الفكر الديني والفكر العلمي التجريبي
لو قسنا الإنجاز الحضاري بمدى التقدم في العلوم التطبيقية والمخترعات التي تقدمها لتوفير الرفاهية للإنسان، فسنجد أن الإنجازات التي حققناها في القرون الأربعة الماضية بصفة عامة، وفي القرن العشرين بصفة خاصة، تفوق الى حد كبير كل المنجزات البشرية في آلاف السنين التي سبقت.
نسمي عصرنا هذا عصر العلم التجريبي، هذا العصر المتميز، الذي يختلف كثيرًا عن العصور التي سبقته، لقد بدأ ظهور الإنسان الأول على سطح الأرض قبل ملايين السنين، تنوع وتطور خلال هذه الدهور حتى ظهرت أوائل السلالة التي ننحدر منها منذ نحو مائتي ألف سنة. ونما حجم مخ الإنسان حتى وصل الى حجمه الحالي قبل زهاء ثلاثين ألف سنة، خطا بعدها خطوات بطيئة، الى أن بزغ فجر الحضارات الإنسانية منذ نحو عشرة آلاف سنة، وتطور العلم في هذه الحضارات تدريجيًا وببطء، حتى ظهور العلم التجريبي الحديث.
كان الفكر الإنساني في هذه المراحل السابقة موجها نحو إكتشاف الغايات التي وُجد هذا العالم من أجلها، كان من المسلمات الفكرية لديه أن لكل شئ غاية وهدف، فنتج عن هذا الفكر عالمًا تحكمه وتنظمه القوى الغيبية، وكان واجب الإنسان أن يؤمن بهذه المسببات الغيبية، لا أن يعقلها أو يفهمها. ثم ظهر العلم الحديث منذ نحو أربعمائة سنة، وتبعته الثورة الصناعية، حتى أوائل هذا القرن، وبعد حربين عالميتين، انطلقت ثورة تكنولوجية، قفزت بالإنسان عبر آفاق جديدة لم يكن أحدا ليتخيلها من قبل.
ان هذه الطفرة الحضارية، لم تكن دون ثمن، فقد كان الفكر الإنساني قبل عصر العلم الحديث، ينعم بالثقة النابعة من الإيمان بالمطلق، الكون بتصميمه الرائع ودقة صنعه، يشير الى صانعه، كان لكل شيئا غاية نبيلة، ليس الخير والجمال والشر والقبح مشاعر إنسانية وضعية، بل هم حقائق كونية مطلقة، القوانين والشرائع سماوية منزلة، والعدل الألهي يتحقق في نهاية الأمر. كانت الأرض تقع في مركز الكون، كل شئ يدور حولنا، كل ما في الكون مسخر من أجلنا، وكنا نحن البشر، نحتل مركزًا مرموقًا من هذا الكون، إذ كنا غاية هذا الكون.
ولكن العلم الحديث نزع منا الإطمئنان والثقة، اللذين نبعا من الإعتقاد بالمطلق، وبالغيبيات والروحانيات، ليستبدلهما بالثقة المفرطة في قدراتنا العلمية، وفي قدرتنا على ترجمة هذا الكون الى نظريات ومعادلات وأرقام. بدأ هذا عندما أكتشفنا أن كل شيء في هذا الكون المشاهد، يتبع بضعة قوانين، أكتشف نيوتن أنها تعمل في الأرض وفي السماء a . فجأة أصبحت السماء بكواكبها ونجومها معقولة، النجوم ما هي إلا شموسا مثل شمسنا، ففقدت سحرها ورونقها، وفقدنا مركزنا المرموق، وأصبحنا سكان كوكب عادي يقع على أطراف مجرة عادية، في كون شاسع مترامي الأطراف، يمتلأ بمئات البلايين من المجرات الأخرى.
