المعقود عليه هو الربح، ويتعين الربح بما يبقي في المال بعد إعادة رأس المال إلي صاحبه، ولهذا… كان لرأس المال شروط يتعين بها فيعرف الربح وتنتفي عنه الجهالة أو الغرر.
شروط رأس المال:
1- أن يكون رأس المال نقداً رائجًا، والقصد هنا أن يكون رأس المال وإيراد المضاربة من نفس الجنس والنوع فيعرف الربح، وأن يكون رأس المال معلوماً بالقدر حتي يتميز رأس المال من الربح. ولهذا… لاتصح المضاربة بالعروض، إلا أن يكون إيراد المضاربة من نفس جنس العروض فيعرف الربح، ومن الصعب تخيل مضاربة يكون رأس المال فيها سلعة أو عرض وإيرادها من نفس السلعة أو العرض، وإن أمكن تخيلها فلا تطبيق لها في عصرنا، ولا حاجة لنا ببحثها.
2- إن دفع رب المال بالعروض إلى العامل فيجب أن يبيعها العامل أولاً، ثم يضارب بعد إعلام المالك بثمنها، والذي يصبح رأس مال المضاربة، وبيعه للعروض خارجاً عن نطاق أعمال المضاربة، وله الأجر عليه من مال رب المال وليس من مال المضاربة أو ربحها.
أما إذا كان للعامل ولرب المال قصد في المضاربة بالعروض، يجوز في بعض الحالات أن يكون رأس المال عروضاً بشرط أن يكون مالاً مثلياً: أي ما له مثل ونظير في الأسواق من غير تفاوتاً يُعتد به كل ما يقدر بالكيل أو الوزن أو العد أو القياس، فيصلح تثمينه بالنقد دون بيعه. فقد يكون هذا المال سلعاً مما ينتجه رب المال، فوجد لها العامل سوق أخرى أربح من سوق بلدتهما، فرغب العامل في أن يبيعها في بلد أخر، ثم يشتري بثمنها بضاعة أخرى يبيعها في سوق بلدته، فمتى تم تثمين هذا المال… يمكنه إما: بيع جزء منه في سوق بلدته لإنضاض بعضه لتوفير النقد الذي سيحتاجه للمصاريف الأخرى كالنقل وغيره، أو أن يدفع إليه رب المال رأس المال في جزئين جزء عروض مثمن بنقد، وجزء أخر نقداً.
ومن المنطق السليم أن المزارع المنشغل في زراعته، والصانع المنشغل في مصنعه، يمكنها دفع إنتاجهما أو الفائض منه عن أسواقهما إلى تاجر يضرب في الأرض، وليس من المصلحة أن يشترط عليهما أن يبيعاه حتى يصبح نقداً، فالتجارة قائمه علي هذه البضاعة، وقد وجد صاحب العمل بخبرته سوقاً أربح لها، وقد يجد في هذه السوق بضاعة يربح منها لو جلبها، ومتي تحقق الوضوح في ثمن السلعة، فالأولى أن تجوز المعاملة لفائدتها.
وتثمين السلعة بثمن مثلها في السوق، يكون كأن صاحب المال قد نقلها من مخازنه إلى السوق، وباعها بثمن يشتمل علي ربح المنتج والتاجر، فيكون المنتج قد ربح قبل أن تبدأ المضاربة، وهذا لا يتعارض مع المنطق الصحيح؛ فهذا الكسب لا علاقة له بالمضاربة ويعود إلي عمله السابق في التصنيع أو الزراعة، والمضارب لا علاقة له بهما، وإن لم تحدث المضاربة… فإن رب المال سيبيعها في السوق، وسيحصل علي ربحه فيها والناتج عن عمله هو وحده. والتاجر ان لم يضارب مع صاحب المال هذا، لضارب مع صاحب مال أخر، يدفع له مالا نقدا فيشتري به هذه السلعة من السوق بثمن المثل، ولهذا… فالبند الوحيد الذي يجب أن يتفقا على خصمه هو تكلفة النقل وتكلفة البيع، وهذه تخصم كلها أو بعضها من ثمن المثل، وفق ما يتفقان عليه، ويكون الصافي هو رأس المال. وبهذا.. يكون التاجر صاحب العمل قد أنتفع من المال العروض أكثر مما كان انتفع به لو كان المال نقداً، ويكون صاحب المال قد انتفع بخبرة التاجر وعمله.
3- أما المضاربة بالدين… فإذا كان الدين على شخص ثالث، فلا مانع إن قبض العامل المال وعمل به، وله الأجر على هذا العمل الخارج عن نطاق أعمال المضاربة؛ فإن لم يستطع اقتضاء الدين… فلن تكون هناك مضاربة. أما إذا كان الدين علي العامل، فإما: أن المال موجودًا فالأصلح أن يرده العامل إلى رب المال، والذي له أن يدفعه بمشيئته ورضاه مضاربة إلى العامل، أو يبقيه في ملكه، فينتفي عن المضاربة أن يكون العامل قد ماطل في الدين على أمل أن يبقيه رب المال معه مضاربة، أو تكون الزيادة ملبسة ثوب الربح تحايلاً لتقاضي الربا، أو لا يكون المال أو بعضه متوفراً عند العامل فيعمل بأقل منه.
4- أما المنفعة فقد قال عنها الشافعية في تحفة المحتاج (جزء2ص417): ”بأنها لا تصح أن تكون رأس مال في المضاربة“.
والمنفعة لا تجوز أن تكون رأس مال مضاربة؛ لأنها تستهلك ، ولا يمكن إعادتها إلي صاحبها كما يعاد رأس المال فلا يعرف الربح، والذي يتبقى بعد سلامة رأس المال. والمنفعة لا يمكن تقييمها بأثمان وقت التعاقد لأنها معدومة آنذاك، وتقيم وفق استيفائها في عمل أو خلال مدة زمنية، وكلاهما مجهولان عند التعاقد.
