المضاربة مال من طرف وعمل من الطرف الثاني
الشركة العامل التي تخصصت في مجال معين من مجالات الاستثمار وليكن التجارة، هي كيان مستقل لها مكتبها الرئيسي بما فيه من الموظفين الإداريين والتنفيذين ومعاونيهم، وتملك في الأغلب أدوات ومعدات وشاحنات ومخازن ومتاجر، واكتسبت شهرتها القائمة على هذه الأصول الثابتة من جهة، وعلى خبرات أجهزتها الإدارية والتنفيذية من جهة أخرى. ولها سجل سابق أعمال وحسابات ووضع مالي وذمة منفصلة. وهذه الشركة- بكل كيانها- تأخذ محل العامل في عقد المضاربة، الا أن قدرتها تتناسب مع حجمها الأكبر بكثير من قدرة العامل الشخص، وهذا الحجم قد وجد ليناسب حجم الاعمال التي تطلبه مشروعات الاستثمار في هذا العصر، فلم يعد في قدرة الفرد القيام وحده بالمشروعات الكبيرة والتي تتطلب اجتماع خبرات مختلفة، كما لم يعد في قدرة التاجر الفرد منافسة الشركات التجارية الكبيرة والتي تمتد متاجرها ومخازنها في طول البلاد وعرضها.
وكذلك رب المال… فلم يعد مال رب مال واحد يكفي للاستثمار في المشروعات التجارية أو الصناعية التي تحتاج لأموال كثيرة، فجاءت البنوك الاسلامية لتجميع روؤس الاموال من أصحابها وتوجيهها إلى الاستثمار ذي الحجم القادر على المنافسة وتحقيق الربح. وهذا بغرض رفع كفاءة الانتاج بتقليل نسبة تحميل التكاليف الثابتة على المنتج.
ولهذا… كان التطور الطبيعي لمواجهة متطلبات العصر أن يتسع عقد المضاربة من الشكل الثنائي أو المتعدد بين أشخاص، إلى أن يشمل الشكل الثنائي أو المتعدد بين شركات لها شخصيتها المعنوية الخاصة بها ولها ذمتها المستقلة – بشرط ألا تستدين هذه الشركات أو تتاجر بأكثر مما تملك، وهذا الشرط لم يشترطه الفقهاء على طرفي المضاربة اذا قبل أحدهما بضمان الدين وكان الضمان أكثر من ماله- ولا يوجد ما يمنع هذا التوسع فالوكالة والمشاركة وكل التصرفات التي تحق لطرف المضاربة تحق للشركة، ومتى تم التعاقد وحررت اتفاقية المضاربة الصحيحة… فليس ما يمنع من تنفيذها وفق الشروط الصحيحة التي ينص عليها، وما ينطبق على الشخص ينطبق على الشركة.
نعود إلى الشركة التي لها كيان مستقل، وهي العامل، فنجد أن مصاريف مكتبها الرئيسي بموظفيها ومفروشاتها وادواتها وكافة المصروفات الثابتة والتي تصرفها على نفسها سواء عقدت المضاربة ام لم تعقدها هي نفقتها، وتعامل مثلها مثل نفقة العامل.
وما تملكه هذه الشركة من متاجر وشاحنات والآت هي ما يكون قدراتها، والعمل الذي تقوم به هذه الأعيان والأصول هو من صميم العمل الذي يؤدي إلى نماء مال المضاربة والذي يكون منه- أي النماء- عوضها عن العمل والفكر الذي بذلته، ولولا هذه القدرة لما توجه اليها أصحاب الاموال.
أما ما تستأجره من الغير أو تستأجر الغير عليه… فمن مال المضاربة، ولها أن تختار ما تشاء بشرط أن ينعكس هذا على نصيبها من الربح والذي فيه عوضها عن ما تستخدمه من قدراتها.
المضاربة في مشروع معين:
لا يحق لرب المال أن يشترط على المضارب نوع العمل إلا في الحدود التي بينها الفقهاء، الا أنه لا يوجد مانع في أن يتوجه المضارب إلى رب المال بتجارة معينة فيقنعه بجدواها؛ فإذا اقتنع ووافق عقدت المضاربة على هذا الاساس، ولا يعود بعدها لرب المال الحق في التدخل، وأغلب الظن أن تجارة قوافل الشام واليمن في العصر الجاهلي والاسلامي الأول كانت تمول بمضاربات بقصد هذه التجارة؛ أي إن مجال ووجهة وربما نوع التجارة كان محدداً أو معروفاً.
وهذه الشروط التي ينص عليها العقد هي شروط جعلية (وضعية) انبثقت من العرض الذي تقدم به المضارب، وليس لرب المال يد فيها، ولأنها شروط مبنية على توقعات… فلا يوجب فيها الإلزام إلا ما كان يؤثر على الربح؛ فإذا اتفقا ان العامل يقدم عمله وعمل شاحنته وله من الربح الثلثين… فإن استأجر شاحنة غيره لتقوم بنفس العمل لزمه الاجر من ماله لأن له عوض ذلك من الربح.
