جاء عند الفقهاء أن العامل ليس له نفقة إذا عمل في المصر الذي يقيم فيه أو الذي عقدت فيه المضاربة الا بشرط وكره أغلبهم أن يشترط ذلك.
وجاء عندهم عن العمل أنه لو استأجر لما يجب عليه مباشرته فالأجرة عليه خاصة. ولو عمل بنفسه ما يستؤجر له عادة لم يستحق اجرة.
هاتان القاعدتان وردتا عند كثير من الفقهاء كما جاء في الفصول السابقة، ويتضح من الثانية أن الفقهاء قد كرهوا بل ومنعوا العامل أن يدفع لنفسه شيئاً من مال القراض حتى لقاء عمل يتولاه بنفسه وكان له أن يستأجر عليه أجنبي من مال المضاربة، فلم يجيزوا له أن يستأجر نفسه عليه وهذا منطقي فهو المتصرف في المال والمقصود أن يتصرف من خلال معاوضات مع أطراف أجنبية عن العقد فلا يستحب أن يكون العوض والمعوض منه.
أما الأولى فهو كان مقيماً قبل المضاربة في المصر الذي عقدت فيه، وعوضه عن عمله هو نصيبه من الربح فلم يجز له عوضين عن عمل واحد. ولأنه يصرف من المال فلا يعرف ما سيصرفه فتكتنفه الجهالة التي قد تفضي إلى النزاع.
ولكن الرجل يضارب مع عامل قد يعمل في المال أكثر من غيره، فقد تكون له شاحنة ومتجر وليس لغيره مثلهما فيستعملهما على التجارة فلا يستأجر من الغير، فيكون العدل في أن يكون نصيبه من الربح أكثر من صاحبه الذي خاطر بمنفعة بدنه لا غير، حتى يتحقق العدل وتنتفي الجهالة، فإن نسب تقسيم الربح إذا لم تعبر تعبيراً عادلاً عما يعود إليه الربح – سواء كان مالاً أو عملاً – فإن هذا يؤدي إلى أن يأكل أحدهما من مال الآخر بدون عوض لأنه أخذ مما ليس له فيه مال ولا عمل ومما هو حقاً لصاحبه.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما جاء في كتاب مجموع الفتاوي (جزء29): في صحفة 98 عن المزارعة: ”وهنا منفعة بدن العامل وبدن بقره وحديده، هو مثل منفعة أرض المالك وشجره، ليس مقصود واحد منهما استيفاء منفعة الآخر، إنماء مقصودهما جميعا ما يتولد من اجتماع المنفعتين، فإن حصل نماء اشتركا فيه، وإن لم يحصل نماء ذهب على كل منهما منفعته، فيشاركان في المغنم وفي المغرم، كسائر المشتركين فيما يحدث من نماء الأصول التي لهم“.
وفي صحفة99: ”فمعلوم قطعاً أن المساقاة والمزارعة ونحوهما من جنس المشاركة، ليسا من جنس المعاوضة المحضة، والغرر إنما حرم بيعه في المعاوضة لآنه أكل مال بالباطل، وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر. لآنه إن لم ينبت الزرع فإن رب الأرض لم يأخذ منفعة الآخر، إذ هو لم يستوفها ولا ملكها بالعقد، ولا هي مقصودة، بل ذهبت منفعة بدنه، كما ذهبت منفعة هذا، ورب الأرض لم يحصل له شيء حتى يكون قد أخذه والآخر لم يأخذ شيئاً، بخلاف بيوع الغرر واجارة الغرر، فإن أحد المتعاوضين يأخذ شيئاً، والآخر يبقى تحت الخطر، فيفضي إلى ندم أحدهما وخصومتهما، وهذا المعنى منتف في هذه المشاركات التي مبناها على المعادلة المحضة التي ليس فيها ظلم البتة، لا في غرر ولا في غير غرر“.
ويضيف في صحفة 101 في موضوع المضاربة: ”انا نعلم بالاضطرار أن المال المستفاد إنما حصل بمجموع منفعة بدن العامل ومنفعة رأس المال، ولهذا يرد إلى رب المال مثل رأس الماله ويقتسمان الربح، كما أن العامل يبقى بنفسه التي هي نظير الدراهم. وليست إضافة الربح إلى عمل بدن هذا بأولى من إضافته إلى منفعة مال هذا“.
