الباب السادس – المضاربة مشاركة منفعة مال ومنفعة عمل


الفصل الأول

نسب توزيع الربح

الاتفاق على حساب نسب توزيع الربح:

الشرط في المضاربة ان يتفقا عند عقدها على نصيب كل منهما من الربح، ولم يتطرق الفقهاء إلى تحديد هذه النسب فلم يكن هذا من المنطق الصحيح، واكُتفي بان يتم الاتفاق عليها بين المتعاقدين وفق رغبتهما، واعتبر ان شرط التراضي بينهما عند الاتفاق عليها سوف يؤدي إلى تحديد النسب العادلة، مثل ما يحدث في البيع والشراء؛ خاصة وأن  التسعير منهي عنه في الظروف الاعتيادية. فتتحدد هذه النسب وفق: العرف، والشروط، وظروف السوق وحجم العمل، والمال، وشهرة العامل، وغيرها من العوامل الكثيرة المتعددة التي تختلف من مضاربة إلى أخرى، ولهذا… كان الاتفاق عليها من الامور التي تعود إلى المتعاقدين.

جاء في فقه السنه (الجزء 3ص160):” روي عن أنس رضى الله عنه قال: قال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله هو المسعر، القابض الباسط الرازق- واني لأرجو أن القى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال“.

وقال الشوكانى: ”ان الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم، والأمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، واذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم والزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقول الله تعالى: الا أن تكون تجارة عن تراض منكم“.

إلا أن المضاربة ليست كالبيع والشراء، فلا مبادلة فيها وإنما إجتماع واتحاد من أجل العمل والكسب، فهما إن ربحا يربحان سوياً، وإن لم يربحا لم يأخذ أحدهما من مال الآخر، فلا يظلم أحدهما الآخر.

وفي المضاربة في مجال التجارة… فإن هذه النسب يسهل على الناس الاتفاق عليها وفق ما جرت عليه العادة والتي امتدت منذ قرون بعيدة… إلا أن المضاربات في عصرنا هذا والتي نود الخروج بها من حدود مجال التجارة إلى مجالات الإستثمار الصناعي والعقاري والزراعي وغيرهم، تجعل من الأهمية دراسة هذا العقد لبيان العناصر العامة التي تتكون منها هذه النسب، كخطوط عامة من قبيل الإعانة لا للتحديد ولا للاشتراط، ويظل الاتفاق من الأمور التي تعود إلى المتعاقدين ولهما كامل الحرية والحق في أي نسب يختارونها.

والسبب الذي يدعو إلى وضع القواعد التي تحسب عليها هذه النسب، هي أنها تؤدي إلى استحقاق كل منهما لنصيبه من النماء الحاصل والمتولد عن المال والعمل، للمال نصيب وللعمل نصيب، ولا يجوز لصاحب المال أن يأخذ من نصيب العمل ولا يجوز العكس، ومتى تحددت هذه النسب بالاتفاق… حرص الفقهاء أشد الحرص على ألا ينال أحدهما مما ليس له فيه مال أو عمل؛ حتى لا يكون كسبه بغير عوض.

والغرر في هذه المعاملات هو ما يؤدي إلى كسب أحدهما أكثر على حساب نقصان كسب الآخر، وهذه الحصص في المضاربة بالاتفاق، إلا أنهما قد يتفقان على الثلاثة أرباع أو الربع، وتعود هذه إلى حاجة وإضطرار العامل، فكيف يكون عوض نفس عمله صحيحاً على ربع الربح، وصحيحاً على ثلاثة أرباعه وهو لنفس العمل ونفس الربح، فإن استغل رب المال حاجته فسوف يشعر بالظلم، وهذا مثل ما يؤدي إليه الغرر وأكل أموال الناس بالباطل.

وقد رأى الإمام مالك والزيدية وبعض الشافعية جواز التسعير في حالات الغلاء والإحتكار، ولسنا هنا بصدد تحديد نسب وإنما محاولة بيان العناصر التي على أساسها تقدر هذه النسب.

والمعاملة إن كانت من جنس المعاوضات كالأجرة- كما ذهب الأحناف والشافعية – يجب في المعاوضات تساوي العوضين، العمل المجهول والاجر المجهول، كأن يقول له: اعمل في مالي ولك الأجر نصف ما تكسب، وبالطبع هذه لا  تجوز على الإجارة، إلا أنها اجيزت على خلاف القياس لجهالة العمل ولجهالة الأجر.