نشأ الخلاف بين العلم والدين، مع توالي الإكتشافات العلمية، وبعد أن بدأ يتبين تعارضها مع بعض ما استنبطه الإنسان، مما اعتقد أنه ما نوهت اليه النصوص الدينية، بل أن هذه التفسيرات وبعد مضي مئات السنوات عليها، اتخذت لنفسها قدسية غمّت على النصوص الأصلية وأصبحت بأشباه المسلمات التي يعتبر مخالفتها مخالفة للنص الديني b . وهذه بالطبع يمكن تجاوزها بالعودة الى النصوص الأصلية ودراسة مدى حقيقة الإختلاف والتوافق بينها وبين ما هو صحيح من علومنا.
ولكن الخلاف قد لا يكون نابعًا فقط عن الإختلاف بين الفهم الذي انبثق عن فهم النصوص وذاك المنبثق نتيجة البحث العلمي، فهناك أيضًا الخلاف في المنهج، البحث الديني يقدم النص على العقل، بينما البحث العلمي يقدم العقل على كل شيء، بل ولا ينظر الى النص في أغلب الأحوال. والفكر الديني ينظر في الغايات، بينما يبحث الفكر العلمي في الأسباب، ويفترض عدم وجود الغايات من الأصل.
النقل والعقل:
يشترط الدين الإيمان بالغيب، وأركان الايمان هي الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الأخر والبعث بعد الموت وبأن القدر خيره وشره من الله تعالى. والإيمان بالغيبِ، يعني أيضًا الإيمان دون توفر الأدلة والبراهين الحسية، ويرى البعض أن في هذا تغييبا للعقل، وهذا صحيحًا في مجاله فقط، أي فيما يتعلق بالأمور الغيبية، إلا أن بعض الفقهاء، يعممون هذا الشرط فيضعون النقل فوق العقل في كل شيء، ويجعلون وظيفة العقل تنحصر في فهم النص والعمل به c .
قلنا يقوم الإيمان على شرط التصديق الغيبي، والغيبي هنا هو ما غاب عن الحواس. والعقل لا يدرك إلا ما يحسه، وما يقيسه ويستنبطه عما يحسه.
قد نجد أسبابا كثيرة لنبين لأنفسنا لماذا تطلب منا الأديان أن نؤمن بالغيب المطلق، أي نؤمن دون أن نشاهد أو نلمس أو نجد دليلاً بيّنًا قاطعًا، ربما أهمها أن عقولنا لا تستطيع الخوض في أمور لا يمكن الإستدلال عليها أو إستنباطها. ولا شك أننا سوف نصل الى طرق مسدودة كلما توغلنا في هذه العوالم الغيبية، أيا كان الإتجاه الذي نتوجه فيه، وقد يدلنا هذا الى أن العقل الذي نشأ ونما في كون مشاهد رباعي الأبعاد d ومغلق، يعجز عن تصور أي نظام أو تكوين يختلف عما نشأ فيه، سواء كان هذا النظام داخل أو خارج كوننا. فبفرض أن كوننا متعدد الأبعاد لأكثر مما نعرف، فلن يستطيع عقلنا تخيل كون ذو خمسة أو عشرة أبعاد، وهذا بالرغم أن بعض العلماء يعتقدون أننا نحيا فعلا في كون ذي عشرة أبعاد، أما ما هو خارج هذا الكون فيستحيل علينا محاولة التفكير العلمي في ماهيته لو كان مختلفًا عن كوننا e ، وأي تخيل له سيكون مضيعة للوقت وعبثًا ولغوا لا خير فيه، ولهذا كان التحذير بل الأمر أن نؤمن بالغيب رحمة بنا. والعجز العقلي لم يكن يومًا دليلاً على عدم وجود الشيء، ولهذا فالطرق المسدودة التي نصل اليها كلما حاولنا التوغل في هذه الغيبيات، لا يعني بالضرورة أنه لا شيء هناك، وانما يدلنا ببساطة أن قدراتنا العقلية تعجز عند هذه الحدود، والموضوع ليس فقط حدود قدرات، وأنما قد يتعداه الى أن البديهيات والمسلمات التي نبني عليها كل أحكامنا وتصوراتنا؛ قد تكون محلية وتصلح فقط في هذا الكون وربما في الجزء المشاهد منه فقط، وقد يكون لعوالم الغيب بديهيات ومسلمات تختلف عما نعرفه.