والمعتاد ان تتقدم الشركة إلى البنك بدراسة الجدى الاقتصادية للمشروع، وفيه تفصيل التكاليف والإيرادات المتوقعة، ولو أخذنا مثالاً لدراسة جدوى عملية تجارية مبسطة؛ فسيكون ما يقدمه العامل من تقديرات كما يلي:
مما سبق .. نجد أن مصاريف المكتب الرئيسي – وقد اعتبرناها نفقة العامل – يمكن أن يتحملها العامل من ماله مادام مقيماً، ويكون عوضه عنها جزء من الربح.
ويجب التنويه هنا أن أجرة البائع على العمل الذي يقوم به، من الأعمال التي جرت العادة أن يقوم بها التاجر بنفسه؛ فتتحملها الشركة العامل من مالها؛ فالأعمال التي سيقوم بها كالعرض والمساومة وقبض المال وغيرها من صميم أعمال المضارب التي وصفها الفقهاء وهي إن استأجر عليها… فمن ماله، لا من مال المضاربة ولا من ربحها.
فإن افترضنا وبعد الأخذ بعين الاعتبار تحمله مصاريف المكتب الرئيسي وأجر البائع من ماله وعوضه عن الجميع في ربحه، وأن الاتفاق المبدئي نص على أن الربح سيكون بينهما بالتساوي، تعدل الدراسة كما يلي مع تثبيت رأس المال على ما كان عليه:
ولو استأجر الشاحنة من الغير… يكون نصيب رب المال من الربح نصفه، وهو227.5، وله مثله؛ وحيث إنه يود استئجار الشاحنة والمتجر من نفسه… يمكن أن يكون عوضه عنهما من النماء أيضاً.
وعمال التحميل – وإن عملوا في الشركة – إلا أنهم ليسوا من المصاريف الثابتة كالمكتب الرئيسي؛ فلا يصح اعتبارهم من النفقة أو من عمله الذي يلزمه في العقد، ويعتبرون كطرف ثالث، وما يدفع مباشرة لهم من مال المضاربة على الا يصل للعامل منه شيئاً.
فيعاد صياغة الجدول كما يلي:
وتعود الزيادة في الربح بين الجدول الثاني والثالث إلى أعيان العامل- الشاحنة والمتجر- ويعود اليه استحقاقه وهي 135، ونسبتها 22.88% من الربح، وما يتبقى يقتسم بينهما بالنصف؛ فيأخذ رب المال 227.5؛ أي 38.56 %من الربح الموزع، ومثلها للعامل.
وتكون نسب توزيع الربح الكلي بينهما: 61.44% للعامل، و38.56% لرب المال.
فيكون عوض العامل عن أعيانه بقيمة منافعها، مضافاً إليها ما تربحه مثل ربح المشترى، وهي أعلى من نسبة نماء مال المضاربة؛ لأننا افترضنا في المال أن التكاليف الأخرى – غير الشراء – لن تتغير بتغير كمية الشراء، أي إن ثمن تحميل ونقل وعرض المشترى لن يزيد بزيادته، فإذا كانت مما يتأثر بزيادة كمية المشترى… يكون الصحيح من الجدولين الثاني والثالث كما يلي:
الجدول الثاني:
أي لو استأجر الشاحنة والمتجر من الغير … يكون نصيب رب المال من الربح نصفه، وهو 215.5.
الجدول الثالث:
وتعود الزيادة في الربح بين الجدول الثاني والثالث إلى أعيان العامل، ويعود إليه استحقاقها، وهي 141.3، ونسبتها 24.7% من الربح، وما يتبقى …
يقتسم بينهما بالنصف لرب المال 37.65%؛ أي 215.5 لرب المال ومثلها للعامل، وتكون نسب توزيع الربح الكلي بينهما: 62.35% للعامل و37.65% لرب المال.
والفرق يسير بين التعديل والأصل، إلا أن التعديل بغرض التأكد أن أحدهما لاينال مما ليس له فيه مال أو عمل، وقد اعتنى الفقهاء بهذا وحرصوا عليه، وبالرغم من تركهم تحديد النسب وفق اتفاق الطرفين… إلا أنهم حرصوا على صحة ودقة الحساب متى حددت هذه النسب.
وإن كان ثمن البيع أقل من رأس المال… تكون الوضيعة على رب المال وليس على العامل إلا ما قدمه من منافع، وتعود إليه أعيانه والتي لم تفارق ملكه.