فإن لم يعرفا… توجب على الأقل أن يكون الأجر متناسباً مع العمل؛ أي زيادة نفس نوع العمل ستوجب زيادة الأجر، وليس هذا ما يحدث في المضاربة لأن العمل الكثير ليس بالضرورة ما ينتج عنه الربح الكثير. بل وقد يعمل في أول تجارة فيربح، ثم يعمل في الثانية نفس ما عمل أول مرة فيخسر؛ ربما لتغير ظروف السوق، فيكون نفس العمل له أجر في مرة، وليس له أجر في الثانية.

وتختلف حقيقة المعاملة عن ذلك، فليس بينهما مبادلة أو معاوضة أو بيع أو شراء، وليس ربح أحدهما يقابله خسارة الآخر، وقد يقال ليس هذا بالضرورة ما يحدث في البيع والشراء وغيرهما من المعاوضات، فالبائع رابحاً لأنه قد استبدل سلعة لا يريدها لنفسه بنقوداً أو سلعة يحتاجها أكثر مما كان يحتاج ما تخلى عنه، وكذلك المشتري فيكون الربح موضوعاً نسبياً يعود إلى كل طرف فيكون كلاهما راضياً. ويحدث الربح الحقيقي في اكتمال دورة شراء ثم بيع؛ أي يشتري سلعة من شخص بنقود ثم يبيعها لشخص أخر لقاء نقود أكثر. وفي المعاوضة … يحدث تخلي عن مال أو منفعة لقاء مال أو لقاء منفعة أخرى، فيخرج المال عن ملك صاحبه لقاء امتلاك شيء أخر، أو يستفيد المستأجر بمنفعة العين التي استأجرها وضمن دفع أجرها.

وهذا لا يحدث في المشاركات؛ فالمال لا يخرج عن ملك صاحبه، فالأرض والشجر والمال يبقون على ملك أصحابهم في المزارعة والمساقاة والمضاربة، ورب المال ورب الأرض ورب الشجر لا يضمنون ولا يدفعون أجراً للعامل، والعمل حقيقى؛ فإن أصاب الزرع آفة كان العمل لا قيمة له، أما المعاوضة في هذه المشاركات فمع الأجنبي لا مع بعضهما، فلا يربح العامل من أصل المال، ولا يأخذ رب المال من العامل شيئاً لنفسه، وإنما يشتركان في ما يربحانه جميعاً  من المبادلة مع الغير.

وهذه المعاملة لا تجوز إجارة، ولهذا كانت استثناء على خلاف القياس، ولكن الشركة عقد مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، وعرفها الأحناف أنها عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح. وهنا رأس المال من أحدهما فقط، ولكن شركة الأبدان ليست فيها رؤوس أموال، وقد أجازها المالكية والأحناف والحنابلة، وأبطلها الشافعية والظاهرية، وجاء فيما جاء- عمن أبطلها- أن الشركة تختص بالأموال لا بالأعمال؛ لأن ذلك لا ينضبط فهو غرر عندهم، ولنا أنها شركة أموال منافع، وتنضبط لا بقيم هذه المنافع المجهولة عند التعاقد وإنما بتفاضلها أو بتساويها، وكذلك المضاربة وغيرها من المشاركات، والمنافع مال وكل ما كان عوضه في عقد معاوضة تجارية مال فهو مال، والعمل منفعة بدن وهو مال.

فإن قلنا إن المضاربة شركة رأس المال فيها مال من أحدهما ومنفعة- وهي مال- من الأخر، نكون قد أخطأنا؛ لأن الخلط في رؤوس الأموال بين الأثمان والعروض والمنافع يؤدي إلى الغرر، بل وليست هذه حقيقة المضاربة.

يمكن تصور المضاربة مجازاً على أنها اجتماع خاصيتين مكملتين لبعضهما: الخاصية الأول هي القدرة على الإنماء؛ وهي ما تتميز بها قدرة العامل إذا اقترنت بمال، والخاصية الثانية هي القدرة على النماء وهي ما يتميز بها مال المالك إذا اقترن بعمل، ولا يحدث النماء إلا باجتماعهما.

وقدرة العامل إذا وجهت وجهة أخرى… كأن تؤجر؛ فإن لها قيمة مالية، والمال لو وجه إلى شراء عقار يؤجر للغير فله نماء مادي؛ إي إن هاتين القدرتين يمكن أن يكون لهما قيمة مستقبلية حقيقة، لو وجهتا إلى غير المضاربة، إلا أنهما معدوما القيمة في الحال، وبتوجههما إلى المضاربة…يُخاطر بإمكانية الحصول على هذه القيمة المستقبلية.

