الفصل السادس – المضاربة في التجارة والصناعة

 بدأنا هذا البحث بما ذكر عن عزوف أصحاب الأموال والبنوك الإسلامية عن الإستثمار من خلال المضاربة لما ذكر من فساد بعض العمال الذين خانوا الأمانة، وقد أحزننا هذا لما لمسناه من أن أموال المسلمين لا تستثمر في الوجوه التي تخلق صناعات جديدة توفر فرص عمل للناس ومكاسب شرعية لهم تقوى بها الأمة وتعلو بين غيرها من الأمم، والاقتصاد الإسلامي هو اقتصاد راسخ يقوم على أسس عادلة وهذه فرصتنا التي شاء الله أن تولد في هذا الزمان وواجبنا أمام ديننا الحنيف أن نبذل أقصى الجهد لانجاحها، وهي بلا شك ناجحة في نظريتها ومبادئها ولا أشك أننا لو طبقنا هذه المبادئ لأثبتت للعالم كله تفوقها الذي لا جدال فيه على غيرها من النظم الوضعية الاقتصادية.

ومن أجل هذا العزوف عنها، ولمحاربة الذين أفسدوا من بعض أصحاب الأعمال لو صح ما جاء عنهم – ولقطع الطريق عليهم اجتهدنا للوصول إلى صيغة المضاربة التي لا يستطيع محتال أن يكتسب منها، فقلت يتحمل شيئا من نفسه أو ماله فقيل لي ليست هذه المضاربة، والمضاربة التي قالوها وقرأتها في الكتب المعاصرة مضاربة تعتمد – في الدرجة الأولى – على أمانة العامل، النفقة والأجر من رأس المال أو من الربح والخسارة على رب المال، فإن كان هذا فلماذا يستحق العامل نصيباً من الربح، قيل بفكره وقرارته الحكيمة، ولكن المضاربة لم تشرع للعباقرة فقط، قالتاجر مثله الآلف ويجوز له أن يضارب، بل وربما هذا هو المقصود مساعدته وتوفير المال الذي يحتاجه فلا يجبر على التمويل الربوى.

فعدت إلى ما قاله الفقهاء في القديم، قالوا النفقة من ماله، والعمل الذي جرت العادة أن يعمله إن استأجر عليه فمن ماله، وماذا عن آلته ودكانه قالوا لو عمل ما كان يجوز أن يستأجر عليه فلا أجرة له. وقالوا لا يكون مع المضاربة بيع ولا اكراء ولا عمل ولا سلف ولا مرفق يشترطه أحدهما لنفسه دون صاحبه إلا أن يعين أحدهما صاحبه على غير شرط على وجه المعروف إذا صح ذلك منهما. ولا أكل مال بالباطل ولا غرر ولا جهالة ولا خراج إلا بالضمان ولا كسب بدون مال أو عمل أو ضمان فلا ينال أحدهما من نصيب الآخر.

إذن فالمضارب يمكن أن يخسر مالا وإن كان مال منافع، بل ويخسر قبل خسارة صاحبه، وهذا يمنع الشركة المضارب أن تستأجر نفسها فلا مصاريف مكتب رئيسي ولا أجرة عن العمل الذي تقوم به فهذان عوضهما في الربح.

فإذا كان رأس المال مليون جنيه وكانت مصاريف المكتب الرئيسي ستون ألفا والمتجر والمخزن والشاحنة مائة ألف وكان ثمن البيع مليون وثلاثمائة ألف فأن الربح سيكون ثلاثمئة ألف فلو كان للشركة ثلثاه وللبنك الثلث فقد ربحا جميعاً. ويكون عامل أمان البنك هو ثلاثمائة ألفا لا يخسر إلا لو كان ثمن البيع أقل من مليون. ويصعب حدوث هذا في تجارة تمت دراسة جداوها من قبل المختصين في البنك.

ولو أراد العامل أن يرفع نسبته فزاد في تقديرات منافعه قلت نسبة البنك من الربح فخرج المشروع عن نطاق صلاحيته للإستثمار. ولو زاد في ثمن المبيع ليظهره أصلح من حقيقته قلت نسبة نصيبه من الربح فإن كان الربح الفعلي أقل مما قال كان نصيبه أقل.

فتصبح دراسته التي يقدمها شاهداً عليه، فإن تلاعب فيها وقع الضرر عليه، فتعود المضاربة إلى أصحاب العمل الأمناء الصادقين والذين لن يضيرهم هذه الحماية للبنوك لأنهم سيتقدمون بمشروعاتهم وفق تقديراتهم الصادقة التي بعون الله ستتحقق فينال كلا منهما نصيبه، فإن قدر الله لهما الخسارة فهذا من قواعد المضاربة ولا يخسر العمال إلا منافع أبدانهم وأعيانهم ويبقون على أصولها فلا تصاب بيوتهم بالخراب كما يحدث عند الخسارة مع البنوك الربوية.

