الباب الثالث
مجالات الاستثمار
من خلال عقد المضاربة
الفصل الأول
طبيعة المضاربة
ذهب الأحناف والشافعية إلى أن المضاربة من جنس المعاوضة كالإجارة، وإنها واردة على خلاف القياس لجهالة العمل وجهالة الأجر، والأصل فيها إنها لا تجوز، وقد رخصها الشارع استثناءً من الأصل وتحقيقاً للمصالح وتيسيراً على الناس وتلبية لحاجاتهم ورفقاً بهم.
بينما ذهب الحنابلة إلى أن المضاربة من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض، فالمضاربة مثل المساقاة والمزارعة، أصلاً يقاس عليه.
جاء في القياس لابن تيمية من أن عقد المضاربة من جنس المشاركة لا من جنس المعاوضة الخاصة التي يشترط فيها العلم بالعوضين، والمشاركة جنس غير جنس المعاوضة، والمضاربة ما لا يقصد فيه العمل بل المقصود المال، فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل كما للجاعل والمستأجر قصد في عمل العامل، ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئاً لم يكن له شيء. بل المضاربة مشاركة فالعامل بنفع بدنه وصاحب المال بنفع ماله وما قسم الله من الربح كان بينهما على الإشاعة، وإذا شرط شيئاً مقدرا في المضاربة لم يجز لأن مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين.
وجاء في كتاب موقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة للدكتور عبد الله عبد الحميد العبادي (صفحة 211، 212):
”ذهب الأحناف إلى أن القياس في عقد المضاربة لا يجوز، وعللوا لذلك أنه استئجار بأجر مجهول بل بأجر معدوم، والعمل مجهولاً لكنا تركنا القياس بالكتاب العزيز والسنة والإجماع. (بدائع الصنائع جزء 8)
وجاء في تحفة المحتاج في الفقه الشافعي (جزء 5 ص220): ”وهو – أي القراض – رخصة لخروجها عن قياس الإجارات كما أنها كذلك لخروجها عن بيع ما لم يخلق“.
أما الحنابلة فإنهم اتجهوا اتجاهاً آخر فيه يسر وسعة، حيث إنهم الحقوا المضاربات بعقود الشركات: قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في القواعد النورانية: من قال إجارة بالمعنى العام فقد صدق، ومن قال إجارة بالمعنى الخاص فقد أخطأ. ثم يضيف في مكان لاحق: ولهذا جوز أحمد سائر أنواع الشركات التي تشبه المساقاة والمزراعة، مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرها إلى من يعمل عليها، والأجرة بينهما.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: فالذين قالوا المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس، ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة، لأنها عمل بعوض، والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض، فلما رأوا أن العمل والربح في هذه العقود غير معلومين قالوا هي على خلاف القياس، وهذا من غلطهم، فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض، والمشاركات جنس غير جنس المعاوضات، وإن كان فيها شوب المعاوضة (إعلام الموقعين 2/4). ثم نوع العمل إلى ثلاثة أنواع:
1- أن يكون العمل مقصوداً، معلوماً مقداره، مقدوراً على تسليمه، فهذه الإجارة اللازمة.
2- أن يكون العمل مقصوداً، لكنه مجهول أو غرر، فهذه الجعالة وهي عقد جائز ليس بلازم.
3- مالا يقصد فيه العمل، بل المقصود منه المال وهو المضاربة“.
وجاء في مجموع فتاوي ابن تيمية (جزء 29 ص 98) في موضوع المساقاة والمزارعة: ”أن هذه المعاملة مشاركة، ليست مثل المؤاجرة المطلقة، فإن النماء يحصل من منفعة أصلين، منفعة العين التي لهذا، كبدنه وبقره. ومنفعة العين التي لهذا، كأرضه وشجره. كما تحصل المغانم بمنفعة أبدان الغانمين وخيلهم، وكما يحصل مال الفيء بمنفعة أبدان المسلمين من قوتهم ونصرهم. بخلاف الإجارة فإن المقصود فيها هو العمل أو المنفعة. فمن استؤجر لبناء أو لخياطة أو شق الأرض أو بذرها أو حصاد، فإذا وفّاه ذلك العمل فقد استوفى المستأجر مقصوده بالعقد واستحق الأجير أجره. ولذلك يشترط في الإجارة اللازمة: أن يكون العمل مضبوطاً كما يشترط ذلك في المبيع. وهنا منفعة بدن العامل وبدن بقره وحديده، هو مثل منفعة أرض المالك وشجره، ليس مقصود واحد منهما استيفاء منفعة الآخر إنما مقصودهما جميعاً ما يتولد من اجتماع المنفعتين، فإن حصل نماء اشتركا فيه، وإن لم يحصل نماء ذهب على كل منهما منفعته، فيشتركان في المغنم وفي المغرم، كسائر المشتركين فيما يحدث من نماء الأوص التي لهم، وهذا جنس من التصرفات يخالف في حقيقته ومقصوده وحكمه الإجارة المحضة، وما فيه من شوب المعاوضة من جنس ما في الشركة من شوب المعاوضة“.
ويضيف ابن تيمية في صحفة 99: ”فمعلوم قطعاً أن المساقاة والمزارعة ونحوهما من جنس المشاركة، ليسا من جنس المعاوضة المحضة، والغرر إنما حُرم بيعه في المعاوضة لأنه أكل مال بالباطل، وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر. لأنه إن لم ينبت الزرع فإن رب الأرض لم يأخذ منفعة الآخر، إذ هو لم يستوفها ولا ملكها بالعقد، ولا هي مقصودة، بل ذهبت منفعة بدنه، كما ذهبت منفعة هذا، ورب الأرض لم يحصل له شئ حتى يكون قد أخذه والآخر لم يأخذ شيئاً، بخلاف بيوع الغرر وإجارة الغرر، فإن أحد المتعاوضين يأخذ شيئاً، والآخر يبقى تحت الخطر، فيفضي إلى ندم أحدهما وخصومتهما، وهذا المعنى منتف في هذه المشاركات التي مبناها على المعادلة المحضة التي ليس فيها ظلم البتة، لا في غرر ولا في غير غرر.
يضيف: من جهة أنهم اعتقدوا هذا إجارة على عمل مجهول، لما فيه من عمل بعوض. وليس كل من عمل لينتفع بعمله يكون أجيراً، كعمل الشريكين في المال المشترك، وعمل الشريكين في شركة الأبدان، وكاشتراك الغانمين في المغنم، ونحو ذلك مما لا يعد ولا يحصى، نعم! لو كان أحدهما يعمل بمال يضمنه له الآخر لا يتولد من عمله، كان هذا اجارة.
ويضيف في صفحة 101 في موضوع المضاربة: انا نعلم بالاضطرار أن المال المستفاد إنما حصل بمجموع منفعة بدن العامل ومنفعة رأس المال، ولهذا يرد إلى رب المال مثل رأس ماله ويقتسمان الربح، كما أن العامل يبقى بنفسه التي هي نظير الدراهم. وليست إضافة الربح إلى عمل بدن هذا بأولى من إضافته إلى منفعة مال هذا“.
<< previous page | next page >> |