{أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها} سورة محمد 24
إذا أخذنا بمعاني النصوص الدينية المتعلقة بالكونيات والخلق، التي ذهب اليها السلف بناء على علومهم ومعارفهم، فسوف نجد تعارضًا في بعض هذه المعاني مع ما توصلت اليه المعارف العلمية الحديثة. ويمكن حصر موضوعات هذا التعارض، في موضوعين أساسين، هما الخلق الكوني، وخلق الإنسان، ولهذا فعلينا إعادة النظر في هذه النصوص، لنرى حقيقة توافق أو تعارض هذه النصوص ذاتها – وليس تفسيرها التراثي – مع علومنا المعاصرة.
وكما جاء في مقدمة الكتاب، قد يتخلف التفسير في مرحلة ما عن مواكبة تطور المعارف، كما هو حاصل في عصرنا هذا، حيث أن التفسير يتطلب الألمام بالكثير من العلوم الدينية والإنسانية وعلوم الطبيعة، ولا يستطيع أنسان أن يلم بكل هذه العلوم. ولهذا قد يتخلف التفسير الموضوعي، عندما تتولى أمور التفسير فئة ليس لديها القدر المطلوب من العلوم الحديثة، وقد ينحو البعض منهم الى إنكار بعض النظريات وتخطيئها، مثل ما حدث للمسيحية منذ عدة قرون، مما أدى الى تنازل الكنيسة عن المعنى المطلق لسفر التكوين وركونها الى رمزية النصوص، وبالرغم أننا نأخذ بمبدأ متطلبات الصيغة الرمزية a لهذه النصوص، التي نفترض أنها لم يقصد منها الخطاب العلمي البحت، إلا أننا يجب أن نتبين أسباب أختيار الأسلوب الرمزي، والقواعد التي يجب أن تحكمه، فقد تكون من الأسباب إضفاء البعد الروحي؛ أو التيسير مراعاة للقدرات الفكرية الخاصة بالمتلقي لهذا الخطاب، أو غيرهما. إلا أن هناك قاعدة أساسية يجب أن نتوقعها من الأسلوب الرمزي، وهي أنه لا يجب أن يؤدي الإسلوب الرمزي إلى الإخلال بالخبر، الى درجة تؤدي الى مدلول يتناقض مع حقيقته.
التأويل والتفسير المرحلي:
الآيات الكريمة التي أشارت الى خلق الكون وخلق الحياة، تدخل ضمن الآيات المتشابهات، والتي وردت في الآيتين الكريمتين: {هو الذي أنزل إليك الكتاب فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات * فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} (7) آل عمران. والتأويل هو إما أعادة الشئ إلى أوله أو إلى ما سيؤول إليه، وقد يبدو من ظاهر هاتين الآيتين، أن هذه المعرفة القاطعة المطلقة إما أنها فوق قدرات فهم البشر b ، أو أن القرآن قد وضع بطريقة لا يمكن معها تأويله قبل أوانه.
ويهمنا النظر ببعض التفصيل، في موضوع الآيات المتشابهات، لأن له إتصال وثيق بموضوع هذه الدراسة.
أختلف الفقهاء في تعريف المحكم والمتشابه، وفي رأي لابن عباس أن المحكمات هي التي يؤمن بها ويعمل بها؛ أي هي آيات التشريع العملي من أحكام وحدود وفرائض، أما المتشابهات فهي التي يؤمن بها ولا يعمل بها؛ ومنها كل ما يتعلق بالغيبيات وآيات الخلق الكوني والأمثال.
جاء في تفسير الطبري: ”وَأَمَّا قَوْله : { مُتَشَابِهَات } فَإِنَّ مَعْنَاهُ : مُتَشَابِهَات فِي التِّلَاوَة , مُخْتَلِفَات فِي الْمَعْنَى.“
التشابه في التلاوة والإختلاف في المعنى، هو ما يدلنا أن النص الثابت قد يدل الى معاني مختلفة متغيرة، وقد يكون هذا التغير نتيجة طبيعية لتطور المعارف البشرية. وهذا التفسير قد لا يطبق إلا على آيات الكون المشاهد بما فيه من ظواهر طبيعية وأحياء، أما الإخبار بأمور الغيب، فهذه لا نعلم بها وقد تخرج عن قدرات العقل البشري في تأويلها، ولهذا فهذه لا تؤول وأنما يؤمن بها.