وفي صفحة103: ”وإن قيل الزرع نماء الأرض دون البدن. فقد يقال والربح نماء العامل دون الدراهم أو بالعكس. وهذا كله باطل، بل الزرع يحصل بمنفعة الأرض المشتملة على التراب والماء والهواء ومنفعة بدن العامل والبقر والحديد“.
صفحة107: ”وذلك أن الأصل في هذه المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين. فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها ظلم، فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله محرما على عباده“.
وفي صفحة125: ”فقد تبين أن هذه المعاملة- أي المزارعة- اشتملت على ثلاثة أشياء: أصول باقية، وهي الأرض وبدن العامل والبقر والحديد. ومنافع فانية واجزاء فانية أيضاً وهي البذر وبعض أجزاء الأرض وبعض أجزاء العامل وبقره. فهذه الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء، فتكون الخيرة إليها فيمن يبذل هذه الأجزاء، ويشتركان على أي وجه شاءا. ما لم يفض إلى بعض ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الغرر أو الربا وأكل المال بالباطل. ولهذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة، مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما“.
وجاء في باب المزارعة في المغني (جزء5 ص425): ”فإن قال صاحب الأرض أجرتك نصف أرضي هذه بنصف بذرك ونصف منفعتك ومنفعة بقرك وألتك وأخرج المزارع البذر كله لم يصح لأن المنفعة غير معلومة، وكذلك لو جعلها أجرة لأرض أخرى أو دار لم يجز ويكون الزرع كله للمزارع وعليه أجر مثل الأرض. وإن أمكن علم المنفعة وضبطها بما لا تختلف معه ومعرفة البذر جاز وكان الزرع بينهما، ويحتمل أن لا يصح لأن البذر عوض فيشترط قبضه كما لو كان مبيعاً وما حصل فيه قبض. وإن قال أجرتك نصف أرضي بنصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرجا البذر فهي كالتي قبلها إلا أن الزرع يكون بينهما على كل حال“.
ويضيف ما ذكر الخرقى: ”وإن كان البذر منهما فالزرع بينهما ويتراجعان بما يفضل لأحدهما على صاحبه من أجل مثل الأرض التي فيها نصيب العامل وأجر العامل بقدر عمله في نصيب صاحب الأرض“.
ومن هذا المثال نجد أنهما تشاركا بتفاضل أجر الأرض على منفعة المزارع ومنفعة بقره وآلته. فإن كان أجر نصف الأرض يساوي نصف قيمة: منفعة المزارع ومنفعة بقره وآلته كان لكل منهما نصف الزرع. وإن تراجعا لا يفضل لأحدهما على صاحبه شئ.
وإن أمكن علم المنفعة وضبطها بما لاتختلف معه فتفاضلا في الزرع بتفاضل منافعهما جاز.
في المضاربة: مشاركة منفعة مال ومنفعة بدن العالم
ويجوز تساوي المتقابلات أو تفاضلها على أن تتساوى أو تتفاضل نسب ربح كل منهما بنفس القدر حتى لا يفضي التقسيم إلى الغرر.
وهذه المقابلات مجهولة القيمة إلا أنه يمكن تحديد نسب تفاضلها بجهالة يسيرة مما لا يؤدي إلا إلى الغرر اليسير المرخص به في عقود المعاوضات والمشاركات.
يقول ابن تيمية في صفحة 25: ”ومفسدة الغرر أقل من مفسدة الربا، فلذلك رخص فيما تدعوا إليه الحاجة منه، فإن تحريمه أشد ضرراً من ضرر كونه غرراً مثل بيع العقار جملة، وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس، ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع، وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن… فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمناً وتبعاً ما لا يجوز من غيره“.
والقيمة ليست لها أهمية فالمشارك فيه هو الربح، والمقصود هو الوصول إلى نسب الربح التي بموجبها لا ينال العامل من نصيب رأس المال في النماء ولا ينال رب المال من نصيب العمل في النماء. أما القيم فهي قيم منافع معدومة عند العقد ومعدومة عند الإنضاض كرأس مال؛ ويعبر عنها في المشاركات بقيمتها من الربح مثل نصيب العامل من الربح والذي يشتمل على عوض منفعة عمله.
