لا يستحق الربح إلا بعد ان يسلم رأس المال إلى صاحبه، فلا يكون ربح إلا بعد كمال رأس المال وما تبقى من المال بعد إعادة رأس المال يكون ربح المضاربة فيقسمانه على الشرط الذي اتفقا عليه.
ومن الأمور المهمة في المضاربة هو متى يملك ومتى يستحق أو يأخذ العامل نصيبه من الربح، والملك يقصد به هنا هو الملك الذي يعطي لصاحبه الحق في المال ونمائه ولا يعطيه الحق في التصرف به خارج نطاق المضاربة، أي أن المال ماله الا أن تصرفه فيه مقيد بشروط عقد المضاربة فلا يجوز له أخذه من مال المضاربة إلا بعد القسمة، والاستحقاق هو الملك التام الذي يمنحه الحق في أخذ المال والتصرف فيه كما يشاء. والسؤال هو هل يملك المال بالظهور أم بالقسمة وتسليم رأس المال إلى صاحبه؟
قال ابن رشد (جزء 2 ص 237): ”ولا خلاص بينهم ان المقارض انما يأخذ حظه من الربح بعد أن ينض جميع رأس المال وانه ان خسر ثم اتجر ثم ربح جبر الخسران من الربح“.
ويقول ابن حزم في المحلى (جزء 8 ص 248): ”وما ربح ربحاه فلهما أن يتقاسماه. فإن لم يفعلا وتركا الأمر بحسبه ثم خسر في المال فلا ربح للعامل، وأما اذا اقتسما الربح فقد ملك كل واحد منهما ما صار له فلا يسقط ملكه عنه، لأنهما على هذا تعاملا وعلى أن يكون لكل واحد منهما حظ من الربح فإذا اقتسماه فهو عقدهما المتفق على جوازه، فإن لم يقتسماه فقد تطوعا بترك حقهما وذلك مباح“.
ويقول ابن قدامة (جزء 5 ص 41): ”وليس للمضارب ربح حتى يستوفى رأس المال، يعني أنه لا يستحق أخذ شيء من الربح حتى يسلم رأس المال إلى ربه، ومتى كان في المال خسران وربح جبرت الوضيعة من الربح، وسواء كان الخسران والربح في مرة واحدة أو الخسران في صفقه والربح في أخرى، أو أحدهما في سفرة والآخر في أخرى، لأن معنى الربح هو الفاضل عن رأس المال وما لم يفضل فليس بربح“.
وقد اتفق الفقهاء في كل المذاهب أن الخسارة في المال بعد تصرف العامل فيه تجبر بربح ما بعدها، إلا أن ينضض المال ويعاد ما بقى منه إلى صاحبه، فإن دفعه إلى العامل… كانت مضاربة جديدة لا يجبر ربحها خسارة السابقة. أما إذا كان التلف قد أصاب بعض المال قبل أن يتصرف العامل فيه… فإن المضاربة تفسد عند بعض الفقهاء في الجزء الذي هلك فقط، وتصح فيما سلم وبقى من رأس المال، فلا يجبر ربحه ما تلف قبل التصرف. وقال المالكية- وفي رأي عند الشافعية والإمامية- إن الربح يجبر ما تلف، إلا إذا أعاد العامل الباقي إلى رب المال فدفعه إليه رب المال مضاربة جديدة.
وقد قالت الحنابلة والزيدية والإمامية والشافعية في رأي لهم، إن العامل يملك حصته من الربح بمجرد ظهوره قبل القسمة، وقالت المالكية والأحناف والشافعية في الرأي الأظهر عندهم، وفي رأي ثان عند الإمامية إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة، وبعد إعادة رأس المال إلى صاحبه، وللإمامية رأي ثالث… يقولون فيه إن العامل يملك حصته من الربح عند إنضاض المال.
