ودور البنوك وشركات الإستثمار الإسلامية
الفصل الأول
عقد المضاربة
يعتبر عقد المضاربة من العقود الشرعية الإسلامية ذات الأهمية الخاصة، لأنه من أنسب المعاملات التي تركها لنا السلف الصالح؛ ليقوم عليها النظام الاقتصادي الإسلامي الذي تصوره فقهاء عصرنا هذا، والذي نتج عن تصورهم الصحيح أن قامت البنوك الإسلامية لتؤدي رسالتها السامية؛ فالبنك الإسلامي يوفر السبل أمام المسلمين الصادقين الراغبين في إستثمار أموالهم وفق منهاج علمي مدروس مستوحى من الرسالة الخالدة، فيجمع أموالهم ويوجهها بخبرته وعلمه إلى مجالات الإستثمار التي تعود بالخير عليهم وعلى المجتمع.
والمضاربة هي العقد المناسب الذي يدفع الناس أموالهم بموجبه إلى البنك، ويدفع البنك المال بموجبه إلى أصحاب الأعمال، وكما كانت المضاربة في فجر الإسلام البديل الذي حل محل التمويل الرَبَوي، فهي البديل الآن في خروجنا من العصر الرَّبَوي وعودتنا إلى النظام الاقتصادي الذي فيه عُلُونا وخلاصنا من كل مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية.
وسنتبع في تبويب هذا الجزء نفس نظام التبويب الذي اتبعناه في باب المضاربة في الفقه الإسلامي، وهذا الجزء هو اجتهاد عامل مضاربة، في محاولة مخلصة صادقة لفهم وتكييف بنود هذا العقد برؤية عصرية، يراعى فيها ظروف وطبيعة الإستثمار في هذا الزمان، وهو بالطبع لا يتعدى كونه اجتهاداً موضوعاً للبحث، قُصدَ منه أن يُدْلي أحد طرفي المضاربة بدلوه، راجياً أن يُبْحث هذا الأمر من قِبَلِ الأطَراف الأخرى من أصحاب مال واقتصاديين، وغيرنا من أصحاب العمل؛ حتى تتضح الصورة العملية، فيقوم الفقهاء في عصرنا هذا بالدراسة الفقهية المبنية على هذا التطبيق العملي، فيخرج عقد المضاربة الشرعي الحديث متكاملاً، يمكن تطبيقه عملياً بما يحفظ حقوق أطرافه ويحمي مصالحهم، ويحقق الخير لمجتمعاتنا.
ومن الأسباب التي دفعتنا إلى هذه الدراسة، الصعوبة التي يعاني منها أصحاب الأعمال الأمناء، نتيجة عزوف أرباب الأموال بما فيهم البنوك الإسلامية عن الإستثمار عن طريق المضاربة إلا فيما ندر. وقد صدرت فتاوي أهل الفقه والعلماء بالإجماع بأن الفوائد البنكية ربا، فامتنع أصحاب الأعمال المخلصين لدينهم عن تمويل أعمالهم بالقروض الربوية، واتجهوا إلى البنوك الإسلامية؛ فلم يجدوا عندها البديل في عقد المضاربة إلا في حالات قليلة نادرة.
ومن الأسباب التي منعت أرباب الأموال والبنوك الإسلامية من التعامل بالمضاربة هي أن شكل المضاربة الذي يفهمه الناس في هذا الزمان، أن الرجل يدفع ماله مضاربة إلى شركة فتستثمر المال، وتقتطع منه لنفسها مصاريف مكتبها الرئيسي ومصاريف وأجور معداتها وأعيانها … فإن لم تصب ربح بعد ذلك تحمل الخسارة رب المال، ولا شيء من الخسارة على الشركة، والتي ربما تكون قد ربحت من هذه الأجور التي اقتطعتها لنفسها، وهذا ما لم يقل به أحد من الفقهاء السابقون، فلا أجر لعامل المضاربة، وعمل العامل من ماله، وكذلك نفقته إذا كان شرطها عليه، فالعامل المضارب يخسر من ماله قبل خسارة رب المال، ولا يجوز له الربح من مال المضاربة إلا من نماء رأس المال وربحه.
ويتضح السبب الثاني مما جاء عن بعض العاملين في البنوك الإسلامية، وعن بعض الباحثين، وهو يتعلق بعدم أمانة بعض أصحاب الأعمال الذين يستغلون هذا العقد في تحقيق الربح لأنفسهم بطرق احتيالية، ولا ريب أن هذا ما حدث في بعض الحالات من قِبل فئة قليلة فاسدة، فأصيبت الغالبية الأمينة بجُرْم الأقلية الخائنة.
