المضاربة في غير التجارة
جرت العادة أن ينمي العامل رأس مال المضاربة في التجارة بالشراء والبيع، ويبدو أن مسألة تنمية مال المضاربة من خلال أساليب الإستثمار الأخرى قد أثيرت في العصور السابقة، ربما لحدوثها فعلاً أو لرغبة الفقهاء بحثها ودراستها، ولولا ميل الناس إليها وربما حاجتهم لها … لما تطرق البحث إليها في تلك العهود. ونحن اليوم في حاجة إلى دراسة مستفيضة نظراً لتشَعَّب سبل الاسثتمار وتنوعها. ومن بالغ الأهمية أن يوفر النظام الاقتصادي المناخ المناسب لهذه الاستثمارات، ويكون هذا بتشجيع أصحاب الأموال على استثمارها، ومساعدة أصحاب الخبرات والمواهب على استغلالها، من خلال أَقْنية استثمارية تحكمها الضواب والأحكام الشرعية، التي توفر العدل والأمان، وتمنح أطراف المعاملة الشعور بالاطمئنان والرضى.
والمضاربة من العقود التي تطفو إلى السطح تلقائياً، كلما تعرضنا لرب المال غير القادر – لأي من الأسباب – على أن يعمل في ماله بنفسه، أو تعرضنا للعامل صاحب الخبرة والمعرفة والنشاط، والذي ينقصه المال لتحقيق ما يطمح إليه. والأجير ليس كالشريك لا في الطموح ولا في الحافز ولا في الاهتمام، وكل أصحاب الحرف والصناع ومن يقدمون الخدمات يحتاجون المال في أعمالهم مثل حاجة التاجر والزارع له، ولهم حقوق على المجتمع لا تقل عن حق التاجر والزارع، ولا يوجد سبب شرعي يمنع تطبيق المبدأ – الذي تقوم على أساسه المضاربة والمزارعة والمساقاة – على سبيل جمعهم مع أصحاب الأموال، إلا أنه يبدو أن هناك أسباباً فقهية لدى بعض الفقهاء دعتهم إلى حصر المضاربة في حدود معناها الضيق فمنعوها في ما هو غير الشراء والبيع، بينما ذهب غيرهم – وهم الحنابلة – إلى التوسع في معناها فشملت تقريباً كل عمل استثماري حلال.
وقد عنى الفقهاء بثلاثة أوجه من المجالات التي يمكن من خلالها استثمار مال المضاربة هم مجال الزراعة، ومجال الحرف (الصناعة)، ومجال الكسب من العمل على عين تنمى بالعمل عليها كالآلة والشبكة والدابة يدفعها مالكها إلى العامل، فيعمل عليها والرزق بينهما.
أولاً : المضارب يستثمر رأس مال المضاربة في كِراء الأرض وزرعها، وشراء الشجر أو النخل والصرف عليه:
رأى المالكية صحة هذه المضاربة إن كانت باختيار العامل، وليس بالاشتراط عليه، جاء فى المدونة (جزء 4 ص63 – وجزء 5 ص 120 مكتبة المثنى): ”فلو دفعت إلى رجل مالاً قراضاً فاشترى به أرضاً أو اكتراها، أو اشترى زريعة وأزواجاً، فزرع فربح أو خسر، أيكون ذلك قراضاً، ويكون غير متعد؟ قال: نعم، إلا أن يكون خاطر به فى موضع ظلم أو عدو يرى أن مثله قد خاطر به فيضمن، وأما إذا كان فى موضع أمن وعدل فلا يضمن. قلت أرأيت إن أعطيته مالاً قراضاً، فذهب وأخذ نخلاً مساقاة فأنفق عليها من مال القراض أيكون هذا متعدياً؟ أم تراه قراضاً؟ قال ما سمعت من مالك فيه شيئاً، ولا أراه متعدياً، وأراه يشبه الزرع“.
أما لو اشترط رب المال على العامل ذلك … كان هذا غير صحيح عند المالكية، ويكون الزرع لصاحب المال وللعامل أجر المثل.
وجاء فى حاشية الشيخ محمد البنانى على شرح الزرقانى عن تنمية رأس مال المضاربة بالمزارعة (جزء 6 ص 217): ”ليس المضر عمل يده، إذ ليست المسئلة مفروضة كذلك، بل اشترط عليه أن ينفق المال فى المزارعة، فالمضر الشرط فقط وليس ثم عمل من العامل“.
وأجاز الحنابلة للمضارب أن يستغل مال المضاربة عن طريق الزراعة، إن قال له رب المال اتجر فى الزراعة، أو فوض إليه أمر المضاربة، لأنها من الوجوه التى يبتغى بها النماء. ولا يضمن العامل لو تلف المال فى المزارعة.
وجاء فى المغنى (جزء 5 ص 44): ”وهل له الزراعة؟ يحتمل أن لا يملك ذلك لأن المضاربة لا يفهم من إطلاقها المزارعة. وقد روى عن أحمد رحمه الله فيمن دفع إلى رجل ألفاً وقال أتجر بما شئت فزرع زرعاً فربح فيه. فالمضاربة جائزة والربح بينهما. قال القاضى: ظاهر هذا أن قوله اتجر بما شئت دخلت فيه المزارعة، لأنها من الوجوه التى يبتغى بها النماء وعلى هذا لو توى المال كله فى المزارعة لم يلزمه ضمانه“.