ومنع الأحناف والمالكية، وفي الرأي الأظهر عند الشافعية أن يأخذ أحد المتعاقدين شيئاً من الربح قبل القسمة، قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فعمل فيه فربح، فأراد أن يأخذ حصته من الربح وصاحب المال غائب، قال: لا ينبغي له أن يأخذ منه شيئاً إلا بحضرة صاحب المال؛ وإن أخذ شيئاً… فهو له ضامن حتى يتحاسبا ويتفاصلا والمال غائب عنهما، حتى يحضر المال فيستوفي صاحب المال رأس ماله ثم يتقاسمان الربح على شرطهما.
واتفق الفقهاء أن العامل لو أخذ نصيبه من الربح بعد القسمة بإذن رب المال والمضاربة مازالت بحالها، وحدث بعد ذلك خسر في المال لزمه رد ما أخذ من ربح؛ أي إن القسمة ليست انتهاء مضاربة وبدء مضاربة جديدة، ولا يكون هذا إلا برد المال إلى ربه واقتسام الربح بينهما وقبضه فتنتهي المضاربة. بينما قال الزيدية والظاهرية إن القسمة مانعة من استرداد الربح، وقالت الأحناف والمالكية بعدم جواز أخذ أحدهما شيئاً من الربح قبل القسمة وسلامة رأس المال.
مما سبق… نجد أن الصورة العامة لما تتفق عليه المذاهب هي كما يلي(والمذاهب التي أجازت ملك العامل للربح عند ظهوره تجيز بالطبع ذلك عند القسمة):
1- يجبر الربح خسارة ما سبقه، وتنجبر الخسارة من ربح ما سبقها، ما دامت المضاربة مستمرة ولم يقتسما المال، إلا أن تكون الخسارة قبل التصرف لسبب قاهري خارج عن إرادة العامل.
2- إن الربح لا يجب اعتبار تقديره والمال عروض، ولا يعرف إلا عندما يكون المال ناضا، فإذا أصبح المال ناضا وظهر فيه ربح، فإما أن يعاد رأس المال إلى ربه ويقتسمان الربح بينهما فيأخذ كل منهما نصيبه من الربح وتنتهي المضاربة، أو أن يستمر العامل في المضاربة فيشتري ويبيع… فإن خسر يجبر ربح البيع الأول خسارة البيع الثاني.
وإن أصبح المال ناضا وظهرت فيه وضيعة، فإما أن يعيد العامل ما بقى من مال إلى ربه وتنتهي المضاربة، وإما أن يستمر العامل في المضاربة… فإن ربح جبر ربح التجارة الثانية خسارة الأولى.
3- يمتلك العامل ورب المال نصيبهما من الربح عند القسمة ورد رأس المال.
4- إذا أخذ العامل جزءاً من ربحه قبل القسمة وإن إذن له رب المال… كان هذا المال الذي أخذه بمثابة دين في ذمته وكان ضامنا له، حتى تتم القسمة ويرد رأس المال إلى صاحبه… فإن كان نصيبه من الربح أقل مما أخذ… فعليه أن يرد الفرق، وإن أصابت رأس المال وضعية رد كل ما أخذه.
5- إن المضاربة التي يتاجر فيها العامل عدة مرات, تعتبر مضاربة واحدة يجبر ربح تجارة فيها خسارة الأخرى.
6- تختلف النتيجة كليةًً إذا أعاد المضارب المال- سواء كان فيه ربح
أو خسارة- بعد كل تجارة وعند كل نضوض للمال فاقتسم مع رب المال, ثم دفع رب المال المال إليه قراض جديد ليتجر به, لا تنجبر خسارة تجارة بربح أخر، فيكون للعامل نصيبه من ربح كل المضاربات التي ربحت، ولا شيء عليه من وضيعة المضاربات التي خسرت.
