5/5 الرد على إدعاء أن القرآن بشري المصدر

الرد على شُبهة وإدعاء أن القرآن الكريم نُقل من الكتب السماوية التي سبقته وأنه بشري المصدر

5 / 5

الجزء الخامس والأخير

نعود الى شبهة النقل عن المصادر اليونانية والزرادشتية والفارسية والصابئة واليهودية والمسيحية وغيرهم، ولو كان- وهو كما ذكرنا – من المحال أن يكون –  السؤال هو لماذا إختلف القرآن الكريم مع هذه الكتب والأديان في أمور عقائدية وتشريعية، وفي العبادات، وفي الشئون الإجتماعية والإقتصادية، وفي المحرمات والعقوبات، وفي علوم الغيبيات، وفي الأمور التي نسميها اليوم العلوم الطبيعية ومنها خلق الحياة وخلق الكون.

إذا كان ينقل منها فلماذا يختلف مع هذه المصادر، أليس كان الأجدر بمن ينقل أن يلتزم بما ينقله بدقة، أليس هذا من طبيعة الذي ينقل عن الآخرين. إلا لو كان أذكى وأعلم منهم ينقل عنهم ويصحح عليهم، وهنا علينا أن نضيف صفة العبقرية الى سعة العلم التي شملت علوم هذه الأديان والحضارات، بالإضافة الى قوة الذاكرة، حتى لا تتعارض الأجزاء التي نزلت على فترات بينها سنوات مع بعضها البعض. ولو قبلنا وجود هذا العبقري واسع العلم والحكمة، الذي شاء أن يظل في الخفاء ويترك المجد لغيره، وظل جوار الرسول طوال ثلاثة وعشرين سنة ولم يلحظه أحد من الصحابة أو المشركين.

لقد دعا الرسول 13 سنة وجابه العذاب والألام في مكة فلم يؤمن إلا القليل، فلم يضعف أو ييأس، بل استمر القرآن يتنزل عليه بأسلوبه الواثق المنتصر القوي المتكبر، بينما يعاني الرسول ومن معه من المسلمين المستضعفين العذاب على أيدي المشركين.

نقول لماذا الذي ينقل يختلف مع الكتب والعلوم التي ينقل عنها، لأننا كما سنرى، أن الإختلاف مع ما ورد في هذه التي أعتبرها هؤلاء المفترون المصادر من كتب اليهود والنصارى، والتي هي في أغلبها تسقط أمام العقل السليم وأمام العلوم الحديثة نتيجة أخطاءها الفادحة، بينما نجد ما ورد في القرآن الكريم والذي اختلف فيه عن المصادر التي اتهم انه نقل عنها – ولماذا الإختلاف لو صح النقل- نقول أن ما اختلف فيه، كان في الحقيقة تصحيحا للأخطاء العلمية خاصة والتي اشتملت عليها هذه الكتب، التي تدخل البشر فيها بل وأضاعوا أصولها التي نزلت من عند الله تعالى، وما تبقى لديهم منها إلا كلام البشر نقلا عن أنبياء الله، بما اشتمل عليه من إضافات بشرية وحذف.

ذكرنا من قبل التحدى أن يأتِ أحد بسورة من مثل القرآن، ونذكر هنا دليل آخر على أن القرآن حق ولا يمكن لبشر أن يكون ألفه أو إفتراه، في قوله سبحانه وتعالى : {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} سورة فصّلت. حيث أن الهاء في أنه الحق تعود على القرآن الكريم. أي أن الناس سيرون في المستقبل آيات الله في الكون وفي أنفسهم فيجدون الإشارة إليها في آيات القرآن فيعرفوا أنه أي القرآن حق منزل من عند الله تعالى وليس كلام البشر.

وهذا يأخذنا الى موضوع الأعجاز العلمي للقرآن الكريم، كثر من يخرج علينا هذه الأيام بعناوين مثل وهم الإعجاز العلمي، خرافة الإعجاز العلمي، ونهاية ألإعجاز العلمي وهكذا. وأقول لكم أن هؤلاء جميعًا جهلة لا يفقهون حديثا، والأدلة موجودة حاضرة.