وهذه القيم التقديرية المستقبلية لا يشوبها تهمة الربا، فلا ضمان فيها، وقد تحدث وقد لا تحدث؛ فالغنم معه احتمال الغرم، وتتماثل هاتان القيمتان في أنهما يوجدان معا أو ينعدمان معا، وهما وإن كانتا مجهولتين وقت التعاقد، يغلب الظن بحدوثهما، وإلا فلا معنى للتعاقد، وهما يتحركان معا كثرة أو قلة أو ينعدمان بنفس الدرحة؛ لأنهما جزءان من شيء واحد: هو الفائض عن رأس المال.

ومحاولة تقدير هذه القيم يقصد بها تقدير نسب تفاضلهما، وليس قيمهما فهذا يستحيل؛ فلو افترضنا مشاركة بين مجهولين، ولتكن مشاركة من يدفع بعين تنمى بالعمل إلى من يعمل عليها كالتي قال بها الحنابلة… يمكن القول إن هذه مشاركة أعمال أو منافع؛ فإذا دفع الرجل دابة إلى من يعمل عليها والرزق بينهما، فعمل الدابة فيما ستحمله مجهول وعمل العامل مجهول… إلا أنه يمكن القول إننا لو حددنا المدة بأسبوع فأجرة العامل كذا في الأسبوع وأجر الدابة كذا، فإن كانت أجرة العمل على مثل هذا العمل- لقاء فكره وعمله- ضعف أجر الدابة… يكون الرزق بينهما الثلثين للعامل والثلث للدابة، ويكون العامل قد خاطر بأجرته، والرجل قد خاطر بأجر دابته؛ فيطيب لهما ما يكسباه، وإن كثر عن الأجر المعتاد.

وفي المضاربة… يدفع الرجل ماله إلى العامل، والمال لا يعمل، كما أن الأرض لا تعمل في المزراعة… إلا أن للمال خاصية النماء وللأرض خاصية الإنبات، وهذه الخاصية تجعل للمال قيمة مضافة لو خوطر به فربح، ويمكن تقديرها بربح الفرصة المضاعة، وهي ليست مستحقة للمال إلا إذا خوطر به وتحقق النماء. ولأن المقصود من هذا التقدير هو المقارنة وليس القيمة لذاتها، قتحسب قيمة ربح الفرصه المضاعة في درجة مخاطرة مثل التي ستقدر فيها قيمة العمل، فإن قدرنا قيمة العمل بما يحصل عليه العامل كأجير مشترك من مثل العمل المتوقع أن يقوم به في المضاربة – وليس عليه ضمان إلا فيما يتلف بالتعدي – وقدرنا لهذا العمل مدة معينة… فإن نماء المال يحسب بافتراض شراء عقار، يؤجر لنفس المدة مع بقاء قيمة العين أو استهلاكها بدرجة لا يعتد بها فيعرف النماء الصافي خلال هذه المدة… فإن كان عائد المال ضعف عائد العمل، يكون تفاضلهما الثلثين للمال والثلث للعمل.

ولتوضيح هذا … نفترض مضاربة بعد انتهائها، وكان لكلا المتعاقدين نصف الربح منها، وقد عرف العمل وأجر المثل عن هذا العمل، وعرف الربح ونصيب كل منهما منه، فلو عدنا لتحليل النتائج كشركة رؤوس أموال، فإما أن نقول إن رأس المال هو المال، وأجر المثل، أو المال وقيمة العمل وهي نصيبة من الربح أو أقل، أو معادلة جديدة تعطينا نفس النتيجة التي حصلت بالفعل.

رأس مال رب المال                                            100.000

المال عند القسمة                                                120.000

ربح المضاربة                                                   20.000

نصيب رب المال                                                 10.000

نصيب العامل                                                     10.000

أجر مثل العامل                                                   8.000

لو قلنا إن رأس مال مشاركة المضاربة هو المال الذي دفعه رب المال وأجر مثل العامل، لكانت شركة بينهما بنسب المال والأجر، وكذلك لو أخذنا قيمة عمله بمعيار نصيب العامل من الربح، وهذا ليس ما اتفقنا عليه، ولو نظرنا إلى شركة الإبدان… لوجدنا أنهما تشاركا منفعة بدن هذا مع منفعة بدن هذا، فتكون هذه منفعة بدن هذا مع منفعة مال هذا، فإن افترضنا أن منفعة المال 8.000 ومنفعة بدن العامل تساوي ما يحصل عليه من نفس العمل؛ أي أجر المثل، فتكون8.000 أيضاً؛ صح اشتراكهما بالتساوي وكان رأس المال هو قيم المنافع. لكن هذه لا تنضبط ولهذا لم تكن لها قيمة وقت العقد وإنماء قيمتها مستقبلية، ولا تقصد القيمة لذاتها وإنماء تقصد لحساب تفاضلهما واحد على الآخر لحساب نسب المشاركة.

