هل كان الخلق آنيا إعجازيا أم تطوريا؟
في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} سورة التين.
تقويم : من قوم وهى أصلان الأول يدل على جماعة ناس، والثانى يدل على انتصاب وعزم .وهنا يعنى ان الانسان خلق فى أحسن انتصاب وقيام، وهذا ما نعرفه إذ أنه لا يوجد فى المخلوقات من له حسن انتصابه، ويحدثنا العلم أن وقوف الإنسان مكنه من استخدام يديه في أمور عديدة منها صنع الأدوات الحجرية التي أعانته على التفوق على غيره من المخلوقات الأقوى منه. ولا يشك أحد أن قدرة الإنسان الوقوف على قدميه كان مرحلة في غاية الأهمية في تاريخ تطوره، حتى وصل المخلوق الى مرحلة الإنسان ذو القامة المنتصبة – الواقف – Homo-erectus.
وعندما يذكر القرآن الكريم أن الإنسان خلق في أحسن تقويم، أي وقوف وانتصاب، إنما يؤكد أهمية هذه الصفة التي يتميز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات، إلا أن هذه الخطوة لم تكن قد وصلت به بعد الى مرحلة كونه المخلوق المكرم، بل أن هذه المرحلة جعلته قادرًا كما قلنا على صنع بعض الأسلحة الحجرية البدائية، التي وإن أعانته على الصيد ومجابهة غيره من الحيوانات الأقوى منه جسدًا، إلا أنه أستخدمها أيضًا ضد أبناء نوعه من الإنسان فقتل من جنسه وأفسد في الأرض، وهو يفعل ذلك منذ ان خلق في أحسن تقويم وحتى يومنا هذا، فكان قوله تعالى {ثم رددناه أسفل سافلين}، حيث اننا لا نعلم من المخلوقات الأخرى من يفسد ويقتل حتى من جنسه مثل الإنسان.
وقد يكفى هذا المعنى إلا أن من الباب قوّمت الشىء تقويماً؛ وأصل القيمة الواو؛ وأصله أنك تقيم هذا مكان ذاك. وقد يدل هذا على أن الانسان قام مكان غيره وهو أحسن تركيبًا ممن قام مكانهم، فهو بذلك أحسن ما بلغته هذه العملية التطورية الخلاقة التى بلغت أحسن التصميمات الفيزيولوجية وهو الانسان.
وفي قوله سبحانه وتعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ(133)} سورة الأنعام
قوله تعالى {كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} نجد هنا معنى هام، إذ نحن – أي النوع البشري – نشأنا من ذرية قوم آخرين، لاحظ هذا الطبري، إذ يقول في تفسيره: “يهلك خلقه هؤلاء الذين خلقهم من ولد آدم {ويستخلف من بعدكم ما يشاء} يقول: ويأت بخلق غيركم، وأمم سواكم يخلفونكم في الأرض من بعدكم، يعني: من بعد فنائكم وهلاككم . {كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم” .بينما ذهب ابن كثير الى ان الله تعالى كما أذهب القرون الأولى وأتى بالتي بعدها كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين، ولكنه لم يتعرض لشرح دلالة لفظ من ذرية قوم آخرين.
فان كان هؤلاء الناس نشأوا من ذرية قوم سبقوهم، فالسابقون أجدادهم وقومهم، وليسوا ’قوم آخرون’، والقوم تجوز على الإنسان والملائكة والجن، واصل اللفظ من القيام. وجاء المعنى أيضًا في {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} وخلق جديد يصح أن يدل على نوع جديد، وليس خلق مثلكم.
الجنس أو النوع الإنساني الحديث (هوموسابيان) والذي نحن منه، نشأ من ذرية نوعا آخر يسبقه، (وقد سبقنا وتزامن معنا أنواع أخرى كثيرة منها الإنسان ذو القامة المنتصبة Homo erectus والنيانديرتال Neanderthal وغيرهما وقد أنقرضوا جميعًا ولم يبقي غيرنا)، ونحن وهم فروعا عن أصل إنساني قبلنا، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة، إذ بالرغم أننا جئنا من ذريتهم، أي أنهم أجدادنا، إلا أنهم قوم آخرون، والإختلاف هنا في النوع لا في النسب. والإنشاء يستدعي بما يحمله اللفظ من معانى البدء في الخلق واستمراره مع النمو والإرتفاع والظهور، أي ان لفظ الإنشاء يتضمن إمتدادًا زمنيًا. وهذا يناسب تطور الأنواع من نوع الى نوع بما لهذا التطور من امتداد زمني ونمو وظهور.
وفي قوله سبحانه وتعالى: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا(1)} سورة الإنسان
يبين الله تعالى لنا أن الإنسانِ قد مضى عليه بعد خلقهِ حينٌ من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، ويدل لفظ الدهر على طول المدة الزمنية.
ولو أخذنا معنى لفظ الإنسان هنا على أنه آدم، أول إنسان خلق، كما فعل كل المفسرون الأوائل، فسنقع في إشكالية أن آدم خلق وتعلم وأكرم (بالأمر للملائكة بالسجود له) في وقت قصير، وأن أبناء آدم وسلالته كرموا من بعده لقوله تعالى { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70)} الإسراء. وعليه فإن تكريم بني آدم يحتم بالضرورة أن تعود الآية {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا}، على من هم ليسوا من بني آدم، وسواء كانوا قبل آدم أو بعده فهم ليسوا من أبناءه أو ذريته، وبهذا لا بد ان يكون هناك سلالة إنسانية سابقة لآدم.
القول هل أتى على الإنسان دهرًا، يدل ان الإنسان كان موجودًا ولكنه لم يكن شيئا مذكورًا، أي لم يكن شيئا يستحق الذكر، نحن نعلم أن الإنسان الذي كان نتاج عملية تطورية أستغرقت بلايين السنين، قد مر عليه فعلاً الجزء الأكبر من عمر هذه العملية التطورية ولم يك شيئًا مذكورًا، بل ومنذ ظهوره كآخر حلقات هذه العملية التطورية، مضي عليه قرابة عشرة ملايين سنة لم يكن فيها قد نضج واكتسب حجم المخ الكافي، أي لم يكن قد بلغ مبلغه واستوى بعد.
وفي قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} سورة آل عمران
الإصطفاء بمعنى الإختيار والإجتباء، يستدعي وجود من يُصطفى منهم أو عليهم، وهؤلاء من إصطفاهم الله على العالمين، وقد جاء ان العالمين هم الأنس والجن، ولو استثنينا آدم، نحن نعلم أن نوح وآل ابراهيم وآل عمران، مصطفون ومفضلون على الناس، وآدم بفرض عدم وجود ناس في زمانه، لا يكون مصطفى إلا على الناس من بعده، ويصح المعنى بذلك، ويصح المعنى أيضًا لو كان هناك ناس في زمانه، وانه اختير واجتبي منهم وفضل عليهم.
وفي قوله تعالى:{ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩ (58)} سورة مريم
هنا نجد ذرية آدم، وبفرض ان آدم كان أول الناس، فكل الناس ستكون من ذرية آدم، ولن يوجد ذرية أخرى، وبالتالي لا داعي لتحديدها. أما لو كان هناك أناس معاصرون لآدم، فيتوجب تحديدها.
الرابط الألكتروني لفيديو هذه الحلقة على قناة المضاربة:
هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 5 من 8
يتبع في الحلقة التالية