وفى المذهب الشافعى … نص الرملى فى نهاية المحتاج (جزء 5 ص 234، 235) على أن ما ينتجه شجر القراض من ثمر أو ما ينتجه حيوان حامل من مال القراض، يختص بها المالك. وعلل ذلك بأن هذه ليست من فوائد التجارة. أما لو أشترى حيواناً حاملاً أو شجراً عليه ثمر غير مؤبر فالأوجه أن الولد والثمرة مال قراض. وقيل كل ما يحصل من هذه الفوائد مال قراض، لحصولها بسبب شراء العامل الأصل.
وجاء فى تكملة المجموع (جزء 14 ص 203) – تكملة المطيعى – أن الشافعية لا يقولون بصحة المضاربة، لأن النماء فى النخل وأصول الشجر أو الحيوان نتيجة نمو طبيعى فى هذه الأشياء، ولا دخل للعامل فى نموها.
ولم يتعرض الشافعية لمسألة استئجار الأرض وزرعها.
أما الأحناف، فقد رأى المتقدمون منهم صحة كراء الأرض البيضاء وزرعها، ومنعوا المعاملة والمساقاة كما جاء فى البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم (جزء 7 ص 288): ”أن للمضارب أن يستأجر أرضاً بيضاء ويشترى ببعض المال طعاماً ليزرعها أو ليغرس فيها نخلاً أو شجراً، ولو أخذ نخلاً أو شجراً معاملة على أن ينفق فى تلقيحها أو تأبيرها من المال لم يجز عليه، وإن قال له أعمل برأيك“.
وجاء فى المبسوط (جز 22 ص 72): ”وإذا دفع مالاً مضاربة وأمر المضارب أن يعمل فى ذلك برأيه أو لم يأمره، فأستأجر المضارب ببعضه أرضاً بيضاء واشترى ببعضه طعاماً فزرعه فى الأرض فهو جائز على المضاربة بمنزلة التجارة لأن الزراعة من صنع التجار يقصدون به تحصيل النماء، وإليه أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم الزارع يتاجر ربه، وما كان من عمل التجار يملكه المضارب بمطلق العقد. ولو استأجر أرضاً بيضاء على أن يغرس فيها شجراً أو أرطاباً، فقال ذلك من المضاربة، فهو جائز، والوضيعة على رب المال، والربح على ما اشترطا. ولو أخذ نخلاً أو شجراً أو أرطاباً معاملة على أن ينفق عليه من مال المضاربة، لا يجوز، ويضمن ما أنفق من مال المضاربة وإن قال له رب المال أعمل برأيك“.
وجاء فى الدُّرِّ المختار مع حاشية ابن عابدين (جزء 5 ص 648): ”فلو استأجر أرضاً بيضاء ليزرعها أو يغرسها جاز“.
ورأى بعض المتأخرين من الأحناف منع ذلك، جاء فى حاشية قرة عيون الأخبار، تعليقاً على قول الشارح: ”فلو استأجر أرضاً بيضاء ليزرعها أو يغرسها جاز. كان هذا فى عرفهم أنه من صنيع التجار، وفى عرفنا ليس هو من صنيعهم فينبغى أن لا يملكه“ (الحاشية مع تكملة المحتار جزء 8 ص 298).
وكأن الأحناف المتأخرون منعوا هذه المضاربة؛ لأنها لم تعد فى عرفهم من صنيع التجار، وقد كانت ذلك من قبل، ويستنتج من هذا أنها تجوز إن كانت من صنيع التجار فى العرف السائد فى عصر آخر.
والأقرب عند الإمامية هو فسادها، كما جاء فى مفتاح الكرامة للعاملى (جزء 7 ص 449): ”ولو شرط أن يشترى أصلاً ويشتركان فى نمائه كالشجر أو الغنم فالأقرب الفساد لأن مقتضى القراض التصرف فى رأس المال“.
ومما سبق … نجد أن الحنابلة والأحناف المتقدمين قد أجازوا للمضارب أن يستغل مال المضاربة فى الزراعة كما سبق، وأجازها المالكية أيضاً على ألا يشترط المالك هذا فى العقد، ولم يتعرض الشافعية لها. أما المساقاة … فقد منعها فى أغلب الرأى الشافعية والأحناف بينما أجازها الحنابلة والمالكية.
والذى نستنتجه هنا أن استغلال مال المضاربة فى الزراعة قد أجيز من قبل بعض المذاهب، ومن لم يجزها منهم لم يمنعها لتعارضها مع سبب شرعى، وإنما لأن هذه الطرق ليست – فى رأيه – من صنيع التجار أو من أعمال البيع والشراء، ويعود بنا هذا إلى مقصود رب المال من عقد المضاربة، والغالب هو إنه قصد المضاربة لإنماء ماله؛ وخاصة عند من لم يسمح له بالاشتراط على نوع العمل.