 نعود لموضوع شبهة النقل، لو أخذنا موضوع خلق الحياة والكون، نجده في القرآن مختلفا عن الذي ورد في الأديان السابقة، وهذا الإختلاف بل هذا التصحيح، هو ما جعل الدلالات المباشرة لهذه الآيات القرآنية تؤدي إلى معنى الخلق التطوري للكون والحياة، بما يوافق ما وصلت إليه العلوم الحديثة. هذه حقيقة لا يستطيع أي كتاب مقدس آخر أن يدّعيها. فكيف إستطاع الرسول أو من يُملون على الرسول، نقول كيف استطاعوا أن يصححوا ويتجنبوا الأخطاء الجسيمة التي نجدها في قصص الخلق التي وردت في سفر التكوين وفي كتب المجوس وفي علوم اليونان وغيرهم، حتى يخرج هذا القرآن بما لا تتعارض أي من دلالاته المباشرة مع أي من علومنا الحديثة.

وحيث أننا سنورد بعض الإختلاف بين القرآن والكتب السماوية وعلوم البشر التي سبقته، يجب أن أذكر هنا أن لي بحثا مستفيضا أستغرق عشرات السنين، مفصل الى درجة قد يمل منها البعض، بيّن بوضوح وبالدلائل اللغوية العلمية، توافق الآيات الكونية القرآنية التي تناولت خلق الحياة والإنسان مع ما توصلت اليه علومنا الحديثة. وهو منشور في موقع المضاربة هذا، وللتسهيل وضعته في حلقات على اليوتيوب بلغت 18 حلقة منشورة على هذه قناة المضاربة، ويستطيع أي إنسان التأكد من دقة وصحة ما أقوله هنا. فقط أردت التنويه لأن هذا البحث الذي نحن بصدده لا يتسع لبيان كل هذه الأدلة والبراهين، والتي كما ذكرت موجودة ومفصلة  في الحلقات المذكورة Quran, Creation & Science     والمنشورة في المدونة على هذا الموقع وأيضًا تحت عنوان كتاب الخلق.

دعونا ننظر الى أمثلة قليلة عن بعض المعلومات الأساسية التي اختلف فيها القرآن عن الكتب السماوية التي سبقته:

ورد في سفر التكوين -وهو أول كتب العهد القديم لليهود وللنصارى- أن الله تعالى خلق كل أنواع الحياة في الأيام الستة الأولى وكان خلق كل نوع دفعة واحدة: النباتات والأشجار خلقت في اليوم الثالث، المخلوقات البحرية والطيور في اليوم الخامس، البهائم والوحوش والمخلوقات البرية ثم الأنسان في اليوم السادس.

بينما القرآن نفى خلق أي من أنواع الحياة في أيام الخلق الستة، وبين أن خلق السماوات والأرض فقط كانا في هذه الأيام الستة. وفصّل خلق السماوات والأرض في هذه الأيام في الآيات من 9 الى 12 من سورة فصّلت.

أي أن القرآن لم يذكر خلق أي حياة في الأيام الستة. وذكر أن الأرض التي خُلقت في الأيام الستة غير الأرض، وأن اليوم كان خمسين ألف سنة مما تعدون، أي أن الستة أيام كانت ثلاثمائة ألف سنة من السنين التي نعرفها اليوم.

والعلم يقول لنا أن الكون بعد مرور ثلاثمائة ألف سنة بعد نقطة البدأ، ما يطلق عليها الإنفجار الكبير. وهي في الدين، بعد مرور ستة أيام طول اليوم الواحد خمسين الف سنة، لقوله تعالى {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} المعراج، عن أيام يوم القيامة ومثلهم أيام بدء الخلق لقوله تعالى {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ} سورة الإنبياء، فبعد مرور استة أيام، أي 300,000 سنة، أصبح الكون مرئيا لأول مرة في عمره، لأنه في ذلك الوقت، أنفصل الإشعاع عن المادة فتكونت وثبتت نوى ذرة الهيدروجين. وأنتهت بذلك مرحلة الخلق أو التخليق الكوني. ولم يكن هناك حياة أو أثر لشيء حي في هذه الآيام الكونية الستة.

السؤال هنا لماذا الذي نقل قصة الخلق في الأيام الستة عن العهد القديم، لم ينقل خلق النباتات والأشجار والأسماك والطيور والحيوانات والإنسان في هذه الأيام الستة، هؤلاء من الوضوح بحيث لا يستطيع من ينقل ألا يراهم! تُرى لماذا أسقطهم عند النقل! أم هل عرف أنهم خطأ علميا جسيمًا فصححه! في الحالتين ليس هذا ضمن قدرات البشر في القرن السابع.

وورد في العهد القديم سفر التكوين عن خلق آدم (وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً.)