ويمكن تقدير منفعة الأرض في المزارعة بأنها هي ما تكرى به عند من جوز كراء الأرض، ومنفعة بدن العامل والبقر والحديد هي أجر مثل العامل والبقر والحديد، فلو افترضنا مدة المزارعة وهي من العقود التي توقت أو تعرف بوقت إدراك الثمر والزرع، عرفت الأجور وهي أثمان المنافع. ولو كان البذر والطعام والمؤونة وكل ما يستهلك ويفنى من أحدهما أضيف إلى قيمة منفعته ثم تفاضلا. فيعرف التفاضل أو التساوى، فإن تساويا صلحت المزارعة على النصف وإلا فبنسب التفاضل. فإن وفر الزرع كانت منفعة الأرض أكثر من الكراء وكانت منفعة العامل والبقر والحديد أكثر من أجور المثل. أما عن البذر فأنهم لم يتقابضا فلا بيع بينهما هنا ليتقابضا وإنما مشاركة أو مقابلة تقوم على التعادل أو التفاضل بين الجانبين كالتي قال بها وعنها ابن تيمية:” فهذه الاجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء، الخيرة إليها فمن يبذل هذه الأجزاء، ويشتركان على أي وجه شاءا“.
أما عند من لم يجز اجارة الأرض ولم يكن للأرض أجر تعرف به، فقد عرفنا عن عمر رضى الله عنه أنه كان يدفع الأرض والبذر بالنصف إلى من يعمل عليها، فتكون منفعة الأرض وقيمة البذر مساوية لمنفعة بدن العامل والبقر والحديد.
وفي رواية البيهقى: ”فأعطى عمر رضى الله عنه الناس البياض على ان كان البذر والبقر والحديد من عمر، فلعمر الثلثان ولهم الثلث. وإن كان منهم فلهم الشطر“.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر.
ومن الرويات الأخرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع أرض خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع.
وروي عن هشيم أخبرنا ابن أبى ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال:” دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر- أرضها ونخلها- إل أهلها مقاسمة على النصف“.
وقد ذكر البخاري في صحيحه: ” أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه عامل الناس على: إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر- النصف- وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا. الطرق الحكيمة لابن القيم ص248 – 250“.
وعن أبى جعفر محمد بن علي رضى الله عنهم أنه قال: ”كان أبو بكر الصديق رضى الله عنه يعطي الأرض على الشطر“.
فلو أخذنا بمعاملة خيبر ومعاملة أبو بكر رضى الله عنه فمنفعة الأرض فيها تساوي منفعة بدن العامل وبقره وحديده وبذره.
ولو أخذنا بمعاملة عمر رضى الله عنه فالأرض والبذر يعادلان العامل وبقره وحديده.
وإن جاء عمر رضى الله عنه بالبذر والبقر والحديد فله الثلثان وإن كان منهم فله النصف.
فتكون الأرض والبذر والبقر والحديد = ضعف منفعة بدن العامل
والأرض وحدها = منفعة بدن العامل والبقر والحديد وقيمة البذر
ومن هاتين المعادلتين نجد أن الأرض لها النصف، والعامل له الثلث، والبقر والحديد والبذر لهم السدس. وهذا يطابق معادلة معاملة خيبر ومعاملة الصديق رضى الله عنه، إلا أنه يخالف معاملة عمر رضى الله عنه الثانية والتي فيها إن كان البذر من عمر فله الشطر ولو أن الاختلاف يسير للغاية لأن قيمة البذر تكون ثلث السدس أو أقل.
ويجب التنويه هنا إلى أن الأراضي الزراعية تختلف عن بعضها البعض بدرجة خصوبتها ويسر أو مشقة زرعها وتكلفة سمادها ورويها ولا يجب الخروج من هذا بنتائج ومعادلات تطبق فكل بلد وكل أرض لها ظروفها، وقد تتوفر الأرض ويندر العمال وقد يكثر العمال وتندر الأرض، وإنما ما جاء هنا يعبر عن طريقة للحساب لا أكثر.
”وقد كان طاووس فقيه اليمن والتابعي الجليل يكره أن يؤاجر أرضه بالذهب والفضة ولا يرى بالربع والثلث بأسا. ولما أحتج عليه بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض قال: قدم علينا معاذ بن جبل- مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن- فأعطى الأرض على الثلث والربع فنحن نعملها إلى اليوم. وقد روي مثل هذا عن محمد بن سيرين وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أنهما كانا لا يريان بأسا أن يعطي أرضه على أن يعطيه الثلث أو الربع أو العشر، ولا يكون عليه من النفقة شيء“. ورد في كتاب الحلال والحرام في الإسلام للدكتور يوسف القرضاوى.
