الرد على شُبهة وإدعاء أن القرآن الكريم نُقل من الكتب السماوية التي سبقته وأنه بشري المصدر
1 / 5
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
يوجد على اليوتيوب والأنترنيت قنوات أصبحنا نعرفها، لا تتوانى في استخدام أساليب الغش والكذب والإفتراء بقصد تشكيك المسلمين في دينهم. يظهرون بمظهر الدارس الباحث الأكاديمي الذي يعتمد على مصادر موثوقة وعلى استنتاجات منطقية، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك، مقدماتهم إنتقائية أو كاذبة وأبحاثهم -إن سميناها أبحاثا تجاوزا- لا تعتمد منهجا علميا ولا تأخذ موقفا محايدا من المُعطيات ولا يهمهم سوى الوصول الى النتيجة التي بدأوا بها، وهي أن هذا الدين وهذا القرآن بشري المصدر. وبينكم من ليس لديه الوقت للبحث والدراسة والفحص والتمحيص، يسمعون لهم مرة بعد مرة فيدب الشك رويدا رويدا في قلوب البعض.
القرآن والدين الإسلامي أقوى من هؤلاء جميعًا، مهما كثروا ومهما نشروا من افتراءات وأكاذيب، ولكن واجبنا أن نرد عليهم، ليس من أجلهم ولكن من أجل أخواننا في الدين الذين علينا أن نبين لهم أن ديننا هو دين الحق، ليس لشيء إلا لأنه فعلاً دين الحق. ولهذا أرجوك يا أخي المستمع الكريم، أن تنشر هذا الفيديو لمن ينتفعون به، عسى الله تعالى أن يحفظ ديننا ويقوي إيماننا. والحمد لله إذ هدانا.
سيكون الرد على حلقات تتناول الشبهات التي يطلعون بها علينا –كيفما يقدرنا الله على المتابعة والدراسة والكتابة والإنتاج- وسأبدأ في أول حلقة بالرد على إدعاء أن مصادر القرآن هي كتب أديان وعلوم من سبقوه، وقد ذهبوا إلى هذا لأنه ورد فيه بعض من قصص وشرائع أنبياء الأديان الأبراهيمية التي سبقته. ونحن لا نجد غرابة في هذا فالرسالة الإسلامية أعلنت عن نفسها أنها مكملة مصححة خاتمة لما سبقها من الأديان التي تعود الى الله تعالى، ولهذا فمن الطبيعي أن يشتمل القرآن الكريم على قصص الأنبياء الذين ورد ذكرهم في كتب اليهود والنصارى، لأنهم ورسل وأنبياء من عند الله، أنظر قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.. (13)} الشوري 62
وقبل الخوض في الرد، يجب أن نبين أن هؤلاء الذين يدعون هذا، يتناسون أن القرآن كتاب يختلف كلية عن كل الكتب السماوية التي سبقته، بل ويختلف كلية عن أي منتج بشري، هو ليس كتاب تاريخ أمة وأنبياء يفصل أسماء أولادهم وأحفادهم ككتب اليهود، وهو ليس سيرة نبي معلم تُجمع فيها أقواله وخطبه ومواعظه ومعجزاته كالأناجيل، وليس مثل الأفيستا الزرداشتية مقابلات وأسئلة يجيب عنها الإله. القرآن كتاب لا يهتم بالتسلسل الزمني والتأريخ، لا يهتم بالأماكن والأمصار، يخرج عن حدود الأزمنة والأمكنة. كتاب لا يهتم بأسماء الناس عدا أسماء الأنبياء والرسل. ليس مثل أي شيء سبقه، أو لحقه، كتاب فريد ليس مثل كتب البشر، التي تتكون من موضوعات معنونة في أبواب وفصول ولها فهرس وترتيب وتدرج وبداية ونهاية. إنما هو نسيج متداخل ممتد ينتقل ببراعة وسلاسة من موضوع الى موضوع ومن قصص الأنبياء الى أحكام وتشريعات، من عبادات إلى حكم ومواعظ، من كرائم الأخلاق إلى علوم الكون والخلق، من تكافل ورحمة وجمال إلى إنذار ووعيد وعذاب، من عالم الشهادة الى عالم الغيب، ضمن خطاب قوي جريء متسلط لا يشوبه ذرة من تردد أو محاباة أو مسايرة. لا يقيم وزنًا لا لملك ولا لفرعون ولا لملاك ولا لشيطان، كل شيء خاضع لمشيئته وأوامره.
