الفصل الثاني – أركان عقد المضاربة

أولاً : المتعاقدان

يشترط في رب المال وصاحب العمل ما يشترط في العقود عامة، ويشترط في رب المال الأهلية والولاية وما يشترط في الموكل، فيكون ممن يملك فعل ما وكل فيه بنفسه، ويشترط في العامل أن يكون صالحاً وأهلاً لأن يكون وكيلاً وصحة مباشرته للتصرف الذي وُكِّلَ فيه لنفسه. وجاء في مفتاح الكرامة (جزء 7 ص 430): ”ويجوز تعددهما واتحادها وتعدد أحدهما خاصة“.

وينطبق ما اشترط على المتعاقدين الأشخاص؛ على الشركة أو الجهة التي ستكون طرفاً، من حيث الأهلية وملكية المال أو الولاية عليه، ومن صحة مباشرة الشركة – العامل – في التصرف بالمال وإستثماره.

الشـركة:

يجوز أن يكون رب المال شركة، وكذلك يجوز أن يكون العامل شركة؛ لأن المضاربة مع عاملين جائزة، ولا يحق لأحدهما التصرف دون الرجوع إلى صاحبه، وهما معاً أقرب إلى شركة الأبدان أو الأعمال، التي أجازها الجمهور – عدا الشافعية والإمامية – فإن جاز هذا؛ فمن المصلحة أن تجوز الشركة كعامل في المضاربة، ولا أظن أن هناك خلافاً في هذا.

إلا أن أغلب الشركات الوضعية – في العصر الحديث – تنفصل ذمتها عن ذمم أصحابها، وهذا يختلف عن الشركات التي قال بها الفقهاء السابقون، ولهذا … يجب استعراض ما جاء عن معاصرينا في هذا الموضوع.

– في الشخصية الإعتبارية للشركات:

يقول الدكتور عبد العزيز عزت الخياط في كتابه الشركات (ص 221): ”ومن الواجب، جرياً مع مقتضيات المصلحة العامة، أن نعطي الشركة تبعاً لنوعها شخصية إعتبارية. وتكون لها ذمة مستقلة ووجود مستقل. فيكون لها اسم وموطن وجنسية، ويترتب عليها مسئولية. وليس في الشرع من كتاب أو سنة ما يحول دون ذلك والعرف والمصلحة والضرورة تقضي به لتستقيم معاملات الناس“.

ويقول السيد بهاء الدين أحمد صابر تحت عنوان موضوع للمناقشة نشر في العدد 68 من مجلة البنوك الإسلامية (ص 66): ”وعلى الرغم من أن بعض هؤلاء الفقهاء قد رأى عدم وجود ما يمنع إثبات شخصية معنوية لهذه الشركات، إلا أنهم في غالب الأمر لم يتطرقوا إلى دراسة ما يترتب على إثبات هذه الشخصية لتلك المؤسسات المستحدثة من فوارق في الأحكام الفقهية للإجابة على سؤال ملح ألا وهو: هل تختلف الأحكام الفقهية تبعاً للفوارق الموجودة بين الشخص الطبيعي والشخص الحكمي“.

ويقول الدكتور محمود أبو السعود في كتاب فقه الزكاة (ص 31): ”وأما أن الشريعة عرفت الشركة كشخصية معنوية وأبطلت الحيل، فذلك مضمون ما ورد عن أنس في كتاب الصدقة: (ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية لصدقة …) فمال الشركة يخضع للزكاة، ولا يجوز التحايل بأن يحسب لكل شريك سهمه في الشركة حتى يقل الواجب في المال“.

ومما سبق … فإن الشركة لها شخصيتها المعنوية المنفصلة والمستقلة عن ذمة أصحابها وتؤدي الزكاة عن نفسها، إلا أن الفقهاء المتقدمين قد اعتبروا ذمة الشركة الشرعية من ذمم الشركاء، فالخسارة في الشركة الشرعية يتحملها الشركاء برأس المال؛ فإن هلك رأس المال يتحملها أصحابها من أموالهم الخاصة، كما هوا لحال في شركات التضامن، إلا أن الحاجة إلى تشجيع الناس على المساهمة في الشركات، والذي احجموا عنها خوفاً من أن تتجاوز الخسارة رؤوس الأموال فيصيبهم ما لا طاقة لهم به من خسارة قد تؤدي إلى الإفلاس، دعت المشرع الوضعي إلى وضع نظام الشركات المحدودة، التي لا يتحمل المساهم فيها إلا في حدود رأس ماله.

