الفصل الثاني – المعرفة البشرية

بسم الله الرحمن الرحيم

{ أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا } النساء 82

 

يعتبر أصحاب المذهب العقلاني مثل ديكارت ان الأفكار العقلية فطرية تولد مع الأنسان، وأن الحقيقة وليدة التصورات. بينما يعتبر التجريبيون مثل هيوم أن الأفكار مستمدة من التجربة الحسية عند الطفل وينكرون أي وجود للأفكار الفطرية، وأخذ “كانت” طريقًا وسطًا فقال ان حدود المعرفة الممكنة هي عالم الظواهر فقط، وأنكر قدرة العقل على أي فهم في مجالات الميتافيزيقا لأنها لا تخضع للتجربة الحسية.

 وعليه فان المجال الذي يجب أن ينحصر فيه البحث المقارن هو في المعرفة الطبيعية التي تدخل وعي الانسان عن طريق تفاعله مع مشاهداته في الطبيعة، أما المعرفة الغيبية فهذه لا يعرفها الإنسان إلا عن طريق الوحي و الرسل و الكتب السماوية.

          يعَّلمنا القرآن أن المعرفة أولها فطري، ثم تجريبي حسي، والمعرفة الفطرية التي يتناولها القرآن هي معرفة وجود الله تعالى. وفي الآيات الكريمة: {وكذلك أنزلناه قرآنًـا عربيا وصّرفنا فيهِ من الوعيد لعلهم يتقون أو يُحدِثُ لهم ذِكرًا * فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيهُ وقل ربِ زدنى علمًا * ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزمًا} طه: 113-115 .  يُحدث تدل على أن يكون الشىء بعد أن لم يكن. وذَكَرت الشىء خلاف نسيته، ثم حمل عليه الذكر باللسان أى الصيغة الصوتية اللغوية، والمعنى الأرجح هنا هو الذى يدل على التذكر؛ ولو أخذنا بهذا المعنى، فأن {..ويُحدث لهم ذكرًا..} a  تدل على أن القرآن قد يجعلهم يتذكرون، ويُحدث تدل أنهم يتذكرون شيئًا جديدًا عليهم لأن يُحدِثُ تدل على حدوث شيء بعد أن لم يكن. أى أنهم وان كانوا يتذكرون، فأنهم يتذكرون شيئًا وان كان فى ذاكرتهم، إلا أنه مدفونًا ولم يطَّلعوا عليه من قبل فى حياتهم هذه. وإذا عدنا الى أول العهد البشرى عندما جعل الله آدم ، وعندما أشهد كل ذرية بني آدم {وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} الأعراف:17. والمراد بالاشهاد هو فطرهم على معرفة الخالق، وفى قوله تعالى {فأقم وجهك حنيفا فطرت الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} الروم 30. والحنيف هو الميل عن الباطل الى الحق.

 ومعرفة وجود الله تعالى، تدخل في الموضوعات الغيبية، التي لا يقوم عليها دليل حسي مادي، وإنما يمكن الإستدلال عليها من خلال الوجود الكوني والحياة والوجود الإنساني ذاته، وليس من الممكن البرهان المطلق على هذا الإستدلال، وأنما يسلم له ويؤمن به، ولهذا فطرها الله في خلقه رحمة بهم.

           والعالم وفق النظرة الإسلامية يمثل نظاما أخلاقيا له غرض وغاية، وقد تكفل القرآن ببيان حدود الخير والشر، والغرضية الكلية للعالم، كما قدم تشبيهات للغيبيات، ودعا الى التسليم والإيمان بها، بينما ترك للبشر البحث عن المعارف والأسباب في العالم المشاهد. في قوله تعالى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(78) النحل. ما يدلنا أن المعرفة تكتسب بعد الولادة من خلال الحواس والعقل. أما الفطرة التي ذكرناها، فهذه فطرة وليست علما يقينيا.