كل الكتب التي سبقته هي كلام بشر يقصون علينا سير أنبياء يخبروننا بدورهم عن الله سبحانه تعالى، بنبرة واحدة لا وزن فيها ولا جمال ولا بلاغة، بينما القرآن هو كلام الله تعالى يخاطب الرسول والأمم والناس مباشرة، بكلام بليغ منسق مرتب موزون سلس. يخاطب به الله الرسول والناس مباشرة، أنظر كم من الآيات تبدأ بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ.
القرآن خطاب مباشر من الله الى الناس كافة، من الله تعالى إلى وإليك مباشرة، لا كهنة ولا أحبار ولا قساوسة ولا شيوخ. أنظر كم من آية تبدأ بقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ، قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا، قل للمؤمنين، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون. ونجد فيه نسبة الخطاب الى القائل الله تعالى بقوله: إنّا وأنّا، كما في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا}. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}الحجر. القرآن كلام الله الصادر عنه مباشرة الى كل الناس. ولن تجد مثله في أي كتاب آخر. ليس كلام الرسول، إذ يختلف في أسلوبه عن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، يتضح هذا بما نجده في الأحاديث والخطب والرسائل، الفرق بين يعرفه كل من يتحدث اللغة العربية.
بل هل كان من الممكن أن ينتحل الرسول صفة الله ويتكلم بإسمه زورًا، يرد القرآن بقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) } سورة الحاقة. أنظر قوة الرد الذي كان يفهمه المشركون في ذلك الزمان، فهم وإن أشركوا، فإنهم لم ينكروا وجود الله تعالى وإنما أشركوا معه الللات والعزى ومنى، ويعلمون أن الله يغضب لو تقّول عليه أحد ويخافون غضبه.
السؤال هنا، ليس لماذا إشتمل القرآن على هذه القصص؟ فكما ذكرنا أنه لا غرابة أن تذكُر رسالة الله تعالى الرسل والأنبياء الذين أرسلهم من قبل. وإنما السؤال للذين يدّعون بشرية القرآن، هو كيف عرف الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخبار والروايات بهذه الدقة والتفصيل؟ لأن الإتهام ليس فقط أنه نقل عن كتب اليهود والنصارى، وأنما نقل أيضًا عن أديان وحضارات أخرى بعضها بادت واندثرت، منها أديان وعلوم زرادشتية وسومرية وفارسية ويونانية وغيرهم – بل ولو نظرنا الى اليهودية والمسيحية، فبالإضافة الى كتب العهد القديم والأناجيل الأربعة وأعمال الرسل ورسائلهم، هناك كتابات الأحبار والربانيون والقساوسة التي هي في درجة المرويات والتفاسير، وهؤلاء كثر لا يحيط بهم شخص في ذلك الزمان، ولا في أي زمان. فهل كان ليتسنى للرسول صلى الله عليه وسلم – أو غيره من معاصريه في مكة- أن يطّلع على هذا الكم الهائل من المصادر، في عصر لم يكن فيه كتب أو مكتبة أو مُجمّع علماء، فهل يُعقل أن يُلمَ شخص أو مجموعة أشخاص بكل هذه العلوم ويمحصها ثم يختار منها ما يسرده في كتاب واحد كموضوع جانبي ليس من أصل الكتاب. فان كان -وهو من الصعب أن يكون- فلماذا سلم هؤلاء العلماء هذه العلوم الى الرسول ثم تواروا عن الأنظار واختبئوا ولم نسمع عنهم شيئا.
وهذه الأتهامات ليست جديدة، فقد أعياهم القرآن اليوم كما أعيّا مشركي مكة وكان حسرة عليهم، فإحتاروا فيه ولم يجدوا ما يطعنوا فيه سوى إتهام الرسول بالنقل والتأليف.
في قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} سورة الفرقان الترتيب 42 ص41
كان هذا الإتهام بعد عدة سنوات من بدء الدعوة، وبعد أن نزلت أربعون سورة قبلها. فجاء الرد في الآية التي تلتها: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} الفرقان
وقوله تعالى {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} سنجد فيما بعد –في هذه الدراسة- أن هذا القرآن أحتوى علوما لم يكن أحدا على وجه البسيطة في القرن السابع يعرفها أو حتى يتخيلها، ولهذا لا يمكن أن يكون إلا من عند الذي يعلم أسرار السماوات والأرض.
ثم قال المشركون مثل قولهم الأول كما ورد في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103)} سورة النحل. والأعجم في اللغة هو الرجل الذي لا يفصح، وقولهم: العَجَمُ الذين ليسوا من العرب، وهذا من هذا القياس كأنَّهم لمّا لم يَفْهَمُوا عنهم سَمُّوهم عَجَماً.