وهذا بالضبط ما سيتوقعه الفكر العلمي الحديث، فالعقل الذي هو –وفق الفكر العلمي الحديث- نتاج عملية تطورية حدثت على كوكب منعزل، أي أنه من نتاج هذا الكوكب وهذا الكون، وظيفته أن يمنح هذا المخلوق قدرات محددة تساعده على بقاء واستمرار النوع، أما الفرد الذي يهتم بما سيؤول اليه بعد موته، فيسأل الأسئلة الكثيرة التي نسألها، فيبدو أنه لم يكن ضمن الخطة التطورية لو صح التعبير، بالطبع سيقول علماء التطور أنه لم يكن هناك خطة تطورية كما ذكرنا تجاوزًا، وأنما تطورت الحياة عن طريق موائمتها للظروف المحيطة بها ونتيجة عوامل أخرى مما شرحته بإسهاب نظريات التطور المختلفة. وعلى أي حال، فالعقل الذي نشأ ولم تتعدى قدرته قدر حاجته للتعايش مع ما يحيط به وما يدركه من خلال الحواس التي تنقل اليه المعلومات عن العالم المدرك الذي يحيا فيه، يكون عاجزًا عند محاولة الأبحار الفكري خارج حدود الكون المشاهد أو خارج الأبعاد الكونية الأربعة التي نشأ فيها.
ومتى سلمنا بعجز العقل الإنساني، نجد أن شرط الإيمان بالغيب يصبح ضرورة، وليس تغييبًا للعقل، بل تنويهًا الى قصوره وعجزه، والملحد وان يرفض الإيمان بالغيب، يقبل أن احتمال وجود عوالم خارج كوننا وخارج حدود إدراكنا ممكن، ويتفق أيضًا ان عقلنا البشري عاجز وقاصر عن الإبحار العلمي في هذه المجالات.
وعليه، نجد أن عقلنا البشري تنحصر قدراته في فهم العالم المشاهد المدرك بالحواس، وما يستنبط منه ويقاس عليه، يقابله عالم الغيب وهو الغير مدرك بالحواس ولا يقاس عليها أو يستنبط بها، وهناك الغيب الممكن استنباطه ومعرفته بالقياس، وهو بعض الغيب الزمني، الذي يمكن ادراكه وعقله سواء كان ماض أو مستقبلي طالما هو متعلق بهذا الكون المعقول، مثل أنباء الغيب وقصص الأنبياء، أما اذا كان الغيب مكاني أو زماني متعلق بشيء خارج هذا الكون، وربما داخله ولكنه خارج حدود الإدراك، فهذا يستحيل عقله. أي أن عالم الغيب هو ما لا ندركه بحواسنا ولا يماثل ما ندركه بحواسنا.
وأي دراسة علمية، يجب أن تنحصر ضمن موضوعات الكون المدرك بالحواس أي الممكن عقله، أما الموضوعات المتعلقة بعالم الغيب الغير مدرك، فهذه تخرج عن نطاق هذه الدراسة، وهذه ما أشار اليها الكتاب في قوله تعالى ” الذين يؤمنون بالغيب”، والأمور الغيبية في القرآن، هي جزء منه وليس كله، إذ أن الباقي معقول، أي يمكن عقله وفهمه ومقارنته بالواقع، ومتى صح وصلح المعقول المدرك مما ورد في الكتب السماوية، فللإنسان أن يصدق بالغيبيات الواردة أخبارها في هذه الكتب، مع أخذنا في الاعتبار أن لغتنا وألفاظنا لا تعبر عن هذه المعاني بدقة، وأنما تقدم أقرب تشبيه في عالمنا للأشياء الغيبية التي ليس لها مثل عندنا.