 

الإستدلال بوجود التصميم :      

 الإستدلال على الوجود الألهي من خلال روعة ودقة التصميم، وأن الكون الموجود يستدعي بالضرورة من يوجده، هما نظريتان أتخذ كثير من العلماء والفلاسفة موقفًا معارضًا لهما، وبالرغم من اعتقادهم ان نظرية النشوء والإرتقاء والفهم الحديث للنظام الكوني قد قدما تفسيرًا يبين كيف يمكن لهذا الكون أن يصل الى روعة ودقة التصميم الذي هو عليه، دون الحاجة الى الإعتماد على القوى الغيبية. إلا أن التفسير أو التفسيرات التي قدموها، اعتمدت مبدأ الإحتمالات، لحل مشكلة الدقة اللامتناهية التي احتاجها الكون في كل خطوة خطاها في مسلسل تطوره. يقول مبدأ الإحتمالات أنه إذا كان إحتمال حدوث شيء ممكن، وكان عدد المحاولات لانهائيًا، فأنه سيحدث ولو مرة واحدة. ولأننا نحيا في كون ناجح من وجهة نظرنا، يمكننا القول أن واحدًا قد نجح؛ بينما هناك عددًا لا يحصى من الأكوان التي فشلت.

  يستطيع العقل العلمي المادي أن يقبل إمكانية حدوث مثل هذا، عن أن يسلم للقوة الخالقة المهيمنة. وكما ذكرنا فلا بأس أن نقبل بما يقول، إلا أن تقديم تفسيرا لا يقوم عليه دليل مادي أو تجريبي، لن يتعدى كونه تفسيرا آخر، التصديق به قضية إعتقادية وليست علمية، ولكل إنسان الحرية أن يختار أي من التفسيرين.

 كل ما نعلمه من البحث العلمي أن خلق الكون والحياة كان تطوريًا. بل وان قامت الأدلة العلمية على صحته، فلن يدل هذا بالضرورة أن الخالق غير موجود، إذ ليس هناك علاقة منطقية أو مباشرة بين هذه المقدمة وهذه النتيجة، بل ولماذا لا يكون التخطيط الألهي يشتمل على أن يكون الكون وليد تصميم تطوري معقول، أو وليد خطة محكمة ليبدو لنا كأنه وليد الصدفة b  أو الإنتخاب الطبيعي، أليس هذا ما سوف نتوقعه عندما تعتبر الأديان ان الحياة الدنيا مكان إختبار.

 نحن لا نختلف في ان علومنا الحديثة قد وصلت الى درجة تستطيع معها أن تفسر الكثير مما في هذا الكون، دون الحاجة الى اللجوء الى قوى غيبية كلما عجزنا عن تفسير ظاهرة ما، بل ان ما لا تستطيع هذه العلوم تفسيره مثل نقطة بدء الكون عندما تنهار كل القوانين الطبيعية التي نعرفها، لا يصح وفق المنطق العلمي الحديث، أن نلجأ الى القوى الغيبية لتفسر ما نعجز عنه، لأن اعادة كل ما نعجز وقتيًا عن فهمه الى القدرة الإلهية، يعطل قدراتنا الفكرية عن البحث في الأسباب الطبيعية، وهو ان خرج عن قدراتنا العلمية اليوم، فقد نستطيع تفسيره في المستقبل.

 إن احتمال ان نجد تفسيرا كاملاً لهذا العالم إن كان هناك مثل هذا التفسير، لا يعني مطلقًا أن الخالق ليس موجودًا، فكون العالم معقولا ليس له دلالة منطقية على أنه مخلوقًا أو غير مخلوق.