جاء في بحث: صيغ التمويل الإسلامي للدكتور سامي حمود – مجلة البنوك الإسلامية (ص 43): ”وقد جربت البنوك الإسلامية بكل حذر صيغة المضاربة فلم تجد الأمين من الناس إلا ما ندر. وكانت النتيجة المؤسفة التي توصلت إليها البنوك الإسلامية تتمثل في تقليص استعمال هذه الصيغة التمويلية الرائعة – أي المضاربة – واستبدالها بصيغ أخرى لا تحقق مقاصد الشريعة الخالدة في تحقيق التوازن في المجتمع الإسلامي المتكافل المتضامن“.
وجاء في بحث السيد م. رشيد شودري ”نظرة تقويمية للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية ودورها المستقبلي“ – (ص 25 – 33 مجلة البنوك الإسلامية عدد 66): ”أن بعض الباحثين عن الثروة من رجال الأعمال قد يستغلون المزايا التي تمنحها البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية لنفعهم الشخصي. وفي بعض الأحيان يلبسون قناع الدين ليخدعوا الهيئة الإدارية“.
وجاء عن دور البنوك الإسلامية، من نص محاضرة للدكتور أحمد النجار – مجلة البنوك الإسلامية – (العدد 70 ص 31-37): ”ومن أمثلة ذلك بيوع المرابحة التي كادت بعض البنوك الإسلامية تقصر نشاطها عليها والتي لا تمثل في تصوري بالنسبة لفلسفة النظام الاقتصادي الإسلامي سوى وسيلة محدودة وسيئة بل وتافهة إذا ما قورنت بأسلوب المشاركة الذي يعتبر الجوهر الأساسي لفلسفة عمل ونظام البنوك الإسلامية، حيث أن مقاصد النظام الاقتصادي الإسلامي لا تتحقق بأسلوب المرابحة، بل قد تكون هذه الوسيلة من وسائل التمويل مدعاة وذريعة لممارسات خاطئة تسيءإلى الفكر الاقتصادي الإسلامي“.
ويقول الشيخ صالح عبد الله كامل في كلمته التي ألقاها في ندوة الاقتصاد الإسلامي والتي نشرت في مجلة التجارة عدد شوال 1410 هـ: ”أما في جانب استخدام الأموال المجمعة فهناك وسائل عديدة أولها وأهمها والتي تمثل جوهر الطرق الإسلامية للإستثمار هي المضاربة الشرعية والتي تعني مال من طرف يملكه وعمل من طرف يملك الخبرة في ذلك المجال، يحصل التزاوج بينهما فتولد الأرباح بأذن الله … ويضيف: وهذه الأداة مستخدمة في بنوك البركة وغيرها من البنوك الإسلامية، ولكن بتحفظ وحذر فأين هو المسلم الأمين الذي نأتمنه على أموال الناس، ونثق أنه سيقوم بالعمل على الوجه المرضي، ويظهر النتائج كما وفق الله ولا يقوم باستخراج حسابات ختامية أحدها لشريكه والآخر للحكومة والثالث لنفسه، والبنوك الإسلامية كلما استطاعت أن تجد هذه النوعية قامت بالعمل معها بأسلوب المضاربة“.
وفي مقال تقويم مسيرة البنوك الإسلامية، عن مجلة البنوك الإسلامية (العدد 65 ص 23-32) وتحت عنوان حماية البنوك يقول الدكتور جمال الدين عطية: ”قد يستغرب البعض أن تكون البنوك الإسلامية بحاجة إلى حماية من عملائها، ولكن التجربة أثبتت أنها ضعيفة في مواجهة العملاء عديمي الخبرة وعديمي الضمير، والبنوك التقليدية بمنأى – من الناحية النظرية – عن كلا الخطرين، إذ أن علاقتها بعملائها المقترضين علاقة دائن بمدين، ثم هي تأخذ من الضمانات ما يزيد عن قيمة الدين ولا يهمها بعد ذلك إن كان العميل عديم الخبرة أو سيءالحظ فخسارته عليه على كل حال، وذلك بخلاف الحال في البنوك الإسلامية إذا استخدمت صيغتي المضاربة والمشاركة؛ إذ أنها تتحمل حينئذ مغبة هذه الخسارة، ومن هنا كان عليها عبء إضافي في دراسة المشروع المطلوب منها تمويله وفي التحري عن خبرة العميل وسابقة أعماله.