5- يشترط أن يكون رأس المال معلوم المقدار والصفة والجنس، ومعيناً تعييناً ينفي الجَهالة به، كي يتميز رأس المال الذي يتجر فيه، والذي يملكه رب المال وحده، من الربح الذي يشتركان في ملكيته.
6- يشترط أن يكون رأس المال حاضراً وموجوداً عند التعاقد، ويتحقق الحضور والوجود إذا سلم رب المال إلى العامل الوثائق التي تثبت وجوده، وتعطي العامل الحق في التصرف فيه، كأن يكون المال مودعاً في حساب بنكياً يكون للعامل حق التصرف فيه وفقًا لشروط العقد، فإذا كان رب المال بنكاً فيكتفي بالحساب المفتوح الذي يمنح العامل حق السحب إلي حد إقصى هو قيمة رأس المال، ويشترط ألا يحدد للعامل جدولاً للسحب أو حدودا لقيم الدفعات، طالما قيد هذا السحب بالحد الأقصى.
7- يصح إضافتها إلي زمن مستقبلي كأن يقول ضاربتك بهذا المال من أول الشهر القادم، وعندئذ… لايحق للعامل التصرف في المال قبل هذا التاريخ كأن يشتري نسيئة.
8- لا يجوز تعليقها على شرط مستقبلي؛ لعدم فائدة التعليق، والأولى الإنتظار حتى يتأكد الطرف الذي يود تعليقها من حدوث ما كان يريد تعليقها لأجله، فالمضاربة يجوز لأي من طرفيها فسخها قبل التصرف، فتكون فترة التأجيل والتعليق لا إلزام فيها ولا جدوى من الاتفاق غير المنجز، بل وقد يضر هذا أحد الطرفين إذا امتنع عن دخول مضاربات أخري لأجلها ثم فاجئه الطرف الأخر بفسخها والمال ناض أو لم يسلم بعد، وتسري نفس الأسباب على إضافتها إلى زمن مستقبلي بعيد، كأن يتجاوز الثلاثة أشهر مثلاً.
9- أما عن التخلية… ففي حالة المضاربة المطلقة والمقصود بها هي مضاربة المودع والبنك؛ فيجب أن يسلم المودع المال إلي البنك ويفوضه، ويمكّنه من التصرف الكامل فيه وفق مشيئته وفي حدود مضمون العقد، أما عن مضاربة البنك كرب مال مع العامل الثاني، ومراعاة للسيولة البنكية، ولأن المضارب في المشاريع الحديثه يصرف المال تدريجياً وفق جداول تدفقات نقدية يمككن تقديرها وضبطها… فالأفضل أن يفتح حساب للمضاربة في البنك يصدر منه العامل دفعات أعمال بحد أقصى يعادل رأس المال.
وهذا يوافق الرأي عند الحنابلة والرأي الأخر عند الإمامية من أن المضاربة تصح ولو اشترط رب المال بقاء يده على المال يوفي منه ثمن ما يشتريه العامل، جاء في مطالب أولي النهي في الفقه الحنبلي (جزء3): ”ولا يعتبر لمضاربة قبض عامل رأس مال، فتصح وإن كان بيد ربه، لأن مورد العقد العمل“. بينما منع هذا الأحناف والمالكية والشافعية والزيدية والإمامية في رأي لهم. وفي ما قاله الشافعية يبين السبب الذي لأجله اشترطوا تسليم المال إلى العامل، والا يشترط رب المال بقاء يده عليه، وذلك لاحتمال ألا يجده العامل عند الحاجة- ويمكننا الجزم بأن هذا من النادر حدوثه إذا كان رب المال بنكًا.
ولا يزال شرط التخلية سارياً في حالة فتح حساب للمضاربة في البنك يكون للمضارب حق التصرف فيه، والمضارب إن استلم المال فسوف يودعه في جهة ما حتي يتصرف فيه، ومن باب أولى أن تكون هذه الجهة نفس البنك.
وقد يستثمر البنك المال الفائض عن حاجة المضارب حتي يحتاجه، ويجب أن يتحمل البنك مسؤولية توفير المال للمضارب حين يحتاجه بغض النظر عن جدول تدفقات الدفعات النقدية الذي قدمه المضارب؛ فقد يجد المضارب الخير في تغيير ما كان قد خطط له، ولا يجوز لرب المال التدخل في قراره؛ فللمضارب حق في الربح يمنحه حق القرار، ولن يعجز البنك في الأغلب عن توفير هذا المال.
أما عما يستثمره البنك من المال المعطل حتي يحتاجه المضارب، فهو وإن كان مال المضاربة… فإن البنك بإلتزامه دفع مثله إلي العامل عندما يحتاجه، يكون قد وفره للعامل متى شاء، وليس للعامل شيئاً من ربحه إذا عمل فيه البنك في إستثمارات قصيرة الأجل وربح، فالعامل لا عمل ولا مال له فيه فلا يطيب له ربحه، ويكون الربح مما يرزق الله للبنك فيضيفه إلي نصيبه من ربح المضاربة الثانية، ويقتسم الكل مع المودع كيفما اتفقا، بشرط أن يتحمل المودع الخسارة التي قد تصيب المال في هذه الإستثمارات قصيرة الأجل، وأن ينص عليها في عقده مع البنك، وإن تصرف البنك في المال دون إذن المودع الصريح ضمن، وكان الإستثمار القصير الأجل للبنك له غنمه وعليه غرمه.