ومن الأصل، ليس من فروض الفكر الديني أنه في كون معقول، بمعنى يمكن فهمه وفك ألغازه، أن تكون وظيفة الخالق التدخل من آن الى آخر لسد النواقص التي لم تستطع مخططاته وقوانينه الطبيعية القيام بها، ولو كان الأمر كذلك، لكان التصميم الكوني ناقصًا، والنقص هو ما ننزه عنه الخالق. أي أن شرط أن يكون الكون معقولا، يمكن أن يرتبط إرتباطًا وثيقًا بكمال التصميم، ولو أشترطنا أن الخالق ضروريًا لإكتمال التفسير الطبيعي للكون، لتناقضنا مع أنفسنا، ولهدمنا الفكرة ذاتها التي سلمنا بصحتها وهي كمال التصميم.

           وتعتمد فكرة الإستدلال على وجود الله سبحانه وتعالى من دقة وروعة التصميم، على أن كل شئ في الكون سواء كان في السماء أو في الأرض، قد وجد ملائمًا الى درجة فائقة من الدقة، للغرض المطلوب منه، فالأرض مثلا على مسافة من الشمس بحيث تعطي الحرارة والدفء اللازمين للحياة على الأرض، ولو اختلف موقعها فاقتربت قليلا من الشمس فستزداد درجة الحرارة على سطحها ولاستحالت الحياة كما نعرفها عليها، وكذلك لو ابتعدت قليلا لانخفضت الحرارة ولاستحالت الحياة أيضًا، ولو لم تكن تدور حول نفسها، لما كان تعاقب النهار والليل، وما يقال عن الأرض، يقال عن أي شئ آخر، كتوافق التصميم المعقد للعين مع العمل المطلوب منها وهو الرؤية، وهناك الكثير من الأمثلة التي تبين توافق الأعضاء والمخلوقات والأجرام السماوية مع أغراضها، والتي نتجت من تعاون العدد الهائل من الأسباب بدقة متناهية، لتتمكن من تحقيق هذه النتائج أو الأغراض بنجاح فائق. ومع هذه الدقة، كان لا بد للعقل البشري أن يفترض وجود الفكرة والغرض والتخطيط المسبق والتنفيذ، والذي يستدعي وجود المصمم . المشكلة في هذا البرهان أنه يمكن أيضًا منطقيًا تفسيره بانه من الممكن أن تكون الصدفة وحدها هي التي تسببت في وجود الأرض في مكانها التي هي فيه، إذ أنها لو لم تكن وجدت في هذا المكان، لما نشأت حياة ولما كنا وجدنا على سطحها، ولما كنا لنسأل الأسئلة التي نسألها الآن!

 والصدفة التي نتحدث عنها ليست عمياء، بل أنها وليدة مبدأ الإحتمالات، ففي كون فيه آلاف البلايين من الشموس (النجوم)، من الممكن توقع وجود عددا كبيرا من المجموعات الشمسية التي تشبه مجموعتنا، وعندما تكون الأعداد المحتملة كبيرة جدًا، فمن المعقول ان نتوقع ان يصادف عدد ما من هذه الكواكب موقعًا مناسبًا حول شمسه، بحيث يتولد فيه مناخ ملائم كذلك الذي وجد على كوكبنا، وبالطبع لا يمكننا الجزم بوجود كوكب آخر في الكون المدرك مماثلا للأرض، بل ولا نستطيع حتى رؤية مجموعة شمسية أخرى، لأن الكواكب معتمة، وبالرغم أنه قد تم إكتشاف عدة مجموعات قليلة منذ بضعة سنوات، الا اننا علميًا نفترض وجود هذه المجموعات بكثرة ولكن ليس لدينا دليل مشاهد للجزم بوجودها.

 القصد من التدليل السابق، أن العلم يقول لنا، أن احتمال وجود أرضا بالصفات التي تسمح بنشوء حياة عليها ممكن وفق الإحتمالات التي ذكرناها، ونعلم أن واحدة على الأقل موجودة لأننا نحيا عليها. أي أننا وُجِدنا على الأرض، لأن ظروف الأرض وصفاتها أدت إلى وجودنا، وليس لأن الأرض وضعت بهذه الصفات وفي هذا المدار المحدد لتكون ملائمة ومناسبة لحياتنا عليها.   