ولو أخذنا بما سبق … نجد أن مصلحة العامل في إجراء القسمة لإنهاء كل مضاربة سواء كان فيها ربح أو خسارة، ومصلحة رب المال في الاستمرار إلى أن يحتاج المال، وللعامل حق إنهاء المضاربة كلما نض المال، فما الذي يدعوه إلى الاستمرار؟ قد يكون السبب خوف العامل ألا يدفع إليه رب المال المال مرة أخرى, فيستمر في العمل آملاً في تحقيق الربح إن كان خسر أول مرة أو زيادته لعدم ظنه الخسارة في التجارة الثانية. لكن رب المال له نفس الحق في إنهاء المضاربة وعند المالكية متى نض المال، وهو لن ينه المضاربة إن كان ينوي الاستمرار، فمصلحته أن يبقي كل الربح لتعويض ما قد يحدث في المستقبل من خسارة، ولا يعني هذا ظنه الخسارة لأنه إن ظن هذا… فلن يترك المال في يد المضارب، وإنماء لكون الربح الأول بمثابة عامل أمان ووقاية لرأس المال ومقصده… لم يزل في تحقيق الربح.
ورأى الحنابلة والإمامية وغيرهم أن العامل يملك الربح عند ظهوره أو عند إنضاض المال، والأغلب أن الحنابلة قصدوا بالظهور ظهوره عند إنضاض المال؛ لأنه إن لم ينض المال يكون الربح تقديراً جزافياً وهذا لا يعتد به لما يكتنفه من جهالة، هذا الرأي قد لا يتعارض مع الآراء الأخرى إن قصد غيرهم استحقاقه بمعنى أخذه من المال وهذا لا يحق له إلا بعد القسمة وإعادة رأس المال إلى صاحبه.
يقول ابن قدامة في المغني * (جزء 5 ص 57): ”لأن معنى الربح هو الفاضل عن رأس المال، وما لم يفضل فليس بربح ولا نعلم في هذا خلافا، وأما ملك العامل لنصيبه من الربح بمجرد الظهور قبل القسمة فظاهر المذهب أنه يثبت. هذا الذي ذكره القاضي مذهباً، وبه قال أبو حنيفة. وحكى أبو الخطاب رواية أخرى: أنه لا يملكه إلا بالقسمة، وهذا مذهب مالك. وللشافعي قولان كالمذهبين. واحتج من لم يملكه بأنه لو ملكه لاختص بربحه، ولوجب أن يكون شريكاً لرب المال كشريكي العنان“.
والربح مال حقيقي وقد جد فعلاً بعد التجارة الأولى، وهو مال يجب أن يكون له صاحب، والمضاربة هي عقد مشاركة في النماء، ومتى تحقق النماء … تحققت المشاركة فأصبح النماء مملوكاً بالشرط. أما استحقاق العامل حق التصرف فيه فيكون وفق شروط العقد، وهو بعد تسليم رأس المال إلى صاحبه، أما إذا قلنا أن المال مال المضاربة، وشركة المضاربة بشخصيتها الاعتبارية تملكه حتى تنفسخ أو تنتهي… لوجب إعادة صياغة أحكامها؛ لأنها مبنية على أن المال ملك رب المال، وأن العامل وكيل عنه في التصرف، فإن تحقق ربح فهي مشاركة في الربح، وهذا ما يجب أن يكون لطبيعتها الخاصة ولا يصح تغييره، وقال الحنابلة في المغني* (جزء 5 ص 57): ”أن هذا الربح مملوك فلا بد له من مالك، ورب المال لايملكه اتفاقاً، ولا تثبت أحكام الملك في حقه، فلزم أن يملكه للمضارب، ولأنه يملك المطالبة بالقسمة فكان مالكاً كأحد شريكي العنان. ولا يمنع أن يملكه ويكون وقاية لرأس المال كنصيب رأس المال من الربح، وبهذا امتنع اختصاصه بربحه. ولأنه لو أختص بربح نصيبه لاستحق من الربح أكثر مما شرط له ولا يثبت بالشرط ما يخالف مقتضاه“.
جاء في كتاب الأم – المطبعة الأميرية ببولاق، القاهرة، الطبعة الأولى 1321هـ (جزء 2 ص 235): ”قال الشافعي رحمه الله لا يجوز أن أقارضك بالشيء جزافا لا أعرفه ولا تعرفه. فلما كان هكذا، لم يجز أن أقارضك إلى مدة من المدد وذلك أني لو دفعت إليك ألف درهم على أن تعمل بها سنة، فبعت بها وأشتريت في شهر بيعا فربحت ألف درهم، ثم اشتريت بها كنت قد اشتريت بمالي ومالك غير مفرق، ولعلي لا أرضى بشركتك فيه، واشتريت برأس مال لي لا أعرفه، لعلي لو نض لي لم آمنك عليه أو لا أريد أن يغيب عني كله“.