فكان الرد {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}
نزلت هذه الآية في سورة النحل، وترتيب سورة النحل ال 70 في ترتيب نزول السور، أي كانت في حوالي السنة الثامنة بعد البعث. أي أن أكثر من نصف القرآن كان قد نزل قبل هذه الآية، فمن أين أستقى الرسول العلم قبل ظهور هذا الأعجمي.
ولماذا يعرف الأعجمي لو كان روميًا أو نصرانيا علوم زرادشتية وفارسية، ولو كان من الفرس لماذا سيعرف علوم النصاري واليهود واليونان والروم؟ ولو كان هذا الأعجمي يملك كل هذه العلوم لعلا شأنه ولوصلنا ذكره. أضف أن القرآن جاء بلسان عربي مبين، فكيف تم حصر المعلومات وتنظميها وترجمتها وصياغتها ثم سردها ببلاغة ويسر بلسان عربي مبين.
بل والأهم، أن المبادئ والمفاهيم والثوابت الأساسية مثل التوحيد ويوم القيامة والحساب والميزان والجنة والنار والملائكة والشيطان والخلق والأنبياء إبراهيم وموسى وذكر الحضارات البائدة عاد وإرم وثمود وفرعون وذكر الصلاة والصدقة والزكاة وإكرام اليتيم كل هؤلاء ذكروا في السور القصيرة التي نزلت في السنة الأولى من البعث، ثم فُصّلت هذه العنواين الأساسية خلال العشرون سنة التي تلت، وهذا يدل أن القرآن لم يتطور وينمو مع معلومات جديدة تصل الى الرسول عن طريق من قد يستمع إليهم خلال الثلاثة والعشرين سنوات الدعوة، وأنما كان بينا واضحا في أساسياته من الأشهر الأولى من التنزيل. بل وأن القرآن سمى الذين يدخلون الدين الجديد {المسلمين} في سورة القلم وهي ثاني سورة نزلت على الرسول. وفي هذا رد على اللذين يدّعون أن تسمية أتباع الدين بالمسلمين جاءت متأخرة.
بل والأسلوب القوي المتحدي الغير مهادن الذي نزل به القرآن في أوائل شهور البعث النبوي لا يمكن أن يصدر عن رجل يتحسس طريقه نحو إنشاء دين جديد أو أنه نتاج فكر بشري يتشكل ويتطور جزءًا جزءًا معتمدا في مضمونه وأساسياته على ما قد يسمعه من بعض الموالي كما يدّعي هؤلاء. بل وأن يهدد –في الوقت الذي كان هو وأتباعه القليلين مستضعفين في مكة – يهدد القرآن أكابر القوم من قريش بالعذاب المهين.
لقد نزلت سورة المسد بقوله تعالى{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} سادس السور في ترتيب التنزيل، والذين سبقوا كلهم قصار، نزلت في أول الدعوة تتوعد عم الرسول وزوجته بعذاب النار وذل الآخرة، وهما من أكابر وزعماء مكة؛ هل هذا قول بشر يطمح أن يقنع قومه بالدخول في الدين الجديد؛ أم هو قول عزيز مقتدر.
ويجدر الإشارة هنا أن أبا لهب –الذي بتت الآية الكريمة أن مصيره في النار- مات بعد أربعة عشر أو ثلاثة عشر سنة بعد نزول هذه السورة وظل على كفره طوال هذه السنين فحق عليه دخول النار كما تنبأت بذلك السورة الكريمة، ولو كان آمن لكان إيمانهُ حُجة على الدين الجديد، ولكنه لم يؤمن وصدَقَت الآية الكريمة.
بل ونجد الفرق بين أفعال الرسول وبين من أنزل القرآن عز وجل، في الآيات التي نزلت في أوائل البعث، في قوله تعالى:
{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)} سورة عبس ترتيبها في النزول 24 أي لم يكن نزل من القرآن 5% منه بعد. (أي جزء واحد من عشرين).
يقول ابن كثير في تفسيره: ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطب بعض عظماء قريش وقد طمع في إسلامه فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم وكان ممن أسلم قديما فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ويلح عليه وود النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعا ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه وأقبل على الآخر فأنزل الله عز وجل ( عبس وتولى ). أنتهى كلام ابن كثير.