 المثال الثاني الذي عرضناه هو نجاح العدد الهائل من الأسباب في التعاون لتكوين العين، أو اليد، أو الرئة، وتلائم الأعضاء c  مع بيئتها وغاياتها، هذا أيضًا قد لا يعود إلا لبقاء الناجح منها وتطوره بينما يضمر الفاشل ويندثر، وعندما نتحدث عن عدة بلايين من السنين استغرقها تطور الحياة على الأرض، فمن الممكن ان ينتج هذا التنوع الهائل من أنواع الحياة الملائمة لبيئتها ومن الأعضاء الملائمة للأغراض المطلوبة منها، ليس إلا لأن هناك عددًا أضخم بكثير قد لا يمكن حصره من المحاولات الفاشلة التي اندثرت، ولهذا فنحن قد لا نعلم عنها شيئا، أو قد نجد بعضها في الحفريات التي يقوم بها علماء تطور الأنواع، نحن لا نرى في زماننا هذا الا النجاح، ومنه نظن ان التخطيط الواعي الناجح هو ما أدى اليه، بينما من الممكن أيضًا – ونقول من الممكن ولا نقول بالضرورة أو حتمًا – أن يكون قد نتج عن طريق التطور وفق الإنتخاب الطبيعي أو أي عملية أخرى.

 تقوم فكرة البرهان بوجود التصميم، على تعاون الأسباب الكثيرة المعقدة، بدقة كبيرة على انتاج شيء مفيد في الغالب، ولكن في الحقيقة لو تتبعنا أسباب أي حدث في الكون، سواء كان مفيدًا أو مدمرًا، لوجدنا أنه ينتج عن تعاون عدد هائل من الأسباب المعقدة، واغلب الحوادث الضارة لم تنتج الا من تعاون عدد هائل من الأسباب، وبالرغم من ذلك، فاننا في الأغلب لا نطلق عليها انها نتاج تصميم بارع.

 فالفكرة تقوم دائمًا على أمثلة خيّرة، كالأرض، والعين، والشجر، والماء . ولكن الكون يمتلأ بالأشياء الخيرة والأشياء الشريرة وفق مقايسنا، وكلاهما ينتج من تعاون عدد هائل من الأسباب لينتج شئ معين، فالأوبئة التي تقضي على آلاف الناس، والزلازل والأعاصير والكوارث، كلها تنتج عن عدد هائل من الأسباب التي تعاونت مع بعضها البعض بدقة متناهية لينتج الفيروس أو الميكروب أو الإعصار. وحيث أن الناتج قد يكون خيرًا أو شرًا دون تمييز، يجد بعض الفلاسفة ان تفسير الصدفة أفضل لأن هذا ما سوف نتوقعه من الصدفة العمياء، بينما قد يعيد المؤمن وجود الشر الى حكمة إلهية، ومن الممكن أن نعيد وجود كلا من الخير والشر في عالمنا هذا الى الأرادة الإلهية ذاتها، والتي بالضرورة من مبادئ التصميم المتوقع لعالم يُختبر فيه الناس، إذ لن يصح هذا الإختبار إذا كان في هذا العالم خير فقط.   

           مما سبق، نجد أن فرضية الخالق لتفسير روعة التصميم ليست الفرضية الوحيدة التي تفسر الموجودات في الكون، الصدفة أيضًا قد تفسره، وكما سبق، لا يعني الإستدلال السابق أن فيه البرهان على صحة أي تفسير منهما وخطأ الآخر، بل يعني أنه لا يوجد برهان قاطع، كلاهما يفي بالغرض ويوفر التفسير المطلوب، ومع غياب الدليل الحسي التجريبي خاصة في لحظة البدء، يبقى التفسيران كما هما، تفسيران لا أكثر، ومع صلاحية التفسيرين، يصبح موضوع إختيار أحدهما ورفض الآخر موضوعًا إعتقاديًا لا علميًا، بل وكما جاء سابقًا نحن نجد انه من الممكن أيضًا الإعتقاد في الفكرتين معًا، طالما أن المخطط الألهي قد يشتمل على مبدأ الخلق التطوري المعقول، أي الذي يستطيع البشر عقله.