ويتضح مما سبق… أنه يجب على العامل الذي يتقدم بدراسة إلى البنك، أن يكون حريصاً في أن تكون دراسته دقيقة وصحيحة، فكل ما قد يقدمه سوف يعاير بمعيار الربح الذي تظهره دراسته، فإن أظهر هذا الربح أكثر من الحقيقة بقصد اقناع البنك بجدوى مشروعه… فإن الأعيان التي تقدمها شركته إن قيمت بمعيار هذا الربح، كان الضرر عليه إذا كانت حقيقة الربح أقل مما جاء في دراسته، ولو أنقص الربح في دراسته – متعمداً – لزيادة نسبة هذه الأعيان منه، فقد يفقد المشروع جدواه الاقتصادية.
والمضاربة ليست كما قد يظنها البعض أن يدفع الرجل مال إلى من يأخذ المال فيصرف منه على التجارة وعلى نفسه كما يشاء، ثم قد يعود إلى رب المال خاسراً فيتحمل رب المال هذه الخسارة وحده، بل إنها تختلف عند الفقهاء المتقدمون؛ فالعامل لا يصرف من مالها على نفسه شيئاً- إلا باذن رب المال في بعض الحالات كالنفقة والتي حصرها الفقهاء وفصلوا البينود التي تصرف فيها
– بل ويصرف من ماله عليها إذا استأجر من يعمل ما لزمه هو من العمل، وعمله وفكره وما يبذله فيها لا قيمة له إذا لم يتحقق نماء، فهو من يتحمل الجزء الأول من خسارة المضاربة قبل أن تصل الخسارة إلى مالها، وربح المضاربة ليس هو الربح الصافي بعد تنزيل كل مصروفات المعاملة بما فيها قيمة عمله والذي قام به بدلا من استئجار الغير كما قد يقول البعض، وإنما ربح المضاربة الذي يوزع بينهما بالشرط هو الفرق بين إيرداها – بعد تسديد أي ديون أو أثمان مؤجلة عليها مأذون بها من قبل رب المال – ورأس المال؛ وليست ربح التجارة كما نفهمه في عصرنا الإيراد بعد خصم كل التكاليف. والمضاربة التي وضع أسسها الفقهاء المتقدمون هي المضاربة العملية العادلة التي يمكن تطبيقها في هذا العصر وفي أي عصر. أما ما جرت عليه العادة اليوم… فليس عملياً ويؤدي إلى النزاع ولهذا … يفشل تطبيقه ليس لعدم مناسبة هذا العقد وإنما لخطأ في فهمه.
ونحن اليوم في حاجة إلى دراسة مستفيضة لهذا المعاملة؛ نظرا لتشعب سبل الإستثمار وتنوعها. ومن بالغ الأهمية أن يوفر النظام الاقتصادي المناخ المناسب لهذه الإستثمارات، ويكون هذا بتشجيع أصحاب الأموال على استثمارها، ومساعدة أصحاب الخبرات والمواهب على استغلالها، من خلال أقنية استثمارية تحكمها الضوابط والأحكام الشرعية التي توفر العدل والأمان وتمنح أطراف المعاملة الشعور بالطمأنينة والرضى.
والمضاربة هي المعاملة التي وجدت فيها البنوك الإسلامية الصيغة المناسبة- بل وكأنها صممت لهذا الغرض- لتنظم العلاقة بينهما وبين المودعين، إلا أنها عزفت- في أكثر الأحيان- عن استخدامها في علاقتها مع طالبي التمويل.
ونتعرف على الأسباب من أقوال الإقتصاديين والعاملين في هذا المجال:
واقع التمويل بالمشاركة في البنوك الإسلامية العاملة في السودان- للدكتور عابدين سلامة- ص59-70 مجلة البنوك الإسلامية عدد71.
جاء في البحث: ”هناك رغبة للبنوك الإسلامية العاملة للعمل وفق صيغة المرابحة لما في ذلك من ضمان أموال المودعيين من أن تتعرض لمخاطر المشاركة.
وفي مجال المشاركة في القطاع التجاري جاء: وبعض هذه الحالات تؤكد ما توصل إليه الباحثين من أن بعض العملاء يلجأ إلى التحايل في بيع البضاعة بسعر وإظهاره في فاتورة صورية بسعر آخر أو محولات تدوير المبلغ والاستفادة منه لمصلحة العميل فقط دون اشراك البنك أو محاولة حجب النواحي المالية والإدارية من البنك واخفائها والإنفلات الزمني للعمليات ويكون للعميل ضلع كبير فيه وللباحث صاحب الدراسة المشار إليها خبرة عملية طويلة في مجال الإستثمار في البنوك الإسلامية ويؤكد ما توصل إليه هذا الباحث بعض دراسات المشار إليها خبرة عملية طويلة في مجال الإستثمار في البنوك الإسلامية ويؤكد ما توصل إليه هذا الباحث بعض دراسات الحالة التي استعرضناها وما توصل إليه بعض المفكرين في هذا المجال إذ أوضحوا أن ضعف القيم ووالأخلاقيات في المعاملات قد ضيق من تعامل البنوك الإسلامية على أساس المشاركة والمضاربة واتجهت كما شاهدنا من المعلومات الاحصائية التي استعرضناها إلى المرابحة حيث لا حاجة لها إلى فحص حسابات العميل“.
