الفصل الثانى – في الشركة والمشاركات

جاء في مجموع فتاوي ابن تيمية (جزء 20 ص 353): ”الكسب الذي هو معاملة الناس نوعان: معاوضة ومشاركة. فالمبايعة والمواجرة ونحو ذلك هي المعاوضة. وأما المشاركة فمثل مشاركة  العنان وغيرها من المشاركات“.

ويضيف في ص354: ”وأحمد تحصل الشركة عنده بالعقد والقسمة بالعقد، فيجوز شركة العنان مع اختلاف المالين وعدم الاختلاط، وإذا تحاسب الشريكان عنده من غير افراز كان ذلك قسمة، حتى لو خسر المال بعد ذلك لم تجبر الوضيعة بالربح“.

والشافعي لا يجوز شركة الأبدان ولا الوجوه ولا الشركة بدون خلط المالين، ولا أن يشترط لأحدهما ربحاً زائداً على نصيب الآخر من ماله؛ إذ لا تأثير عنده للعقد، وجوز المضاربة وبعض المساقاة والمزارعة تبعاً لأجل الحاجة لا لوفق القياس.

وأما أبو حنيفة نفسه فلا يجوز مساقاة ولا مزارعة؛ لأنه رأى ذلك من باب المؤاجرة، والمؤاجرة لابد فيها من العلم بالأجرة.

ومالك في هذا الباب أوسع منهما؛ حيث جوز المساقاة على جميع الثمار، مع تجويز الأنواع من المشاركات التي هي شركة العنان والأبدان، ولكنه لم يجوز المزارعة على الأرض البيضاء موافقة للكوفيين.

وأما قدماء أهل المدينة هم وغيرهم من الصحابة والتابعين فكانوا يجوزون هذا كله، وهو قول الليث (ابن) أبى ليلى، وأبى يوسف ومحمد وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وغيره.

والشبهة التي منعت أولئك المعاملة: أنهم ظنوا أن هذه المعاملة اجارة، والاجارة لابد فيها من العلم بقدر الأجرة، ثم استثنوا من ذلك المضاربة لأجل الحاجة، إذ الدراهم لا تؤجر.

والصواب أن هذه المعاملات من نفس المشاركات، لا من جنس المعاوضات، فان المستأجر يقصد استيفاء العمل كما يقصد استيفاء عمل الخياط والخباز والطباخ ونحوهم، وأما في هذا الباب فليس العمل هو المقصود، بل هذا يبذل نفع بدنه وهذا يبذل نفع ماله، ليشتركا فيما رزق الله من ربح، فأما يغنمان جميعاً أو يغرمان جميعاً.

ويضيف في صفحة 356: ”ومن تدبر الأصول تبين له أن المساقاة والمزارعة والمضاربة أقرب إلى العدل من المؤاجرة، فان المؤاجرة والمستأجر قد ينتفع وقد لا ينتفع بخلاف المساقاة والمزارعة فأنهما يشتركان في الغنم والغرم، فليس فيها من المخاطرة من أحد الجانبين ما في المؤاجرة“.

ويقول ابن تيمية: شركة الابدان نوعان( مجموع الفتاوي جزء30)”

”النوع الأول أن يشتركا فيما يتقبلان من العمل في ذمتهما، ويكون العمل في ذمة أحدهم بحيث يسوغ له أن يقيم غيره أن يعمل ذلك العمل والعمل دين في ذمته، كما يتقبل الشريك العمل له ولشريكه، هؤلاء جوز أكثر الفقهاء اشتراكهم كأبى حنيفة ومالك وأحمد. وذلك عندهم بمنزلة شركة الوجوه. وهذه الشركة مبناها على الوكالة فكل من الشريكين يتصرف لنفسه بالملك ولشريكه بالوكالة. ولم يجوزها الشافعى.

والنوع الثاني إذا تشاركا فيما يؤجران فيه ابدانهما ودابتيهما، وهي باطلة في مذهب أبى حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد كأبى الخطاب، والقاضي في أحد قوليه، وقال: هو قياس المذهب بناء على أن شركة الابدان لا يشترط فيها الضمان بذلك الاشتراك في كسب المباح، كالاصطياد والاحتطاب، لأنه لم يجب على أحدهما من العمل الذي وجب على الآخر شيء، وإنماء كان ذلك بمنزلة اشتراكهما في نتاج ماشيتهما، وتراث بساتينهما ونحو ذلك.

