخَرَجَ مِنْهُ“. وقال القرطبي: ”مِنْ مَاء مَهِين “ ضَعِيف“.

(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)(9)

قال أبن كثير:” ” ثُمَّ سَوَّاهُ“ يَعْنِي آدَم لَمَّا خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب خَلَقَهُ سَوِيًّا مُسْتَقِيمًا ”وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحه وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْع وَالْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَة“ يَعْنِي الْعُقُول.“

     قال الطبري: ” ثُمَّ سَوَّى الْإِنْسَان الَّذِي بَدَأَ خَلْقه مِنْ طِين خَلْقًا سَوِيًّا مُعْتَدِلًا , {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحه} فَصَارَ حَيًّا نَاطِقًا.“

ونجد أن أبن كثير والطبري لم يعقبا على أن “ثم سواه” التسوية تعود الى آدم، وأن حرف العطف ثم يدل أن هذه التسوية حدثت بعد أن كان له نسل وذرية، وهذا غير جائز، إذ كيف أن آدم كان له نسل قبل أن يكون أستوى ونُفخ فيه الروح. أي قبل أن يصير حيا ناطقا كما قال الإمام الطبري “{وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحه} فَصَارَ حَيًّا نَاطِقًا.“

قال القرطبي في الآية (9) أي الثالثة والأخيرة في السياق: ” رَجَعَ إِلَى آدَم , أَيْ سَوَّى خَلْقه ” وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحه “ . ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ذُرِّيَّته فَقَالَ : ”وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْع وَالْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَة “ وَقِيلَ : ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَاء الْمَهِين خَلْقًا مُعْتَدِلًا , وَرَكَّبَ فِيهِ الرُّوح وَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسه تَشْرِيفًا. ..“

مما سبق يقول لنا المفسرون أن بدأ خلق آدم من طين، ثم جعل الله ذريته تتناسل من الماء المهين الذي أنسل منه، ثم رجع الى آدم فسواه – أي أكمل خلقه سويًا مستقيما معتدلاً ونفخ فيه من روحه وكما قال الطبري فصار حيًّا ناطقًا، وجعل له ولنا السمع والأبصار والأفئدة.

ولما وجدوا أن الترتيب غير صحيحا – لأنهم أفترضوا أن بدأ الخلق كان آدم، أي هو المعني في الآية (7) الأولى، تجاوزوا معنى ’ثم’ اللغوي وقالوا في التسوية والنفخ والجعل – الآية الثالثة في الترتيب- أن الله بعد أن ذكر وجود نسل آدم وذريته عاد ليخبرنا عن آدم في أحداث تسبق أحداث ذريته المذكورة في الآية الثانية، أي أن الترتيب وفق فرض أن آدم خلق من الطين مباشرة سيكون “وبدأ خلق الإنسان من طين”(7)، يتلوه “ثم سواه ونفخ فيه من روحه”(9)، يتلوه “ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ”(8). كان إعادة ترتيب الآيات ممكنا لو كان حرف العطف ’و، أو التعقيب ’ف’، أما وقد ورد في السياق حرف التعقيب ’ثم’ فلا يصح أن يبدأ ما بعدها قبل إنتهاء ما قبلها، وهذا يمنع أن يكون التسوية والنفخ قبل تناسل ذرية المخلوق الأول.

وحيث أن الآيات القرآنية ليست وفق هذا الترتيب الذي رتبناه ليصلح التفسير الذي أوردناه عن السلف، فالتسوية والنفخ حدثا بعد أن كان المخلوق له نسل وسلالة، ونعرف أن آدم هو الذي نفخ فيه من روح الله، لقوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)}سورة الحجر، وهذا البشر هو آدم، لأنه هو الذي سواه الله ونفخ فيه من روحه، ولأنه هو الذي أمر الملائكة ليسجدوا له، وكان هذا قبل أن يكون له نسل وذرية، ولهذا فلا بد أن آدم، هو المعني بالآية الأخيرة وليس الأولى. وعليه فالذرية المذكورة في الآية (8) ليست ذرية آدم، وان المخلوق الذي خلق من الطين في الآية الأولى، ليس آدم، وأنما هو مخلوق بدائي، ومن هنا جاء لفظ وبدأ خلق الإنسان من طين، إذ أن إضافة لفظ بدأ له دلالالة البدء والمرحلية ثم الإنهاء، إذ لو كان الخلق آنيا مباشرًا إعجازيًا، فالأغلب أن لا يكون له بدأ. ثم تناسل هذا المخلوق البدائي عبر سلالة من ماء مهين، حتى أستوى أي أكتمل، نفخ الله فيه من روحه وجعل له ولنا أي النوع الإنساني السمع والبصر والفؤاد.

دعونا ننظر الى الآيات من مفهومنا الحديث، أن النوع الإنساني الحديث، أي البشر، وأول ظهور له كان في شخص أطلق القرآن عليه أسم آدم، فيكون آدم هو آخر سلسلة الخلق التطورية وليس أولها، أي أنه هو الموصوف في الآية الثالثة (الآية 9) وليس الآية الأولى (الآية 7). وعليه يكون دلالة الأيات المذكورة كما يلي:   تدلنا هذه الآيات من سورة السجدة أن الإنسان قد بدأ خلقه من طين، ثم  تخلق عبر سلسلة من الكائنات التي تناسلت بدءًا من الكائن الأول، حتى إذا أستوى واكتملت صورته على هيئة إنسان، نفخ الله فيه من روحه، وبهذا نكون قد بلغنا المخلوق الجديد وهو آدم أبو البشر.