أما الخطر الثاني وهو إنعدام الضمير فإنه أن تمثل في تزييف العميل لحساباته فذلك لا يهم البنك التقليدي خلافاً للبنك الإسلامي على النحو السابق شرحه، وأن تمثل في تأخر العميل عن السداد فالفائدة التأخيرية – وهي أعلى من الفائدة في الإتفاقية – كفيلة بزجره عن التأخير وكفيلة بتعويض البنك التقليدي، أما البنك الإسلامي فلا يستطيع استخدام هذا الإجراء الذي نظمته القوانين الوضعية، ويبقى لذلك بدون حماية“. وقد استطرد الدكتور ففصل علاج هذا الوضع في اتجاهين أولهما الاهتمام بالتوعية والتربية الإسلامية للمواطنين في خصوص أخلاقيات التعامل، وثانيهما يقتضى إصدار بعض القوانين وتعديل بعضها الآخر بما يحقق الحماية الضرورية للبنوك. انتهى.
ومثل هذا – في رأينا – يجب أن يعالجه ويتصدى له أصحاب الأعمال الأمناء، فهم أعلم بخبايا المهنة من غيرهم، وأقدر على منع هذه التجاوزات الخطيرة، التي تسيء إليهم، وهم أعلم بسبل سد الثغرات التي قد ينفذ منها أهل السوء. وقد درسنا هذه السبل في الأبواب الأخيرة من هذا البحث، وهو يعبر عن اجتهادنا وراينا الشخصي، وهو اجتهاد نعرضه على الفقهاء، وفي كل ما ورد في هذا البحث. وتجدر الإشارة هنا إلى قول الإمام علي رضي الله عنه: ”لا يصلح الناس إلا ذلك“. إلا أنه يجب التنويه هنا أنه لا ضمان على عامل مضاربة.
فالمقصود هنا هو تقديم محاولة صادقة للوصول إلى العقد العملي، الذي يتفق في بنوده مع الأسس ا لتي ذهب إليها الجمهور، بينما تراعى فيه ظروف وطبيعة الإستثمار في هذا العصر، الذي يهدف إلى التوسع في تطبيق معاملات النظام الاقتصادي الإسلامي؛ لإيماننا أن في هذا النظام وحده يمكن خلاصنا من كل مشاكلنا الإقتصادية والاجتماعية.
وقد حاولنا البحث في عقد المضاربة في الأسباب التي لأجلها منعت بعض التصرفات أو أجيزت، واضعين نُصْبَ أعيننا التفريق بين الشروط الشرعية، وبين الشروط الجعلية الوضعية، والأخيرة هي ما يتناولها هذا البحث، أما الشروط الشرعية … فبالإضافة إلى كونها من عند الخبير العليم، فهي خير أساس للنظام الإلهي الذي صَلُحَ عليه الكون، والذي أنعم الله به علينا فأخرجنا من الظلمات إلى النور، فكنا إذا عملنا به خير أمة أخرجت للناس.
وقد التزمنا بالمبدأ العام بأن الشرط الجعلي يكون مقبولاً، طالما كانت هناك حاجة ماسة له لتكييف العقد وبما يلائم مقتضاه، وتوفرت فيه الشروط التالية:
– ألا يتعارض مع أي من الشروط أو الأحكام الشرعية.
– ألا يخل بركن من أركان العقد، أو بشرط من شروط الصحة.
– ألا يؤدي إلى الغبن بأحد المتعاقدين.
– ألا يؤدي إلى الغرر الكثير أو المتوسط إلا أن يكون قليلاً لا يمكن التحرز منه، ولضرورة وحاجة لا يتوفر لها سبيل آخر.
– ألا يؤدي مباشرة أو غير مباشرة إلى أكل المال بالباطل، أو الكسب دون عوض.
– ألا يتعارض مع المنطق والقياس والعرف الصحيح.
– ألا تكون فيه مضرة على أحد المتعاقدين أو على المجتمع عامة.
– أن تكون للشرط حاجة ماسة لأثره، ويترتب عن عدمه الضرر بالمتعاقدين أو بالمجتمع.
– أن تكون ضرورته أهم بكثير من ضرره. وبشرط أن يكون في تجويزه مصلحة للمتعاقدين وللمجتمع، وألا تكون هناك وسيلة أخرى لبلوغ نفس المقصد.
– ألا يحتوي على جهالة، قد تؤدي إلى التنازع والخلاف وألا يحد من تصرف المتعاقدين وفق متطلبات أو مصلحة العقد.