العلم وتغييب القدرة الإلهية:
من الطاقة والجسيمات الأولية، وأربعة قوى، وثابت رقمي، من عالم مظلم صامت لا حركة فيه ولا مكان ولا زمان، بدأ الزمان وتمدد المكان، وتكونت الألكترونات والبروتونات والنيوترنات، ومن هؤلاء تكونت الذرات، ومن اتحاد هذه الذرات مع بعضها البعض، بطرق متعددة مختلفة، وعبر بضع عشر بليون سنة، نتج هذا الكون المدرك، كله وبكل ما فيه، بمجراته ونجومه وكواكبه، ببحوره وشواطئه، بجماده وأحياءه، منها نتجت هذه المناظر الخلابة التي نراها على الأرض، ومنها نتج من ينظر إليها ويستشعر روعتها، منها كل ما نحسه ونشعر به، ومنها ما نأكله ونشربه، منها الجمال والقبح، والألوان والعطر، والشعر والموسيقى، فقط من جسيمات أولية، متناهية في الصغر، لا نستطيع أن نراها بأقوى مجاهرنا، جسيمات لا نستطيع البت هل هي جسيمات أم موجات، لا لون لها ولا حياة، ينبثق منها كل ما ندركه ونعيه ونشعر به.
لأول وهلة، قد يبدو هذا مستحيلا لا يقبله العقل السليم، ولكنه صحيحًا، وهذا ما قد يكون ما حدث فعلاً في كوننا، وهذه هي المعجزة الكبرى، الماثلة أمام أعيننا، والتي يعود إليها الفضل في وجودنا، ليتسنى لنا أن نراها ونعقلها ونتعجب منها. كيف نجحت هذه العملية حتى الآن، لا أحد يستطيع تقديم أجابة مقنعة، فالإتزان الدقيق الذي احتاجته كل خطوة من خطوات التطور الكثيرة المتعاقبة، يضع احتمال نجاح أي من هذه الخطوات في مصاف المستحيلات، وقد أدلى العلماء بدلوهم وأفضل ما وصلوا اليه هو فكرة الأكوان اللانهائية العدد، والتي فشل معظمها، ولأن عدد الأكوان المتطورة كان لانهائيًا، فاحتمال أن ينجح ولو كونًا واحدًا منها ممكنا، ولأننا نحيا في كون مستقر، نستطيع التأكيد بنجاح واحد على الأقل. لقد احتاج العلم الى عددًا لا نهائيًا من الأكوان الفاشلة لينتج كون واحدًا هو كوننا، بينما يجد علماء الدين أن العناية والتخطيط الألهي يكفيان لتفسير هذه الدقة المتناهية والمعجزات المتتالية.
ولكننا نقول أن الكون يجب أن يكون معقولاً بمنأى عن المعجزات وعن الأكوان اللامتناهية في عددها، ولا بد أن نجد تفسيرًا أفضل من هذين، وربما علينا أن لا نتسرع فما زالت البحوث مستمرة، ولم نصل بعد الى نهاية الطريق.
الموضوع هو مدى ثقتنا بقدراتنا العقلية، واستطاعتها فهم الكون المدرك، وبالرغم أننا قد وصلنا في الماضي الى طرق مسدودة كثيرة، إلا أننا أيضًا قد ولجنا من أبواب كانت في الماضي سدودًا، ولو هرعنا عند كل حاجز الى قدرة الله تعالى لتفسر لنا ما استعصى علينا، لتوقف التقدم العلمي منذ أمد بعيد. وهذا ما يخشاه العلماء، ويرفضون الإستعانة بالقدرة الإلهية لسد كل فجوة علمية لا يستطيعون تفسيرها، لأن هذا سيؤدي حتمًا الى القضاء على الفكر العلمي. ولهذا السبب أيضًا، ظهر الخلاف بين العلم والدين، فمتى رفض العلماء الإستعانة بالقدرة الإلهية، وهذا كما بينا من ضروريات البحث العلمي، بدوا وكأنهم ينكرونها، ومنهم الكثير ممن يؤمن، إلا أن هؤلاء إما فصلوا ما بين إيمانهم وبحوثهم العلمية، أو اعتمدوا أن الله تعالى جعل العالم المشاهد معقولاً. وإعمار الأرض لا يكون إلا بالعلم الذي دعت إليه الأديان وخاصة الدين الأسلامي، ولا حرج أن يسعى العلماء في معرفة الأسباب العلمية البحتة، ولا تعارض هنا مع الدين، بل هذا ما يحض عليه.