ومن جوزه قال هو مثل الاشتراك في اكتساب المباحات، لأنه لم يثبت هناك في ذمة أحدهما عمل، ولكن بالشركة صار ما يعمله أحدهما عن نفسه وعن شريكه، وكذلك هنا ما يشترطه أحدهما من الأجرة أو شرط له من الجعل، هو له ولشريكه. والعمل الذي يعمل عن نفسه وعن شريكه. وهذا القول أصح“.

من كتاب المغني لابن قدامة في الشركة والمشاركات

الشركة هي اجتماع أبدان أو أموال أو أبدان وأموال، وتختلف أنواع الشركات باختلاف تزاوجهم مع بعضهم البعض، فشركة الابدان هي اجتماع بدنين، وشركة الوجوه هي اجتماع بدنين ومال غيرهما؛ والمضاربة هي اجتماع مال وبدن وهكذا.

ويقصد بالبدن العمل الإنسانى، والمال قد يكون المال أو الضمان ومنه تقبل عمل بضمان القيام به.

والشركة لها خمسة أقسام وهى:

– شركة الابدان وهي أن يشترك أثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم كالصناع.

– شركة العنان وهي أن يشترك بدنان بماليهما تساوى المال أو اختلف.

– شركة الوجوه وهي أن يشترك بدنان بمال غيرهما.

– شركة المضاربة وهي أن يشترك بدن ومال أو بدنان بمال احدهما أو مالان وبدن أحدهما.  

– أخيراً شركة المفاوضة وهي إما أن يجمعا جميع أنواع الشركة، مثل أن يجمعا بين شركة العنان والوجوه والابدان فيصح ذلك، وغنا أن يدخلا بينهما في الشركة الاشتراك فيما يحصل لكل واحد منهما من ميراث أو يجده من ركاز أو لقطة، ويلزم كل واحد منهما ما يلزم الآخر من أرش جناية وضمان غصب وقيمة متلف، وغرامة الضمان أو كفالة فهذا فاسد.

ويستحق الربح بالضمان، بدليل شركة الابدان. وتقبل العمل يوجب الضمان على المتقبل ويستحق به الربح فصار كتقبله المال في المضاربة. والعمل يستحق به العامل الربح، كعمل المضارب، فينزل بمنزلة المضاربة. وتنعقد شركة الابدان على العمل المجرد ولهذا فيجوز ما يتفقا عليه من المساواة أو التفاضل في الربح، فإن تقبل أحدهما عملا بضمانه وعمل الأخر دون صاحبه يستحق الأول نصيباً من الربح بضمانه والثاني بعمله.

وقد جاء في المشاركات الأمثلة التالية:

1- ”إن اشترك رجلان لكل واحد منهما دابة على أن يؤجراهما فما رزقهما الله من شيء بينهما، فإذا تقبلا حمل شيء معلوم إلى مكان معلوم في ذمتهما، ثم حملها على البهيمين أو غيرهما، صح والأجرة بينهما على ما شرطاه.

وإن أجراهما بأعيانهما على حمل شيء بأجرة معلومة لم تصح الشركة“.

ففي الحالة الأولى يكون تقبلهما الحمل قد أثبت الضمان في ذمتهما ولهما أن يحملاه بأي ظهر كان، وتنعقد الشركة على الضمان كشركة الوجوه. أي أن الأجرة هي نظير نقل الشيء المعلوم والنقل في الأغلب هو ما يشمله الضمان وطالما أن غاية العمل محددة فلهما أن ينقلاه كيفما شاءا فالأجر يستحق للنقل لا لطريقة النقل، فتكون الدابتين تابعتين ولهما أن يحملا الشيء عليهما أو على أي ظهر كان والأجر لقاء تقبل العمل وثبوت الضمان في ذمتهما، فإن نفقت الدابتين توجب عليهما توفير غيرهما حتى يتم العمل.

أما في الحالة الثانية فهما أجرا الدابتين فاستحقا الأجر بتسليم الدابتين إلى المستأجر، ولا ضمان هنا وإنما بيع منفعه الدابتين بعقد اجارة، ولا عمل هنا لأن المستأجر هو الذي سيقوم بالعمل، والربح يستحق بالمال أو بالضمان أو بالعمل ولهذا لم تجز الشركة بينهما هنا وكان لكل منهما أجر دابته.