والتجارة الرابحة هى القيام بشراء مال ثم بيعه بربح، وعنصرا الشراء والبيع موجودان فى الزراعة والصناعة وغيرهما من طرق الاستثمار، والزراعة التى جاءت فى الصور السابقة هى كراء الأرض البيضاء، والصرف والعمل عليها بما ينتج منها، ففيها شراء الحبوب والسماد واستئجار الآلة واستصلاح الأرض وحرثها والعمل فيها ثم حصادها وبيع المحصول، والصناعة فيها شراء المواد الأولية والعمل عليها لإنتاج سلعة ثم بيعها، والتجارة أيضاً تشمل شراء سلعة وإجراء عمل عليها يزيد من قيمتها فيمكن بيعها بثمن أكثر مما اشتريت به، وقد يكون هذا العمل فى نقلها من سوق تتوفر فيه إلى سوق يقل فيه توفرها، أو شراءها من المصدر بالجملة – بكميات كبيرة – ونقلها إلى السوق وعرضها وبيعها للناس بكميات قليلة وفق جاجتهم، أو شراءها فى موسم يقل فيه الطلب عليها وتخزينها ثم بيعها فى موسم يكثر فيه الطلب عليها، كشراء الملابس الصوفية فى الصيف وبيعها فى الشتاء … كل هذه الأعمال وغيرها تتعلق بشراء سلعة ما والعمل عليها لتحسين مركزها بين السلع المنافسة أو درجة طلب السوق لها فيمكن بيعها بربح، وهذا يحدث فى الصناعى فهى تتعلق بشراء مواد أولية، قد لا تكون مطلوبة لذاتها عند الناس، وتجميعها أو تشكيلها، فينتج عن هذا التجميع والتصنيع سلعة يحتاجها الناس فيقبلون على شرائها بثمن أكثر من أثمان المواد الخام المشتراة وتكلفة العمل عليها فيتحقق الربح. والتجميع موجود عند بعض التجار بصورة أخرى، فالتاجر الذى يبيع سلعة لها مكملات من سلع أخرى، يجمع كل هذه السلع ويعرضها فى متجره.
وسواء كانت الصناعة نوعاً من التجارة أم لا … فقد بحث الفقهاء فى شأن المضاربة على الحرف وأجازها الأحناف – فى الرأى الأظهر عندهم – وأجازها الحنابلة كنوع من المشاركات؛ بينما منعها الجمهور من الفقهاء.
ثانياً : المضارب يستثمر رأس المال فى حرفة أو صناعة:
منعها المالكية كما جاء فى المدونة (جزء 4 ص 48): ”أرأيت إن دفعت إلى رجلاً مالا قراضاً على أن يشترى به جلوداً فيعملها بيده خفافاً أو نعالاً أو سفراً، ثم يبيعها فما رزق الله فيها فهو بيننا نصفين قال: لا خير فى هذا عند مالك“.
وقال الزرقانى فى شرحه (جزء 6 ص 217) إن اشتراط رب المال على العامل أن يخيط ثياباً فيتاجر بها أو يخرز جلوداً فيجعل منها خفافاً ليبيعها مفسداً للعقد.
وأضاف المالكية إذا استمر العامل فى ذلك جاء فيهما اشتراط رب المال هذا النوع من العمل على العامل وهذا الاشتراط يفسد العقد عندهم.
ورأى الأحناف عدم صحتها إذ قال السرخسى (جزء 22 ص 35): ”ولو دفع إلى حائك غزلاً على أن يحوكه سبعة فى أربعة ثوباً وسطا، على أن الثوب بينهما نصفان فهذا فاسد“.
ورأس المال فى هذا المثال مال عروض، والمضاربة لا تصح بالعروض. ولن يعرف رأس المال فمن الربح، والأفضل أن يكون أعطاه مالاً نقداً على أن يشترى به غزلاً ويحوكه، والمضاربة هنا أيضاً يكون فيها الاشتراط، والبحث يكون فى جواز لو دفع رب المال إلى المضارب مالاً نقداً فاشترى به المضارب غزلاً وحاكه أو أستأجر من يحوكه ثم باع الثوب وأخذ ثمنه نقوداً فأعاد رأس المال إلى صاحبه واقتسما الربح بينهما.
وهذا قد جاء فى نفس المرجع السابق ص 54: ”ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة على أن يشترى بها الثياب ويقطعها بيده ويخيطها على أن ما رزق الله تعالى فى ذلك من شئ فهو بينهما نصفان، فهو جائز على ما اشترطا لأن العمل المشروط عليه مما يصنعه التجار على قصد تحصيل الربح فهو كالبيع والشراء، وكذلك لو قال له على أن يشترى بها الجلود والأدم ويخرزها خفافاً ودلاء وروايا وأجربة فكل هذا من صنع التجار على قصد تحصيل الربح فيجوز شرطه على المضاربة“.
وجاء فى تكملة رد المحتار (جزء 8 ص 292) – فى معرض الحديث عن أن عامل المضاربة يملك جمع المضاربة والشركة ويملك الخلط بماله إذا أذن له المالك – أنه لو اشترى العامل بمال المضاربة ثوباً، فصبغه أو خاطه، يصبح شريكاً فى هذا الثوب بالإضافة إلى كونه مضارباً، فيكون له حصة قيمة صبغة أو خياطته، وما تبقى من قيمة الثوب يعطى رب المال رأس ماله، والربح بينهما على ما اشترطا، وهم هنا لم يفسدوا المضاربة.
واعتبر الشافعية – فى رأى لهم – أن هذه المضاربة غير صحيحة ولرب المال ما ينتجه العامل، وللعامل أجر المثل.
جاء فى حواشى تحفة المحتاج للشروانى والعبادى (جزء 6 ص 86): ”ولو اشترى العامل الحنطة وطحنها من غير شرط لم يفسخ القراض فيها إذا طحن بغير الإذن فلا أجرة له ولو استأجر عليه لزمه الأجرة ويصير ضامناً وعليه غرم ما نقص بالطحن فإن باعه لم يكن الثمن مضموناً عليه لأنه لم يتعد فيه والربح بينهما بالشرط. وجاء فى الهامش صفحة 87: نعم بحث ابن الرفعة جواز شرط ان استأجر العامل من يفعل ذلك من مال القراض ويكون حظه التصرف فقط ونازع فيه الأذرعى بقول القاضى لو قارضه على أن يشترى الحنطة ويخزنها إلى ارتفاع السعر فيبيعها، لم يصح لأن الربح ليس حاصلاً من جهة التصرف. وجاء فى صدر الصفحة: وظاهر أنه لو قارضه ولم يشترط عليه ما ذكره القاضى فاشترى هو وادخر باختياره إلى ارتفاع السعر لم يضر“.