وهناك أهمية أخرى لهذه المضاربة وهي مجال الصناعة، لو فرضنا أن صاحب مصنع قائم يشتري مواد خام وينقلها إلى مصنعه فيصنّعها بماكينات مصنعه ثم يبيعها إلى التجار، هذا عمل مستمر متواصل؛ وأنه لنقص التمويل لا يعمل بكفاءة المصنع القصوى، وهو يملك المصنع والمعدات والمخزن، فأعد دراسة جدوى الإستثمار وكانت كما يلى:

Chapter6-Pg334

وطلب من البنك 720.000 كرأس مال مضاربة والربح بينهما أو ثلثاه له أو غيرهما.

فلو نظرنا إلى هذه الدراسة نجد أن استهلاك المعدات أو قيمة منافعها وأجر المبنى والمخزن هي أجور أعيان يملكها هو والأجر عليها لنفسه وهذه أولاً لا تجوز، وثانياً هو لا يحتاج لتمويلها فهي ليست مدفوعة لأجنبي. وتكاليف المكتب الرئيسي كذلك إضافة إلى أنها بمثابة النفقة وهذه من ماله ويصرفها سواء صارت المضاربة أم لا. ورب المال ليس له قصد في أي من هؤلاء ومجموعهم 130.000  فيكون ما يحتاجه كرأس مال 590.000 فقط.

ومنفعة رأس المال بحساب ربح الفرصة المضاعة – شراء عقار وتأجيره – بفرض أنها 8% في العام هي 47.200  فإن كان الشراء والعمل والبيع لن يستغرق سوى تسع شهور، تكون منفعة المال 35.400 وتكون منفعة العامل ومنافع أعيانه 130.000 فتكون القسمة 21.4% لرب المال و78.6% لصاحب المصنع، فإن تحقق البيع كما جاء في الدراسة يكون الربح هو ما يتبقى بعد إعادة رأس المال إلى ربه وهو 310.000 فيأخذ رب المال منه 66.340 ويأخذ العامل 243.660 وهذا يشمل عوضه عن منافع أعيانه وربحه.

فيكون عائد رب المال في تسعة شهور عن ماله 11.23% أي؛ معدل15% في السنة. ويكون عائد العامل على منافعه وفق تقديره هو 87.4% وهذا يعكس درجة مخاطرته وثمن خبرته.

فإن هلك جزء من المال بدون تعد من العامل أو أعرض التجار عن الشراء أو انخفض سعر المنتج وكان ثمن المباع أقل من رأس المال تكون الوضيعة على رب المال وحده وليس على العامل شيء.

وليس على العامل غرم إذا تلفت معداته بدون تعد إلا أن عليه اصلاحها
أو التصنيع في مصنع آخر والأجر من ماله فان تأخر العمل فليس عليه غرامة
أو عقاب إلا أن يكون قد أهمل أو فرط، وإذا انفسخت المضاربة فعليه الانضاض.

ولو كان البنك مضارباً لمودعيه فيفاضل بين منفعة المال وحصة المشروع من تكاليف البنك فإن كانت تكاليف البنك عشرة آلاف ومنفعة المال 35.400 فإن ربح المضاربة الأولى ستكون 22% للبنك و 78% للمودع وهذين من نصيب البنك في المضاربة الثانية وهي 66.340 فيأخذ البنك 14.595 ورب المال – المودع – 51.745 وهذا ما يربحه في تسعة شهور فيكون عائد المودع 11.7% في السنة.

ويجب على البنك الاتفاق على نسبة نصيبه من الربح عند العقد الأول وقبل أن يعرف العمل الذي سيستثمر فيه المال، إلا أن نسبته تعود إلى عمله في الدراسة والتعاقد وهذه لا علاقة لها بالعقد الثاني والذي يتعلق به المتابعة وإستلام التقارير وغيرها، وهذه الأعمال تكون في العادة 1% إلى 2% من قيمة المشروع والذي هو قد يكون أكثر من رأس المال بقيمة منافع العامل ونفقته. وحيث أن هذا يقارن بربح الفرصة المضاعة للمال وافترضنا أنها 8% فالاقتراح أن يكون نصيب البنك من ربح المال في المضاربة الثانية بين الخمس والربع، وهذه تختلف من بلد إلى بلد ومن عام إلى عام لأنها تعود إلى اختلاف ربح الفرصة المضاعة والتي قد تتراوح بين5% إلى 12% وكذلك اختلاف مصاريف البنوك والعائدة إلى أجهزتها افنية وخبرتهم وغيرها من الأمور التي تميز البنوك عن بعضها، والحكم في هذا سيكون في مقارنة عائد المودع من الإستثمار بالعائد الذي كان ليحققه من ربح الفرصة المضاعة، فإن كان أقل فإن البنك لن يدفع المال مضاربة فيبقى المال وديعة لصاحبه أو يعاد إليه بدون ربح لأي منهما.  

والحمد لله، إذ ينتهي هنا هذا البحث فإن كانت منه فائدة فإنها من عند الله تعالى، وإن كنا قد جانبنا الصواب فإننا نسأل الله عز وجل المغفرة والعفو ويشفع لنا أننا قد اجتهدنا تحدونا رغبة صادقة مخلصة في رفعة ورخاء هذه الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس، ولله وحده العزة والإجلال، والحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد رسول الله.

<< previous page next page >>