2- ”إن كان لقصار أداة ولآخر بيت، فاشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا والكسب بينهما جاز، والأجرة على ما شرطاه. لأن الشركة وقعت على عملهما والعمل ويستحق به الربح في الشركة، والآلة والبيت لا يستحق بهما شيء لأنهما يستعملان في العمل المشترك فصارا كالدابتين اللتين أجراهما لحمل الشيء الذي تقبلا حمله، وإن فسدت الشركة قسم ما حصل لهما على قدر أجر عملهما وأجر الدار والآلة، وإن كانت لأحدهما الة وليس للأخر شيء أو لأحدهما بيت وليس للاخر شيء فاتفقا على أن يعملا بالآلة أو في البيت والأجرة بينهما جاز لما ذكرنا“.

وقد تبّع البيت للقصار والآلة للقصار الثاني فكان عمل كل منهما يشمل عمل الآلة أو منفعة البيت، والشركة وقعت على عملهما والذي اشتمل على منفعة البيت والآلة، والذي استحق به الربح. فلم يعد للبيت والآلة نصيب من الربح لأن العوض عنهما قد اشتمل عليه في نصيب صاحب كل منهما في ربحه، وعندما يقول ابن قدامة: الآلة والبيت لا يستحق بهما شيء من الربح لا يقصد انعدام حظهما من الربح أو انعدام قيمة منفعتهما بدليل أنه حالة فساد الشركة كان لكل منهما الأجر على قدر المنفعة.

ويستنتج أن نصيب كل منهما في الربح سيكون متناسبا مع العمل ومنفعة آلته، وقال ابن قدامة أنهما إن اشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت ذاك والكسب بينهما جاز، والأجرة على ما شرطاه. والكسب هو الأجرة، وتعبير الكسب بينهما، يفهم منه أن النصف لكل منهما وتعبير الأجرة على ما شرطاه قد يقصد به التفاضل أو التساوى، وقد كان بالإمكان فهم الاجرة على أنها اجرة الأعيان إلا أن هذا ينتفي في الجملة التي بعدها. وفي حالة أن لأحدهما بيت وليس للأخر شيء فاتفقا على أن يعملا في البيت والاجرة بينهما جاز، وبينهما قصد بها التساوى- لما جاء في ص33 في نفس المرجع: فأما إذا قال: والربح بيننا، فان المضاربة تصح ويكون بينهما نصفان – وهذا يعارض المنطق والأغلب أن المثال الذي أورده ابن قدامة لم يكن الغرض منه بحث طريقة تقسيم الأرباح وإنما الغرض منه بحث صحة الشركة.

ويهمنا هذا المثال بوجه خاص لأن العمل الذي استحق به نصيب الربح قد اشتمل على جهد العامل ومنفعة عمل أدواته، ولم تعامل الأدوات على أنها منافع تستحق الأجر من الكسب قبل توزيع الأرباح. فكان العمل المشارك به في هذه الشركة هو العامل وأدواته فاستحقا الربح معاً كأنهما كيان واحد.

3- ”إن دفع رجل دابته إلى أخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثاً أو كيفما شرطا صح.

ولم يجز مالك وأبو حنيفة والشافعي شيئاً من هذه المعاملات، لأنها تشتمل على عمل مجهول وعوض مجهول. ولهذا فالربح كله لرب الدابة لأن الحمل الذي يستحق به العوض منها، وللعامل أجر مثله على رب الدابة.

وقد قال أن الذين قالوا بعدم صحة هذه المعاملة أن هذا ليس من أقسام الشركة إلا أن تكون مضاربة، ولا تصح المضاربة بالعروض، ولأن المضاربة تكون بالتجارة والتصرف في الأعيان، والدابة لا تباع ولا تخرج عن ملك صاحبها، ولهذا لم تصح كمضاربة.

وذكر القاضي فيمن استأجر دابة ليعمل عليها بنصف ما يرزقه الله تعالى أو ثلثه جاز. والاجارة يشترط لصحتها العلم بالعوض وتقدير المدة أو العمل. وهذا لم يوجد لهذا لا يصح تخريجها على الاجارة“.