الرقـابة:
أما عن ترك حرية التصرف للعامل، فهذا من الأمور المهمة لمصلحة المضاربة ولمصلحة أطرافها، وقد منع الفقهاء تدخل رب المال، وذهب المالكية إلى منعه من الرقابة؛ ففي رأي لهم فيمن ينيب رب المال عنه ليعمل مع المضارب… فقد اشترطوا ألا يكون رقيباً علي العامل يحصي عليه تصرفاته. والرقابة تعني الحفظ والحراسة، ولكن قد يقصد منها أيضاَ العلم بما يحدث لأسباب متعددة منها التأكد من إلتزام المضارب بشروط العقد، ومنها أن يعرف رب المال علي وجه التقريب موقفه المالي؛ حتى يستطيع التخطيط لإستثماراته المستقبلية، وهذا المعنى هو ما نعنيه هنا، والمنحصر في نظام يوفر لرب المال الحصول على المعلومات والبيانات التي تبين سير العمل، والتغيرات التي تطرأ على وضع السوق، والتقديرات المستقبيلة لاحتياجات المشروع المالية ولأرباحه. وهناك رأي عند الأمامية يجيزون فيه أن يراجع العامل رب المال في التصرف، كما جاء في مفتاح الكرامة (جزء7ص446): ”أما لو شرط أن يكون مشاركا في اليد أو يراجعه في التصرف أو يراجع مشرفه فالأقرب الجواز، وهو والأصح كما جاء في الإيضاح“. وذهب ابن قدامة إلي جواز أن يشترك بدنان بمال أحدهما، فقال في المغني (جزء 5 ص 28):” وهو أن يكون المال من أحدهما والعمل منهما، مثل أن يخرج أحدهما ألفاً ويعملان فيه معاً والربح بينهما. فهذا جائز ونص عليه أحمد في رواية أبى الحارث، وتكون مضاربة. لأن غير صاحب المال يستحق المشروط له من الربح بعمله في مال غيره. وهذه حقيقة المضاربة- ثم ذكر أن هذا الرأي يخالف الجمهور- وأضاف: وتأول القاضي كلام أحمد والخرقي على أن رب المال عمل من غير إشتراط“.
ولا شك أن تدخل المالك الرقابي بمعنى المشرف الذي يمتلك حق الموافقة والرفض، لا يجوز إطلاقاً وقد يكون مضراً للمضاربة ، خاصة وأننا افترضنا أن رب المال هذا منشغل وقليل الخبرة، وفي حالة أن المضارب يضارب مع غيره، وبالرغم من أن المضارب الذي أصبح رب مال في المضاربة الثانية يمتلك الخبرة… إلا أن الصحيح افتراض أن خبرته عامة، وأن خبرة المضارب الثاني أكثر من خبرته في المجال الذي يستثمر فيه المال، لأن افتراض عكس ذلك يدفع إلى التساؤل لماذا دفع إليه المال إذن؟ فإن كان قد دفعه لإنشغاله في أمور أخرى… فانشغاله هذا سيؤثر على قدرته، وسواء أكان أقل خبرة أو منشغلاً…ففي الحالتين، يكون المضارب الثاني أقدر منه على التصرف فلا يجوز لرب المال أو المضارب الأول أن يتدخل في صنع القرار. ولا يعني هذا أنه لو توفرت حالة يكون رب المال أقدر على صنع القرار من المضارب جاز له التدخل آنذاك، فهذا لا يصح مطلقاً؛ لأن العامل قد رضى المخاطرة بجهده وعمله لقاء ثقته بإدارته وخبرته هو، وله حق في الربح الذي يحققه فلا يجوز لرب المال إلا المساعدة تطوعاً وبشرط رضى العامل
والرقابة التي نعنيها – وإن كانت لا تسمح لرب المال بالتدخل في القرارات – إلا أن لها تأثيراً غير مباشر على القرارات ذاتها؛ فالمضارب يجد نفسه عند اتخاذ القرار يفكر في وقعه علي رب المال، كما يفكر في أهميته للعمل، فيصبح القرار وسطاً بين ما هو في مصلحة العمل وما هو مرضيا لرب المال؛ فالرقابة قد توجب عليه تفسير كل قرار وتقديم الحجج المقنعة والأسباب التي دعته لإتخاذ هذا القرار، التي قد تجد قبولاً وقد تجد عدم إستحسان. ورب المال وإن لم يكن له حق التدخل في القرار… إلا أن له الحق في فسخ العقد الغير لازم عند الجمهور عدا المالكية، وقد يقع الخلاف في وجهات النظر مما يؤثر على العلاقة بينهما، ومما قد يفضي برب المال إلى فسخ المضاربة عند ظهور أقل العلامات المشيرة إلى احتمال اللخسارة، وكل هذا يضع ضغوطاً على العامل قد تؤثر على كفاءته وإدارته، وهذا مخالف لطبيعة العمل الذي وكل فيه، ومخالف لشرط التخلية.
وحيث إن سبب منع رب المال من الرقابة، يعود إلى حرص الفقهاء على تحقيق التخلية وتحقيق الحرية للعامل لبلوغ القصد من المضاربة، لهذا… يجب تحقيق التوازن بين توفير المناخ المطلوب للإدارة؛ لتبلغ أعلى درجات الكفاءة والإبداع، وبين توفير الدرجة المعقولة من الطمئنينة لرب المال؛ لتشجيعه على الدخول في عقود المضاربة. لتحقيق هذا التوازن في ظروفنا المعاصرة… نجد أن رب المال المعاصر تتوافر لديه وسائل إستثمار أخرى غير المضاربة، منها: شراء أسهم الشركات القائمة، والمرابحة، والاجارة وغيرها. بل وفي هذه المرحلة الإنتقالية… يمكن القول إن لديه الإيداعات التي توفر العائد الربوي، فلو لم تتوفر له الطمأنينة… فلن يستثمر أمواله في المضاربة، فهو يخاطر بماله ولا يتوجب عليه أن يخاطر بأكثر من ذلك، ولهذا فالمنفعة التي تعود على العامل والمجتمع من جراء توفير الاطمئنان لرب المال، تفوق الضرر الناتج عن نقص كفاءة إدارة العامل، والذي قد يكون وهمياً إذا فرض عليه نوع من الرقابة المفيدة؛ خاصة إذا كان رب المال هذا هو العامل الأول، والذي يقدر ويعي ظروف ومشاكل العمل، ولن يصيبه القلق عند ظهور بوادر أية مصاعب، بل وقد يستطيع في حدود المعاونة تقديم المعلومات عن الوضع الاقتصادي العام و التنبؤ بالاتجاهات الاقتصادية المستقبلية، التي قد تفيد العامل المنشغل في الجزئيات فلا يتسنى له الإطلاع على الصورة العامة.
