من سلسلة مقالات خلق الإنسان وخلق الحياة (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهرِ لم يكن شيئًا مذكورًا (1) إنا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (2) إِنّـا هديناه السبيل إمَّـا شاكرًا وإمَّـا كفُورًا} الإنسان:1-3
في الآية الأولى من سورة الإنسان؛ { هل أتى على الإنسان حينُُ من الدهرِ لم يكن شيئًا مذكورًا}، يبين الله تعالى لنا أن الإنسان قد مضى عليه – أي بعد خلقه حين من الدهر a لم يكن شيئًا مذكورًا، ويدل لفظ الدهر على طول المدة الزمنية، في حين أن آدم فرضًا أو وفق القصة الشائعة خلق وتعلم وأكرم في وقت قصير، في ما قد نسميه نفس المقام والمجلس. نحن نعلم أن الإنسان الذي كان نتاج عملية تطورية أستغرقت بلايين السنين، قد مر عليه فعلاً الجزء الأكبر من عمر هذه العملية التطورية ولم يك شيئًا مذكورًا، بل ومنذ ظهوره كآخر حلقات هذه العملية التطورية، مضي عليه قرابة عشرة ملايين سنة لم يكن فيها قد نضج واكتسب حجم المخ الكافي، أي لم يكن قد بلغ مبلغه واستوى بعد.
قلنا أن آدم عندما خلق كان مكرمًا ومفضلا على كثير من المخلوقات الأخرى، بدليل أمر الله تعالى للملائكة وكان أبليس بينهم بالسجود لآدم، في قوله تعالى { فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين } وهذا التكريم وما سبق ذكره من التعليم الألهي لآدم يدل على تعظيم وإهتمام بهذا المخلوق لا يتفق مع فرض أن الآية السابقة تعود الى آدم، إلا لو كان الإنسان المقصود في هذه الآية غير آدم أبو البشر. أو لو كان النوع الإنساني بعد آدم عليه السلام قد مر عليه دهرًا لم يك فيه شيئا مذكورا.
والقول هل أتى على الإنسان دهرًا، يدل ان الإنسان كان موجودًا ولكنه لم يكن شيئا مذكورًا، أي لم يكن شيئا يستحق الذكر، لأنه لم يكن مفضلا على بقية المخلوقات الأخرى كالحيوانات، ربما كان مثلها أو أقل منها. لقد أكرم الإنسان عندما أصبح قادرا على التفكير، وهي فترة لاحقة لظهوره في أحسن تقويم، أي منتصبًا واقفًا على قدميه، مما نتج عنه تحرير ذراعيه ويديه لإستخدامهما في عمليات مختلفة، وفي قوله تعالى { لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين } التين : 4-5، أي أنه بالرغم من قيامه ووقوفه، رد أسفل سافلين، ثم أصبح تدريجيًا وخلال دهرًا طويلاً من الزمان، قادرًا على التفكير عندما بدأ مخه يتطور حتى وصل الى الحجم الكافي ليستطبع التفوق على غيره من المخلوقات، وقد استغرق هذا النمو عدة ملايين من السنين على أقل تقدير، وفي قوله تعالى {خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} الرحمن، ما يشير الى أن القدرة على البيان، كانت من الصفات الهامة التي ميزت الإنسان عن غيره من المخلوقات، وبهذا يكون القرآن قد أكد على الصفتين الهامتين اللتين تميز بهما الإنسان عن غيره من المخلوقات وهما أحسن تقويم بمعنى قيام ووقوف، والقدرة على البيان، أي الإيضاح بالنطق واللغة.