وجاء فى روضة الطالبين (جزء 5 ص 120): ”لو قارضه على أن يشترى الحنطة فيطحنها ويخبزها، والطعام ليطبخه ويبيعه، والغزل لينسجه، والثوب ليقصره أو يصبغه، والربح بينهما فهو فاسد. ولو اشترى العامل الحنطة وطحنها من غير شرط، فوجهان. أحدهما وهو قول القاضى حسين وآخرين: يخرج الدقيق عن كونه رأس مال قراض، فإن لم يكن فى يده غيره انفسخ القراض، لأن الربح حينئذ لا يحال على البيع والشراء فقط. وعلى هذا، لو أمر المالك العامل بطحن حنطة القراض، كان فسخاً للقراض. أصحهما: أن القراض بحاله، كما لو زاد عبد القراض بكبر، أو سمن، أو تعلم صنعة، أنه لا يخرج عن كونه مال قراض، لكن إن استقل العامل بالطحن صار ضامناً، ولزمه الغرم أن نقص الدقيق، فإن باعه لم يكن الثمن مضموناً عليه، لأنه لم يتعد فيه، ولا يستحق العامل بهذه الصناعات أجرة ولو استأجر عليها، والأجرة عليه، والربح بينه وبين المالك كما شرطا“.
وذهب الإمامية والزيدية إلى عدم صحتها لأن المضاربة تكون فى أعمال التجارة فقط واعتبروا أن الحرف ليست من التجارة. كما جاء فى قواعد العلامة (جزء 7 ص 447): ”العمل وهو عوض الربح وشرطه أن يكون تجارة فلا يصح على الطبخ والخبز والحرف“.
وجاء فى البحر الزخار (جزء 4 ص 82): ”لو قارض شخص آخر على أن يشترى بالمال حباً فيطحنه ويخبزه والربح بينهما كان هذا فاسداً“.
أما الحنابلة … فقد ذهبوا إلى صحة وجواز كل هذا، جاء فى المغنى لابن قدامة (جزء 5 ص 11): ”وإن دفع غزلاً إلى رجل ينسجه ثوباً بثلث ثمنه أو ربعه جاز“.
ومثل ذلك جاء فى كشاف القناع (جزء 3 ص 525): ”من أنه لا بأس بالثوب يدفع بالثلث أو الربع“. وكذلك فى مطالب أولى النهى (جزء 3 ص 543).
وجاء فى إعلام الموقعين لابن القيم الجوزية: ”وكما يدفع إليه زيتونة يعصره والزيت بينهما“.
والحنابلة فى الأمثلة التى ساقوها، جعلوا المال الذى دفع من العروض، وهم من أجاز بعضهم المضاربة بالعروض المثلية على أن تجعل قيمتها وقت العقد رأس مال له، ولكنهم جعلوا العائد المقسم هو ثمن البيع كله وليس الربح، وهذا أقرب إلى المزارعة، ولكن الذى يعنينا هنا هو أن المعاملة إن جازت عندهم كما ذكرروه، فالأولى أن تجوز لو كان رأس المال من النقود فاستأجر به العامل صاحب حرفه، ولو كان التقسيم فى الربح بعد إعادة رأس المال لصاحبه، وهذه هى المضاربة.
وما ينطبق على أصحاب الحرف … ينطبق فى رأينا على المجال الأوسع من قطاعات الإنتاج فى هذا العصر من صناعة وخدمات، ولهذا الموضوع أهمية كبيرة لحجم هذه القطاعات وحاجتها الماسة إلى التمويل والذى قد يكون عقد المضاربة أحد أشكاله وربما أهمها.
والظاهر أن جمهور الفقهاء – عدا الحنابلة والأحناف – قد ذهبوا إلى عدم صحة المضاربة التى يستثمر مالها فى حرفة ما، ويبدو أنهم ذهبوا إلى هذا لسبيين: أولهما أن المضاربة قد رخصت على خلاف القياس للحاجة إليها، وهذه الأعمال يتيسر الاستئجار عليها فتنتفى الحاجة التى صدرت الرخصة لدفعها. وثانيهما أن المضاربة تكون فى تنمية المال فى أعمال التجارة وفى كل ما هو من صنيع وعادة التجار، وهذه من الحرف وليست من أعمال التجار.
والفقهاء بهذا المنع، يحيلون رب المال إلى الإجارة، وهى وإن توفرت غير المشاركة، فالإجارة يكون العمل هو المقصود فيها، ورب المال ليس له قصد فى العمل ذاته، وإنما يقصد استثمار ماله، فيدفعه إلى العامل الذى يملك الخبرة والقدرة على تنميته، وقد يجد هذا العامل أن تحقيق النماء عن طريق شراء القماش وصناعة الثياب أصرف فى البيع وأربح، فهذا وفق رأيه ما يطلبه المشترون وليس القماش … فإن قلنا ليس له ذلك، فإن عليه آنذاك شراء القماش وبيعه للحائك؛ ثم شراء الثياب من الحائك وبيعها فى السوق، وإن لم يملك الحائك المال اللازم لشراء القماش، باعه القماش نسيئة حتى يشترى منه الثياب فيستوفى الثمن مما يدفعه؛ فإن صار القماش ثياباً … حملها وباعها فى السوق، وما سبق كله من شراء وبيع مرتين، هو من أعمال المضاربة التى يجيزها الجمهور إذا أذن المالك له ببيع النسيئة، والأَبْسط أن يستأجره على هذا العمل، والنتيجة واحدة وما يجوز للأول يجوز للثانى الذى استأجر.