وبالرغم من رأي الفقهاء في هذا الأمر… إلا أننا نجد أنهم أجازوا لرب المال رد المعيب مما قد يكون العامل قد اشتراه، وهذا لايمكن حدوثه إذا لم يكن رب المال على علم بما يحدث في المضاربة، بل وأباحوا له في هذه الحالة التدخل والرفض، وذكروا الرأي فيما يتعلق بإنتفاعه بعرض من عروض المضاربة، وشرائه منها وطلبه الشفعة، وذكروا أيضا رجوع المضارب إلى رب المال بطلب الأذن فيما قد لم يشمله العقد، مثل: الشراء بأجل بأكثر من رأس المال و الإستدانة وغيرها؛ مما يدل على أن العقد قابل للتعديل والإضافة إثناء التنفيذ، وهذا كله يوحى بعدم الممانعة عند الفقهاء، بأن يكون المالك على علم بما يحدث في المضاربة، ولهذا… فإن الأغلب أن المنع المقصود عندهم هو الرقابة التي تشغل العامل عن عمله، وتكون بمثابة المحاسبة والتدخل في القرار والتي تعطي رب المال حق القبول والرفض، وحيث أن الواجب يقتضى الموازنة بين المصلحة والضرر؛ فالمصلحة تكون في السماح بجواز النص في العقد على نظام يقدم العامل بموجبه وبصورة دورية المعلومات الوافية عن سير العمل والتكاليف والتخطيط المستقبلي، على أن تكون هذه المعلومات غير ملزمة له فيما يتعلق بالتخيطيط والتقديرات المستقبلية، وله أن يعدل عنها، ويغير ما يشاء وفقا لما يراه الأصلح.
أما عن الإشراف، الذي يعطي رب المال حق وسلطة الموافقة والرفض، فهذا لا يجوز قطعياً بإجماع الفقهاء… إلا أن رب المال يستطيع إعطاء المال إلى عاملين، لكل منهما نصيب من الربح فلا يتصرف أحدهما دون الأخر، كما سيأتي تفصيله في بند الإشراف فيما بعد.
ويجب التنويه هنا مرة أخرى إلى ما جاء في المغني (جزء5 ص28-29) عن عمل رب المال مع العامل: ”أن يشترك بدنان بمال أحدهما. وهو أن يكون المال من أحدهما والعمل منهما. مثل أن يخرج أحدهما ألفاً ويعملان فيه معاً والربح بينهما، فهذا جائز. ونص عليه أحمد في رواية أبى الحارث، لأن غير صاحب المال يستحق المشروط له من الربح بعمله في مال غيره. وهذه حقيقيه المضاربة، وقال أبو عبد الله بن حامد والقاضي وأبو الخطاب: إذا شرط أن يعمل معه رب المال لم يصح. وهذا مذهب مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأبى ثور وابن المنذر قال: لا تصح المضاربة حتى يسلم المال إلى العامل ويخلي بينه وبينه، لأن المضاربة تقتضي تسليم المال إلى المضارب. فإذا شرط عليه العمل فلم يسلمه لأن يده عليه فيخالف موضوعها، وتأول القاضي كلام أحمد والخرقي على أن رب المال عمل من غير إشراط“.
شروط الربح:
الربح هو ما يتبقى عند انتهاء المشروع، بعد إعادة رأس المال إلى رب المال؛ وهو نماء المال فيتقسماه بينهما وفق ما اتفقا عليه.
ويشترط في العقد أن يتفق صاحب المال وصاحب العمل على نصيب كل منهما من الربح كجزء منه، كالنصف أو الثلث أو الربع، ولا يجوز أن يشترط أحدهما لنفسه قدراً معيناً من الربح، لأنه لو اشترط هذا فقد لا يكون الربح سوى هذا القدر، فيأخذه من اشترط له فلا ينال الآخر شيئاً، وهذا يخالف المقصود من العقد الذي يراد به نفع كلا من المتعاقدين.
وما قاله الزيدية عن صحة الاتفاق إن قال أحدهما إن لي عشرة إن ربحنا أكثر منها، أو مما يزيد عليها يخالف شرط العقد يأن الربح شائع بينهما، فلو قلنا إن لرب المال العشرة إن ربحوا أكثر منهما، فهذا له وجهان، إما أن يكون للعامل فقط في كل مازاد عن العشرة، فتفسد المضاربة إن ربحا أقل منهما، وهذا مالم يقولون به، وإما أن يقتسما بالشرط أن ربحا أقل منهما… فإن ربحا أقل منهما فشرط العشرة لا فائدة منه. وإن ربحا أكثر فلرب المال العشرة، وما زاد بالشرط بينهما، فإن وجد العامل أنه سيربح أحد عشر، يجد أن نصيبه منهما أقل من نصيبه لو ربح تسعة واقتسما بالشرط، فتكون مصلحته أن يربح تسعة، لا أن يربح إحدى عشر، وواجبه أن يجتهد في زيادة الربح وهو إن فعل ضرً نفسه فيؤدي هذا التقسيم إلى تضاد بين مصلحة المضاربة ومصلحته، والشرط الذي يناقض مقتضى العقد شرط فاسد.