ولحساب هذه القيم المستقبليه… يجب وضع افتراضات متماثلة للمالين، وتحديد قيمهما وفق معاوضة في ظروف متساوية، ومدة المضاربة غير معروفة ولكنها واحدة للمالين، ولهذا… يمكن توحيد المدة في المعاوضتين ولنقل إنها عام واحد.

فإن افترضنا أن قيمة عمل العامل في هذه المدة لو استؤجر على هذا العمل هي أجر المثل، وكان أجر مثله في العام 8.000 تكون هذه هي قيمة منفعة بدنه في هذه المدة، وهو متى استؤجر على هذا العمل … فالأجر شبه مضمون إن قام به.

أما المال… فنحتاج إلى افتراض إستثماره في ظروف تقل فيها المخاطرة إلى أقل حد لتناسب ظروف أجر المثل التي قدرنا بها قيمة منفعة العامل، وهذا يكون في افتراض شراء عقار وتأجيره ويعتبر الأجر المتحصل خلال العام هو قيمة منفعة المال، بفرض أن العقار يباع بعدها بنفس ثمن المشترى وليست هناك تكلفة للصيانة فإن كان تحسب من الأجر. فإن كان الحاصل من العقار في العام 8.000 تكون هذه قيمة منفعة المال.

وتكون مشاركة منافع بينهما هذا بمنفعة ماله وهذا بمنفعة بدنه، وكلاهما له قيمة مستقبلية غير مضمونة وتتراوح بين الوجود والعدم، ولا تعنينا معرفة قيمتها المستقبليه وقت العقد طالما قد عرف التفاضل بينهما. أما قيمتها الحقيقة التي ترجع إلى هذا الإستثمار وهذه المخاطرة… فلا تتحدد إلا عند حصول الربح، فإن كان ربح تحددت قيمة منفعة بدن العامل فكانت له، وتحددت قيمة منفعة المال فكانت لرب المال، فإن لم يكن ربح فهذه المنافع ليست لها قيمة. وإن كانت خسارة في المال فعلى ربه لأن ما شارك به هو منفعة هذا المال ولا تجوز منفعة المال دون المخاطرة به.

وقد يقال كيف نقول إن لعمل العامل قيمة حددناها بأجر المثل، ثم نقول ليست لها قيمة إذا لم يتحقق الربح، أولاً هذه القيمة التي حددناها كانت بغرض المقارنة مع منفعة المال وفي ظروف تختلف عن ظروف عمله في المضاربة، والمجهولة عند التعاقد ولا ينكر أحد أن لعمله قيمة إلا أنها مجهولة يخاطر بها لقاء الأكثر فتقاس بمعيار النماء كجزء منه فقياس قيمة عمله في المضاربة هو بأثر هذا العمل على الربح، فإن كان الربح وفيراً فقد استحق أكثر من أجر المثل عن نفس العمل الذي قام به في هذه المضاربة إلا أنه لمخاطرته بهذا الأجر – وهي درجة مخاطرة غير ما مثلنا بها سابقاً – استحق الأكثر للمخاطرة. وبالطبع فإن  الحافز لديه في المضاربة غير ذاك في الإجارة.

ورب المال منفعة ماله ليست لها قيمة إلا بالمخاطرة بالمال، وهي في عقد المضاربة تختلف عن تلك التي قارنا بها؛ فمنفعة ماله كانت مقدرة بقصد المقارنة لا التقييم في إستثمار تقل فيه درجة المخاطرة عنها في المضاربة، وهو هنا يقصد الأكثر وليستحق هذا وجب عليه تعريض أصل ماله للمخاطرة حتى يطيب له أكثر من هذه المنفعة، بل وحتى تطيب له هذه المنفعة أو أقل منها؛ فهي ليست حقاً مضموناً له وإنما تكون له إذا تعرض ماله للمخاطرة وربح. ولهذا كان عليه المخاطرة بأصل المال ليستحق منفعة المال الأكثر والتي يأمل في حدوثها، والتي تقاس مثل عمل العامل بمعيار النماء.

ولهذا … فمتى تحدد تساويهما أو تفاضلهما وعقد عليه فلا حاجة لنا بالأسس التي بني عليها هذا التفاضل فهذا عقد يختلف في العمل والمخاطرة.