الأسباب والغايات:
قبل ظهور العلم الحديث، كان الفكر البشري يهتم بغايات الأشياء، ويعتقد ان لكل شيء في الكون غرض وهدف، وكان موجهًا في الأغلب نحو دراسة هذه الغايات والأهداف، وقد تغير هذا منذ عدة مئات من السنين، حين أعتبر العلم أن الأسباب هي ما يجب البحث عنها، فأصبح لا يهتم سوى بها، أما الأغراض والغايات – ان وجدت- فهذه تخرج عن نطاق العلم، وفي أغلب الأحيان ينكر العلماء وجودها.
عندما نبحث عن سبب وغاية أي ظاهرة طبيعية، نجد أن السبب في أغلب الحالات معقولاً ويمكن فهمه، ومتى توفرت الأسباب يمكن توقع حدوث الظاهرة مرة أخرى، أي يمكن أجراء التجارب وتوقع نتائجها. أما الغاية فهذه تفتح الباب أمام نظريات متعددة كل منها قد يقدم غاية مقنعة، وليس هناك طريقة علمية لإختبار أي منها هو الصحيح، بل وكل نظرية منها تفتح بابًا أو أبوابًا تحتاج الى نظرية أخرى أو غاية أعلى، وهكذا حتى نضطر الى اللجوء الى القدرة أو الإرادة الإلهية للتوقف عن الإستمرار في هذا التسلسل الفكري.
ويجب أن ننوه هنا ان ظهور العلم الحديث قد نشأ بناء على هذا المبدأ، فالأسباب ومنها القوانين الطبيعية هي ما ركز عليها الفكر العلمي منذ القرن السابع عشر، وهي ما أدت الى هذا التقدم العلمي الذي ننعم به. بينما الغرضية هي النظرة الدينية للعالم، والمبنية على أن الله خلق الكون لغرض معين، وان كل شئ في هذا الكون له هدف وغرض يتناسب ويتكامل مع التخطيط الكلي لكافة الأشياء والمخلوقات، حتى يصبح الشر جزءًا من الصورة الكبرى لهذا التخطيط. والإختلاف هنا أساسي، والنجاح الذي حققه العلم لا يعني بالضرورة خطأ الفكر القائم على غرضية العالم، فلكلا مجاله.
أن معرفة الغاية من الأسس الهامة التي يقوم عليها الفكر البشري ولا يصح الإنتقاص من قدرها، ولكنها لا تخضع لمناهج البحث العلمي ولا يمكن أجراء التجارب عليها، ولهذا فهي لا تدخل في مجال العلم التجريبي، ولكنها تدخل في العلوم الإنسانية الأخرى كالفلسفة والعلوم الدينية وغيرهما. إن محاولة معرفة الغايات هو موضوع مصيري بالنسبة للعقل المفكر، بل ويستفيد من نتائج البحث العلمي التجريبي، إذ كلما اكتشف العلم التجريبي الأسباب التي تفسر ظاهرة ما، نجد الفلاسفة يبحثون بحرية في هذه التفسيرات الجديدة، لا يحدهم ما يحد علماء الطبيعة.
ما نود أن نقوله هنا أن المنهجين صحيحين، كلا في مجاله، وإن انكار العلم التجريبي للغايات، أو بالأصح، رفضه الخوض فيها، هو من أهم القواعد التي يقوم عليها نجاحه، حتى يستطيع العالم التجريبي حصر أبحاثه فيما يمكن إجراء التجارب عليه، وتجنب الخروج عن موضوع بحثه الى موضوعات وان كانت عقلية إلا أنها لا تخضع لقواعد وشروط منهجه التجريبي.