وبلغنا عن سعد بن أبي وقاص وعن ابن مسعود رضى الله عنهما أنهما كانا يعطيان أرضهما بالربع والثلث.
أما عن المشاركات التي يدفع فيها الرجل دابته إلى من يعمل عليها، فكذلك يفاضل بين أجر الدابة وأجر العامل في وحدة زمنية كيوم أو شهر، ومدة المشاركة – إن عملت أو لم تعرف – فهي واحدة لهما، فيعرف تفاضلهما أو تساويهما فيشتركان في الرزق بهذه النسب. وكذلك يعامل غيرهم من المشاركات بين الابدان والمنافع.
أما المضاربة، ففيها منفعة مال من جهة ومنفعة بدن من جهة أخرى، ولقياس نسب تفاضلهما يجب أن نقدر قيمهما في ظروف إستثمار متساوية من جهة درجة المخاطرة، وكل ما قسنا به من قبل كان في أجور المثل، وهي تقل فيها درجة المخاطرة إلى درجة تقرب من أن تنعدم، والمال لا تجوز اجارته لانعدام المخاطرة فيصير والكسب بغير العوض ربا، إلا أننا نستطيع أن نفترض إستثمار المال في معاوضة تقل فيها درجة المخاطرة إلى أقل حد ممكن، وهذا يكون بافتراض إستثمار المال في شراء عقار يؤجر لمدة عام مثلاً، وهذا يماثل ما كان سيفعله صاحب المال العاجز أو المنشغل والذي رخصت المضاربة لحاجته، ويشابه ظروف أجر المثل الذي سنقدر به قيمة منفعة العامل.
فإن قلنا أن منفعة المال هي ربح الفرصة المضاعة الممثلة بشراء عقار واجارته مدة المضاربة الغير معروفة، ولهذا نثبت الزمن المقارن به بعام مثلاً، فنخرج من هذا أن منفعة المال لو إستثمر بهذه الطريقة تكون أجر هذا العقار، وهذا افتراض ليس فيه شبهة ربا لأننا لم نضمن لرب المال هذا العائد ولا غيره.
وتكون منفعة بدن العامل هي أجر المثل الذي يتقاضاه عن عمله خلال هذه الفترة، فلو وجدنا أن أن عائد أجر العقار المشترى بخمسمائة ألف جنيه هو أربعين ألف في العام، وأنه يباع في نهاية العام بنفس الثمن الذي اشتري به. وأن أجر مثل العامل كان أربعين ألف جنيه في العام أيضاً، تساوت منفعتا العامل والمال فيكون الربح بينهما بالنصف. فإن عمل وربح مائتي ألف كان لرب المال مائة ألف وللعامل مثلها، ويستحق العامل الزيادة عن اجر مثله لأنه كأنه عمل فاستحق الأجر وخاطر به فاستحق الأكثر وقد كان من المحتمل أن يكون أقل. وهذا مجازاً لأنه في الحقيقة استحق المائة لأن قيمة عمله مقاسة بمعيار النماء هي نصفه. أما رب المال فيستحق نماء المال لأنه خاطر بالمال ذاته، ولهذا كان له النماء العائد إلى المال وهو منفعة المال الحقيقة، وكانت الوضيعة من ماله ليحل له أخذ الربح فانها إن لم تكن من ماله فلا يستحق ربحاً لأن الربح كان لقاء المخاطرة بالمال ذاته.
ولو كان العامل لديه متجر سيبيع فيه، وأجرة المتجر لو استأجر من الغير لبيع السلعة سيكون عشرين ألفا خلال فترة العرض المقدرة وهي ستة شهور مثلا، وكان تقدير مدة المضاربة عاماً، فتكون منافع بدن العامل ومتجره ستون ألفاً ومنفعة المال أربعين ألفا، فيكون للعامل ستة أعشار الربح عوض منفعة بدنه ومتجره.