وقد يقال إن ما يقدمه العامل للمضاربة يفوق ما يقدمه كأجير، فالعمل جزء من قدراته وليس كلها، فمنه الفكر والقرارات التي لها تأثير كبير على النتائج، ويختلف العمال في مهارتهم ومواهبهم وخبراتهم ونتائج أعمالهم السابقة. وهذا كله سوف ينعكس على أجر المثل المقدر له، فيكون أجر المثل معبراً عن قدراته الفكرية والبدنية. ويقابل هذا أن المال مخاطر به أكثر مما كان لو استثمر في شراء عقار لإجارته، والمال معرض للنقص إذا كان ثمة خسارة، وهذا الاحتمال هو ما يحلل لرب المال ربحه، فخسارته ليست محدودة بخسارة النماء.

فإن كانت المشاركة بين القدرة على الأنماء- العمل- وبين القدرة على النماء- المال- واستحقاق رب المال نماء ماله لأنه تابع لملكه، يكون المال لصاحبه وغير مشارك به وإنما مخاطر به على أمل النماء، فتكون المضاربة مشاركة بين مجهولين وقت التعاقد، يغلب الظن أن لهما قيما مستقبلية- ومخاطر بها، ولا يمكن حساب مقدارهما الحقيقي ولكن يمكن حساب تفاضلهما أو تساويهما، وكلاهما يخاطر هذا بماله وبقدرة هذا المال على النماء وذلك بقدراته من فكر وعمل، ولهذا… جاز لهما الكسب بأكثر مما خاطرا به، فرب المال والعامل يتوقعان أن تعود عليهما المضاربة بأكثر من عائدي الإجارة والأجر، ولقاء هذا العائد الوفير قبلا باحتمال الخسارة.

وليس في هذه التقديرات غرر فلا تجوز بسببه، فإنها أقرب ما يمكن إلى الحقيقة، والغرر يكون في جهالة نصيب أحدهما من الفائض أو جهالة الفائض وليس هذا هو الحال هنا، وتوزيع نسب الفائض أو الربح يكون عادة بالاتفاق كالنصف والثلث والربح وهذه تقديرات تعود إلى المتعاقدين ولم يشترط فيهما الدقة وإنما اشترط الاتفاق والتحديد.

وإذا لم يتحقق ربح تكون قيمة العمل معدومة ونماء المال معدوماً، ويعود المال إلى صاحبه، فإن كانت فيه خسارة تحملها رب المال وحده لقاء الضمان الذي كان سيحلل له النماء لو كان قد تحقق.

ويجب تكرار التنويه هنا أن لفظ الربح في المضاربة يستعمل مجازاً للتعبير عن الفائض في المال بعد إعادة رأس المال إلى صاحبه، فهو ليس ربح التجارة الصافي كما نعرفه، فهو نماء المال ويشمل على مجموع: عوض منفعة العمل مقيمة بمعيار هذا النماء – وهذا العمل – ونماء المال الصافي للمال وهذا لربه.

وما نعنيه بنماء المال هو في الحقيقة النماء الحاصل من المال والعمل فيستحق لهما، فيكون نماء المال قد يقصد به الفائض بعد إعادة رأس المال وهو ما نسميه الربح أيضاً، أو قد يقصد به نصيب رب المال من النماء وهو جزء من المقصود في المعنى الأول، وقد ورد لفظ نماء المال في هذا البحث على المعنيين ويرد إلى احد المعنيين وفق موضعه ووفق المعنى المقصود في النص.

ويمكن القول أن المشاركة هي عقد، الغاية المقصودة منه استبدال منافع بأثمان، كما هي الشركة يدفع المال والعمل فيها فإن كان ربح كان لقاء منفعة المال ومنفعة العمل، وكما هو البيع استبدال عروض بأثمان، والاجارة استبدال منافع بأثمان، تكون المشاركة استبدال منفعة مال ومنفعة عمل بأثمان والفرق بين المشاركة والبيع أن المشاركة تكون بين طرفين لا تتم المبادلة بينهما عند التعاقد وإنما تتم المبادلة بينهما أو بين من تولى الأمر منهما وبين أطراف أجنبية عن العقد وفق عقد أخر ينعقد فيما بعد، وهذا العقد الآخر مجهول وقت التعاقد. أما في البيع يتم الاتفاق على المبادلة بين طرفي العقد في نفس الوقت ويكون الاختلاف في التسليم والتقابض كما في السلم والبيع المؤجل والاجارة.

ولو نظرنا إلى ما جاء عن الفقهاء في هذه الشركات أو المشاركات التي تعلقت بمنافع نجد أنها وردت عند أغلبهم وسنقتصر في دراستنا على ما جاء في كتاب المغني لابن قدامة وفي كتاب مفتاح الكرامة وفي المدونة وفي مجموع فتاوي ابن تيمية.

<< previous page next page >>