هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 6 من 8

هل كان الخلق آنيا إعجازيا أم تطوريا؟

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)} سورة الحجر

قال ابن فارس : بشر فى اللغة تدل على ظهور الشىء مع حسن وجمال وسمى البشر بشرًا لظهورهم، ومنه البشرى وذلك يكون بالخير .

أما الإنسان، فقد قال ابن فارس : “أنس أصل واحد هو ظهور الشيء، وكل شيء خالف طريقة التوحش. وجاء في القاموس المحيط: “واسْتأْنَسَ: ذَهَبَ تَوَحُّشُهُ”

ولقد خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وخلق تعنى أن الله تعالى قدر ما منه وجود الإنسان، أي أن يصبح الصلصال وهو الطين المتغير في مبلغه وكنهه ونهايته إنسانًا، ثم بشر، وفي قوله تعالى فاذا سويته، أي إذا أبلغته أشده ومنتهاه.

وهنا في آيات سورة الحجر، نجد أن هناك فصلا واضحا بين خلق الإنسان وخلق البشر، لقد اهتم القرآن ببيان حقيقة ان الجان خلق قبل الإنسان، وهذا لأنه قدم موضوع خلق الإنسان عن موضوع خلق الجان في سياق ترتيب الأخبار. وقد أدى تقديم خلق الإنسان على خلق الجان في سياق السرد القرآني، الى الفصل بين آيتي خلق الإنسان وخلق البشر، وهما وأن خلقا من نفس المكونات، أختلفت أسمائهما، فهذا إما أن يكون فصلاً بين خلقين مختلفين وان كانا من نفس المكونات، أو تكرارًا، فان كان تكرارًا فلماذا يختلف الأسم.

ونحن نأخذ بالإختلاف النوعي الذي قد تدل عليه الآيات من إختلاف الأسماء، إذ نفترض أن البشر اختلف عن الإنسان، ربما في الخلق، وربما في التطور، وربما في أن الله علمه الأسماء. إذ ليس في الآية ما يمنع أن نفترض ان الإنسان خلق من خلال عملية تطورية استغرقت بلايين السنين. وقد نفترض أن يكون البشر هو الإنسان الذي تطور الى حد يتمكن معه من تلقي العلم، أي أنه مرحلة لاحقة من مراحل التطور، وقد أخذنا هذا المعنى من قوله سبحانه وتعالى : { الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) } الرحمن : 1-4  يقول ابن كثير: ”يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه فقال تعالى ”الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان“ قال الحسن يعني النطق وقال الضحاك وقتادة وغيرهما يعني الخير والشر وقول الحسن ههنا أحسن وأقوى لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن وهو أداء تلاوته إنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها“.

وقد وجد علماء التطور ان ظهور الإنسان الحديث – وهو الذي نحن من سلالته – تزامن مع تغير في جمجمة الإنسان الأول من جهة تكون عظام الفك والحلق بما أدى الى تيسير النطق وتسهيل خروج الحروف، مع وصول حجم المخ الى الحجم الحالي. أي أن البشر هو الإنسان الحديث. وآدم هو أول البشر. وقصة تعلم آدم الأسماء كلها وأسماء الإشياء كناية عن اللغة والتعبير، وآدم هو رمز البشر أي الإنسان المفكر، وان الله نفخ في هذا المخلوق من روحه.

القصة التي يرويها القرآن عن ظهور الإنسان الحديث – الهوموسابيان- والذي أطلق الله عليه أسم النوع “بشر” وكان أسم أول بشر “آدم”، تخبرنا أن الإنسان تطورحتى استوى واكتمل فأصبح خلقا آخر هو البشر. وكان هذا بإكتمال نمو العقل والفك بما يمكّنه من التفكير والنطق، فملك بذلك القدرة على  التعلم والإفصاح، فتعلم اللغة، ومنح الشعور بالذات وحرية الإختيار، ثم جُعل خليفة في الأرض فحمل أمانة مسؤولية الحفاظ عليها وإعمارها. 