وهناك موضوع آخر مختلف فيه، وهو موضوع أخلاقية الكون، يدعونا الإيمان الى الإعتقاد أن العالم يمثل نظاما أخلاقيًا، أي أن الخير والشر مطلقين، وأن العالم خيَّراً، بينما يعتقد بعض الفلاسفة أن القيم الأخلاقية ذاتية – أي تعتمد كلية على الرغبات البشرية أو على أي حالات ذهنية أخرى- وهذا يؤدي الى أن العالم ذاته يخلو من أي نظام أخلاقي. وهذا يقودنا أيضًا الى موضوعات الجمال والوعي والضمير، حيث نجد الفلسفة الرومانسية التي دافعت عن الدين وبينت ان هناك عالمان، عالم للدين وعالم للعلم، كلا له مجاله ولا علاقة بينهما الا من خلال الوعي الأنساني. عالم العلم هو عالم الزمان والأبعاد، بينما عالم الدين الروحاني هو عالم اللازمان واللا أبعاد، حيث تختلف المفاهيم وتتعطل القوانين، هو عالم الميتافيزيقيا. وهنا يجب علينا أن لا نخلط بين العالمين، فبديهيات وقوانين عالم المكان والزمان، لا تصلحان لعالم الروحانيات.
فان كان كذلك، فلماذا هذا البحث كله، إذا سلمنا أن القضايا الإعتقادية ليست خاضعة لأي من المناهج العلمية، فنحن نكون قد تركنا الأسلوب العلمي، وحررنا عقولنا لقبول أي شيء مهما يكون، ولم يعد لدينا أي وسيلة عقلانية للحكم على صحة أو خطأ أي قضية روحانية، وهذا صحيح؛ لو كان الأمر قد أقتصر على الموضوعات الروحانية، ولكن كافة الرسالات السماوية، قد تطرقت الى ظواهر وأمور علمية تخص عالم الزمان والمكان، وحيث أن هذا الجزء مما أشارت اليه هذه الرسالات بخصوص الموضوعات العلمية، يجب أن لا يتعارض مع علومنا الصحيحة، يصبح هذا هو موضوع البحث.
********
بناء على ما سبق؛ نخرج بالقواعد التالية، التي يجب علينا التقيد بها في هذا البحث:
إن العلوم التجريبية، هي المصدر الذي يقدم لنا نظريات مثبتة وصالحة للأخذ بها في مجالها، ومجال هذه العلوم هو العالم المشاهد بما فيه من الظواهر الطبيعية في الكون الذي نحيا فيه، وتشمل كيفية بدء وتطور الكون والحياة ونهايتهما، وأن هذه العلوم وإن لم تصل بعد الى كافة الإجابات والكيفيات، إلا أنها تسير في الطريق الصحيح إلى حد معقول. ولهذا نتوقع أن لا يتعارض فهمنا للنص الديني المتعلق بعالمنا المشاهد مع الصحيح مما وصلت اليه هذه العلوم. أما في الغيبيات والغايات، فليس لهذا العلم التجريبي أي عطاء في هذين الموضوعين، وبهذا فهما يخرجان عن مجال هذا البحث.
<< previous page | next page >> |
- كان الناس قبل هذا يعتقدون أن عالم السماء وكل شيء فيه ثابت لا يتغير ولا يتحلل، وأشياء عالم الأرض هي التي تتغير وتفسد وتتحلل. (back)
- حتى أن الكنيسة في القرن السادس عشر ميلادي كفرت العلماء وحاكمتهم وأجبرتهم على التراجع عما توصلوا إليه من صحيح العلوم. (back)
- وهذا صحيح، لأن النص الصادر عن الخالق، لن يتعارض مع الكون الذي أوجده، ولهذا فمتى آمن الإنسان يصبح هذا من أسس منهجه الفكري. (back)
- ثلاثة أبعاد مكانية وبعد رابع هو الزمن. (back)
- يعتقد العلماء أن صفات أي كون هي صفات نتجت خلال تطور هذا الكون وبالتالي تختلف عن الأكوان الأخرى التي قد تكون قد نشأت تحت ظروف مختلفة. (back)