وجاء في البحث: ضيغ التمويل الاسلامي للدكتور سامي حمودة مجلة البنوك الاسلامية ص40
ص42: ”فالخلط بين الامواال في عقود المضاربة الشرعية لا يجوز بعد بدء العمل حتى لو كان بين ذات المتعاقدين رب المال المضارب، لأن كل عقد يستقل بحكمه بحيث لو وجد عقدان ربح الاول وخسر الثاني فان الخسارة في العقد الثاني لا تنزل من الربح المتحصل في العقد الأول، ولو حصل ذلك لكان فيه إهدار لحق العامل في المال.
كما ان طريقة قسمة الارباح المقترحة لا تتفق مع الاصول والقواعد الفقهية المتفق عليها في المضاربة حيث يفترض في قسمة الربح في المضاربة تنضيض المال اي اعادة رأس المال نقوداً كما كان لكي يسترد رب المال كامل رأس المال إذا سلم مع نصيبه من الربح، ويأخذ المضارب حصته من الربح بحسب ما كان قد أتفق عليه من أبتداء العمل في المضاربة وهذا هو نصيب البنك الاسلامي من الربح الذي يدخله في ميزانيته ويطرح منه مصاريفه ورواتب موظفيه وسائر نفقاته.
أما بالنسبة لما يفعله االبعض من البنوك الاسلامية من ناحية تنزيل النفقات ورواتب العاملين في البنك ممن لهم علاقة بأعمال المضاربة ومن ليس لهم علاقة بذلك ثم يعطى للمودعين المستثمرين ما يقرره مجلس الادارة من ارباح فان ذلك التصرف يخالف القواعد الفقهية للمضاربة الشرعية.
وإذا كان تطبيق القواعد الخاصة بعقد المضاربة بصورتها الواردة فى المؤلفات الفقهية أمر متعذر عملياً في المؤسسات المصرفية، فإن الحل لا يكون بالتغاضي عن التقيد بتلك الشروط والأحكام الفقهية، وإنما يكون الحل بالتبصر فيما يلزم تقريره من أحكام لهذا الوضع الجديد.
وان الحل الذي رأيناه يمثل في الحاجة إلى استحداث عقد جديد له خصائص متميزة عن عقد المضاربة الفردية حيث يحكم هذا العقد علاقات المضاربة المشتركة بكل ما تحتويه من عناصر التعدد في المشاركين وأحكام الاستمرار فيما لا تتم تصفيته من الأموال الداخلة مع المستثمرين“.
ص47: ”ذلك أن البنوك الاسلامية- برغم نجاحها الكبير في اجتذاب المدخرات الوطنية في البلاد التي وجدت فيها- مازالت غير قادرة على إيجاد الوسائل الاستثمارية المناسبة لتوظيف السيولة الفائضة لديها والاسهام في انتقال روؤس الاموال الاسلامية داخل بلاد العالم الاسلامي. وليس هناك من اسرار يفضي بها عندما نقول بأن البنوك الاسلامية تعتمد إلى حد كبير على الاسواق المالية العالمية في أوربا وأمريكا لاستثمار فائض السيولة لديها في اسواق السلع الدولية وتمويل التجارة العالمية. وبذلك تكون البنوك الاسلامية قد أسهمت من غير قصد في استنزاف المزيد من ثروات العالم الاسلامي تاركة بلاد المسلمين تحت وطأة الحاجة للمال الذي يخرج ولا يعود“.
ويقول الشيخ صالح كامل في مجلة التجارة عدد شوال 1410هـ: ”أين هو المسلم الأمين الذي نأتمنه على أموال الناس“.
وقد خرجنا من هذا البحث أن المضاربة- كما وردت في كتب الفقه- هي عقد رائع وصالح للتطبيق العملي، ويحمل في أحكامه ما يكفل الحماية لأطراف العقد وضمان العدل في توزيع منافعه. وأن القاعدة العامة في المصروفات التي تكون من مال المضاربة: إن ما يصرف من مالها هو ما يعاوض به الغير فتدفع إلى أطراف أجنبية عن العقد مقابل معاوضات لا مقابلات، إلا بالإذن في حالة المقابلات كالمشاركة والمضاربة، ولا يجوز للعامل أن يأخذ من رأس المال سواء أكان بعوض أم بدون عوض، إلا في حالة النفقة في السفر أو الحضر، وبالشرط فقط في الحضر.
<< previous page | next page >> |