فإن سلمنا بأن نصيب العامل من الربح مملوك له، وليس لأحد غيره ملك فيه، فإن له حقاً في نماء هذا المال إذا نما، فإن عمل بعد ذلك… كان هذا الجزء من المال منه والعمل منه، فكان له كل ربحه وعليه كل خسارته، فإن لم يكن له ذلك، فلمن يكون ورب المال لا مال له فيه ولا عمل؟ وقد يقال إن رب المال لن يصيب منه شيء أبداً، لأنه في حال الربح سيأخذه العامل، وفي حالة الخسارة … سيأخذ رب المال رأس ماله منقوصاً. وهذا ليس صحيحاً في حالة الربح؛ لأن الشرط في المضاربة التي عقداها أن العامل نصيبه من نسبة الربح العائدة إلى العمل، ورب المال يأخذ نسبة الربح العائدة إلى كل المال؛ فتشمل الجزء المخصص للمال من نماء الربح السابق للعامل، فيأخذ رب المال ما لا حق له فيه.
وبالطبع … لو اشترى العامل سلعة بنصف المال، وسلعة أخرى بنصف المال الثاني، تنجبر خسارة الأولى بربح الثانية، ولا حق أو ملك في ربح الأولى لأن المال لم يصبح كله ناضاً بعد، وكذلك لو أخر الثانية فاشترى بها بعد تنضيض الأولى وكذا؛ أي إن المال كله لم ينضض في وقت واحد، فنضوض كل المال شرط من شروط معرفة الربح، وهو لا يملك الربح إلا بظهوره ناضاً ومنفصلاً عن رأس المال.
فإن نض كل المال وظهر فيه ربح… فيمكن للعامل أن يقوم بإعلام رب المال باجتماعهما أو بالكتابة إليه بذلك، بحضور المال ل أو بحضور ما يفيد وجوده كوديعة في بنك وخلافه، فيقتسمان وإن اختارا استمرا وكان حكم الاستمرار حكم مضاربة جديدة… فإن أبقيا المال كما كان، يكون العامل شريكاً بربحه السابق ومشاركاً بعمله، وإن وزعا الربح فلرب المال أن يدفع رأس مال جديد إلى العامل في مضاربة جديدة، وللعامل أن يشارك في رأس مالها إن أراد ذلك دون شرط عليه.
جاء في كتاب الأم (جزء 2 ص 237): ”المحاسبة في القراض: قال الشافعي رحمه الله: وهذا كله كما قال مالك إلا قوله يحضر المال حتى يحاسبه فإن كان صادقا فلا يضره يحضر المال أو لا يحضره“.
ولا يوجد سبب يوجب عليهما- إن كان ما رغبا فيه هو مضاربة جديدة – أن يتم تحويل المال من البنك إلى رب المال ثم إعادة تحويله مرة أخرى من حساب رب المال إلى العامل، وهذه تكاليف لا داع لها والعقود بالنيات والمقاصد، وطالما أنه ليست هناك شبهة في عدم وجود المال وأظهرته المستندات الثبوتية البنكية، وطالما أن الحساب النهائي والقسمة تم تثبيتها كتابياً، ثم عقدت المضاربة الثانية وفق الشروط الصحيحة، ولم يتخلل القسمة أو الحساب أو الاتفاق جهالة أو غرر أو ما قد يوشبها… فالأولى الاعتبار بها وإن لم يتم التسليم باليد، فهو قد تم حقيقة بالاتفاق والكتابة.