وبمراجعة الأمثلة التى جئنا بها عن الفقهاء … نجد أنهم قد قالوا بمضاربات يدفع بها صاحب المال ماله إلى صاحب الحرفة مباشرة، ولم يتطرقوا – فى الغالب – إلى عامل يرى الخير فى أن يتجه إلى إنماء المال من خلال توظيفه فى حرفة معينة، والمضاربة مباشرة مع صاحب الحرف تخلق وضعا غير ذلك الذى يتعلق بموضوع استثمار مال المضاربة فى الصناعة، وهو وضع العامل فى المضاربة بين كونه وكيلاً من جهة، وأجيراً فى عمله فيما يختص بحرفته من جهة أخرى، فرأوا أن الإجارة متيسرة فى هذه الحالة. وقد خصصنا جزءاً من هذا البحث لدراسة هذا الموضوع لأهميته. والذى يهمنا هنا: هو هل يجوز استغلال مال المضاربة فى ما يتضمنه تبديل – أو إضافة إلى – عروضها المشتراة قبل إعادة بيعها.
ونضيف إلى ما سبق أن منع عامل المضاربة من بيع الأثواب التى استأجر من يحوكها، وإجباره على بيع القماش، فيه تقييداً لحريته ولقدراته، وتقييداً للمضاربة ذاتها قد ينتج عنه انخفاض أرباحها، فيعزف عنها رب المال إلى ما هو أربح، فإن أراد استثمار ماله فى هذا المجال عن طريق الإجارة … فعليه الشراء بنفسه واستئجار صاحب الحرفة، ليحوك له الثوب ثم يبيعه بنفسه، وقد لا تتوفر لديه الخبرة أو القدرة، وإن وجد من لديه الخبرة والقدرة على هذه الأعمال مجتمعة … فإن استأجره عليها، وجب عليه الإشراف، وقد لا يتمكن رب المال من بذل الجهد للإشراف ولاستيفاء العمل الذى استأجره عليه، أضف إلى هذا أن الحافز عن الشريك فى الربح أقوى منه عند الأجير، وقد يستأجر رب المال ويدفع الأجر وقد ينال مقصوده وقد لا يناله، ثم إننا قد ذكرنا أن رب المال هذا قد يكون عاجزاً أو عجوزاً أو مريضاً أو منشغلاً فكيف لهؤلاء القدرة على هذه الأعمال.
والعامل أيضاً له رغبة فى المشاركة فما قد يحققه منها قد يفوق الأجر، وإن كان صاحب حرفة … فهو بحاجة إلى التمويل مثل حاجة التاجر، والقطاع الذى يعمل فيه يفيد المجمتع بما يوفره من فرص عمل، وبما ينتجه من السلع.
أما ما جاء عن أن المضاربة تكون فى التجارة، فلا سبب شرعى يؤيد ذلك، فالمضاربة وكالة وشركة يقصد فيها النماء، والتوكيل مباح فى كل ما يجوز للإنسان أن يعمله بنفسه، والمقصود من المضاربة هو تنمية المال بالعمل، والعمل فى الزراعة والصناعة مباح وحلال كالعمل فى التجارة، ولا يوجد مانع شرعى يمنع أن يستثمر العامل المال فى الوجه الحلال الذى يجد فيه مصلحة القراض. بل ومن مصلحة المجتمع عامة، وأصحاب الحرف والصناعة خاصة أن يتوفر لهم مصدر تمويل مثل ما يوفره القراض لأشقائهم التجار، ولعامل المضاربة حقالشراء والبيع والاستئجار، وقد أوردنا المثال الذى يبين أنه – بهذه التصرفات – يستطيع شراء القماش وحياكته وبيعه ثياباً وبدون مخالفة لأى من شروط الصحة.
وقد يكون بعض الفقهاء – والله أعلم – قد فضلوا حصر المضاربة فى التجارة لسبب ثالث وهو إبقاء المعاملة – التى تعتمد فى الدرجة الأولى على التوكيل لقاء عوض مجهول – فى حدود البيع والشراء ليسر هذه العمليات ووضوحها، ولإبعاد المضاربة عن الأسباب التى قد تؤدى إلى النزاع، خاصة إذا كان عامل المضاربة هو نفسه صاحب الحرفة. ولا شك أن شراء الشئ وبقاءه على حاله طوال مدة المعاملة ثم بيعه كما هو عدداً ونوعاً وشكلاً، يختلف عن شرائه وتغيير وتبديل حاله ثم بيعه كشئ آخر مختلف عن المُشْتَرى فى الشكل والنوع والعدد.
ففى الحالة الأولى … تشترى السلع وتبقى على حالها حتى تباع، فيمكن أن تنفسخ المضاربة فى أى من مراحلها ويمكن أن ينضض المال بسهولة ويسر، كما أن تكاليف الشراء والنقل والتخزين والعرض والبيع ليست بالتكاليف المعقدة ويسهل مراجعتها عند الاختلاف، وهذه المصروفات لا تختلف كثيراً فى أسسها أو عناصرها، وإن تنوعت التجارة وتنوعت البضائع.