وقد يبدو لأول وهلة أن لنظام الشركات المحدودة عيوبه ومضاره تجاه المطالبين في حالة إفلاس الشركة؛ إذا تعدت خسائرها رأس مالها، ولكن هذا يحدث أيضاً في حالة إفلاس التاجر وتعدى خسائره قدر أمواله الخاصة، فكما تفلس الشركة … يمكن أن يفلس الأشخاص، بل وأن المتعامل مع الشركة المحدودة يَعْرِفُ قَدْرَ رأس مالها، ويمكنه الإطلاع على حساباتها ومعرفة وضعها المالي والتعامل معها على أساس معلومات واضحة، فيتحرز بألا يتعامل معها إلا في حدود مالية معينة، بينما قد لا يستطيع الحصول على هذه المعلومات في حالة الشخصية الطبيعية (التاجر).

وبالرغم من أن أغلب الفقهاء – في هذا العصر – قد أجازوا ضمنياً هذه الشركات المحدودة برأس مالها … إلا أن الفتوى القاطعة – والله أعلم – لم تصدر بعد، والذي يهمنا في هذا البحث هو ما يلي:

–    إن الشركة لها شخصية معنوية، ويصح أن تكون رب مال أو عاملاً في المضاربة وغيرها من المشاركات.

–  إن العامل سواء كان شخصاً أو شركة لا يحق له الإستدانة أو الإتجار بأكثر من رأس مال المضاربة، إلا بأذن وضمان رب المال، على ألا يتجاوز هذا الضمان ما تملكه الشركة المقارضة من مال إن كانت من الشركات المحدودة، وإلا ضمن إصحابها في أموالهم الخاصة، وإن خالف العامل – الشركة المحدودة – يضمن أصحابها بأموالهم الخاصة أن تعدى الضمان رأس مال الشركة العامل.

–    ما ينطبق على الشخص الطبيعي ينطبق على الشركة.

–    الإيجاب والقبول والتصرف يصدران عمن لهما صلاحية تمثيل الشركة والنيابة عنها.

وحيث إن المضاربة قد حددت برأس مالها… فإن اذن بالإستدانة… وجب الضمان علي الشركة رب المال وعلي أصحابها؛ فإن الشركة الى يجوز لها أن تكون رب المال أو عاملاً في المضاربة قد استوفت شروطها الشرعية.. يجب ان تكون ذمتها من ذمة أصحابها تجاه الغير.

ويقترح أن توضع القواعد المنظمة للشركات؛ فالشركة التي تود أن تكون الطرف العامل في المضاربة- الشركة المضارب- يجب عليها أن تعلن أنها تلتزم في جميع معاملتها بالشريعة، ويكون هذا الإلتزام فيما يتعلق بتحيرم التعامل بالفائدة الربوية وفي المحرمات، لما جاء في المدونة (جزء 5 ص107):” وقال مالك لا أحب للرجل أن يقارض رجلا إلا رجلا يعرف الحلال والحرام وإن كان رجلاً مسلماً، فلا أحب، أن يقارض من يستحل شيئاً من الحرام في البيع والشراء“.

وتستطيع أي شركة قائمة أن تغير نظامها القائم، وتعدل عن معاملاتها السابقة لتكتسب شخصيتها الشرعية، ويجوز للشركات التي أصحابها من أهل الذمة أن تكتسب هذه الشخصية إذا التزمت وكان مديرها المسؤول عالماً بأمور الحلال والحرام في الإسلام.

والمقصود هنا بالشخصية الشرعية الإسلامية هو الإلتزام بالأحكام المذكورة، وليس أن يكون للشركة دين، فالدين ينطبق على البشر وله طبيعة وأحكام خاصة لاتنطبق على غيرهم، بينما المقصود هنا أن تكون هذه الشركة متميزة ومستفيدة من هذا الإنتماء فتحافظ عليه، إذ إنها ستفقد هذه الشخصية إذا استخدمت مال مضاربة في أي استثمار يحرمه الإسلام، بإذن أو دون إذن من رب المال، فيكون هذا من دواعي التزامها وحرصها على هذه الشخصية.