1- النسبة التنازلية أو التصاعدية:
من الأغلب عدم جواز الاتفاق على نسب تناقصية مع زيادة الربح، أي أن تختلف النسبة التي تطبق على الربح كله بقدر أجزاء هذا الربح، يقول رب المال للعامل خذ الألف ولك نصف كل الربح إن ربحنا مثل خُمسها، أي خُمس الألف- أو أقل، ولك ثلث كل الربح إن ربحنا أكثر من خمسها، لما يؤدي هذا إلى تضاد المصالح إذا تجاوز الربح خمس رأس المال بمقدار يسير. ويجوز الإتفاق على أن للعامل نصف الربح المماثل لخمس المال، وثلث مازاد عن ذلك، وإن كان مكروها.
ويجوز الإتفاق على نسبة تصاعدية للعامل، كأن يقول له: لك ثلث الربح إن ربحنا مثل أو أقل من خمس رأس المال، ولك نصف ما نربح أكثر من ذلك. فيكون للعامل ثلث الربح المماثل لخمس المال، ونصف ما زاد عن ذلك؛ وهذا ما يؤدي إلى زيادة الحافز عند العامل ليحقق الربح الأكثر.
2- إيراد المضاربة:
ذكر أن إيراد المضاربة حتى تستوفى قيمة رأس المال، يجب أن يكون نقداً من نفس جنس رأس المال؛ فإن أستوفى رأس المال فلهما الاتفاق في العقد على اقتسام المال العروض بينهما؛ بشرط أن يكون من نفس الجنس والنوع والمواصفات، وأن يكون مما يكال أو يقاس، أو أن يستمرا في البيع حتى يصبح الربح كله نقداً فيقتسماه، أو أن يكون جزء من الربح نقداً، والجزء الآخر عروضاً وفق ما يتفقان عليه . وذلك بهدف أن ينتفع المتعاقدون بما ينتج عن المضاربة، فقد يكون أحدهما أو كلاهما في حاجه إلى هذه السلعة لإستعماله الخاص أو لأعماله… فإن اشترط بيعها قد يضطر لشرائها مرة أخرى، وربما بثمن أو تكلفة أكثر مما باعها به (فرق الثمن قد يكون فرق ما نسميه بيع الجملة والمفرق، أو الربح التاجر الذي اشتراها، والتكلفة الزائدة هي إعادة نقلها وخلافه).
3- ولا يجوز اشتراط جزء من الربح لطرف ثالث أجنبي عن العقد، إلا أن يشترط قيامه بعمل من أعمال المضاربة، فيكون بمثابة ما لو دفع رب المال ماله إلى عاملين. أما المالكية… فقد قالوا إن المضاربة صحيحة والشرط صحيح؛ لأن طرفي المضاربة لهما أن يهبا مالهما، والوهب ليس من مقصود المضاربة، ويستطيعان أن يهبا بعد القسمة أو قبلها، إلا أن هذا لا علاقة له بالمضاربة.
4- ولا يجوز أن يشترط أحدهما ربح صنف أو مبلغ أو سفر أو عملية معينة، كأن يتفقان على المضاربة في عمليتين ربح الأولى لرب المال والثانية للعامل؛ لأن شرط صحة المضاربة هو أن يكون نصيبهما من الربح شائعاً فيه.
5- ولا نصيب لرب المال إلا من الربح فقط، ولانصيب للمضارب إلا من الربح فقط، فلو شرط له شيءمن رأس المال، أو منه ومن الربح… فسدت المضاربة، إلا أن تكون نفقة سفر أو حضر. ولا يجوز للعامل أن يأخذ شيئا من ربحه إلا بحضرة رب المال، وإن أخذ شيئاً فهو له ضامن حتى يتحاسبا فيستوفي صاحب المال رأس ماله ثم يتقاسمان الربح على ما شرطا.
6- يجب ألا يربح أحدهما إلا بماله أو بعمله أو بما ضمن، ولا يجوز أن يربح مما ليس له فيه مال أو عمل أو ضمان، ولايجوز لأحدهما أن يربح من المضاربة إلا من الجزء المخصص له من نماء رأس المال، سواء كان ذلك التخصيص للعمل أو للمال أو للضمان؛ فلا يبيع أو يشتري، أو يؤجر أو يستأجر من أو إلى مال المضاربة بربح له من إحدى هذه المعاملات أو غيرها مع شركة المضاربة.
7- إذا كان رأس المال عروضاً… يشترط فيه أن يكون المقصود من دفعه كرأس مال أن يباع وينضض، فلايصح في المضاربة دفع مال نقداً، ومعه دار أو ألة يستخدمهما المضارب في العمل، على أن تحتسب الأجرة مع النقد كرأس مال المضاربة؛ لأن الذي يستهلك في المضاربة من الدار والآلة هو المنفعة وليس العين، ولا يمكن تقدير قيمة المنفعة وقت التعاقد لعدم معرفة مدة المضاربة، وإن حددت مدة المضاربة… لا يعرف المدة التي ستستخدم فيها المنفعة، ولا يعرف هل ستستوفى أو يصيبها ما يقيد أو يمنع استيفاءها، ولهذا… لا يجوز أن تكون رأس مال مضاربة، حتى لا يجهل رأس المال فلا يعرف الربح فتفسد المضاربة، إلا أن يكون دفعها من قبيل الإعانة والتطوع، ولهذا .. كان دفع رب المال عامله ليساعد المضارب من قبيل الإعانة، فلم يحسب أجر هذا المساعد كرأس مال؛ إضافة إلى أنها استئجار ماله بماله.