نجد هنا الرسول صلى الله عليه وسلم يأمل في إسلام بعض أغنياء وأكابر قريش، فيعبس ويُعرض عن الأعمى الذي جاءه، بينما الله القوي المستغني، يُنزل آية تبت أبا لهب وتب، لا يهمه أحد كبيرا كان أو صغير، غني أو فقير، بل لا يهمه إن آمن أم كفر، إن آمنتم فلأنفسكم وإن كفرتم فعليها. أنظر قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108)} يونس 52 مكية.
بل وما زلنا في أوائل ما نزل من السور، نزلت سورة النجم لتبلغ المشركين عن الآلهة التي يوقرونها ويبجلونها، وكانوا يقولون لمحمد لو ذكرت آلهتنا بخير نؤمن بك وبربك، بينما القرآن لا يأبه بهم ولا بآلهتهم، إذ يقول عز من قائل:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ (20)} يقول عز وجل: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، لا مهادنة أو سياسة هنا، بل مواجهة وتحدي وعدم إكتراث بقوة وسيطرة الخصم في ذلك الزمان.
ويقول لمحمد صلى الله عليه وسلم {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} الإسراء 50 ص 67
ويقول عز وجل : {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ، قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} سورة يونس 51 ص 71 (الأرقام التي بجوار أسم السورة هي ترتيبها في التنزيل)
هذه الآيات كلها مكية نزلت والمسلمين في قلة وضعف. بينما الآيات المنزلة قوية لا تأبه بقوة المشركين وسيطرتهم.
ولو عدنا الى الآية الكريمة { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} النحل 70 ص 130 مكية
وذكر في التفسير مرة بلعام وكان نصرانيا وأخرى يعيش وكان أعجميا ومرة جبر النصراني غلام الحضرمي وذكروا غيرهم، وهؤلاء غلمان موالي لم يكونوا ليفقهوا في علوم الدين وان فعلوا فليسوا ممن قد يجلس معهم الرسول ليتعلم منهم، أضف أن هذا الشخص كان أعجمي اللسان لا يعرف إلا اليسير من العربية.
ثم قال بعضهم بل هو سلمان الفارسي، والآية مكية والرسول لم يعرف سلمان الفارسي ولم يلتقي معه إلا بعد أكثر من ثلاثة عشر سنة من البعث وكان أكثر من نصف القرآن قد نزل عليه وحيا.
والرد القرآني جاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)} النحل يقول ابن كثير: “أخبر تعالى أن رسوله ليس بمفتر ولا كذاب ; لأنه ( إنما يفتري الكذب) على الله وعلى رسوله شرار الخلق ، ( الذين لا يؤمنون بآيات الله ) من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس . والرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا ، معروفا بالصدق في قومه ، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدعى بينهم إلا بالأمين محمد.” أنتهى كلام ابن كثير.
وما ذكرناه على الآية 103 من سورة النحل والتي ذكر فيها الأعجمي، ينطبق على الآية 5 من سورة الفرقان، في قوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} وهنا نجد الإتهام أن هناك من يملي على الرسول وهو يكتب صباحا ومساءا، أي هناك إستمرارية، وحيث أننا ذكرنا أن المفاهيم والمبادئ الأساسية نزلت في أوائل السور، ثم كان تفصيل هذه المبادئ والمفاهيم والقصص الذي استمر حتى أنتهاء التنزيل بعد 23 سنة، فلابد لو صح كلامهم أن هؤلاء اللذين يملون عليه ظلوا معه طوال هذه السنوات، ولا بد أنهم كانوا معروفين للناس حيث أنهم مع الرسول ويرافقونه بكرة وأصيلا، ولو كان كذلك ظاهرٍا للناس وأنكره الرسول فكيف كان يلقب بالصادق الأمين.
وفي قوله {وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)} الأنعام. هذه الآية ترتيبها في النزول ال 55 وسبقها نزول أكثر من ثلث آيات القرآن، وأذكر هنا تفسير ابن عاشور إذ يقول رحمه الله: أي نصرّف الآيات مثلَ هذا التّصريف الساطع فيحسبونك اقتبسته بالدّراسة والتّعليم فيقولوا : دَرَسْتَ . والمعنى : أنّا نصرّف الآيات ونبيّنها تبييناً من شأنه أن يصدر من العَالِم الَّذي دَرَس العلم فيقول المشركون دَرستَ هذا وتَلَقَّيتَه من العلماء والكُتب ، لإعراضهم عن النّظر الصّحيح الموصل إلى أنّ صدور مثل هذا التَّبيين من رجل يعلمونه أمِّيّاً لا يكون إلاّ من قِبل وحي من الله إليه. أنتهى كلام ابن عاشور.