الذي ينقل سوف يقول مثل هذا، لماذا قد يخالج فكر أي بشر في القرن السابع أن هذه المعلومة ليست صحيحة، وهي في كتاب مقدس، يؤمن به اليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب، ويؤمن به الرسول، بل والهدف دين جديد وكتاب أعلن عن نفسه أنه تكملة للتوراة والأنجيل، ومصدقا لهذه الكتب، ويعلم الرسول أن اليهود يراقبونه ويمحصون كل كلمة ترد فيه ويقارنون مدى توافقها مع كتبهم، ويحكمون على دعوته بموجب هذا القياس، والمشركون سماعون لهم، فلماذا يخالفهم؟ من الطبيعي أن لا يخالف ما ينقل عنه. ولكنه خالفه، إذ ليس في القرآن كله ما يؤدي الى هذا المعنى، أو إلى أي خلق فوري من التراب. القرآن ذكر بدء خلق الإنسان من طين، وذكر مرحلية الخلق، ولو درست الآيات التي تناولت خلق آدم أو الإنسان أو البشر لن تجد جملة صريحة مثل التي وردت في سفر التكوين. قد تجدها في التفاسير والمرويات لأن هذا مدى علمهم آنذاك، ولأنهم كانوا يلجأون للإسرائيليات لفهم ما قد يعصى عليهم، ولكنك لن تجده في القرآن الكريم، مهما بحثت، فالقرآن لا يدخله الباطل أبدًا.

التعبير القرآني الخلق من الطين أو التراب، واضح أنه يدل على أن بدء الخلق كان من الطين، ويُطلق على كل الناس، ليس فقط آدم، بل على كل الناس الذين بدء خلق نوعهم من الطين، أنظر قوله تعالى في الآية 37 من سورة الكهف { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) } المخاطب ليس آدم، وليس عيسى، بل هو إنسان عادى مثلي ومثلك، ولهذا فليس المقصود هنا أن الله تعالى قد خلق هذا الشخص المخاطب من التراب ثم نطفة ثم رجلا مباشرة، وإنما هي طريقة للتعبير بتبعية هذا الرجل للجنس الإنساني الذي كان أول خلقه من تراب. وأنظر أيضًا قوله تعالى{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (2) } الأنعام 2 والكلام هنا موجه الينا كلنا كنوع إنساني، ونحن لم نخلق من الطين مباشرة، وإنما أول خلق نوعنا كان من الطين. وفي قوله {وَٱللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍۢ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍۢ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَٰجًا ۚ} والكلام موجه الى كل الناس أنهم خلقوا من التراب، ولاحظ أن النطفة سبقت جعل الناس أزواجا ذكرا وأنثي، ولهذا فالنطفة ليست ما يتأتي من الذكر والأنثى، وأنما هي مرحلة من مراحل الخلق.

ولفظ خلق في اللغة العربية يدل على تقدير ما منه وجود الشيء (قدر : تدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته)، فقوله تعالى {إني خالق بشرا من طين} قد تعني الإيجاد من الطين مباشرة، وتعني أيضًا تقدير الطين المخلوق ليبلغ في منتهاه بشرا .  أما ما جاء في المرويات والتفاسير الإسلامية عن خلق آدم مباشرة من الطين، فهؤلاء أتبعوا علوم زمانهم وغلب عليهم النقل من الإسرائيليات. وهذا ما قد كنا لنتوقعه أيضًا في القرآن لو كان القرآن بشري المصدر، إلا أننا لا نجد فيه مع تكرار آيات الخلق وتنوعها، أيٌ من هذه المعارف والمعاني-الغير صحيحة علميًا- التي كانت منتشرة في ذلك الزمان.

والآن نعيد النظر في الآيات إذ قد نجد  فيها المعنى المرحلي الذي يصف خطوات تطور خلق الإنسان بدءًا من الطين.

في خلق الإنسان، يقول الله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12)} المؤمنون . أي أنه ينحدر من سلالة أو سلسلة أولها من الطين المتغير، بل ولو أكملنا هذه الآيات هنا سنجد حلقات سلسلة التطور حتى الإنسان الأول، وبعد الإنسان الأول { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ} أي ثم أنُشأ الأنسان خلقًا آخر هو البشر.