أما إذا وجد المضارب الخير في الاستمرار لعدم قدرته الاتصال برب المال، أو لأي سبب وجيه آخر يمنعه من ذلك… فله أن يستمر في المضاربة؛ فإن فعل تنجبر خسارة تجارة من ربح غيرها… إلا أنه يجب التنويه هنا أن من العدل اشتراط أن يعلم المضارب رب المال كلما نض المال إذا تيسر ذلك؛ وخاصة وإن المالكية قد قالوا إن العقد ملزم إذا كان المال عروضاً؛ فرب المال له حق في المال وقد يحتاجه، أو قد يعجل العامل بشراء العروض؛ ليبقى المال في يده إن هو خسر في أول تجارة. وإن كان العقد غير ملزم عند جمهور… إلا أن فسخه أصعب والمال عروض عن فسخه وهو ناض.
وموضع توزيع الأرباح بصورة دورية له بالغ الأهمية عند البنوك الإسلامية، لأهميته في إرضاء المودعين ولما جرت عليه العادة في هذا الزمان، والمودع وهو رب المال قد يحتاج الربح ولكنه يرغب في إعادة إستثمار ماله، والعامل من مصلحته إنهاء المضاربة عند كل إنضاض لحفظ حقه في الربح… إلا أنه يرغب أيضاً في الاستمرار، ومن طبيعة البنوك أنها تحبذ توزيع أرباح دورية لتجذب مودعين جدداً، ومتى اتفقت وصلحت النيات، يمكن الاتفاق بينهم- والمال ناضا في حساب البنك- على القسمة وبدء مضاربة جديدة، دون الرجوع إلى الشكليات كتسليم المال إلى المودع؛ لأن المال في الحساب البنكي هو أصلاً ملك المودع والبنك وكيلا عنه في التصرف.
ولا يجوز بأي حال توزيع أرباح مضاربة على المودعين أو العامل والمال أو بعض المال عروض، لما سيكتنف هذه التقديرات من جهالة ولأن الربح قد تعقبه خسارة… فإن أراد البنك توزيع أرباح تقديرية دورية إلى أرباب الأموال، فإما أن يكون هذا المال الموزع من احتياطي البنك كقرض من البنك يُسترد عند إعادة رأس المال، أو من رأس المال لأن رب المال له أن يسترد جزءاً من رأس المال برضى العامل في الرأي الأظهر، فينقص رأس مال المضاربة بهذا القدر، ولا يعاد إلا المتبقي منه عند إنضاض المشروع والقسمة، فيحتسب الربح بما يتبقى من مال المضاربة بعد إعادة رأس المال المنقوص. ولا يجوز توزيع أرباحاً تقديرية إلى البنك أو العامل؛ لأن لا مال لهما لأخذ ما دفع لهم إذا خسرت المضاربة في النهاية، ولأن المال الذي أخذاه ينقص رأس المال المضارب به وتقدير الربح لا يمكن الاعتبار به وبعض المال عروض.
وقد ذهب البعض- في عصرنا هذا- إلى الأخذ بتقدير الربح في الاستثمار الجماعي، ونحن إن كنا نتفق معهم في هذا فيما يتعلق برب المال، إما: بانقاص ماله أو بتضمينه لما أخذ والأصح إنقاص ماله، نجد أن تطبيقه فيما يتعلق بالمضارب لا يصح ولو بضمان منه برده إن كان في المال وضيعة فيما بعد؛ لأن المال يكون قد نقص فتقل التجارة ويقل الربح عما كان يجب أن يكون، إلا بالأذن الصريح من رب المال ويكون قرضاً للمضارب؛ فرب المال وحده له حق انقاص المال.
وأخيراً … تجدر الإشارة هنا إلى مسألتين لهما علاقة بهذا الموضوع، الأولى: أن الفقهاء قد منعوا خلط الأموال بعد بدء العمل؛ خاصة إذا اشترط رب المال هذا الخلط، حتى لا تنجبر خسارة مال من ربح الآخر فيصيب العامل ضرراً من جراء ذلك، وهذا مثل ما يحدث في المضاربات التي تتعدد فيها التجارة والأسفار دون قسمة.