أما المشاركات التي قال بها الحنابلة، والتي تصح أن دفع الرجل دابته إلى اخر ليعمل عليها والربح بينهما… فهي مشاركة منافع، وليس فيها رأس مال لا نقدي ولا عروض، ولهذا… لا يمكن القول بأنها مضاربة، وإنما هي نوع أخر من المشاركات، وإن شابه المضاربة التي هي من هذه المشاركات أيضاً، فيشارك هذا بمنفعة دابته ذاك بمنفعة عمله، ويقتسمان الرزق؛ أي إن هذه المشاركة تقوم على تساوي مجهولين معدومين وقت التعاقد، أو تفاضلهما بنسب يمكن معرفتها، فمنفعة الدابة يمكن تحديدها إذا علم العمل والمدة، وكذلك منفعة عمل عامل المشاركة، والعمل والمدة وإن لم يعرفا عند التعاقد… إلا أنهما نفس العمل والمدة للمنفعتين، فيمكن تحديد نسب التفاضل بينهما، وتكون هي نسب توزيع الرزق، أما الخسارة فهي من إستهلاك هذه المنافع خلال مدة المشاركة.
وحيث إن الوضيعة محدودة بالمنافع، ولا تمتد إلى العين… فإن هذه المشاركة أبسط من المضاربة، وقد لا تحتاج إلى الشروط التي تشترط في عقد المضاربة، مع إمكان توقيت هذه المشاركات، ومنع الإستدانة فيها إلا بتفاضل أو تساوي الضمان بنفس النسب التي سبق الإتفاق عليها، فإن اتفقا على أن يشتري العامل بضاعة بالأجل ليحملها على دابة صاحبه ويبيعها في السوق… كان ضمان الثمن المؤجل بينهما بنسب المشاركة في الرزق، والتي حسبت على أساس تفاضل المنافع، وليس بضمان أحدهما فقط لكل الثمن، أو تفاضلهما بالضمان بنسبة أخرى، لتعسر فصل ربح العمل عن ربح الضمان، وإحتمال جبران ربح العمل خسارة المال أو العكس ؛ فتوجب استمرارها بنفس نسب المشاركة إلا إذا أمكن حساب وفصل ربح العمل عن ربح المال.
وعليه… فإن رأس مال المضاربة لا يجوز أن يكون منفعة أو منفعة وأموال عينية، ولا يكون إلا نقداً أو عروضا كما بين الفقهاء أو نقداً وعروض مثلية، يمكن تقييمها بدقة، ويشترط أن يتحول رأس المال كله من نقد إلى عروض إلى نقد، أو من عروض مثلية إلى نقد ثم إلى عروض ثم إلى نقد. أما في المشاركات.. فيجوز المشاركة في الرزق الحاصل من استخدام أو إستهلاك هذه المنافع.
والمنع هنا هو الخلط بين النقد أو العروض المثلية مع المنافع المقيمة بمال، لجهالة الأخيرة وقت العقد، وإن قدرت بمال… وجب رد قيمتها مع رأس المال، فإن نما المال بهذا القدر فقط، أخذه كله رب المال عوضا عن ماله ومنفعة العين، في حين أن هذه القيمة هي ثمن منفعة، لم تقصد لذاتها، وإنما قصدت لأثرها في إنما المال، وهي مثل عمل العامل والذي يستحق عوضه عنه بجزء من النماء، وله في نماء المال حق المنفعة، فتعامل هذه بالمثل، ويكون العوض عليها لربها بالقدر الذي ساهمت به في نماء المال، فيتوزع النماء على المال والعامل والدار مثلاً
وقد يقول رب المال إن الدار لها قيمة الأجرة التي يتقاضاها من الغير لو لم يدفعها إلى المضاربة، وكذلك يمكن أن يقول العامل عن أجرة عمله، وهما بإختيارهما المضاربة آملين تحقيق ربح أعلى… وجب عليهما المخاطرة بإحتمال حدوث الأقل، حتى يجوز لهما الأكثر ان تحقق.
أو يقول رب المال إن العامل كان ليستأجر الدار من الغير، وإن هذا المال الذي كان سيدفعه إلى الغير قد توفر له ليستثمره، وهذا صحيح… ولهذا فله كل كسب هذا المال إذا حدث، ولهذا يدفع بها إلى المضاربة بكسبها، فإن إراد تأجيرها لشركة المضاربة أجرتها، وأن شاء استأجر غيرها ولا يجبر عليهما، فان استأجرها دفع إليه بقدر المدة واستوفى المنفعة فتحدد الأجر، ومتى إنتهى منها أعادها إليه فينقطع الأجر، وهذا لا يمكن تحديده وقت التعاقد ولا يصح أن يكون كرأس مال مضاف إلي النقد، لاحتمالات تغيره فيما يتعلق باستيفاء المنفعة والمدة.
وهو إن استأجر من رب المال، فالأجرة فيها ربح، فإن أخذ رب المال الأجرة يكون قد ربح من المضاربة قبل توزيع الأرباح، ويكون قد اشترط لنفسه درهماً لا يجوز معه القراض، فإن لم يشترط وكان للعامل فيها حاجة لمصلحة المضاربة، فإما تكون الأجرة بدون ربح لرب المال وهذا يصعب تحديده؛ فالأجر يتكون من عناصر عديدة منها في حالة الآلة الإستهلاك والصيانة والتشغيل والإدارة والربح، فيصعب الفصل بينهم، أو أن يدفعها بأثرها على إنماء المال فيكون لها جزء من نماء المال. فالعين التي لها منفعة مطلوبة في أحد مراحل المضاربة، تساهم بهذه المنفعة لتنمية رأس المال النقدي، كما يساهم العامل بمنفعة فكره وعمله، فإن نما المال… كانت لهذه المساهمة قيمة هي جزءاً من هذا النماء، وإن لم ينم المال فليست لها قيمة.
وقد منع الفقهاء رب المال أن يتقاضى أجر غلامه الذي يعمل مع المضارب، فإن كان له – أي للغلام – جزءاً من الربح … اشترطوا ألا يعود ربحه إلى رب المال، وهذا يعني أن رب المال لا يجب أن يكون له ربح غير نصيبه المتفق عليه، وهذا صحيح لو اشترط رب المال عمل غلامه، أما لو لم يشترط هذا، وكان العامل هو الراغب، فلا يوجد سبب يدعو إلى المنع، بفرض أن نصيب الغلام يقاس بجزء النماء المتحصل من منفعة عمله.