           المشكلة الأخرى التي قد يوردها أصحاب التفسير بالصدفة، أو ما أُطلق عليه معقولية العالم، هي أنه لو كان الكون مخلوقا، فما الداعي لبلايين السنوات التي استغرقها هذا الخلق حتى نصل الى ما وصلنا اليه، وحتى يصبح العقل البشري قادرًا على تلقي هذه الرسالات السماوية التي تعده للإختبار الدنيوي الذي نتحدث عنه. هل التصميم يستدعي هذا التطور البطيء والإنتخاب الطبيعي الذي عرض المخلوقات لعدد لا يحصى من المحاولات الفاشلة والأنواع المنقرضة ليستمر الناجح منها فقط في سلم التطور، لو كان الكون مخلوقًا وفق تصميم رائع كما يدعي أصحاب برهان التصميم، لسار وفق الخطة المحددة دون المحاولات العمياء التي تشير اليها نظرية الإنتخاب الطبيعي. نحن عندما نصمم منزلا، وان نمر بكثير من المحاولات التصميمية التي توصلنا في النهاية الى التصميم السليم، نبنيه ونعلم أنه صحيح، ولا نبني عددا كبيرا من المنازل ينهار معظمها حتى ينجح أحدها فنسكنه، ثم نبني الباقي على منواله d . الرد على هذا يعود بنا الى ان الكون يجب أن يكون معقولاً، دون أن يبرهن بالدليل القاطع على وجود الخالق، حتى لا تنتفي شروط الإختبار الدنيوي، وأليس هذا بالضبط ما نحن فيه الآن، العالم معقولاً، ويمكننا تفسيره بالعقلانية البحتة، وبالوجود الألهي، ولدينا الحرية الكاملة في الإختيار بين أي من التفسيرين.

 وهل لا يكون العالم معقولاً لو اتبع التطور بضعة قوانين يتم التطور من خلالها بنجاح دائم دون الحاجة للمحاولات الفاشلة!  القوانين موجودة وهي وحدها ما ينتج عنها الإنتخاب الطبيعي وربما البقاء للإصلح، أما ما سنحتاجه آنذاك هو خطة واضحة ذات غرض وغاية، ومع وجود الخطة والغرض والغاية سيكون العالم آنذاك أيضًا معقولاً، ولكن الخطة الحتمية سوف تدل بقوة وببرهان لا يقبل الشك على غاية التصميم، وبالتالي ستكون دليلا قاطعا على وجود المصمم، وهذا ما حرص التصميم على تجنبه. بالطبع التطور الطبيعي له قوانين تحكمه، الإختلاف هنا في غياب الخطة أو الغاية. أو ربما يمكن القول في إخفاءها عنا. أما الإمتداد الزمني فلا أهمية له، خاصة أننا نعلم أن الزمن ما هو الا من نسيج وخصائص عالمنا نحن، لا عالم الخالق، وما قد نظن أنه زمن طويل قد لا يتعدى لحظة مقارنة بعالم لا زمان فيه، إن صح التعبير!