كنا قد قلنا يصح معنى الآية إذا مر على نوع الإنسان بعد آدم عليه السلام دهرًا لم يكن فيه شيئا مذكورا. ولكن الأمم التي جاءت بعد آدم ينطبق عليها الآيات : { ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } 47 يونس . { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ان أعبدوا الله ….} 36 النحل. فهل يمكن لأمة جاءها رسول من عند الله أن لا تكون شيئا مذكورا. بالطبع لا، فبمجرد إرسال رسولا لها فهذا دليل كونها أمة مذكورة. الأمة هنا في آيتي سورتا يونس والنحل، من بني آدم وليس ممن سبقهم من نوع الإنسان، وعليه فالآية التي نحن بصددها؛ تعود على نوع الإنسان في فترة سابقة لخلق آدم الذي كرم وفضل هو وذريته كما تدل عليه بغاية الوضوح الآية : { ولقد كرمنا بني ءادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } 70 الإسراء. وعليه فإن تكريم بني آدم يحتم بالضرورة أن تعود الآية { هل أتى على الإنسان حينُُ من الدهرِ لم يكن شيئًا مذكورًا}، على من هم ليسوا من بني آدم، وسواء كانوا قبل آدم أو بعده فهم ليسوا من أبناءه أو ذريته، وبهذا لا بد ان يكون هناك سلالة إنسانية سابقة لآدم. وفي قوله تعالى (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) قد يشير الى وجود غيرهم من الناس، حيث أن من تكون للعاقل.
وفي الآية الثانية من سورة الإنسان: { إنا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا}
أتفق أغلب المفسرون أن الأنسان في الآية الأولى من سورة الأنسان هو آدم، أما الأنسان المذكور في الآية الثانية فهو ذرية آدم، وهذا إستدلال ولا يمكن البت بصحته، بل ولماذا يدل اللفظ مرة على آدم، ومرة ثانية وفي نفس السياق على ذريته، والذي دفعهم الى ذلك، أن آدم لم يخلق وفق اعتقادهم من نطفة أمشاج (تعبر عن مني الرجل وماء المرأة).
المشيج : كل لونين اختلطا، وقيل: هو كل شيئين مختلطين، والجمع أمشاج، وقيل المشيج هو ماء الرجل يختلط بماء المرأة. وفي التنزيل العزيز: {نطفةٍ أمشاج} قال الفراء: “الأمشاج هي الأخلاط: ماء الرجل وماء المرأة والدم والعلقة”. ويبدو ان اضافة الدم والعلقة نتج لأن اللفظ القرآني جاء على الجمع، مما يشترط معه الثلاثة فأكثر. أما النطفة فهي القليل من الماء وقد تطلق على الكثير، وهو بالقليل أخص.وبه سمي المنيُّ نطفة لقلته.
وقد ورد لفظ النطفة تعبيرًا أو كناتج عن المني في قوله تعالى : {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} النجم، وفي قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} القيامة، وهنا تكون النطفة هي ما ينتج عن المني أو ماء الرجل كما سماه الفراء، ومن المعروف أنه ليس للمرأة ماء له تأثير على الجنين، إذ ليس من المرأة سوى البويضة، أما الدم فلا علاقة له بتكوين الجنين، فتكون النطفة إما البويضة أو الخلية الأولى التي تتكون عند تلقيح البويضة بالحيوان المنوي، أو ما يسميه العلم الحديث، الفيتا، والأرجح أنها البويضة الملقحة أي الخلية الأولى، والعلقة هي إحد مراحل الحمل. ولهذا فالأصل اللغوي في معنى نطفةٍ أمشاجٍ، هي الماء القليل المحتوي على خليط من المواد أو المركبات الأخرى. ما هي هذه المركبات والمواد، من الممكن ان نفترض أنها عضوية، أو منى الرجل وبويضة المرأة معًا، وهما ان كانا إثنان إلا أنهما يتكونان أيضًا من خليط مركبات عضوية، وهما ما يتكون الجنين من اجتماعهما، وعليه فمعنى نطفة إمشاج يصح كما قال المفسرون، ويصح أيضًا أن يكون ابتداء خلق الحياة – ومنها الإنسان – من ماء وخليط مركبات عضوية أو كربونية أو من أي مواد أخرى، أي هو الخليط الكيميائي الذي يعتقد العلماء أنه الذي نتج منه أول خلية حية. وقد وردت نطفة في الآيتين السابقتين من سورتي النجم والقيامة بالمعنى الذي يخص الحمل وتطور الجنين في الرحم لأنها حددت بأنها نتجت عن المني، ويمكن أن يكون خلق أو جعل الزوجين الذكر والأنثى، هو جعل أو خلق في الرحم، وهذا يبين مرحلة متأخرة في سلسلة الخلق ومستمرة، فمن المني والبويضة نطفة، وهذه الخلية النطفة من صفاتها أنها تنقسم على نفسها مرات عديدة، ثم تتعلق في جدار الرحم، فتكون علقة، فجنين إما ذكر أو أنثي. وعلى هذا المعنى، يكون معنى الآية 46 من سورة النجم : من نطفة إذا تُمنى البويضة.