ولحساب نسبة نصيب هذه الدار من النماء – وهذا في حالة وجود دراسة جدوى اقتصادية- يقدر الأجر الذي كان سيستأجر به العامل مثل هذه الدار من الغير، وتحسب المضاربة مرة على أن الدار استؤجرت من الغير، ومرة أخرى على أنها دفعت من قبل رب المال، والفرق بينهما هو نصيب الدار فيحدد منه نسبة نصيبها من الربح؛ فإن حدث النماء المقدر يعود لرب المال عوضه عنها، وإن لم يحدث تساويا في الربح والخسارة.
ولنقرب هذا… نعرض المثال الآتي؛ رب مال يدفع 1000 دينار مضاربة إلى عامل، على أن له نصف الربح، ويملك داراً يرغب في أن يدفع بها إلى المضارب، والعامل يرغب فيها ويحتاجها لخزن المشترى، ولأنه إن لم تكن من رب المال فسيستأجر مثلها من الغير، فتكون الدراسة لو استؤجرت من الغير كما يلي:
ثمن شراء السلعة شاملاً كل المصاريف والتحميل والنقل 900
أجرة الدار من الغير 100
إجمالي المصروف = رأس المال 1000
ثمن البيع (بفرض ربح 50 % على ثمن الشراء) 1350
ربح المضاربة الموزع 350
نصيب رب المال = نصيب العامل = نصف الربح 175
أما لو دفع رب المال بداره إلى العامل فتكون كما يلي:
ثمن شراء السلعة شاملاً كل المصاريف والتحميل والنقل 1000
إجمالي المصروف = رأس المال 1000
ثمن البيع (بفرض ربح 50% على ثمن الشراء) 1500
ربح المضاربة الموزع 500
نصيب رب المال = نصيب العامل 175
نصيب الدار 150
فيكون نصيب رب المال = نصيب الدار (150 ÷ 500) + نصيب المال (175 ÷ 500) =65% من الربح الموزع
ويكون نصيب العامـل = نصيب العمل (175 ÷ 500) = 35% من الربح الموزع
وتقدير الأجر لمعرفة نسبة نصيب الدار من النماء ليس كتقدير الأجر، وجعله كرأس مال يستحق إعادته إلى صاحبه، والإتفاق المبني على التقدير هو ما يعمل به لتحديد نصيب كل من العامل ورب المال من ربح المضاربة. وقد ذكر الفقهاء أن هذا يعود إليهما بالتراضي؛ فإن اختارا أن يبنى على أسس معينة فلا بأس.
ويمكن أن نستنتج مما سبق أن أعيان رب المال التي يدفعها إلى المضاربة، لا يصح أن تكون رأس المال فيها، ويمكن-تجاوزاً- السماح لرب المال أن يؤجر إلى عامل المضاربة داره أو ألته أو غيرهما من الأعيان، بمثل ما يستأجر العامل من الغير، ودون شرط عليه، والأغلب كراهة ذلك لأن لرب المال ربحاً في الأجر- وأخيراً وهو ما كان يجب أن يكون أولاً- أن الإجارة من عقود المبادلة، التي لا تنعقد إلا بتوافق إرادتين، ولا يجوز تعاقد الشخص مع نفسه أو مع وكليه ليشتري ماله بماله، والإجارة بيع منافع. والأجدر برب المال أن يدفعها إلى المضاربة، ويكون له كل نماء مال المضاربة الحاصل نتيجة عملها؛ فإن كانت آلة وأصابها ما يعيبها… عليه أن يبدلها أو يستأجر مثلها من ماله وليس من مال المضاربة، وعليه توفير من يشغلها حتى يجوز له كل نصيبها.
وقد كره وربما منع الفقهاء أن يؤجر رب المال دابته أو داره للمضاربة، وقالو يدفع بهما مع ماله من قبيل الإعانة، والإعانة توفر المال للكسب فيناله منها زيادة في الربح.
جاء في الصنائع (جزء5 ص85): ”روى المعلى عن أبى يوسف في رجل دفع مالا إلى رجل مضاربة على أن يبيع في دار رب المال أو على أن يبيع في دار المضارب كان جائزاً“.
وجاء في المغني (جزء5 ص29): ”وإن شرط أن يعمل معه غلام رب المال صح، وهذا ظاهر كلام الشافعي، وقول أكثر أصحابه. ومنعه بعضهم، وهو قول القاضي لأن يد الغلام كيد سيده. وقال أبو الخطاب: فيه وجهان، أحدهما الجواز، لأن عمل الغلام مال سيده، فصح ضمه إليه، كما يصح أن يضم إليه بهيمة يعمل عليها“.
وفي كلام المغني صحة أن يدفع البهيمة منضمة إلى المال، ولما لم يكن له أن يضيفها إلى رأس المال؛ لأنها مال منفعة، وليس له أجر عليها… فقد يكون اما يدفعها متطوعاً معيناً، أو يدفعها بأثرها على النماء، والأخيرة أطيب لهما فلا يكسب المضارب مما لا مال له فيه ولا عمل.
8- وإذا تلف أو هلك جزء من رأس المال… فإنه يحسب من الربح، لأن الربح وقاية رأس المال، ولأن الربح تبع ورأس المال أصل، فإذا تجاوز التالف الربح، وسرى إلى رأس المال … كانت الوضيعة على رب المال؛ مالم يتعد العامل.