بينما فى حالة الحرف، فهى تتنوع وتختلف باختلاف الحرفة فشراء الحب وطحنه وخبزه فى الفرن ثم بيعه خبزاً، يختلف عن شراء الخشب والمسمار والغراء وقطعه وتشكيله بالعدد والأدوات وجمه كنضدة وصبغها أو صقلها ثم بيعها، وقد تستنفذ تكاليف الصنع جزءاً كبيراً من رأس المال، وهناك الهالك، وقد يختلط الحب أو الخشب المشترى مع غيره فيصعب معرفة المنتج إن ضارب العامل لأكثر من رب مال، أو يجبر هالك هذا ذاك، وهناك أجرة العمال والآلة والأدوات وغيرهم، والمباع لا يماثل المشترى، لا فى العدد ولا فى الشكل ولا فى الوزن ولا فى الوصف، وماذا عن أجر الطحان والخباز أو صاحب الحرفة لو كان هو نفسه العامل، وماذا عن فسخ المضاربة والمال عروض لم يزل فى طور الصنع لا مشترى ولا سوق له بعد؟
فهل رأى بعض الفقهاء أن هذا أكثر من أن يحتمله عقد المضاربة المبنى على الوكالة والثقة، وقد يؤدى جوازه إلى المنازعة فمنعوه منعاً للخلافات، قد يفسر هذا سبب منعهم لهذا النوع من المضاربة وأغلبهم أجازوها حين يستغل مالها فى الزراعة، والزراعة ليست كالتجارة إلا أنها عقد آخر جائز وربما وجدوا فيها بساطة التجارة، أو ربما أن الخبرة والعلم بها كانا منتشرين بين الناس فقل احتمال الخلاف، والذى يقف أمام صحة هذا الافتراض، أنهم لم يذكروه كسبب، وهذا ليس من عادتهم فهم قد أسهبوا فى شروحهم … إلا أنهم مع هذا الإسهاب لم يفسروا لماذا قالوا إن المضاربة لا تكون إلا فى التجارة، وتوقفوا عند هذا المبدأ، وكأنه من المسلمات الشرعية، وهو ليس منها ولأن هذا لا يخفى عليهم، فلابد أن يكون هناك سبب آخر مقنع لما ذهبوا إليه ولا يجوز لنا أن نخالفهم إلا عن فهم واقتناع.
فإذا نظرنا إلى وضع أصحاب الحرف فى العهد الإسلامى الأول … لا يسعنا إلا أن نفترض أن النزاعات بين أصحاب الحرف – الأجير المشترك – والناس، لابد وأن تكون قد وصلت إلى درجة مقلقة ضج منها الناس والقضاة حتى نستطيع تفسير ذهاب الخلفاء الراشدين عمر وعلى رضى الله عنهما إلى تضمين الصناع وحفاظاً على مصالحهم، وقد روى عن الإمام علي – كرم الله وجهه – أنه قال: ”لا يصلح الناس إلا ذلك“ وقد ذهب إلى هذا شريح القاضى وأبو يوسف ومحمد والمالكية، واختلف الفقهاء بعد ذلك فمنهم من ضمن الأجير المشترك، ومنهم من قال لا ضمان عليه.
والمقصود هنا محاولة استقصاء الأسباب التى دعت إلى منع هذه المضاربة، فهل يكون السبب – وقد دعت الحاجة إلى تضمين الأجير المشترك فى ما تحت يده حفاظاً على المصالح – أنهم لم يستطيعوا تضمينه فى مال المضاربة، لأنه لا يجوز تضمينه لو كان عاملاً فى قراض بغض النظر عن المصلحة المقصودة، لأن رب المال إن ضمن له رأس ماله فقد أَرْبى إِنْ ربح ماله وأخذ شيئاً من الربح. وعن على رضى الله عنه أنه قال: ”لا ضمان على من شورك فى الربح“ وروى معنى ذلك عن الحسن والزهرى.
وما تحت يد الأجير المشترك من خشب أو قماش أو غيرهما من متاع الناس ولمدد قصيرة، لا يقارن بمال المضاربة من دنانير ودراهم تسلم إلى المضارب وليس لصاحبها بعد هذا إلا الركون إلى أمانة المضارب وإخلاصه والقول قول المضارب إذا تلفت … فإن لم يستأمن السابقون الأجير المشترك على ما تحت يده من متاع الناس فكيف يُستأمن فى أموالهم. فمنعوا هذا النوع من المضاربة وأحالوا رب المال إلى عقد الإجارة الذى يمكن فيه تضمين الصناع وفق بعض المذاهب، إضافة إلى أن مجال الاسترباح فى الحرف كان ضيقاً فلم يجدوا ضرورة أو حاجة عند الناس تدعو إلى الترخيص به، ولم يكن أصحاب هذه الحرف بحاجة إلى التمويل الكثير فقد كانت عددهم وأدواتهم بسيطة، يملكونها فى أغلب الأحوال، فلم تتوجب ضرورة أوحاجة لتوفير التمويل لهم بعكس التجار الذين كانوا يحتاجون
إلى أموالاً كثيرة لتمويل تجاراتهم فلم تتوفر الأسباب التى من أجلها ترخص المعاملة التى اعتبروها على خلاف القياس.
ويختلف الوضع فى هذا العصر، فالحاجة والضرورة ماسة، وتتوقف عليها مصالح الناس ومنفعة الأمة، بل إن مجال الصناعة قد تعدى مجالى التجارة والزراعة فتوجب الترخيص بها لحاجة الناس لها، أما عن التضمين … فهذا لا يجوز إلا أن هذه الأمور يمكن التغلب عليها وفى نفس إطار المضاربة، وسيأتى ذِكْرُها بالتفصيل فى باب المضاربة بالقدرات فى هذا البحث، والله تعالى أعلم.
وقد رأى الحنابلة جواز هذه المشاركات، ودافعوا عنها كما سيأتى ذكره فيما بعد.