وقد قال يقال هذه مضاربة عُرف فيها المدة والعمل والأجرة، وليست هذه من صفات المضاربة، فنقول هذه كلها تقديرات يبنى عليها نسب تقسيم الربح، ولو حصل الربح في نصف المدة جاز لأن قيم هذه المنافع لو انتصفت لم تتغير نسب تفاضلهما. وهي أقرب للصواب من اتفاقهما وفقاً لأهوائهما إن لم يكن للمضاربة مثل، وخاصة ونحن على مشارف عصر قد أو يجب أن تطبق فيه المضاربة في مجالات الصناعة لمصلحة الأمة. ورب المال الذي كان الذي كان يدفع ماله مضاربة إلى التاجر المتأهب للسفر مع قافلة مكة المتجهة شمالاً أو جنوباً كان يعرف متى يعود التاجر من رحلته وكم سيستغرق في بيع البضاعة التي جلبها معه في رحلة الإياب. ورأى الحنابلة والأحناف والإمامية جواز أن يقيده بالإتجار بسلعة معينة أو بالتعامل مع جهة معينة، وذهب الأحناف وفي رأي عند الحنابلة إلى صحة توقيت المضاربة، ورأى الشافعية صحة توقيت الشراء. وهذه كلها إن دلت على شيء إنما تدل على صحة المضاربة التي يتفق عليها بناء على دراسة جدوى اقتصادية للتجارة أو المشروع الذي يتقدم به العامل إلى رب المال ودون شرط عليه كما بينا في الفصول السابقة، وعلى أسس هذه الدراسة يمكن تقدير قيم المنافع والمدد الزمنية والاتفاق على نصيب كل منهما من الربح، وليس في هذا تحجيرا على العامل ولا تكتنفه جهالة أو غرر أو ما قد يعيب عقود المشاركات. وإنما هو تقدير مبني على العلم فإن ربحا نال كل منهما حقه وإن لم يربحا خسر هذا من ماله وهذا منفعة عمله ومنفعة أعيانه.
وحتى في المضاربات التي قال بها الفقهاء كان العامل يخسر نفقة نفسه وقيمة عمله الذي يلزمه أن يتولاه بنفسه وقيمة العمل الذي كان له أن يستأجر عليه وتولاه بنفسه أو بأعيانه، والمتعارف عليه في عصرنا من أن العامل لا يخسر سوى مجهود فكره ليس صحيحاً بل هو عليه الجزء الأول من الخسارة، ويجب ملاحظة أن العامل لا يخسر مالاً وإنما يخسر منافع بدنه ومنافع أعيان يملكها هو، أي أنه فى كل هذه الحالات لم يدفع مالآً نقداً من ماله وإنما استهلك منافع بدنه أو منافع أعيان يملكها، أما النفقة فهذه كانت عليه قبل المضاربة ولو لم يعقد المضاربة
لظلت من ماله، أي أن رب المال يخاطر بماله والعامل يخاطر بمنفعة بدنه ومنفعة أعيانه والشركة العامل تخاطر بمنفعة عملها ومنفعة أعيانها.
وفي حالة أن المضاربة بين رب مال والشركة العامل، والشركة تعمل في عمليات مضاربة مختلفة، فيجب الإعتماد على الدراسة الجدوى للمشروع الذي ستتقدم به الشركة إلى البنك الإسلامى، وهذه الدراسة سوف تحتوي على تقديرات ثمن الشراء وتكاليف النقل التخزين واجرة المتجر والبائع ومصاريف الإدارة وثمن البيع والربح. وقد يكون المخزن والمتجر ملكاً للشركة.
ويمكن إعادة التقسيم فيوضع ثمن الشراء وتكاليف النقل في خانة تسمى رأس المال.
ويوضع أجرة المخزن والمتجر والبائع ومصاريف المكتب الرئيسي أو مصاريف الإدارة في خانة ثانية تسمى منفعة العامل.
وتقدر قيمة منفعة رأس المال في المدة التقديرية التي وردت في الدراسة بطريقة حساب ربح الفرصة المضاعة وتقارن بمنفعة العامل ويحسب تفاضلهما، فتكون نسبة نصيب العامل من الربح هي حاصل قسمة منفعة العامل على مجموع منفعة العامل ومنفعة المال.