– أن تتوفر فيه المباديءالعامة للشروط من أن يؤدي إلى الرضى والعدل وعدالة توزيع منافع المعاملة.
معاني الألفاظ المستخدمة فيما بعد:
ربح المضاربة: هو الفائض في المال بعد إعادة رأس المال إلى صاحبه، ويتكون من جزءين هما ربح المال وربح العمل.
ربح المال: هو الجزء من الربح الذي يعود إلى رب المال لقاء مخاطرته بالمال، ووفقاً لقاعدة الغنم بالغرم، والحديث الشريف الخراج بالضمان؛ أي أن ربح المال هو نماء المال الصافي العائد إلى ربه، وهو نصيب المال من الربح الحاصل نتيجة العمل فيه وتقليبه من حال إلى حال.
ربح العمل: هو الجزء من الربح الذي يعود إلى العامل لقاء عمله وبذله الفكر والجهد لتنمية المال، ويستحقه لقاء العمل الذي يبذله والذي تظهر قيمته في مدى قدرته على إنماء الماء فتقيم بجزء منه. ويستحق العامل ربح العمل عند تنضيض المال وظهوره، ولهذا تفضل القسمة عند كل إنضاض؛ لأن ربح العامل لا يجب أن يجبر خسارة المال في تجارة لاحقة، ولأن له في المال – من ربح تجارته السابق – إذا تُجِرَ في المال مرة أخرى بدون قسمة.
القسمة: وهي التي تتم بحضور رب المال أو من ينيب عنه، وتتم عند تنضيض المال بعد تبدله من حال إلى حال، أو عند انفساخ المضاربة وبيع العروض.
ويجب التنويه هنا أن الفقهاء تركوا أمر الاتفاق على تقسيم الربح بين المال والعمل إلى المتعاقدين، فيجوز أن يكن الجزء الأكبر للمال أو العكس، والفقهاء في هذا تركوا أمر هذه النسب لتحددها القوى المؤثرة في سوق ما، فهي تعود إلى عوامل كثيرة منها: ظروف السوق من جهة توفر أو نقص المال أو العمال، ونوع المشروع، وكمية العمل المتوقعة، ودرجة المخاطرة، وخبرة المضارب وغيرهم من العوامل المتعددة، ولهذا … لا يمكن تحديد هذه النسب إلا عند التعاقد، وبالرغم من ترك الحرية للمتعاقدين … إلا أن تحديد هذه النسب يجب أن يراعى فيه عدالة توزيع ربح المعاملة مقابل ما يقدمه كل منهما.
ومتى حددت هذه النسب بالاتفاق والتراضي بين المتعاقدين … حرص الفقهاء أشد الحرص على ألا يصيب أحدهما من نصيب الآخر، وألا يجبر ربح العامل خسارة رب المال السابقة لتصرفه، إلا أنهم قد سمحوا بهذا في بعض الحالات الخاصة كالمضاربة التي يتاجر العامل في مالها أكثر من مرة؛ فتتحول النقود إلى عروض ثم إلى نقود وهكذا أكثر من مرة … فإن لم تتم القسمة بعد كل إنضاض، جبر ربح العامل في أحد الدورات خسارة رب المال في دورة أخرى، وقد سمحوا بهذا لأن المضارب في عصرهم كان يسافر فتنقطع سبل اتصاله برب المال فتستحيل القسمة، وهذا لا يحدث في عصرنا نظراً لتيسر سبل الاتصال.
إلا أن هناك حالات أخرى، قد نضطر فيها لسلوك نفس التيسير لمصلحة المتعاقدين والمجتمع، منها خلط مال العامل أو غيره بمال المضاربة بعد المباشرة بالعمل في حالة نقص المال وإمتناع أو عجز رب المال عن التمويل الإضافي، مع أذنه للعامل بالحصول عليه من رب مال آخر، إذا كان في هذا مصلحة ماسة لأعمال المضاربة ولهما.
التقدير وإعادة التقدير:
قد يضطر المتعاقدان – في إحدى المراحل – إلى زيادة رأس المال، ولا مناص آنذاك من الإعتماد على التقدير؛ لمعرفةالربح أو الخسارة في أحد مراحل المشروع غير المكتمل بعد، وقد جاء عند الفقهاء أن لرب المال أن يسترد جزءاً من المال تنفسخ المضاربة في هذا الجزء المسترد وتستمر فيما تبقى، وقالوا إن الجزء المسترد له ربحه وعليه خسارته، ويصعب معرفة هذا إلا بالتقدير؛ بشرط ألا يكتنف هذا التقدير غرراً، إلا أن يكون يسيراً يقل تأثيره.