ثالثاً : المضاربة على عين يدفع بها رب المال إلى من يعمل عليها والربح بينهما:
ومثال ذلك أن يدفع الرجل دابته إلى من يعمل عليها والرزق بينهما، أو بآلة يعمل عليها أو شبكة يصطاد بها والرزق بينهما. وقد ذهب جمهور الفقهاء – عدا الحنابلة – إلى عدم صحة ذ1لك، وعللوا ذلك أن المقصود من المضاربة هو المتاجرة برأس المال، وهذا لا يمكن بيعه، ولا يصح أن يكون رأس مال للمضاربة. والذى يتولى الكسب هو العامل فيكون له الرزق ولرب المال أجر المثل عن دابته أو آلته أو أن يدفع رب المال أجر المثل للعامل والرزق والدابة له.
وهذا رأى الأحناف كما جاء فى المبسوط للإمام السرخسى (جزء 22 ص 35): ”وإذا دفع إلى رجل شبكة ليصيد بها السمك على أن ما صاد بها من شئ فهو بينهما فصاد بها سمكاً كثيراً فجميع ذلك للذى صاد … وكذلك لو دفع إليه دابة يستقى عليها الماء ويبيع عليها أو لينقل عليها الطين ليبيعه أو ما أشبه ذلك“.
وهذا هو رأى الشافعية كما جاء فى أسنى المطالب شرح روض الطالب (جزء 3 ص 382): ”لو قارض شخص آخر على شبكة يصطاد بها، والفوائد والصيد الذى تستخرج بواسطة الشبكة تكون بينهما، لا يصح ذلك، وإنما يختص بهما العامل وللمالك أجر مثل الشبكة على العامل“.
وقال الشافعى وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأى فى أن يدفع الرجل دابته إلى من يعمل عليها والرزق بينهما: لا يصح، والربح كله لرب الدابة لأن الحمل الذى يستحق به العوض منها وللعامل أجر مثله، لأن هذا ليس من أقسام الشركة إلا أن تكون المضاربة ولا تصح المضاربة بالعروض، ولأن المضاربة تكون بالتجارة فى الأعيان وهذه لا يجوز بيعها ولا إخراجها عن ملك مالكها. (فقه السنة جزء 3 ص 300).
جاء فى روضة الطالبين (جزء 5 ص 120): ”شرط أن يشترى شبكة ويصطاد بها والصيد بينهما، فهو فاسد ويكون الصيد للصائد وعليه أجرة الشبكة“.
وهذا ما ذهب إليه المالكية من عدم صحة ذلك، وكذلك رأى الإمامية، كما جاء فى جواهر الكلام.
وذهب الحنابلة إلى جواز ذلك كله كما جاء فى المغنى لابن قدامة (جزء 5 ص9): ”وإن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثاً أو كيفما شرطا صح. نص عليه فى رواية الأثرم ومحمد ابن أبى حرب وأحمد بن سعيد، ونقل عن الأوزاعى ما يدل على هذا“.
وقد تكون حجة جمهور الفقهاء الذين ذهبوا إلى عدم صحتها، أن هذه المعاملة لا يمكن تخريجها على المضاربة للأسباب التى ذكروها، وليست من باب الإجارة لأن العوض مجهول، ولهذا قالوا بفسادها وأحالوها إلى الإجارة وحددوا العوض بأجر المثل.
أما الحنابلة … فقد أجازوها من باب المعنى الأعم للمضاربة وهو باب المشاركة التى يكون العامل فيها شريك المالك فى الرزق، هذا بماله وذاك بعمله وما رزق الله فهو بينهما، وهذا الباب أو النوع من الشركات، ومنه: المضاربة والمزارعة والمساقاة والمشاركات.
ويجب التنويه هنا أن هذه المعاملة وإن شابهت المزارعة، فى أن كلاً منهما دفع بالعين، فهى فى حالة الأرض الزراعية … اشترط بعض الفقهاء أن يكون الحب أو غيره من صاحب الأرض لأنها تنقص، أما فى حالة الدابة والشبكة والسفينة فكلها أعيان تعود إلى رب المال أيضاً ولكنها تستهلك ولو بقدر يسير، والذى هلك فى المعاملة هو منفعتها فى المدة التى دفعت فيها، والمنفعة مال عند كل الفقهاء عدا الأحناف، وهى لا تصلح أن تكون رأس مال فى مضاربة ولكنها تصلح فى المشاركة مثلها مثل منفعة العمل. وقد يمكن القول فى هذه الحالات إنها مشاركة منافع والله أعلم.
وجاء فى فقه السنة للأستاذ السيد سابق (جزء 3 ص 301) – عن ابن قدامة فى المغنى – : ”ولنا أنها عين تنمى بالعمل عليها فصح العقد عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير وكالشجر فى المساقاة والأرض فى المزارعة. وقولهم إنه ليس فى أقسام الشركة ولا هو مضاربة، قلنا نعم لكنه يشبه المساقاة والمزارعة فإنه دفع لعين المال إلى من يعمل عليها ببعض نمائها مع بقاء عينها، وبهذا يتبين أن تخريجها على المضاربة بالعرض فاسد فإن المضاربة إنما تكون بالتجارة والتصرف فى رقبة المال، وهذا خلافه.
قال: ونقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطى فرسه على النصف من الغنيمة: أرجو ألا يكون به بأس. قال إسحاق بن إبراهيم، قال أبو عبد الله: إذا كان على النصف والربع فهو جائز. وبه قال الأوزاعى.
