الفصل الخامس – عمل المضارب

يدفع رب المال ماله مضاربة بقصد تنمية هذا المال، وينمو المال نتيجة العامل الذي يقوم به المضارب، وهذا العمل له قيمة يحددها العقد- وفقاً لقدرته على الإنماء- بجزء من النماء الحاصل، فإن لم يحصل في المال نماء.. تنعدم قيمة هذه القدرة فلا ينال العامل شيئاً، ولهذا لا يجوز للعامل أن يقتطع لنفسه من مال المضاربة أجراً على العمل الذي يتولاه بنفسه، لأن له جزءاً من الربح عوض العمل الذي قام به، وليس له أن يشترط لنفسه أكثر من ذلك، ولأن رب المال ليس له قصد في عمل المضارب، ولأنه في الأغلب أن المضاربة والإجارة لا تجتمعان في عقد واحد، كما جاء في قول الإمام مالك: ”ولا يكون مع المضارب بيع ولا اكراء ولا عمل ولا سلف ولا مرفق يشترطه أحدهما لنفسه دون صاحبه إلا أن يعين أحدهما صاحبه بالمعروف إذا صح ذلك منهما“.

وقد أجمع الفقهاء أن على العامل أن يتولى بنفسه ما يلزمه من العمل وكل ما جرت العادة أن يتولاه بنفسه، وان استأجر على ذلك يكون عليه الأجر في ماله، لا في مال القراض ولا في ربحه.

وهذا يوضح أن المضارب يقوم بالعمل بنفسه، وقد يستأجر من يقوم عليه من ماله، وفي مجال التجارة وغيرها، يختلف العمل من مضاربة إلى مضاربة أخرى؛ فالمضاربة التي يشترط رب المال فيها أن تكون التجارة في سوق معينة أو في بضاعة معينة، غير التي قد يسافر العامل بمالها في الأرض، وقد ينعكس هذا الإختلاف في نسبة ربح المضارب التي يتفقان عليها، فيؤخذ في الأعتبار حجم العمل الذي سيتولاه العامل بنفسه؛ أي ان ربح العمل يشتمل على عوض العامل  عن عمله الذي قام به، ويشتمل أيضاً على عوض مقابل النفقة إن لم تك من مال المضاربة أو ربحها، ويشتمل أيضاً على مكافأة لخبرته ولقرارته التي نتج عنها نجاح العمل في إنماء المال، وهذه العناصر مجهولة  وقت التعاقد ولا يمكن قياسها إلا بمعيار النماء، ولا شيءللعامل إلا إذا نجح في إنماء المال لأن رب المال ليس له قصد في العمل ولهذا… لا يتوجب العوض عليه من ماله، وقد بذلهم العامل بقصد إنماء المال فيكون تقييمهم بقدر هذا النماء.

والتصور أن رب المال إذا دفع المال إلى عامل يقوم بهذه الأعمال بنفسه، على أن تكون النفقة من مال العامل؛ وأن نصيب العامل من الربح سيكون أكبر مما سيكون لو دفع إليه المال على أن يستأجر الغير على كل العمل وأن ينفق على نفسه من مال المضاربة؛ أي إن دوره في المضاربة في الحالة الثانية لا يتعدى اتخاذ القرار الحكيم النابع عن خبرته وعمله، وهذا ما ذهب إليه بعض المعاصرون حين سمحوا للمضارب أن يدفع لنفسه من مال المضاربة أو ربحها الأجر الذي كان يستأجر به الأجنبي- عن العقد- ليقوم بهذه الأعمال، وهذا ما لم يقل به أحد من الفقهاء السابقين. إلا أنه يمكن قبول المضاربة مع صاحب الفكر فقط بقصد الإستفادة من خبرته؛ بشرط ألا يكون قادراً على القيام بهذا العمل بنفسه فإن كان قادراً لا يصح أن يستأجر نفسه من مال المضاربة، وعوضه على عمله من الربح.

ولهذا … فإن قدرة العامل لها أثر كبير في تحديد نصيبه من الربح؛ فإذا كان العامل شركة ذات جهاز إداري وفني، واتفقا أن النفقة من مال الشركة، ولم يك لها أن تستأجر الغير على ما تقدر علي أن تتولاه بنفسها، ولم يك لها أن تستأجر نفسها من مال المضاربة… فإن نصيبها من الربح سيكون أكبر من الشركة التي لا تملك هذه القدرات، وسيشتمل هذا الربح العوض عما أنفقته على نفسها وعن عملها فإن كثر الربح كثر نصيبها منه.

أما الأعمال التي جرى العرف أن تستأجر عليها من يقوم بها… فلها أن تستأجر من مال المضاربة الأجراء والمعدات والعقارات وغيرها مما يحتاجه المشروع ويشمل أيضاً استئجار أصحاب الخبرات المتخصصين في مجال معين مفيد لأحد جوانب المضاربةة مما قد لا يتوفر عندها.

وقد يقترح البعض أن تخصم هذه المصروفات من الربح، إلا أن هذه المصروفات مجهولة عند التعاقد وتتعلق بالإتفاق على أجور وإستيفاء منافع يكون قرارا المؤجر والمستأجر بشأنها في يد العامل، فإن قال في نهاية المضاربة: صرفت من مالي كذا وكذا، فلا سبيل إلى الاعتراض، إلا أن يُسمح لرب المال بالإشراف خلال العمل مع منحه سلطة المفاوضة والموافقة والرفض، وهذا يتعارض مع مبدأ التخلية، وإن لم يكفي الربح … فهل يؤخذ من رأس المال؟ لهذا كان الأفضل أن تؤخذ هذه العناصر في الإعتبار عند الإتفاق على نصيبه من الربح، والمضاربة مال من جانب وعمل وخبرة من الجانب الثاني، فلا يقدّم المال على العمل ولا يقدّم العمل على المال، كلاهما يخاطر أملاً في الربح وكلاهماً معرض للخسارة.

<< previous page next page >>