وقد يقال هذه شركة بينهما في رؤوس الأموال، وعدا ما جاء سابقاً عن عدم جواز أن تكون المنافع رؤوس أموال، فلو قبلنا مجازاً فإن الشركة آنذاك تكون بين تقدير قيمة منفعة العامل ورأس المال، فتكون مجازاً شركة بتسعة أعشارها لرب المال والعشر للعامل، نعم العامل لن يخسر ماله إلا بهذه النسبة من الوضيعة ولكنه لن يصيب من الربح إلا بنسبة عُشر الربح. فلو قلنا أن رأس المال تسعة الآف وأن قيمة منفعة العامل ألفاً فإنهما شركة بتسعة أعشار لأولهما والعُشر للثانى، فإن ربحا الفين كان لرب المال ألف وثمانمائة ورأس ماله وللعامل مائتين ورأس ماله فإن انقضت الشركة يأخذ العامل ألف ومائتين. بينما إن كانت مضاربة فرأس مالها تسعة الآف وربح الفرصة المضاعة في العام 8% مثلاً أي سبعمائة وعشرون ومنفعة العامل ألف فكان نصيب العامل من الربح 58%. وهما قد ربحا بحساب المضاربة أي الإيراد مقتطعاً منه رأس المال وهذا ثلاثة الآف فيعود للعامل ألف وسبعمائة وأربعين. بينما يعود لرب المال ألف ومائتين وستين. أي في حساب المضاربة العائد للعامل 74% على قيمة منافعه بينما في حساب الشركة 20% وهذا نتيجة مخاطرته الأكثر في المضاربة ونتيجة مكافأته في المضاربة أيضاً. وبالطبع تختلف النتيجة بزيادة الربح فيعود للعامل أكثر كلما زاد الربح. أما في الخسارة فهو سيخسر أولاً وكما قلنا خسارته هي في حدود منافعه التي قدمها للمضاربة وهي خسارة منافع لا أموال نقدية ولاحتمال حدوث هذه الخسارة استحق الربح الأكثر.
وإضافة إلى ما سبق فالشركة هي توكيل كل منهما لصاحبه بالتصرف، وهذا العمل كله من جانب واحد، وهي إن كانت شركة أو مشاركة أموال لاختلفوا في تقدير المنافع لأنها كرأس مال سيلزم دفعها من المال عند الخسارة فيغرمها رب المال من ماله فيتشدد في تقديرها مما قد يؤدي إلى الاختلاف أو إلى أن يظلم أحدهما الآخر، أما لو كانت كنسبة من الربح فهذه تدفع من الربح ولا يعرف الربح إلا بعد سلامة رأس المال فتقل أسباب اختلافهما. وبالطبع كان المثال السابق خروجاً عن الصحيح في المعاملات فالشركة التي مثلنا بها لا تجوز شرعاً وإنما قصدنا بها إظهار مميزات المضاربة للطرفين.
وأحد القواعد التي تقوم عليها المضاربة هي أن أحد الشريكين يعمل ولهذا وجب توفير الحافز له على العمل والاسترباح، وفي هذه يتوفر الحافز لأن نصيبه من الربح كبيراً وكلما زاد الربح كلما زاد العائد على قيمة منافعه بخلاف الشركة التي مثلنا بها فنصيبه من الربح قليلاً قد لا يغريه أو يحفزه؛ أضف إلى هذا قلة تحمله في الوضيعة أيضاً ولا يصلح هذا إلا لو عملا معاً لا أن ينفرد بالتصرف ولله أعلم.
وعليه فهي مضاربة، لأن رب المال لو دفع بالمال إلى الشركة العامل فعملت على أن لها نصف الربح والنفقة من مالها جاز، فإن رأت بعد ذلك أن تستخدم شاحناتها في العمل الذي كان لها أن تستأجر عليه من مال المضاربة وفعلت ذلك فليس لها الأجرة من مال المضاربة، ويظل نصيبها من الربح النصف، وقد زاد الربح بقدر ما وفرت من الأجرة بل وبأكثر من ذلك، فيزيد نصيب رب المال من الربح، فينال مما ليس له فيه مال أو عمل، ولا يجوز أن يستحق العامل الأجرة من المال لأنه هو المتصرف والمؤجر والمستأجر، ولهذا يكون الأصلح والأقرب إلى العدل التقدير قبل العقد وقد توفرت المعلومات في دراسة الجدوى.