وقال: وقالوا – أى بضع أئمة الفقه – لو دفع شبكة إلى الصياد ليصيد بها السمك بينهما نصفين فالصيد كله للصياد ولصاحب الشبكة أجر مثلها. وقياس ما نقل عن أحمد صحة الشركة وما رزق بينهما على ما شرطا، لأنها عين تنمى بالعمل فيها فصح دفعها ببعض نمائها كالأرض“.
وجاء فى الفقه الحنبلى فى إعلام الموقعين لابن القيم الجوزية (فى نفس المرجع السابق): ”تجوز المغارسة عندنا على شجر الجوز وغيره، بأن يدفع إليه أرضه ويقول: أغرسها من الأشجار كذا وكذا، والغرس بيننا نصفان، وهذا كما يجوز أن يدفع إليه ماله يتجر فيه والربح بينهما نصفان، وكما يدفع إليه أرضه يزرعها والزرع بينهمان وكما يدفع إليه شجر يقوم عليه والثمر بينهما، وكما يدفع إليه بقره أو غنمه أو أبله يقوم عليها والدرَ والرسل بينهما، وكما يدفع إليه زيتونه يعصره والزيت بينهما، وكما يدفع إليه دابته يعمل عليها
والأجرة بينهما، وكما يدفع إليه فرسه يغزو عليها وسهمها بينهما، وكما يدفع إليه قناة
يستنبط ماءها والماء بينهما، ونظائر ذلك، فكل شركة صحيحة قد دل على جوازها النص والقياس واتفاق الصحابة ومصالح الناس، وليس فيها ما يوجب تحريمها ومن كتاب ولا سنة
ولا إجماع ولا قياس ولا مصلحة ولا معنى صحيح يوجب فسادها، والذين منعوا ذلك عذرهم أنهم ظنوا ذلك من باب الإجارة، فالعوض مجهول فيفسد، ثم منهم من أجاز المساقاة
والمزارعة للنص الوارد فيها والمضاربة للإجماع دون ما عدا ذلك، ومنهم من خص الجوازبالمضاربة، ومنهم من جوز بعض أنواع المساقاة والمزارعة، ومنهم من منع الجواز فيما إذا كان بعض الأصل يرجع إلى العامل كقفيز الطحان وجوزه فيما إذا رجعت إليه الثمرة مع بقاء الأصل كالدر النسل، والصواب جواز ذلك كله، وهو مقتضى أصول الشريعة وقواعدها، فإنه من باب المشاركة التى يكون العامل فيها شريك المالك، هذا بماله وهذا بعمله، وما رزق الله فهو بينهما، وهذا عند طائفة من أصحابنا أولى بالجواز من الإجارة، حتى قال شيخ الإسلام: هذه المشاركات أحل من الاجارة، قال: لأن المستأجر يدفع ماله وقد يحصل له مقصودة وقد لا يحصل، فيفوز المؤجر بالمال والمستأجر على الخطر، إذ قد يكمل الزرع وقد لا يكمل، بخلاف المشاركة، فإن الشريكين فى الفوز وعدمه على السواء، إن رزق الله الفائدة كانت بينهما، وإن منعها استويا فى الحرمان، وهذا غاية العدل، فلا تأتى الشريعة بحل الاجارة وتحريم هذه المشاركات، وقد أقر النبى صلى الله عليه وسلم المضاربة على ما كانت عليه قبل الإسلام،فضارب أصحابه فى حياته وبعد موته، وأجمعت عليها الأمة، ودفع خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وهذا كأنه رأى عين، ثم لم ينسخه ولم ينه عنه، ولا امتنع منه خلفاؤه الراشدون وأصحابه من بعده، بل كانوا يفعلون ذلك بأراضيهم وأموالهم يدفعونها إلى من يقوم عليها بجزء مما يخرج منها، وهم مشغولون بالجهاد وغيره، ولم ينقل عن رجل واحد منهم المنع إلا فيما منع منه النبى صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، والله ورسوله لم يحرم شيئاً من ذلك، وكثير من الفقهاء يمنعون ذلك، فإذا بلى الرجل بمن يحتج فى التحريم بأنه هكذا فى الكتاب وهكذا قالوا، ولا يدله من فعل ذلك، إذ لا تقوم مصلحة الأمة إلا به، فله أن يحتال على ذلك بكل حيلة تؤدى إليه، فأنها حيل تؤدى إلى فعل ما أباحه الله ورسوله ولم يحرمه على الأمة“.
ومما سبق … نجد أن الرأى أن هذه المعاملات كلها تشبه المضاربة والمزارعة والمساقاة إلا أنها أنواع أخرى تتبع نفس المقصد وهو دفعت العين التى تنمى بالعمل عليها إلى من يعمل عليها وينميها ببعض نمائها. وتكون المضاربة فى أحوال التجارة، وتكون المزارعة والمساقاة فى حالة الأرض الزراعية، والمشاركة الصناعية فى حالة الحرف والصناعة، وغيرها من الأسماء التى تعود إلى المشاركة فى استثمار يختص بمجال معين، وكلها تعود لنفس المبدأ وإن اختلفت فى التفاصيل.
ويمكن تخريج المشاركات – التى قال بها الحنابلة – كدفع الرجل دابته إلى من يعمل عليها والرزق بينهما، إما : بأنها دفع لعين دفع لعين تنمو بالعمل إلى من يعلم عليها وينميها بجزء من نمائها، كالمزارعة والمساقاة والمضاربة. أو تخريج هذه المشاركات على أنها مشاركة منافع فى الكسب الذى يتحصل عليه من بذلها.
<< previous page | next page >> |