وأنظر قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} 20 سورة العنكبوت، هنا يأمرنا الله تعالى أن نسير في الأرض – كما فعل تشارلز داروين – لنعرف كيف بدأ الخلق، أي أن بدء الخلق معقولاً بمعنى يمكن معرفته بالعقل، تُرى لو كان الخلق حدث كما جاء في سفر التكوين  (وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً.)، وهذا خلقا إعجازيًا لحظيًا فوريًا لا يتكرر، لو كان هذا ما حدث، فهل كان الله تعالى ليأمرنا بالسير في الأرض لنرى كيف بدأ الخلق، بالطبع لا، القرآن لم يختلف مع العهد القديم فقط، وأنما ذكر العلم الصحيح في خلق الحياة والإنسان. فكيف؟

وقوله سبحانه وتعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (9) }7-8-9 السجدة

أنظر لفظ بدأ وهو ما يدل أنه لم يكن خلقًا لحظيًا آنيا فوريًا وأنما هو خلقا مرحليا أستمر زمنا قد يكون قصيرا وقد يكون أمدًا طويلا، وأنه جعل المخلوق يتناسل عبر سلسلة طويلة، حتى استوى أي اكتمل فلما أكتمل وبلغ مبلغه نفخ الله فيه من روحه -وهذا آدم أول البشر- وجعل لنا –والمخاطب هنا أصبح نوعنا- السمع والأبصار والأفئدة. أنظر التشابه مع آية سفر التكوين – والذي كان لازمًا لأن العرب كانوا يرجعون لليهود والنصارى للحكم على صدق الرسالة الجديدة – والإختلاف الذي أضاف البدء والمرحلية وسلسلة التناسل حتى استوى واكتمل المخلوق فاصبح له بصرا وسمعا ووعيا، والإختلاف هو ما جعل الآية متوافقة مع علومنا الحديثة.

وأنظر قوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} آية  11 الأعراف

المخاطب هنا النوع الإنساني  : خلقناكم حتى تطورتم ووصلتم الى الصورة التي أنتم عليها ثم بعد ذلك جاء ذكر آدم، أي أن النوع الإنساني كان سابقًا لآدم. ويجب التنويه هنا الى أهمية دلالات لفظ ثم. ثم في كلام العرب تدل قطعًا على إنتهاء الحدث الذي قبلها قبل إبتداء الحدث الذي بعدها. أي أن النوع الإنساني كان مخلوقا على صورته قبل السجود لآدم، والسجود لآدم كان قبل ذريته، ولهذا فالنوع الإنساني سابق لآدم ولذرية آدم، الذين نحن منهم. 

وهناك الكثير الكثير من آيات خلق الحياة والخلق الكوني، لم تختلف فقط مع المصادر التي يدعى البعض أن القرآن نقل عنها، بل أنها اختلفت مع كل المعارف والعلوم البشرية التي كانت في أي من الحضارات الإنسانية في ذلك الزمان، أي إختلفت عن علوم ومعارف البشر في القرن السابع ميلادى والأول هجري، بل وعن علوم البشر حتى قبل قرنين من اليوم. وقد بينت دلالات كل هذه الآيات الكريمة في موضوعي خلق الكون وخلق الحياة في البحث الذي يمكنكم الإطلاع عليه في قناة المضاربة.

نعود الى العهد القديم سفر التكوين الذي جاء فيه أن الله تعالى خلق الإنسان على صورة الله. إذ جاء فيه: وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا)

أختلف القرآن كلية هنا إذ يقول سبحانه وتعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 11 الشورى

الله تعالى خالق هذا الكون وليس منه أو فيه، وكل الصفات التي تعود الى شكل وشبه الإنسان هي تراكيب لتتوائم مع الظروف التي حوله ولتلائم طبيعة حياته واحتياجاته ومعاشه على كوكب الأرض، أما الله تعالى فليس مثله شيء في هذا الكون لأنه خارج الكون والمكان والزمان، ولا علم لنا بما هو خارج الكون وهذا ما يقوله لنا العلم الحديث ويخرج عن مجاله.

ورد في العهد القديم أن الله تعالى خلق زوجة آدم من ضلع آدم أثناء نومه وسماها حواء. إذ جاء في سفرالتكوين 21: (فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. 22وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. 23فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ».   ويقول: وَدَعَا آدَمُ اسْمَ امْرَأَتِهِ «حَوَّاءَ» لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ.)