ولايجوز لرب مال أو مؤسسة مالية إسلامية أو بنك إسلامي دفع مال مضاربة إلي أي شركة أو تاجر لم يعلن التزامه في جميع معاملاته الأخري بهذه المبادئ، وأي نقض لهذا الإلتزام يثبت بالبينة القاطعة يفقد هذه الشركة شخصيتها الإسلامية، وهي أهليتها الشرعية… فلا يجوز أن تصبح طرفاً في عقود مضاربة، ويفقد مديرها المسؤول أهليته فلا تصح له إدارة شركة أخرى – ذات شخصية إسلامية – لمدة معينة.

وتوضع لائحة لتسجيل أسماء هذه الشركات تشرف عليها جهة شرعية، قد تكون منبثقة عن الهيئة العليا للفتوى والرقابة الشرعية، على أن يكون معها مكتب محاسبة وتدقيق حسابات، فيشترط في أي شركة تود الدخول في عقد مضاربة أن تتقدم بطلبها لقيد أسمها في هذه اللائحة، وتصدر هذه الجهة شهادة تتجدد سنوياً بعد التأكد من صحة الإلتزام.

وتنبثق عن هذه الجهة لجان تحكيم للنظر والفصل في الخلافات التي قد تنشأ عن عقود المضاربة، ولجنة للعقود تقوم بإعداد وكتابة وإصدار الشروط العامة القياسية لعقد المضاربة، فتصدر عدة عقود قياسية مختلفة بإختلاف الأغراض، ينص فيها على الشروط الشرعية الثابتة في العقد، وعلى الشروط الجعلية، والتي لأطراف العقد إبقاؤها أو النص في الملحق على إلغاء أو تعديل بعضها، وفي الحدود التي رسمها الخبراء الشرعيون، على أن ينص انه إذا تعارض شرط جعلي أضافه المتعاقدون مع أحد الشروط الشرعية..فإن الشرط الجعلي يبطل تلقائياً.

وتمويل هذه الجهة الشرعية بتقاضي رسوم تسجيل الشركات، ورسوم من أصحاب المال لقاء تقديم معلومات عن الشركات المضاربة بإذنهم، ورسوم تسجيل عقود المضاربة، ورسوم إستشارة وتحكيم وغيرها.

البنك الإسلامي:

تقوم البنوك الإسلامية علي أساس الإلتزام بمباديءوروح الإقتصاد الإسلامي، ولهذا فدورها – كبنك – يختلف إختلافا جذريا عن دور البنوك  الربوية الأخرى التي تقوم علي أساس تقاضي ودفع الفائدة، بناء علي مبدأ كراء المال الذي يحرمه الإسلام قطعياً. وطبقاً للمبدأ الإسلامي الغُنم بالغُرم … فإن البنوك الإسلامية لا تستطيع توفير عائد مضمون للأموال المودعة عندها – بغرض تحقيق عائد كحسابات الإستثمار – إلا عن طريق إستثمار هذه الأموال وفق السبل الشرعية التي وفرها لها الشارع، وهذه السبل كثيرة متعددة تغطي تقريباً كل أنواع الإستثمارات المعروفة، منها: الإستثمارات التي يقوم بها البنك مباشرة أو مشاركة، ومنها التي يدفع بها المال إلى الغير ليقوموا بالإستثمار كالمضاربة. ولهذا كان علي البنك الإسلامي إعداد جهاز فني قادر على دراسة أوجه هذه الإستثمارات وتقدير أرباحها المتوقعة. وسوف تنبثق أيضاً- في ظل هذا النظام الإسلامي- مكاتب دراسات متخصصة. كل في مجال إستثمار معين، يوظفها البنك للقيام بهذه الدراسات المتخصصة إن خرج مجال المشروع عن نطاق خبرته، ويجب أن يتوخى البنك الحرص علي ضمان توظيف الأموال التي يجمعها؛ في الإستثمارات التي تعود بالربح علي مودعيه، وبالفائدة علي المجتمع الذي جمع منه المال.