ونفهم من هذه الآيات أن الإنسان كان حلقة قبل الأخيرة من حلقات التطور وأن البشر هم الحلقة الأخيرة، وهذا واضح لأن الذي أمر الملائكة أن يسجدوا له هو البشر وليس الإنسان. وهذا غير الذي يقول به المفكرون المعاصرون، والذي أختلف معهم فيه، لأن الأدلة واضحة في هذه الآيات التي تناولتها هنا وفي غيرها. فيكون الإنسان هو من تطور عنه البشر وأول البشر آدم ونحن من بني آدم أي بشر. وبالتالي فكل بشر إنسان، ولكن ليس كل إنسان بشر. 

****

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} سورة البقرة

إن قول الملائكة {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} يوحي بعلمهم بأمر واقع أو سبق وقوعه، وقد تحير المفسرون في كيفية معرفة الملائكة أن هذا المخلوق الجديد -أو ذريته- سوف يفسد في الأرض في زمان مستقبلي، إذ لا يعلم الغيب المستقبلي إلا الله سبحانه، وقد نحا بعض المفسرون علم الملائكة بأنهم قد سألوا الله تعالى: ما صفة هذا المخلوق الجديد. فقال لهم أنه -أو نوعه- سيفسد في الأرض وسيسفك الدماء، فقالوا لله جل جلاله أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. لكن هذا التفسير على ضعفه لا يصح، حيث أن الله قد خلق البشر ليعمروا الأرض ومنهم الصالح ومنهم المفسد؛ ولم يكن الله تعالى ليقول عن البشر جميعًا مثل ذلك، وهو سبحانه وتعالى يعلم أنه سيكون منهم أنبياء ورسل وأتقياء وأمم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

بل أن قوله تعالى  {إني أعلم ما لا تعلمون} يدل أنه لم يعلمهم بشيء من أمر هذا الخليفة، لأنهم لو كانوا سألوه وأجابهم، لكانت { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } تدل أن إجابته سبحانه وتعالى عما يصفون كانت غير كاملة، فهم أي الملائكة ظلوا على حيرتهم وتعجبهم بعد سماع الجواب وما أعلمهم به الله تعالى ما سيكون من أمر هذا البشر، فإن كان أعلمهم فكيف أجابهم سبحانه وتعالى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

وقال آخرون: عن ابن عباس ، قال : أول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . عن ابن عباس : أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم ، فقالت الملائكة ذلك ، فقاسوا هؤلاء بأولئك . وهذا أيضًا لا يصح لأن الآيات لا تدل من قريب أو بعيد الى مثل هذا القياس، بل والقياس ليس صحيحًا فلا علاقة أو شبه بين الأنس والجن. ووفق هذا الفرض، على أي شيء يقيسون وهم لم يروا إنسا قبل هذا البشر ولا علموا عنه شيئا. بل أنهم لم يعرفوا أن الذي أمامهم هو البشر الذي قال لهم الله تعالى عنه: { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} لأنهم لو عرفوا أن هذا هو البشر المذكور في هذا الأمر لسجدوا فورًا له كما أمرهم الله ولم يكونوا ليقولوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} بالطبع هم لم يعرفوه ولم يقيسوا البشر على الجن، ووجود الجن على الأرض وحربهم مع بعضهم أو مع الملائكة كل هذا لم يرد ما يدل عليه في أي من آيات القرآن الكريم. 

ولهذا يمكن القول أن الملائكة لم تسأل الله تعالى ولم يعلمهم وأن الملائكة لم تقيس البشر على الجن، وهذا يعيدنا الى السؤال: كيف عرفت الملائكة أن البشر سوف يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.

بل لماذا تقول الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؛ وليس : أتجعل فيها من سيفسد أو من سوف يفسد فيها، يمكن تفسير ذلك بفرض أن الإنسان كان موجودًا ومفسدًا في الأرض، ولهذا لم يحتاج الملائكة للسؤال وإنما كان قولهم الفوري كما جاء عنهم، وهذا رد طبيعي بناء على علمهم بما هو واقع في ذاك الزمان، ولهذا كان الفعل يفسد مضارع وليس فعل مستقبلي.