والمضاربة ليست مشروطة بأن يُجهل العمل، فالعمل قد يكون مقدراً معروفاً وإنما يُحتمل فيه التغيير وفقاً للظروف وأحوال السوق وهذه طبيعة الإستثمار؛ ولولا هذه الاحتمالات… لما كان هناك احتمال ربح وخسارة، ويعتمد نجاحها إلى حد كبير على خبرة المضارب أو الشركة المضاربة، وتظهر هذه الخبرة في تقديره للمتطلبات والظروف المستقبلية ثم تحركه السريع والتكيف مع المتغيرات ومواجهة الصعوبات وإعادة التخطيط، وهذه تظهر قيمتها في تقدير قيمة منافع بدنه أو حصة المشروع من مصاريف المكتب الرئيسي للشركة موزعاً على الأعمال التي تتوقع أن تقوم بها وفق طاقتها المتوسطة، وهذه الحصة هي التكلفة… ولكن هذه الشركة لو أجرت نفسها للغير فستكون الأجرة أعلى من التكلفة وهذه التي تحسب لأنها تعبر عن التكلفة والخبرة والشهرة وغيرهم مما تقيم به الشركات، أما معداتها ومخازنها ومتاجرها فتحسب على أجر المثل، وقد حسبنا ربحاً لها في أجرة المكتب الرئيسي وهذا لم يسمح به الفقهاء لأحدهما أن ينال إلا من ربح المضاربة بعد القسمة؛ وهذا ما يحدث هنا فما نحسبه لا يناله أو تناله الشركة إلا بنصيب من الربح. وإنما قصد منه التعبير عن خبرة العامل فليس التاجر المحنك الخبير بمثل التاجر حديث العهد في هذا المجال.
وقد ذكرنا – فيما سبق – أن يضاف معامل إلى أجر المثل الخاص بالعامل وهذا لا يضاف إلا للعامل الفرد أو لأجر مدير الشركة أو مجلس الإدارة المعول عليه العمل واتخاذ القرارات الهامة، أما غيره فإما يكتفى آنذاك بأجر المثل والتكلفة في المدة، أو يؤخذون كلهم – كما قلنا هنا – بأجر الشركة لو أجرت لهذه الفترة كما جاء أعلاه، وهذا سيعكس خبرتها وقدرتها. وقد نحتاج لهذا المعامل أيضاً للتعبير عن اختلاف العرض والطلب في السوق في حالة كثرة الأموال المتجهة إلى عامل معين عرف بالخبرة والحنكة.
وقد ذكرنا أيضاً طريقة أخرى هي حساب المشروع مرة لو استؤجرت الأعيان من الغير، ومرة لو دفع بها المضارب فكان الفرق نسبة من الربح مستحقة له، وهذه الطريقة لا تستدعي احتساب قيمة منفعة المال بطريقة ربح الفرصة المضاعة وهذا لأننا أفترضنا أن الربح بينهما بالنصف قبل حساب الأعيان، وهذه فيها تقريب لا داعي له إذا اعتمدنا طريقة مقارنة ربح الفرصة المضاعة وأجر المثل وهي أعدل لهما ولله أعلم.
ويجب ملاحظة أن ربح الفرصة المضاعة هي من استثمار تقل المخاطرة فيه إلى حد كبير، وكذلك أجر المثل المقارن به، فيكون العائدين قد حسبا في ظروف متماثلة فيمكن معرفة نسب التفاضل بينهما. فإن قيل رب المال يخاطر بأكثر من هذا! أليس هذا من طبيعة المضاربة وما يحدث فيها! وأليس خراجه بضمانه! وإلا فلماذا يطيب له الأكثر من ربح هذه الفرصة المضاعة. فإن قيل علاما يطيب للعامل الأكثر قلنا أن قيمة منفعة عمله بأجر المثل ليست هي قيمة منفعة عمله في المضاربة فهذه تقاس بمعيار الربح وقد كثر الربح بعمله في المال فكثرت وإن قل قلت.
وليس ربح الفرصة المضاعة حقاً لرب المال وليس أجر المثل حقاً للعامل، فلا هذا استثمر ماله في العقار ولا هذا استؤجر هو وأعيانه على العمل ليستحق أجر المثل وإنما هي بغرض المقارنة، وليس لأحدهما حقاً إلا في الربح إذا كان ثمة
ربح. هذا بنماء ماله وهذا بعوض عمله، وإنما كانت أجور المثل ومنفعة المال للمفاضلة والمكافأة بينهما لا غير.
<< previous page | next page >> |