الفصل الثاني

مجالات الاستثمار في المضاربة

تقوم المضاربة على أساس أن يدفع الرجل ماله إلى من ينميه بالعمل في مجال التجارة، على أن يقتسما الربح بنسبة شائعة بينهما، وهذا يشابه المبدأ الذي تقوم عليه معاملتا المزارعة والمساقاة، إلا أن المضاربة لها شروطها الخاصة بها لأن المال فيها معرض للهلاك أكثر من تعرضه للهلاك في عقدي المزارعة والمساقاة، لأن العامل يتصرف فيه بيعاً وشراء فيتبدل من حال إلى حال، ولهذا اجتهد الفقهاء – منذ فجر الإسلام وإلى يومنا هذا – في بيان حدود المضاربة ووضع شروطها، وقد يكون حصرهم لها في حدود التجارة قد نتج عن أنها كانت في الأصل تستخدم في هذا المجال، ففي العصر الجاهلي والإسلامي المكي كان القراض من وسائل التمويل المستخدمة بجانب التمويل الربوي، الذي حرِّم في القرآن الكريم في آخر ما نزل في المدينة من آيات الربا، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الشريف:

{ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، وأحل الله البيع وحرم الربا}(سورة البقرة الآية 275)

ومكة في العصر الجاهلي، وبحكم موقعها المتحكم في أحد الخطوط المهمة للتجارة العالمية … كانت مجتمعاً يتكسب بالدرجة الأولى من التجارة، وكان لأهلها رحلتان في كل عام : رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام. وكان الطريق التجاري محفوفاً بالمخاطر والمشقات، فأقاموا الأحلاف وعقدوا العهود مع القبائل العربية الأخرى لتأمين الحماية لقوافلهم، وساعدهم على ذلك ما كانوا يتمتعون به من مركز مرموق، واحترام عند قبائل العرب، فأدى هذا الاستقرار إلى أن ازدهرت تجارتهم فأصابهم منها الخير الكثير.

إلا أن السفر مع القافلة كان من الأمور الصعبة الشاقة التي لا يقدر عليها سوى ذوي القوة والعزم والجلد، فكان أغنياء قريش وموسريها – الرجال منهم والنساء ممن لا قدرة لهم على تحمل هذه المشقة وبذل هذا الجهد – يدفعون بأموالهم إلى من يتاجر لهم فيها لقاء نصيب من الربح، ومنهم من كان يقرضها بالربا إلى التاجر الذي يعوزه التمويل، ويقال إن العباس بن عبد المطلب ورجلاً من بني المغيرة وفي رواية أخرى وخالداً بن الوليد، كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى أناس من ثقيف، ويقال إن من تسلف هم بنو المغيرة من أهل الطائف كانوا تجاراً يتسلفون لتمويل تجارتهم بالربا، والله أعلم.

ونظراً لقدم عهد القرشيين بهذه التجارة، وتحكمهم في طريقها، وتنظيمهم لشؤونها، ومكانتهم بين العرب، لم يكن لأحد أن ينافسهم في تجارتهم هذه، مما نتج عنه أنها كانت في أغلب أحوالها تجارة رابحة، إلا أن تتعرض قوافلهم للسيول الجارفة أو الأعاصير وغيرها من العوامل القاهرة، أو أن ينشب النزاع بين القبائل لثأر أو لغيره من الأسباب التي قد تعكر صفو العلاقات فتختل تجارتهم، فيتدارك المكيون هذه الخلافات ويعالجونها بحكمة حتى تعود تجارتهم إلى عهدها الزاهر. وكان للعرب في الجاهلية أسواقهم المحلية أيضاً مثل : عكاظ ومجنة وذو المجاز.

وقد سافر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه القوافل أكثر من مرة، أولها مع عمه أبى طالب وهو يومئذ صبي في التاسعة أو الثانية عشرة من عمره على الأكثر، ونزلت القافلة بسوق بصرى الشام، ثم سافر وهو فتى في العشرين من عمره، وصحبه أبو بكر الصديق رضى الله عنه إلى الشام، وكانت السيدة خديجة رضى الله عنها ذات مال تتجر في مالها بطريق القراض مع من تثق فيه من التجار، فلما سمعت بأمانة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم دفعت إليه ببعض مالها فسافر به عليه الصلاة والسلام ومعه غلامها ميسرة إلى الشام، فربح في تجارته.

وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة … كان أهل المدينة يتكسبون من الزراعة والنخل، وكانت عندهم معاملتان مشابهتان للقراض هما المزراعة والمساقاة، يدفع الرجل أرضه أو شجره إلى من يزرعها أو يقوم عليه بجزء من الزرع أو الثمر، ومثل هذا ما عرضوا على المهاجرين بعد عرضهم أن يملكوهم الأرض ليتكسبوا منها. وكان بعضهم يعطي الأرض على أن له ناحية من الزرع فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأصبح نصيب كل من رب الأرض والمزارع مشاعاً في الزرع أو الثمر.

وشرعية المضاربة مبنية على أنها سنة تقررية، أي إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرها على ما كانت عليه من حيث المبدأ، ولأنها كانت في التجارة … فقد حصرها الفقهاء الذين اعتبروها على خلاف القياس في حدود التجارة، إلا أن بعضهم قد أجاز للمضارب أن يستثمر مالها في مجال الزراعة، ويبدوا أن هذا من تأثير المدينة التي اعتمد المسلمون فيها على الزراعة كمصدر كسبهم، أما عندما تطرقوا إلى استثمار المال في مجال الحرف، والتي لم تكن من وسائل الكسب المشهورة في مكة أو المدينة؛ فقد منعها الجمهور عدا الحنابلة وهم من قالوا إن المضاربة أصل يقاس عليها.

وسواء كانت المضاربة أصلاً أو خلاف القياس … فإن المبدأ الذي تقوم عليه هو صحة استحقاق العامل الكسب بعمله، وصحة استحقاق صاحب المال الكسب بضمانه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : الخراج بالضمان، ولقوله عليه الصلاة والسلام في أفضل الكسب: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور. ولو عمل الرجل في ماله فربح، فربحه حلال له لقاء العمل ولقاء المال، ولا يختلف إن عمل في التجارة أو الصناعة أو غيرهما، فإن كان المال منه والعمل من آخر وربحا فهذا يستحق نصيباً من الربح لماله، وذلك يستحق نصيباً لعمله.

ولا علاقة لهذه المعاملة بالإجارة؛ فالعمل ليس ما يقصده رب المال، والأجر ليس ما يقصده العامل، وإنما قصدا الربح، هذا مخاطر بماله وذاك مخاطر بعمله، وكلاهما يأمل في تحقيق الربح. وليس في هذه المعاملة شبهة ربا، ولا أكل أموال الناس بالباطل، ولا يشوبها أي من المحرمات أو ما نهى عنه أو مما كره وقد جازت بالإجماع.

والتجارة حلال والزراعة حلال والصناعة حلال وكلها عمل يبارك الله لمن يتقنه ويحسنه ويخلص فيه. ومهما كانت الأسباب التي دعت الفقهاء إلى منعها في غير التجارة – ولا نشك في صوابها آنذاك – إلا أننا لا نستطيع إيجاد سبباً يدعونا إلى حصرها في مجال التجارة، فيتوفر التمويل بالمشاركات للتجار والزراع، بينما يترك أصحاب الحرف والصناعة بدون التمويل، والذي بدونه لن تدور عجلة الإنتاج بالكفاءة المرجوة، ولن تكون هناك تجارة إلا تجارة ما نستورده من الدول التي تمول مصانعها بالربا، والصناعة الحديثة تختلف عن صناعة أصحاب الحرف؛ فإن أمكن استئجارهم … يصعب استئجار مصنعاً، بل ولن يبنى مصنعاً على أساس أنه سيكون متوفراً لمن يريد استئجاره، وبالطبع … يمكن إحالتهم إلى الشركات ولكن رب المال قصد المضاربة لأنه عاجز أو منشغل، أضف إلى هذا كله أن إحالة رب المال إلى الإجارة والشركة مع أصحاب الحرف فيها تفريق، فكما يحال هذا … كان يمكن أن يحال المقارض والتاجر إليهما، وكما يمكن أن يُستأجر صاحب الحرف … يمكن استئجار التاجر أو عقد شركة معه، وهذا ما لم يقال به في المضاربة فقد رخص بها للحاجة إليها لأن الاستئجار لا يحل محلها ولو حل لم يرخص بها.

وقد خصص هذا الباب – من هذه الدراسة – لهذا الموضوع لأهميته القصوى في بناء اقتصادنا الإسلامي المعاصر، والذي من دعائمه المشاركة بين المال والعمل، وتكييف هذه المشاركات بما يناسب ظروف عصرنا وتقتضيه الحاجة الملحة وبما يعود بالخير على الأمة الإسلامية.

<< previous page next page >>