وعليه فسياق الحديث الذي تم قد يكون كما يلي: واذ قال ربك للملائكة إنى جاعلُُ فى الأرض خليفةً، وكان آدم حاضرًا أمامهم، وقد اصطفاه الله، فعرف الملائكة من هيئته وصورته أنه يشبه الإنسان، وكان الإنسان موجودًا آنذاك على الأرض، كان مفسدًا وكان يسفك الدماء ويقتل من غير جنسه أكثر مما يحتاج لغذائه، ويقتل من جنسه مع سعة الأرض، ولم يكن يعبد الله ولا يسبح له، وبهذا يكون من أسوأ المخلوقات قاطبة، فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، وكان قولهم من باب السؤال عن الحكمة الإلهية. قال إنى أعلم ما لا تعلمون. حيث أن هذا هو البشر الذي جاء ذكره من قبل، قد منح القدرة على البيان، وأنه من سيحمل الأمانة.

والخليفة هنا لا تعني كما نحى اليه البعض، من أنها نظام الخلائف وهو ما يتبعه النوع البشري من خلافة الجيل لما قبله، أي نظام الخلف والتوالد، فكافة المخلوقات من الحيوانات والطيور والإسماك وحتى الأشجار والنباتات، تتبع هذا النظام، وليس فيه ما يجعل النوع الإنساني أفضل من غيره، ولا يستدعي هذا المعنى تعجب الملائكة بقولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، فالمعنى لا بد أن يحمل شيئًا من التفضيل والعلو والمسؤولية بل والولاية . ولا شك إن إعمار الأرض وظيفة منوطة بالبشر فقط دون غيرهم من المخلوقات. ولا يجب أن ننسى في هذا المقام أن المحافظة على الطبيعة والمخلوقات من حيوانات وغيرها من المسؤوليات المناطة وفقًا لمتطلبات الخلافة والأمانة التي عُهد بها إلى الإنسان الحديث.  ومن هنا نجد أن المحافظة على الطبيعة والمخلوقات وقضايا الإحتباس الحراري وكل ما يضر بكوكبنا هو مسؤولية يسألنا الله تعالى عنها يوم الحساب.

والخَليِفة كما قال ابن الأثير: ”من يقوم مقام الذاهب ويسد مسدّه.“  وقد يكون معناه إضافة الى الولاية، أن آدم وذريته من البشر سوف يقومون مقام الإنسان ويسدون مسده.

قلنا لم تعرف الملائكة أن آدم هو البشر الذي أخبرهم الله عنه من قبل، وأنما عرفوه أنه من جنس الإنسان الذي يعيش في الأرض ويفسد فيها ويسفك الدماء. فتعجبوا أن يُفضل عليهم ويُجعل هذا المفسد خليفة يحمل مسؤولية حفظ مصالح الرعية من ناس وحيوانات وطيور وزواحف وأسماك ونباتات، وقومه يقتلون ويسلبون ويفسدون في الأرض. اعتبر الملائكة الخلافة تكريم لآدم يرفعه الى مصافهم وربما أعلى بينما هم أولى بالتكريم لأنهم يسبحون بحمد الله ويقدسونه.  لهذا تعجبوا فقالوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ }.

وفي تعجبهم هذا عرفنا أن آدم ليس أول إنسان، وأن الناس كانوا قبله يعيشون ويتزاوجون ويتكاثرون، وأنه أول البشر،  الذين منحهم الله القدرة على التفكير والنطق والتواصل بلغة الكلام.

وأجابهم الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} فهذا الخليفة هو البشر الذي أصطفيته والذي له ستسجدون. وأن من ذريته أنبياء ورسل وعابدون. وأنه تعالى ميزه بالعقل والقدرة على النطق والبيان، ومنحه حرية الإختيار والأرادة وحمله مسؤولية  وأمانة إعمار الأرض والحفاظ عليها.

الرابط الألكتروني لفيديو هذه الحلقة على قناة المضاربة:

هل كان الخلق إعجازيا أم تطوريا؟ القرآن الكريم ودلالات الخلق التطوري 6 من 8

يتبع في الحلقة التالية