والثانية: إن المضاربة منذ العصر الجاهلي حتى القرن الماضي، والتي تعلقت بسفر، مثل مضاربات قوافل الشام واليمن في الجاهلية والعصر الإسلامي ألاول… كان التاجر يأخذ المال في مكة؛ فيشتري بضاعة يتجه بها إلى الشام فيبيعها وينضض المال، فيستحيل عليه أن يقتسم وصاحبه في مكه، فيشتري بضاعة من الشام يحملها إلى مكة فيبيعها فينضض المال ثم يذهب إلى صاحبه فيعيد له رأس ماله، ويقتسمان الربح على شرطهما. وهو إن ربح في تجارة الذهاب، وخسر في تجارة الإياب جبر ربحه الأول الخسارة التالية، فليس هناك سبيل آخر للقسمة إلا أن تكون كلمة المضارب مصدقة، وهذا قد يؤدي إلى النزاع والخصام، وقد يستغله بعض النفوس الضعيفة من أصحاب العمل، ولو نظرنا إلى المصلحة العامة… لوجدنا أن اعتبارها مضاربة واحدة هو الصحيح في هذه الظروف، وهذا ما ذهب إليه الفقهاء، فالمصلحة تفوق احتمال الضرر والذي قد يندر حدوثه لما سبق ذكره عن ربح هذه المضاربات شبه المؤكد، وفي حالة الربح… فإن الفرق متناه في الصغر ولا يعتد به إذا كان في تجارتين أو ثلاث.
أما… وقد تيسر الاتصال الهاتفي والبرقي وقربت المسافات بوسائل السفر الحديثة، فلا سبب يدعو لعدم حساب كل تجارة على حدة، إذا كان هذا ما يرغبه العامل عند كل إنضاض، ولم يمنعه أحد من الفقهاء عن هذا وإنما اشترطوا عليه أن يعيد رأس المال أو ما تبقى منه.
والمقصود من إعادة رأس المال في الأغلب، هو التأكد من وجوده، وإعطاء رب المال كامل الحرية في أخذه أو دفعه مرة أخرى إلى العامل في مضاربة جديدة، وربما بشروط جديدة أيضاً، وهذا يمكن إثباته فالمال الناض سيكون في حساب البنك.
جاء في المغني لابن قدامة * (جزء 5 ص 61 – 62): ”قال يقاسمه ما فوق الألف، يعني إذا كانت الألف ناضة حاضرة إن شاء صاحبها قبضها، فهذا الحساب الذي كالقبض. فيكون أمره بالمضاربة بها في هذه الحال ابتداء مضاربة ثانية. كما لو قبضها منه ثم ردها إليه“.
ورب المال متى أُعلم بنضوض المال له أن يعزل العامل أو يتفق معه من جديد. وهذا يمكن في المضاربة الثنائية أو الثلاثية، أما المضاربة التي يكون فيها أرباب المال هو مودعو البنك… فسيتصل العامل بالبنك ثم على البنك أن يتصل بعدد كبير من مودعيه، وهذا غير عملي، ولهذا… يتوجب على البنك أن يحصل على هذا التفويض عند العقد معهم؛ فيصنفهم وفقاً لأقل المدد التي يرغبون فيها استثمار أموالهم بناء على حاجتهم المستقبلية لها، فيجمع كل من استثمر لمدة واحدة في مضاربة واحدة، ويجب التنويه أن العقد غير ملزم ولهم فسخ المضاربة في أي وقت، إلا لو أخذنا برأي المالكية.
ولو قلنا إن اجتماع المودعين كرب مال المضاربة هو – في الحقيقة – شركة الغرض منها توظيف المال في المضاربة؛ إن المودعين يمكن أن يعقدوا شركة بينهم يكون البنك شريكاً فيها بسهم من رأس مالها، ويكون له التصرف والإدارة لقاء نصيب من الربح، فيدفع المال مضاربة إلى العامل ويكون تصرفه في المضاربة تصرف رب المال، وتكون هذه الشركة- والممثلة بالبنك- هي رب مال المضاربة وليس المودعين. وقد كره المالكية اجتماع شركة مع المضاربة بينما أجازها غيرهم من الفقهاء، جاء في المدونة (جزء 4 ص 58): ”وقال مالك لا يصلح أن يقول: أقارضك بألف على أن تخرج من عندك ألف درهم أو أقل أو أكثر على أن تخلطهما بألفي هذه تعمل بها جميعاً، فكره مالك هذا“. وقد علل المالكية ذلك بأن الشراء يكون أكثر، فيزداد الربح والفضل، فيصير رب المال الذي دفع المال قراضا قد جر إلى نفسه منفعة غيره، ونرى فيه اشتراط من قبل رب المال تفسد معه المضاربة.