ويقول ابن قدامة:” ولنا أنها عين تنمى بالعمل عليها فصح العقد عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير، وكالشجر في المساقاة والأرض في المزارعة. وقولهم أنه ليس في أقسام الشركة ولا هو مضاربة، قلنا نعم لكنه يشبه المساقاة والمزارعة، فانه دفع لعين المال إلى من يعمل عليها ببعض نمائها مع بقاء عينها، وبهذا يتبين أن تخريجهما على المضاربة بالعرض فاسد فأن المضاربة إنما تكون بالتجارة والتصرف في رقبة المال، وهذا بخلافه“.

وقد أشار أحمد إلى ما يدل على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة. فقال:” لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع. لحديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشرط وهذا يدل على أنه قد صار في هذا. ومثله إلى الجواز لشبهه بالمساقاة والمزارعة، لا إلى المضاربة ولا إلى الاجارة“.

والمعاملة صحيحة لما جاء عن خيبر، ولما نقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة: ”أرجو ألا يكون به بأس. قال اسحاق بن ابراهيم، قال أبو عبد الله: إذا كان على النصف والربع فهو جائز. وبه قال الأوزاعي“.

والنماء هو الخاصية التي أودعها الله تعالى في الأشياء كالشجر والحيوان، وهناك أشياء لها خاصية الإنماء لو تجمعت كالأرض الزراعية والماء والشمس والهواء والعمل وغيرهم. وفي المزارعة فالبذر له خاصية النماء بينما كل العوامل الأخرى لها خصاية الإنماء. والنماء هوتكاثر الشيء من نفسه ومن العوامل الأخرى المتجددة على الأرض كالشمس أو المتوفرة بكثرة كالماء والهواء فكان الغير مشاعاً فيها الأرض والعمل فعقد بهما وبالبذر.

أما الزيادة المتحصلة بالعمل في الدراهم والدنانير، فهي زيادة يصحبها نقص في مكان أخر من نفس النوع. وكذلك يمكن القول عن عمل الدابة أو السيارة فكسبه هو بيع منافع أو تبديل ما يستهلك من العين بمال آخر.

ولهذا فيمكن انظر إلى هذه المعاملة من زاوية أخرى، فالدابة عندما تحمل الشيء فانها تبذل جهدا وتستهلك بقدر المنفعه التي قدمتها، وليس هذا نماء وإنما هو استهلاك للعين أو بيع منافع. إلا أن نقول أن أجر الدابة نماء وأجر الدابة هو ثمن منفعة فيكون ثمن منفعة العين نماء لها لأنه زيادة عليها، والعمل منفعة والمنفعة مال. والدبة قد تؤجر لحمل الشيء بمال، والرجل يتفق على العمل ويحمل الدابة ويسوقها وينزل الحمل ويسلمه، وعمله هذا قد يستأجر عليه بمال، فإذا استأجر الرجل الدابة من صاحبها، وكد طوال النهار فلم يكسب شيئاً غرم أجرة الدابة وضاع عليه جهده، وإن استأجر صاحب الدابة الرجل على أن يعمل عليها فلم يكسب شيئاً غرم صاحب الدابة أجر العامل، ولهذا … وجدا أن الأصلح اشتراكهما في الكسب أو في عدمه، فلا يغنم أحدهما من مال اخيه. والرزق من عند الله سبحانه وتعالى.

فإن عملا وكسبا كان الأجر الذي تتحصل عليه مشاركتهما هو مجموع أجر العامل وأجر الدابة الفعليين عن العمل الذي قاما به، والعمل عند الاتفاق مجهول إلا أن تفاضل أو تساوي الأجرين معروف، والعمل واحد فامكن الاتفاق على نسب تقسيم ما تكسبه المشاركة إذا كان ثمة عمل. والأجر عوض منفعة فيمكن القول أن هذه المشاركة مشاركة منافع تكمل بعضها لينتج عنها منفعة مكتملة قد تكون مطلوبة أكثر مما كانت لتطلب كل واحدة منهما على حدة. وهذه المشاركة فيها ضمان العمل الذي تقبله العامل، وقد يضمن صاحب الدابة أيضاً فإن نفقت الدابة بدلها بثانية حتى يتم العمل الذي تقبّله العامل.

فيكون اشتراك منفعة عامل وهي عمله وفكره مع منفعة دابة وهي القدرة على الحمل، وهذه مشاركة عمل مفكر مع عمل. والعمل الذي سيقومان به مجهول والأجر مجهول، فيكون نصيب كل منهما لقاء العمل، وهذا يقدر بجزء من الكسب، فإن كسبا كان لعمل كل منهما قيمة هي الجزء المتفق عليه من الكسب، وإن لم يكسبا فليس لعملهما قيمة.