جاء في موضوع مقاصد البنوك الإسلامية في الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية-الجزء السادس 1982- الإتحاد الدولي للبنوك الإسلامية – الدكتور سيد الهواري. ( صفحة 143): ”لم تنشأ البنوك الإسلامية لملاكها ولأصحاب حملة الأسهم، فهي- أي البنوك الإسلامية- ولا تتعامل بل لا يجوز- وفقا للأحكام القطعية للشريعة الإسلامية- التعامل بالفائدة أخذا أو عطاء. وبالتالي لا يجوز لها المتاجرة علي الملكية بمعنى: تحقق فائض لحساب الملاك فقط علي إعتبار أن الأموال المملوكة اختلطت مع الودائع الإستثمارية لتحقق فائض علي حساب العملاء طالبي التمويل والمشاركات، فالأموال المملوكة عهدة لدي البنك الإسلامي لعمارة الأرض، ولذلك فان البنك الإسلامي لا يجوز أن يغفل عن أن جزءا من أهدافه يدور حول طالبي التمويل بالمشاركة بمعنى أنه لا يضع حصة مشاركة مرتفعة ولذلك فان مفهوم معدل الربح يصبح مرتبطا ليس فقط بتعظيم رفاهية الملاك وأصحاب ودائع الإستثمار بل وبطالبي التمويل والمشاركات أيضاً“.

رب المال:

يجوز أن يكون رب المال شركة أو شخصاً، ممن له الأهلية والملكية أو الولاية، ويجوز أن يكون عدة أشخاص أوحكومة أو بيت مال أو بنكاً يملك التصرف بالوكالة والتفويض أو قائماً على أموال اليتامي وأموال الوقف، ويجوز أن يكون من أهل الذمة.

ويقول الدكتور محمد عبد الله العربي: ”يعتبر المودعون – في مجموعهم لا فرادي- رب المال، والبنك هو المضارب مضاربة مطلقة، أي يكون له حق توكيل غيره في إستثمار مال المودعين. ويضيف الدكتور العربي: إذا كنا أعتبرنا البنك بالنسبة لأصحاب المشروعات الإستثمارية الذين أمدهم بماله هو رب المال، ونعتبر أصحاب المشروعات هم المضارب“.

وعليه… ففي حالة البنك الإسلامي؛ فإن المودع بغرض إستثمار ماله يكون رب المال في عقد المضاربة ويكون البنك هو الطرف المضارب، ويوقعان علي عقد مضاربة مطلقة التفويض، ويبين في العقد رأس المال، وينص علي نصيب كل منهما كنسبة شائعة في الربح الذي يكسبه المضارب، وتكون الوضيعة علي رب المال، ولا ضمان علي البنك. وأن ينص في العقد علي ما يجوز وما لا يجوز من التصرفات للبنك. ومما يجب النص علي جوازه خلط المال والمشاركة والمضاربة خاصة.

ويصبح البنك أميناً علي المال حتي يتصرف فيه، ووكيلاً عندما يتصرف، وشريكاً إذا تحقق الربح، ولا ضمان عليه إلا أن يتلف بالتعدي، كأن يقرضه البنك إلي طرف أخر، أو يستخدمه خلافاً لمضمون العقد فيضمن.

العـامـل:

يشترط في العامل الأهلية والصلاحية لأن يكون وكيلاً وعاقداً، وقد يكون شركة أو شخصاً أو عدة أشخاص، ويجوز أن يعطي رب المال المال إلي عاملين، ويجوز أن يكون أحدهم من أهل الذمة.

وفي حالة البنك الإسلامي… يكون البنك هو العامل في عقده مع المودعين الراغبين في إستثمار أموالهم في المضاربة، ويظل كذلك إذا استثمر المال وفق قواعد المضاربة بنفسه. أما إذا قام البنك بالدراسات المفصلة في أوجه الإستثمار المختلفة؛ فرأى أن المصلحة والخير في دفع المال مضاربة إلي العامل الثاني، وكان العقد الأول يفوضه بذلك.. لإإنه يدفع المال مضاربة الى العامل الثاني، ويصبح رب المال في عقد المضاربة الثاني، ويقتسم البنك ربحه كرب مال من المضاربة الثانية مع مودعيه، وفق شرط الربح في العقد الأول.

<< previous page next page >>