           وهناك إضافة نود عرضها بخصوص المحاولات الفلسفية والدينية لإثبات وجود الله إعتمادًا على العقل وحده، إن القرآن الكريم يستهل آيات السورة الأولى بعد الفاتحة {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}   ويتضح من هذا أن الإيمان في هذه الأمور يجب أن يكون غيبيًا، وأتوقع أن تفشل كل المحاولات البشرية لتقديم الاثبات القاطع بوجود الخالق، سواء كان علميًا أو فلسفيًا. وهذا منطقيا إذا قبلنا بفكرة الوجود البشري في مرحلة الإختبار، إذ تنهار فكرة الإختبار، والخير والشر، وتصبح الحياة الدنيا بلا معنى فور ظهور الإثبات القاطع، وفي قوله سبحانه وتعالى ما يبين مثل هذا { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمامِ والملائكة وقضي الأمرُ وإلى الله ترجع الأمورُ} البقرة 210، وقوله تعالى: {ولو شاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض} سورة محمد 4 ، فجُعل هذا في غير متناول البشر وخارج عن حدود قدراتهم، ولهذا حتى القرآن ذاته وهو كلام الله تعالى، ليس مفروضًا فيه أن يكون دليلاً قاطعًا، إذ يمكن أن تعمى عنه القلوب والأفئدة. يقول الله تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: { وإن كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} 6/36

          إلا ان الرسالة بينت أن القرآن فوق قدرات البشر، وقد تحدت من أنكروه أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله، أو بسورة واحدة مثله، وقضت بعدم إستطاعتهم،  وهذا الدليل القاطع لا يراه إلا المؤمن، أما الكافر فقد يجادل فيه. أي أن هذا التحدى بالرغم من قطعه بفشل كل من يحاول أن يأت بمثله، لم يؤدي في حينه الى إسلام كل مشركي مكة، وهو بهذا لا يكون الدليل القاطع.

ولو شاء الله لآمن كل من في الأرض، إلا أن الأرض دار إختبار، كما يتبين في قوله تعالى: {…وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ…}  المائدة. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} الأنعام.  {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} النحل.

<< previous page next page >>
  1. جاء في تفسير الطبري: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} يَقُول : أَوْ يُحْدث لَهُمْ هَذَا الْقُرْآن تَذْكرَة , فَيَعْتَبرُونَ وَيَتَّعظُونَ بفعْلنَا بالْأُمَم الَّتي كَذَّبَتْ الرُّسُل قَبْلهَا , وَيَنْزَجرُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْه مُقيمُونَ منْ الْكُفْر باَللَّه.  (back)
  2. الصدفة تعبيرًا يستخدمه الناس، بينما الفرض العلمي تولد من مبدأ الإحتمالات، أي لو كان هناك عددا لانهائيًا من المحاولات، فمن الممكن نجاح واحدة على الأقل في إنتاج شيء مفيد، ولأن كوننا موجود، فنحن نعرف أن واحدَا على الأقل قد نجح بينما فشل عددا كبيرًا غيره (عدد المحاولات الذي يقصدونه يتجاوزآلاف البلايين) .  (back)
  3. ولا يوجد غرضية مسبقة عند الكائن ذاته لتكوين عضو ما أو عين، وانما هو رد فعل خلايا الكائن الأول لما حوله، فان كان في مكان شديد البرودة مثلا، سمك غشاءه الخارجي، وان كان يتعرض للضوء، اختصت بعض الخلايا لإستشعار الضوء، وهكذا.  بدأ الكائن كخلية بسيطة من وتعتمد على التفاعلات الكيميائية الموجودة في الطبيعة، واستغرق بليوني سنة ليتطور الى خلية لها نواة محددة، ثم تجمعت بعض الخلايا مع بعضها لتكون كائن بسيط متعدد الخلايا، واستغرق تطوره بليوني سنة أخرى ليصل الى التنوع الموجود اليوم.   (back)
  4. لاشك أن أول أنسان فكر في بناء مسكن، بنى عددا من المنازل الفاشلة التي إنهارت، حتى توصل الى الطريقة التي يمكن أن يبنى بها مسكنًا لا ينهار، ولكن المقارنة هنا مع إنسانا قادرًا على التصميم الصحيح ولديه الوسائل التي تمكنه من تصور المنزل وحساب مكوناته وعناصره قبل التنفيذ.  (back)