أي إنها مشاركة مجهولان يمكن معرفة نسب تفاضلهما، معدومان وقت التعاقد، وتظهر قيمهما عند تحقق الكسب والذي نتج عنهما فيعرفا فينال كل منهما نصيبه.

والكسب يستحق بالعمل، والعمل هو بيع منفعة وهي مال، وشركة الأبدان أو الأعمال مشروعة إلا ان العمل الصادر عن كلاهما هو عمل إنساني ويتميز العمل الإنساني بالفكر، والعقد يحتاج لإرادتين وهذا موجود في مشاركة المنافع هذه، أما التنفيذ فلا يحتاج لفكرين ففكر إنساني واحد يكفى كما هو الحال في المضاربة.

والشركة فيها التوكيل، وهنا قد وكل صاحب الدابة العامل وفوضه في التصرف بما يرى في حدود تقبل العمل. ولو أخذ العامل الدابة من ربها على أن يعمل عليها فأجرها إلى آخر ولم يعمل عليها لم يجز والأجر كله لرب الدابة.

4- ”فإن كان لرجل دابة ولآخر اكاف وجوالقات- برذعة وشوالات يعبي فيها الحبوب – فاشتركا على أن يؤجراهما والأجرة بينهما نصفان فهو فاسد، لآن هذه أعيان لا يصح الاشتراك فيها كذلك في منافعها. إذ تقديره أجر دابتك لتكون أجرتها بيننا وأؤجر جوالقاتي أجرتها بيننا“.

ومن المثال الأول نرى أنه قد يصح إذا اتفقا أو أتفق أحدهما على نقل بضاعة من مكان إلى أخر فيستحقا الربح بالضمان الذي وقع عليهما بتقبل العمل.

ويضيف ابن قدامة: ” وتكون الأجرة كلها لصاحب البهيمة، لآنه مالك الأصل وللأخر أجر مثله على صاحب البهيمة. لأنه أستوفى منافع ملكه بعقد، هذا إذا اجر الدابة بما عليها من الأكاف والجوالقات في عقد واحد“.

ولو نظرنا إلى التطبيق العملي هنا نجد أن تفسيره يكون في أحدى الحالتين التاليتين:

أ‌-   أن يستأجر صاحب الدابة الاكاف والجوالقات من صاحبها لقاء مدة مثل يوم لأن العمل مجهول فإن رزقه الله بعمل أو بمن يستأجر منه الدابة بما عليها دفع لصاحبه الأجر من الرزق، وإن لم يرزق غرم أجر الأكاف والجوالقات من ماله، وكسب صاحبه.

ب‌- إن اتفقا أن يأخذ صاحب الدابة الأكاف والجوالقات على أن يؤجرهما بعقد واحد، له من الأجر نصيب الدابة ولصاحبه نصيب الأكاف والجوالقات… فإن كان المعروف أن أجر الدابة في النهار ضعف أجر الأكاف والجوالقات واشتركا معاً في الاجارة، وكان الأجر ثلاثة دراهم؛ فكأنهما أجرا الدابة وحدها بدرهمين والأكاف والجوالقات بدرهم. فان اتفقا أن تكون الأجرة بينهما ثلثين لرب الدابة وثلث لصاحب الأكاف والجوالقات فكأنما أجر كل واحد منهما ملكه منفرداً وكان لكل واحد منهما اجر ملكه. ولم يكن لأحدهما أن يؤجر منفرداً إذا كانت غاية المستأجر نقل الحبوب فالدابة تحتاج الأكاف والجوالقات والعكس صحيح.

فإن لم يؤجراهما لا يصيب أحدهما شيئاً من الأجر ولا يغرم من ماله. وهذه هي المشاركة.