أما القرآن الكريم فلم يسمي زوجة آدم حواء، ولم يذكر لنا كيف خلقت، لأنها واحدة من أفراد الجنس الإنساني – وأول ذكر لها ورد في قوله تعالى: {وَيَا ءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(19)} سورة الأعراف، ومثله في سورة البقرة، وهنا نجد ظهور زوجة آدم كان دون مقدمات، وهذا ما نتوقعه لو كانت زوجة آدم موجودة ولم تخلق آنذاك من ضلعه أو من الطين. ولو كانت خلقت من ضلع آدم أو خلقت خلقًا إعجازيا آخر لأشار النص الى هذا الخلق، وحيث أن النص لم يشر الى خلق زوجة آدم، لا بد أن زوجة آدم كان خلقها مثل خلق بقية الناس.

أما الآية { {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ….(6)} الزمر ، فالنفس هنا تعود الى خلق أول خلية حية والتي ظلت تتوالد بالإنقسام طيلة بليوني سنة كما يقول لنا العلم الحديث، وكما قالت لنا الآية الكريمة من قبل. ونلاحظ في كل الآيات التي ورد فيها خلق النفس لم يذكر في أي منها أن النفس هي آدم، وإنما صيغت بحيث تسمح للناس أن يفهموها هكذا، في الأزمان التي كانوا يعتقدون فيها أن زوجة آدم خلقت منه، وهذا من إعجاز الصيغة القرآنية، ومتى تطورت معارف الناس وبلغت الى الحقائق المثبتة، إستطاع الناس أن يجدوا في الآية ما يتوافق مع علومهم الحديثة. وهذا يدخلنا في موضوع كثر الكلام فيه، وهو إذا كنا نقول بالإعجاز العلمي للقرآن، فلماذا لا نستخرج منه إكتشافات ونظريات علمية؟ الإعجاز العلمي ليس في استخراج نظريات علمية من القرآن، لأنه لو أحتوى نظريات علمية متقدمة عن الفكر البشري في أي عصر، فإن هذا سيحدث بلبلة في فكر من ليسوا مؤهلين لتلقيه وفهمه، ويضر بالتطور المعرفي الطبيعي البشري، وتعليم الناس علوما نظرية وتطبيقية، ليس من أهداف الدعوة وليس المطلوب منها إحداث طفرة علمية. وإنما الإعجاز العلمي هو في عدم تعارض المذكور في القرآن مع ما نكتشفه من صحيح العلوم، وهذا ما نجده في القرآن ولا نجده في أي من الكتب المقدسة الأخرى. ولأن ما كتب منذ الف وأربعمائة سنة لا يتعارض مع علومنا الحديثة، فهذا هو الإعجاز. وستجدون التفصيل لكل آية في بيان دلالات هذه الآيات في موقع وقناة المضاربة.

وأعود الى قصة زوجة آدم، وإضيف أن النص القرآني –خلافا للقصص الشائعة- لم يُحمّل زوجة آدم مسؤولية العصيان والخطيئة الأولى كما ورد في الروايات عند اليهود والنصاري، وأنما أشار إلى أنهما أكلا من الشجرة معاً، بل وفي الآيات من سورة طه، هناك بيان واضح أن آدم هو الذي حُذر من الشيطان وهو من وسوس إليه الشيطان. ولا وجود في القرآن لحية وحواء تأكل من التفاحة المحرمة ثم تطعم آدم، فيقع في الخطيئة الأولى بسبب المرأة زوجته.

وهناك التفريق بين نوع/جنس الإنسان والبشر، لم تفرق كتب اليهود والنصارى بين نوع الإنسان ونوع البشر، بينما بين القرآن أن نوع البشر هو نوعا متطورًا عن نوع الإنسان وأول البشر هو آدم الذي تعلم الأسماء والبيان وتولى هو ونسله من بعده مسؤولية الخلافة في الأرض، أي الحفاظ عليها وإعمارها. أنظر قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} المؤمنون والخلق الآخر الذي إنشأ في نهاية سلسلة خلق الإنسان هو آدم أول البشر.

مما سبق نجد أن القرآن الكريم يدل على الخلق التطوري الذي شمل كل أنواع الحياة والنباتات حتى بلغ الإنسان ثم البشر، وأن هذا الخلق التطوري الذي استغرق زمنا ودهورا طويلة لم يحدث ولم يبدأ في الآيام الستة، وفي هذا يختلف كلية عن كتب اليهود والنصارى التي تتعارض مع العلوم الحديثة وما زال بعض أتباع هذه الأديان من اليهود والنصارى ينكرون ويحاربون علماء التطور ويمنعون تدريس هذه الفرضية في المحافل العلمية.