9- المضاربة التي تكون التجارة فيها عدة عمليات شراء وبيع متتالية متلاحقة:
الأغلب ألا يصح في المضاربة أن يدفع الرجل ماله إلى العامل فيشتري ويبيع ثم يشتري ويبيع عدة مرات، وإن كان هذا برضاهما أو لم يقل له: راجعني متى نض المال بعد البيع الأول، ولإن كان هذا غررا يمكن التوقي منه، ولا ضرورة أو حاجة تستدعي أن يباح لأجلها في الظروف الإعتيادية. ولهذا… يجب الإتفاق على القسمة كلما أمكن بعد كل بيع وشراء فينال العامل حقه، وإلا جبر ربح الأولى خسارة الثانية على حساب العامل؛ لأن له في الربح وليس عليه في الوضيعه. ولا يصح التقسيم إلا عندما يكون كل المال ناضا؛ فإن كان المال بعضه عروضا وبعضه نقداً يستمر الشراء والبيع؛ حتى يصبح كل المال نقداً فيتوجب عندئذ الحساب والقسمة.
أما إذا كان من طبيعة الشراء والبيع أن يتم كل يوم أو كل أسبوع، وكان عملاً متماثلاً متكرراً، فتجوز آنذاك التجارة المتلاحقة؛ بشرط أن تكون في نفس الجنس والنوع وفي نفس السوق، ولاحاجة للقسمة بعد كل بيع إن كان هذا ما رغب فيه العامل ودون اشتراط من رب المال، كأن يدفع رجلا ماله مضاربة إلى تاجر فاكهة اعتاد شراء الفاكهة من تاجر الجملة في الصباح فيبيعها للناس خلال النهار، فهذا يضارب معه ولا حاجة لإنهاء المضاربة عند كل إنضاض للمال؛ بشرط أن يكون هذا ما يريده التاجر مع علمه بما قد يتسببه هذا من جبران خسارة يوم من ربحه في يوم أخر، وله أن يقتسم مع صاحبه في أي يوم يشاء، والسبب في الترخيص بهذه الحالة، هو أن النتائج ستكون في الأغلب متقاربة في معظم الأيام، ولا يتوقع حدوث خسارة في يوم ما قد تنجبر من ربح يوم أخر، ولأن الاختيار عائد للعامل، وفي القسمة اليومية مشقة وعمل إضافي هو في غنى عنهما بعد السعي والكد طول النهار.
إلا أن هناك أثراً آخر لهذه المضاربة، وهو أن المال متى ربح في اليوم الأول، واشترى فاكهة في اليوم التالي بالمال وربحه؛ فإن هذا الشراء فيه مال للمضارب هو نصيبه من الربح في اليوم السابق، فيصبح العامل التاجر شريكاً بعد أول بيع بالأضافة إلى كونه مضارباً، ويتكرر هذا كل يوم فيزداد ماله المشارك به، ولهذا وجب الحساب إذا كانت المضاربة في يد مضارب قادر على الحساب اليومي، فإن كان تاجراً بسيطاً كتاجر الفاكهة الذي ذكرناه، فيشترط أن يقتسما كلما بلغ المال قدر رأس المال وعشره، أي عندما يصل الربح إلى عشر رأس المال إذا كان له نصفه، أو أن يبلغ ربح المضارب نصف العشر من رأس المال أياً كانت نسبته من الربح؛ لأن الغرر الناتج عن تأثير الربح المشارك به يكون يسيراً حتى هذا الحد، وما زاد عن ذلك يكون الأفضل معة القسمة.
ولا تجوز المضاربة المتكررة في التجارة التي تطول المدة فيها بين الشراء والبيع، أو تختلف أنواع البضاعة أو طبيعة العمل، فإذا اشترى ملابس في الصيف ليبيعها في الشتاء تجب القسمة متى أصبح المال ناضا، ولا يجوز أن يشتري بالمال ثياباً أخرى؛ لأنه إن كان قد ربح… فله حق في الربح، فإن أبقاه يصبح مشاركا به، وإن كان قد خسر لا يجبر ربحه المستقبلي هذه الخسارة السابقة؛ فهو ليس عليه شيئاً من الخسارة.
وتجوز المضاربة في البيوع المتلاحقة إذا تعذرت القسمة، وكان العامل يرغب فيها بمحض إختياره مع علمه بكافة الإحتمالات؛ لأنها جازت في حالات السفر البعيد في مضاربات العهد الإسلامي الأول، والتي كان الرجل يدفع ماله إلى من يشتري به بضاعة يرحل بها مع القافلة إلى الشام مثلاً فيبيعها، ثم يشتري من الشام بضاعة يعود بها ويبيعها في مكة، فكانت تجارة الذهاب وتجارة الإياب تعتبران مضاربة واحدة لإستحالة القسمة لبعد المسافة، فاقتضت المصلحة جوازها، فالمعروف أن الفقهاء أجازوها بالإجماع، ولم يشترطوا ظروفاً معينة لا تجوز لغيرها، فنجد العامل يتاجر أكثر من مرة في المال دون قسمة، وهذا – في أغلب الظن – يعود إستحالة الاتصال بينهما متى سافر المضارب، ولأن الرأي والإختيار له. إلا أن الوضع قد اختلف في عصرنا هذا؛ فانتفت الأسباب التي دعت إلى جوازها. والأولى أن يقتسما متى نض المال فيعود من السفر بمضاربة جديدة، إن كان هذا ما سيتفقان عليه عبر قنوات الاتصال الحديثة، إلا أن تكون طبيعة التجارة تستوجب ذلك لظروف خاصة، قد تظهر مع الممارسة، فيكون الرأي عندئذ للعامل فتجوز إن شاء ذلك ودون شرط عليه. والسبب الثاني الذي قد يكون قد دعا الفقهاء إلى إجازتها هو ان طلب القسمة في يد العامل كما هو في يد رب المال، والعامل هو من قد يصيبه الضرر وله أن يوازن بين مصلحته في إستلام الربح أو إبقاء المال في يده، فقد تكون رغبته في إبقاء المال في يده خوفاً من ألا يدفعه رب المال إليه في مضاربة ثانية.
<< previous page | next page >> |