وهكذا، نجد الآيات دون أي تكلف أو تحميل الكلمات فوق أو غير معانيها المباشرة، وبدون إعادة ترتيب الآيات، تدلنا على الخلق التطوري المنتهي بالبشر، وليس الخلق الذي يبدأ به. ومع الإلتزام بالدلالة اللغوية لحرف “ثم” أسأل أخواننا أصحاب فرضية الخلق المباشر أن يفسروا هذه الآيات دون تكلف.

في قوله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا …….}(11)  سورة فاطر،

يقول القرطبي في تفسيره:”قوله تعالى : والله خلقكم من تراب ثم من نطفة قال سعيد عن قتادة قال : يعني آدم عليه السلام، والتقدير على هذا: خلق أصلكم من تراب، ثم من نطفة قال: أي التي أخرجها من ظهور آبائكم . ثم جعلكم أزواجا قال : أي زوج بعضكم بعضا”. وذكر مثله المفسرون الآخرون. وهنا تجاوز المفسرون إشكالية أن النطفة التي يشيرون إليها تأتي من الذكر والأنثى، واللذين لم يُجعلا بعد وفق سرد الآية الكريمة، لقوله بعد ذكر النطفة،{ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا}، لأن ثم تستوجب أنتهاء ما قبلها قبل حدوث ما بعدها، ولم يبينوا كيف جاءت النطفة من ظهور الآباء في الوقت الذي لم يُجعل المخلوق بعدٌ أزواجا.

والنطفة هي الماء قل أو كثر، جاء في لسان العرب: “قال أَبو منصور: والعرب تقول للمُويْهة القليلة نُطفة، وللماء الكثير نُطفة، وهو بالقليل أَخص”. وقوله عز وجل: خُلِقَ من ماءٍ مَهينٍ؛ أَي من ماء قليل ضعيف. ولو عدنا للآية من سورة السجدة {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8)} نجد أن الماء المهين هو النطفة.

وهنا نجد أن النطفة سبقت الجعل أزواجًا، بما يدل أن النطفة في هذا السياق، ليست هي المني والبويضة –كما هي عليه في آيات أخرى تتعلق بالأجنة في الأرحام- نقول ليست هي المني أوالبويضة المخصبة، لأن الأزواج لم يكونوا جعلوا ووجدوا بعد. ولهذا فالنطفة المذكورة لا بد أن تكون مرحلة تطورية مبكرة من مراحل خلق الحياة التي بدأ خلقها من تراب، ولأنها كانت تتناسل لقوله (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)، فان لم تكن تتناسل بالتزاوج، لأن الأزواج لم يكونوا قد جعلوا بعد، يبقى لدينا التناسل بالإنقسام، ونستنتج هذا أيضًا من قوله تعالى { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} سورة الزمر، وهنا خلقت أول خلية حية ثم أنقسمت على نفسها، وتكاثرت بالإنقسام. 

ولهذا فالدلالة المباشرة للآية يدل على الخلق من التراب ثم من خلية -نطفة- تتكاثر بالإنقسام ثم بالتزاوج ذكر وأنثى.

ولاحظ أن هذه الآية مرت على المراحل الأساسية لخلق الحياة، من تراب ميت لا حياة فيه، الى نطفة حية (وحيدة الخلية) تتكاثر بالإنقسام لمثلها، ثم مخلوقات ذات خلايا متعددة مجتمعة مركبة أزواجًا تتكاثر بالتوالد عن ذكر وأنثى.

ونحن نعلم أن أول المخلوقات من التراب كان منذ أكثر من 3 وربما 4 بليون سنة، كائن أولي بسيط ذو خلية واحدة دون نواة، يتكاثر عن طريق الإنقسام. حتى قبل 1,7 بليون سنة عندما ظهرت كائنات أكثر تطورًا وبالرغم أنها كانت وحيدة الخلية إلا أنها احتوت على نواة وأجهزة لتخزين الطعام والتنفس وبدأت قبل 1,2 بليون سنة تتوالد عن طريق التزاوج بدلاَ من الإنقسام. وأدى هذا الى البدء في ظهور أنواع جديدة، وحتى بليون سنة قبل الآن تطورت حتى ظهرت الكائنات المتعددة الخلايا التي تنوعت ثم ظهر الإنسان منذ بضع مليون سنة.

والسرد المذكور في الآية يدل على الخلق من التراب ثم من خلية تتكاثر بالإنقسام ثم بالتزاوج. ويسمح السرد في نفس الوقت بتفسيره كما فسره الأوائل وفق علومهم دون أن يسبب لهم إرباكاً وبلبلة.

في قوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } سورة آل عمران:59

نعرف أن سيدنا عيسى لم يخلق مباشرة من التراب، وإنما أصل خلقه من التراب، وكما تبين من الآيات التي درسناها، أن آدم أيضًا لم يخلق مباشرة من التراب، ولهذا نجد أن عيسى مثله مثل آدم خلقهما الله تعالى من تراب، بمعنى أن أصل خلق النوع من التراب، والمعنى هنا يبين ويؤكد بشرية سيدنا عيسى كونه من النوع الإنساني الذي بدأ خلقه من التراب. وهذا هو ما كان عليه إستفسار النصارى التي كانت هذه الآيات إجابة عنه.

يمكن مشاهدة فيديو هذه الحلقة على الرابط :

هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 4 من 8

يتبع في الحلقة التالية