جاء في مجموع فتاوي ابن تيمية (جزء 20 ص 350): ”ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة، وهو اشتراء الثمر والحب بخرص، وكما نهى عن بيع الصبرة من الطعام لا يعلم كيلها بالطعام المسمى، لأن الجهل بالتساوي فيما يشترط فيه التساوي، كالعلم بالتفاضل، والخرص لا يعرف مقدار المكال، إنما هو حرز وحدس، وهذا متفق عليه بين الأئمة.
ثم أنه قد ثبت عنه أنه أرخص في العرايا يبتاعها أهلها بخرصها تمراً، فيجوز ابتياع الربوي هنا بخرصه، وأقام الخرص عند الحاجة مقام الكيل، وهذا من تمام محاسن الشريعة، كما أنه في العلم بالزكاة وفي المقاسمة أقام الخرص مقام الكيل، فكان يخرص الثمار على أهلها يحصي الزكاة، وكان عبد الله بن رواحة يقاسم أهل خيبر خرصاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنه إذا أمكن التقدير بالكيل فعل، فإذا لم يمكن كان الخرص قائماً مقامه للحاجة، كسائر الابدال في المعلوم والعلامة، فإن القياس يقوم مقام النص عند عدمه، والتقويم يقوم مقام المثل وعدم الثمن المسمى عند تعذر المثل والثمن المسمى.
وجاء في صفحة 556 : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصروا الابل ولا الغنم، فمن ابتاع مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، أن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر. وهذا حديث صحيح.
ويضيف في صفحة 557: وهنا كان اللبن موجوداً في الضرع فصار جزءاً من المبيع، ولم يجعل الصاع عوضاً عما حدث بعد العقد بل عوضاً عن اللبن الموجود في الضرع وقت العقد، وأما تضمين اللبن بغيره وتقديره بالشرع فلأن اللبن المضمون اختلط باللبن الحادث بعد العقد فتعذرت معرفة قدره، فلهذا قدر الشارع البدل قطعاً للنزاع، وقدر بغير المثل لأن التقدير بالجنس قد يكون أكثر من الأول أو أقل فيفضي إلى الربا“.
ومن القواعد المهمة:
– لا يملك العامل أو رب المال الربح إلا بظهوره، ولا يظهر الربح إلا عند إنضاض كل المال، ولا يُستحق الربح لأحدهما إلا بعد القسمة وإعادة رأس المال لصاحبه.
– حتى يتم إنضاض كل المال، وطالما كان بعض المال عروضاً … تنجبر خسارة مرحلة أو تجارة من ربح مرحلة أو تجارة أخرى سابقة كانت أو لاحقة.
– لا يجوز الأخذ بتقدير الربح والخسارة وبعض المال عروض، ولا يجوز إنقاص رأس المال بقدر الخسارة المرحلية التقديرية، ولا يتحدد الربح أو الوضيعة إلا عند الإنضاض … فإن وزع ربح مرحلي – قبل الإنضاض والقسمة – كان ديناً في ذمة من استلمه حتى تنتهي المضاربة فيخصم من حقه فيها أو يُرد.
– لا يجوز أن يكسب أحدهما مما ليس له فيه مال أو عمل أو ضمان، ولا يجوز للعامل أن يتقاضى أجراً عن عمله لأن له نصيباً في الربح هو عوض عمله.
– لا يجتمع مع المضاربة إجارة أو بيع؛ أو شرط يشترطه أحدهما لنفسه قد يعود عليه بكسب أو منفعة، ولا يجوز لأحدهما الكسب أو الإنتفاع من المضاربة إلا من نصيبه من الربح.
ونحن إذ نعرض هذا البحث المقدم عن صاحب عمل ليبدي وجهة نظر العامل … نرجو من الله صادقين أن يوفق عملنا لخدمة الإسلام والمسلمين، وأن يسدد خطانا إلى ما يرضاه، ولا ندعي العلم فجلَّ من وَسِعَ علمه كل شئ، وإنما نجتهد وندلي بدلونا مع غيرنا في هذه المرحلة المهمة من الصحوة الإسلامية، فإن جاوزنا الصواب في بعض أو كل ما بحثناه، فنأمل أن يشفع لنا صدق مقصدنا، والله خير العالمين.
<< previous page | next page >> |