وفي قوله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(11)} فاطر، الخلق من التراب ثم من نطفة ثم جعل الأزواج، فان كانت النطفة تعبر هنا عن المني، أو المني والبويضة، فهذا المعنى لا يصح في الأرجح لأن الأزواج –الذكر والأنثى- لم تكن قد وجدت بعد، ولهذا فالنطفة هنا ليست المني، وليست المني والبويضة، حيث أن ثم تستوجب التعقيب وانقطاع ما بعدها عما قبلها. النطفة هنا لا بد أن تكون مرحلة تطورية أولى من مراحل خلق الحياة، وهذه قبل أن نصل الى مرحلة التوالد عن طريق الذكر والأنثى. ولاحظ أن هذه الآية مرت على المراحل الأساسية لخلق الحياة، من تراب ميت لا حياة فيه، الى نطفة حية تتكاثر بالإنقسام، ثم أزواجًا تتكاثر بالتوالد عن ذكر وأنثى.
هذا المقال مقتبس من موضوعات الباب الثالث الفصل الثاني من كتاب الفهم المعاصر لآيات الخلق ”الفهم المعاصر لدلالات الآيات القرآنية في خلق الإنسان وفي خلق الكون“.
-
جاء عند الطبري في تفسيره:ِ “” وَقَوْله : { حِين مِنْ الدَّهْر } اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي قَدْر هَذَا الْحِين الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه فِي هَذَا الْمَوْضِع , فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ أَرْبَعُونَ سَنَة ; وَقَالُوا : مَكَثَتْ طِينَة آدَم مُصَوَّرَة لَا تُنْفَخ فِيهَا الرُّوح أَرْبَعِينَ عَامًا , فَذَلِكَ قَدْر الْحِين الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه فِي هَذَا الْمَوْضِع ; قَالُوا : وَلِذَلِكَ قِيلَ : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَان حِين مِنْ الدَّهْر لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } لِأَنَّهُ أَتَى عَلَيْهِ وَهُوَ جِسْم مُصَوَّر لَمْ تُنْفَخ فِيهِ الرُّوح أَرْبَعُونَ عَامًا , فَكَانَ شَيْئًا , غَيْر أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا حَدّ لِلْحِينِ فِي هَذَا الْمَوْضِع ; وَقَدْ يَدْخُل هَذَا الْقَوْل مِنْ أَنَّ اللَّه أَخْبَرَ أَنَّهُ أَتَى عَلَى الْإِنْسَان حِين مِنْ الدَّهْر , وَغَيْر مَفْهُوم فِي الْكَلَام أَنْ يُقَال : أَتَى عَلَى الْإِنْسَان حِين قَبْل أَنْ يُوجَد , وَقَبْل أَنْ يَكُون شَيْئًا , وَإِذَا أُرِيدَ ذَلِكَ قِيلَ : أَتَى حِين قَبْل أَنْ يُخْلَق , وَلَمْ يَقُلْ أَتَى عَلَيْهِ . وَأَمَّا الدَّهْر فِي هَذَا الْمَوْضِع , فَلَا حَدّ لَهُ يُوقَف عَلَيْهِ .”” (back)