أما ما جاء عمن قال لصاحبه أجر عبدي والأجر بيننا، كان الأجر لصاحبه وللأخر أجر مثله. فهذا عمل من واحد لم يشترط عليه دفع أجر العبد سواء أجره أم لم يؤجره، وهي ليست جعالة لما جاء أن الأجر له ولصاحب العبد أجر مثله؛ فلم يحدد الجعل؛ وليست اجارة، وقيل ليست مشاركة فهي منفعة أعيان من جهة وعمل من الأخر، والسؤال الذي يتبادر للذهن… هو ماذ يفعل صاحب آلة أو دابة عاجز عن العمل، أو غائب أو منشغل إذا أراد دفع منفعة دابته، إلى من يريد أن يعمل عليها. والعامل إن عمل عليها فقد يكون بناء على مشاركة أو إجارة؛ فإن أجرها منه فقد التزم بالأجر الذي يستحق بتسليم العين في المدة المتفق عليها؛ فإن لم يؤجر العامل لأجنبي غرم الأجر من ماله، ولهذا فلن يقبل إذ ليس له قصد في الدابة… وكذلك لو اشترط العامل ألا تستحق العين أجراً إلا إذا أجرها لأجنبى، فهو لا يدري بكم سيؤجرها. كذا صاحب الدابة ليس له قصد في عمل العامل ليستأجره على العمل عليها… فإن لم يك ثمة عمل غرم الأجر من ماله، لهذا تكون المشاركة بينهما أنسب لهما وأعدل، ويكون الأصلح لهما الإتفاق على تفاضل قيم عمل العامل ومنفعة الدابة، وما رزق الله بينهما لفإما ينتفعا معًا، أو يضيع جهد العامل ومنفعة الدابة معاً.

والمشاركة تجوز عندما لا يكون لأحدهما قصد مباشر في عمل او منفعة أعيان الآخر ويكون القصد الكسب بالعمل وبيع المنافع وهذا هنا.

وقد قيل لا يصح الاشتراك في الأعيان وكذلك في منافعها. وهذا لأن الأعيان لاتباع أو تستهلك بما يعتد به وتبقى على حالها فتعود إلى ربها فلهذا لا تصح أن تكون رأس مال مخاطر به ليستحق به الربح، والمنافع معدومة وقت العقد ويكتنفها الجهالة لأن العمل مجهول. إلا أن هذه المشاركات ليست مشاركات في روؤس الأموال ولا يشترط فيها تعيينها ويكفي نسب تفضلها، وإنما هي مشاركة في الربح ولا تتحقق المشاركة إلا إذا تحقق الربح. وإذا تحقق الربح أو النماء أو الكسب تكون للمنافع قيمة معلومة هي نصيبها من الربح، مثل المساقاة والمزارعة والمضاربة.

جاء في كتاب فقه السنة للسيد سابق في باب الإجارة من الجزء الثالث  ص198: ”الاجارة عقد على المنافع بعوض. ويضيف:

والمنفعة قد تكون منفعة عين، كسكنى الدار أو ركوب السيارة…

وقد تكون منفعة عمل، مثل عمل المهندس والبناء والنساج والصباغ والخياط والكواء، وقد تكون منفعة الشخص الذي يبذل جهده، مثل الخدم والعمال…“

وعليه يمكن إعتبار عمل الإنسان منفعة إذا قصدت مباشرة كما في الإجارة أو إذا قصد أثرها كما المشاركة.

5- ”إن اشترك ثلاثة من أحدهم دابة ومن أخر راوية ومن الآخر العمل على أن ما رزق الله تعالى فهو بينهم صح في قياس قول أحمد“.

وهكذا لو اشتراك أربعة من أحدهم دكان ومن آخر رحى ومن آخر بغل ومن آخر العمل على أن يطحنوا بذلك فما رزق الله تعالى فهو بيهنم صح. وكان بينهم على ما شرطوه.

وقال القاضى: ”العقد فاسد في المسألتين جميعاً، فلا يجوز أن يكون مشاركة ولا مضاربة، لكونهما لا يجوز أن يكون رأس مالهما العروض ولأن من شروطهما عود رأس المال سليما، بمعنى أنه لا يستحق شيء من الربح حتى يستوفى رأس المال بكماله“.

يجب التوقف عند القول بفساد العقد للأسباب التي ذكرت، لأن بعض أنواع المشاركة لا ينطبق عليها الشروط التي ذكرت من عدم صحة كون رأس المال عروضاً، ووجوب عود رأس المال إلى صاحبه سليماً وعدم استحقاق الربح حتى يستوفى رأس المال. فأين هو رأس المال في المساقاة، إن كانت الشجر فالشجر لا يخاطر به ويظل على حاله ويعود إلى صاحبه، ورأس المال من طبيعته أن يتصرف فيه وهذا لا يتصرف فيه لا بيعاً ولا شراء، ولا يخرج عن ملك صاحبه، وكذلك المزارعة.