وهذا يدور بين رب مال وعامل، ومنفعة الشراء الأكثر تعود على المالين، وفيه اشتراط من رب المال على العامل الذي رخصت المضاربة معه لعمله لا لماله. ولم يمانع الأحناف والشافعية والحنابلة اجتماع الشركة والمضاربة في عقد واحد، وقصدوا بذلك في الأغلب أن يكون المال من رب المال ومن المضارب، أو بين أرباب مال.
إلا أن الشركة هذه قد تعطي البنك تفويضاً أكثر مما تحتمله طبيعة علاقة المودع بالبنك، ويتم التعاقد بين أطراف الشركة باجتماعهم وهذا لا يحدث هنا، ولهذا… فالحل الوسط المناسب يكمن في الاكتفاء بتفويض البنك بالدخول في مضاربات متعددة متتالية، ويشمل التفويض تصرف البنك بإنهاء المضاربة والبدء بمضاربة أخرى جديدة، ومتى تم هذا يمكن للبنك توزيع أرباح المضاربة الأولى على مودعيه أو دفعها مع رأس المال كرأس مال جديد في المضاربة الجديدة، وهذا يتوقف على اتفاق البنك مع المودع في عقد الإيداع الأصلي.
أما عن عادة البنوك توزيع أرباح دورية بمعدل ربح واحد إلى كل مودعيها … فهذا يتنافى مع مفهوم المضاربة… فإن كان لابد منه… فيكون إنقاصاً للمال؛ حتى يثبت الربح ويتحقق بالتنضيض، وتوزيع معدل ربح واحد لكل مودعيه يعني بالضرورة أن هذه الأموال قد استثمرت في نفس المضاربات، وهذا لا يصح إلا لو كان الإيداع في وقت واحد، وهذا لا يقبله المنطق السليم، ولهذا… يجب أن يكون توزيع الربح عند انتهاء المضاربة ووفقاً لنصيب أرباب المال من المضاربات التي وزع عليها البنك أموالهم وليس من معدل نتائج استثمارات البنك ككل. فإن نتج عن هذا أن ربح بعضهم أكثر من بعض… فهذه هي المضاربة، ولا يصح تكييفها لإرضاء الناس، وعلى البنك أن يصدر كشف حساب بنكي لكل مودع يظهر فيه حسابه في صورة تبين أسماء المشروعات التي دفع ماله مضاربة فيها ونسبة ماله إلى رأس مال كل مضاربة، والتاريخ الذي دفع بالمال إليها، ونسبة نصيب رب المال من ربح كل مضاربة، فإن انتهت إحدى هذه المضاربات… بين في الكشف الذي يلي تاريخ انتهائها والربح الذي تحقق ونصيبه منها. ويجب إعلام المودع صفة ما يوزع عليه بصورة دورية؛ فيبين الربح الذي تحقق فعلاً من الجزء الذي أُنقصَ به رأس ماله.
النماء الطبيعي والربح في المضاربة:
قال الظاهرية وكثير من غيرهم من الفقهاء إن النماء الذي يشارك فيه بين رب المال والعامل هو النماء الناتج عن العمل في المال، أما النماء الطبيعي فهو تبع للملك وهذا للمالك، كولد الماشية وثمر الشجر؛ لأنه شيء حدث في ماله، وإنما للعامل من حظه من الربح فقط، ولا يسمى ربحاً إلا ما نمى بالعمل فقط.
<< previous page | next page >> |