نكتفى بهذا القدر اليسير من الآيات العلمية الكونية. وقبل أن نختم نود التعليق على شُبهة الشبه الظاهري بين قول السيد المسيح الذي جاء في أنجيل مرقص 10: 25 : (مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ) وتكرر نفس القول في أنجيل متَّى وإنجيل لوقا. وبين وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ40} سورة الأعراف.

تدل الآية في الأنجيل إلى إستحالة دخول الغني الى ملكوت الله، بينما قد يكون هذا الغني خيّرًا مؤمنًا متصدقًا مزكيًا مصلياً متقيًا ورعًا، وهذا وفق القرآن ثوابه وأجره عند الله جنات عرضها السماوات والأرض، أما الذي يستحيل دخوله الجنة، فهو المتكبر الكافر بما أنزل الله تعالى، وهذا المعنى الذي ورد في الآية القرآنية يبين عدل الله تعالى، أما المعنى الوارد في الأنجيل، فقد شمل الغني التقي مع الغني الفاجر في إستحالة دخولهما ملكوت الله. ولهذا فالإدعاء أن القرآن نقل هذه الجملة غير صحيح، الإنجيل يتكلم عن الغني، والقرآن يتكلم عن الكافر المتكبر، وشتان بينهما. بل والرد عليه أن القرآن صوب ما حرفه الناس على لسان سيدنا عيسى، وأعاده الى أصله.

وقبل أن ننهى موضوعنا نشير ألى أمثلة أخرى عن الإختلاف مع قصص العهد القديم، وهي كثيرة إلا أننا لقصر الوقت سنورد أثنين أو ثلاثة فقط. نجد في العهد القديم أن هارون هو الذي صنع العجل الذي عبده اليهود فترة غياب موسى، بينما هارون نبي في الإسلام والذي صنع العجل هو السامري، ونجد في العهد القديم قصص يأمر الرب فيها اليهود بقتل وسبي نساء وأطفال من هم من غير اليهود كالكنعانيين، ونجد مصارعة يعقوب مع الرب والذي سماه الرب بعد المصارعة إسرائيل، ونجد أن الرب يأمر العبرانيات أن يسرقوا أمتعة فضة وذهب من جاراتهن المصريات قبل الخروج من مصر،  ونجد الكثير الكثير الذي لا تقبله الطبيعة الإنسانية، بينما لا نجد مثله في القرآن الكريم. الذي جاء فيه (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)) البقرة ونجد فيه {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ } فلا يحمل أحد خطيئة آخر، وفيه ألا تأخذوا أموال الناس بالباطل في قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} البقرة. ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. أنظر قوله تعالى{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} سورة الحجرات.

وقبل أن ننتهى من شُبهة النقل، هناك أيضاً شبهة -ضعيفة- وهي تتعلق بشبهة النقل من أشعار أمرؤ القيس وحاتم الطائي وغيرهم ممن قيل زورًا أن شعرهم تضمن كلاما يشبه ما نزل في القرآن، وتبين أنه شعر منحول كتب بعد الإسلام ونسب الى من ذكرناهم وغيرهم من شعراء العصر الجاهلي، أي أن الحقيقة أن هذا الشعر ليس لأمرؤ القيس وليس لحاتم الطائي، وأنما كتب في القرون التالية وأن هذا الشعر هو الذي نقل من القرآن الكريم. أما شعر أمية ابن الصلت فهذا قال عنه أهل الأدب والعلم أنه إما منحول ونسب له وأما له وفي هذه الحالة أنه هو من تأثر بالقرآن لأنه كان معاصرًا له ، والقول الأرجح عند معظم العلماء أنه شعر منحول كتب بعد وفاة أمية ابن الصلت بزمن ونسب إليه.

لقد رددنا على أكثر الأفتراءات المتعلقة بشبهة النقل، ولم نزور ونؤلف مثل ما يفعلون، بل توخينا الصدق والأمانة العلمية، ودرسنا وبينا الأدلة والإستنتاجات ملتزمين بأصول الفكر السليم والمنطق الصحيح . وتبين ما أخبرنا به الله تعالى، إنما أنزله الذي يعلم السر وأخفى.  ونعلم أنهم تمتلأ قلوبهم حقدا وحسرة، ولن يتوقفوا وسيعودون بافتراءات جديدة وسيكررون الإفتراءات القديمة، فلا تصدقوهم ولا تستمعوا إليهم، واعلموا وتأكدوا أن هذا القرآن الذي بين أيدينا، والذي حفظه الله لنا، هو المعجزة الحية، التي لا يراها إلا من شاء الله له أن يهتدي، والحمد لله الذي هدانا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*