وشركة الابدان ليس فيها رأس مال إلا إذا قبلنا بمنافع العمل- المتوقع – كرأس مال، وهذه معدومة وقت العقد فتكون شركة في الرزق، والمضاربة نفسها ليست مشاركة في رأس المال وإنما وكالة فإن لم يتحقق ربح لا تكون شركة ولا مشاركة، والمشاركات قد تكون بدون رأس مال مثل المشاركة في الرزق بين من يدفع الدابة ومن يعمل عليها، إلا أن نقول أن رأس مالهما هو منفعة الدابة ومنفعة  العمل وهما معدومتان وقت التعاقد فلا يصلحان أن يكونا رأس مال.

والقول أنهما في شركة الابدان يستحقان الربح بالضمان بتقبل العمل، فهذا كان لتفسير استحقاق احدهما ممن لم يعمل بينما عمل الآخر، بينما إذا تقبلا وعملا معاً فالربح أو الأجر لقاء العمل أو لقاء الضمان وكلاهما ليس فيهما رؤوس أموال عندما عقدا الشركة بينهما وهذا كان قبل تقبلهما أو تقبل أحدهما العمل.

جاء في كتاب فقه المعاملات- دراسة مقارنة للدكتور محمد علي عثمان الفقي ص281: ”الشركة في الفقه الإسلامي عقد بين اثنين أو أكثر على الاشتراك في المال وربحه، أو على الاشتراك في ربحه دون الإشتراك في رأس المال، أو الاشتراك في أجر العمل، أو الاشتراك فيما يباع ويشترى دون أن يكون هناك رأس مال لهم يتجر فيه“.- الشيخ علي الخفيف في الشركات في الفقه الإسلامى-

والمعاملة صحيحة وللناس حاجة لها، ولهذا يمكن أن يكون اخراجها بأنها مشاركة في عوض المنافع من عمل واحد يشتركان فيه بنسب تفاضلهما سواء أكان التفاضل في العمل أو في ضمان تقبله أو في ضمان تلف العين التي يعملان عليها أو فيهم جميعاً؛ فيستحقا الأجر عليه أو الرزق بنفس نسب اشتراكهما تفاضلا أو تساويا، والله أعلم.

أو تكون لأنه دفع دابته إلى أخر يعمل عليها و الراوية عين تنمى بالعمل عليها فهي كالبهيمة وعلى هذا يكون ما رزق الله بينهم على ما اتفقوا عليه. كما جاء في المغنى.

6- وجاء في باب المزارعة في المغني (جزء 5 ص 425): ”فإن قال صاحب الأرض أجرتك نصف أرضي هذه بنصف بذرك ونصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرج المزارع البذر كله لم يصح لأن المنفعة غير معلومة، وكذلك لو جعلها أجرة لأرض أخرى أو دار لم يجز ويكون الزرع كله للمزارع وعليه أجر مثل الأرض. وإن أمكن علم المنفعة وضبطها بما لا تختلف معه ومعرفة البذر جاز وكان الزرع بينهما، ويحتمل أن لا يصح لأن البذر عوض فيشترط قبضه كما لو كان مبيعاً وما حصل فيه قبض. وإن قال أجرتك نصف أرضي بنصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرجا البذر فهي كالتي قبلها إلا أن الزرع يكون بينهما على كل حال“.

ويضيف ما ذكر الخرقى: ”وإن كان البذر منهما فالزرع بينهما ويتراجعان بما يفضل لأحدهما على صاحبه من أجر مثل الأرض التي فيها نصيب العامل وأجر العامل بقدر عمله في نصيب صاحب الأرض“.

ومن هذا المثال … نجد أنهما تشاركا بتفاضل أجر نصف الأرض  على منفعة المزارع ومنفعة بقره وألته. فإن كان أجر نصف الأرض يساوي قيمة منفعة المزارع ومنفعة بقره وآلته كان لكل منهما نصف الزرع. وإن تراجعا لا يفضل لأحدهما على صاحبه شئ.

وإن أمكن علم المنفعة وضبطها بما لا تختلف معه فتفاضلا في الزرع بتفاضل منافعهما جاز.

<< previous page next page >>