جاء في تفسير القرطبي: ”اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ” وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم “ هَلْ هُوَ اِبْتِدَاء كَلَام مَقْطُوع مِمَّا قَبْله , أَوْ هُوَ مَعْطُوف عَلَى مَا قَبْله فَتَكُون الْوَاو لِلْجَمْعِ . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر أَنَّهُ مَقْطُوع مِمَّا قَبْله , وَأَنَّ الْكَلَام تَمَّ عِنْد قَوْله ” إِلَّا اللَّه “.“
”وَمَذْهَب أَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّ الْوَقْف التَّامّ فِي هَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا هُوَ عِنْد قَوْله تَعَالَى : ” وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه “ وَأَنَّ مَا بَعْده اِسْتِئْنَاف كَلَام آخَر , وَهُوَ قَوْله ” وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ“ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَأُبَيّ بْن كَعْب وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة . وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ نَسَق ”الرَّاسِخُونَ“ عَلَى مَا قَبْله وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ . وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْض أَهْل اللُّغَة فَقَالَ : مَعْنَاهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ آمَنَّا ; وَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِع ”يَقُولُونَ“ نُصِبَ عَلَى الْحَال . وَعَامَّة أَهْل اللُّغَة يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ ; لِأَنَّ الْعَرَب لَا تُضْمِر الْفِعْل وَالْمَفْعُول مَعًا , وَلَا تَذْكُر حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُور الْفِعْل ; فَإِذَا لَمْ يَظْهَر فِعْل فَلَا يَكُون حَال،“
”قُلْت : مَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مُجَاهِد غَيْره فَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الرَّاسِخِينَ مَعْطُوف عَلَى اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي عِلْم الْمُتَشَابِه , وَأَنَّهُمْ مَعَ عِلْمهمْ بِهِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ;“
”وَاحْتَجَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَة أَيْضًا بِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه مَدَحَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْم ; فَكَيْفَ يَمْدَحهُمْ وَهُمْ جُهَّال وَقَدْ قَالَ اِبْن عَبَّاس: ( أَنَا مِمَّنْ يَعْلَم تَأْوِيله ) وَقَرَأَ مُجَاهِد هَذِهِ الْآيَة وَقَالَ : أَنَا مِمَّنْ يَعْلَم تَأْوِيله ;“
” قُلْت : وَقَدْ رَدَّ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْقَوْل إِلَى الْقَوْل الْأَوَّل فَقَالَ : وَتَقْدِير تَمَام الْكَلَام ” عِنْد اللَّه “ أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه يَعْنِي تَأْوِيل الْمُتَشَابِهَات , وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَعْلَمُونَ بَعْضه قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا بِمَا نَصَبَ مِنْ الدَّلَائِل فِي الْمُحْكَم وَمَكَّنَ مِنْ رَدّه إِلَيْهِ . فَإِذَا عَلِمُوا تَأْوِيل بَعْضه وَلَمْ يَعْلَمُوا الْبَعْض قَالُوا آمَنَّا بِالْجَمِيعِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا , وَمَا لَمْ يُحَطْ بِهِ عِلْمنَا مِنْ الْخَفَايَا مِمَّا فِي شَرْعِهِ الصَّالِح فَعِلْمه عِنْد رَبّنَا فَإِنْ قَالَ قَائِل : قَدْ أَشْكَلَ عَلَى الرَّاسِخِينَ بَعْض تَفْسِيره حَتَّى قَالَ اِبْن عَبَّاس : ( لَا أَدْرِي مَا الْأَوَّاه وَلَا مَا غِسْلِين ) قِيلَ لَهُ : هَذَا لَا يَلْزَم ; لِأَنَّ اِبْن عَبَّاس قَدْ عَلِمَ بَعْد ذَلِكَ فَفَسَّرَ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ . وَجَوَاب أَقْطَع مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانه لَمْ يَقُلْ وَكُلّ رَاسِخ فَيَجِب هَذَا فَإِذَا لَمْ يَعْلَمهُ أَحَد عَلِمَهُ الْآخَر . وَرَجَّحَ اِبْن فُورك أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيل وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ ; وَفِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِابْنِ عَبَّاس : ( اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّين وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيل ) مَا يُبَيِّن لَك ذَلِكَ , أَيْ عَلِّمْهُ مَعَانِي كِتَابك .
وَالْوَقْف عَلَى هَذَا يَكُون عِنْد قَوْله ” وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم “. قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عُمَر : وَهُوَ الصَّحِيح ; فَإِنَّ تَسْمِيَتهمْ رَاسِخِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَر مِنْ الْمُحْكَم الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمه جَمِيع مَنْ يَفْهَم كَلَام الْعَرَب . وَفِي أَيّ شَيْء هُوَ رُسُوخهمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَم الْجَمِيع .
لَكِنَّ الْمُتَشَابِه يَتَنَوَّع , فَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَم الْبَتَّة كَأَمْرِ الرُّوح وَالسَّاعَة مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِغَيْبِهِ , وَهَذَا لَا يَتَعَاطَى عِلْمه أَحَد لَا اِبْن عَبَّاس وَلَا غَيْره . فَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاء الْحُذَّاق بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ عِلْم الْمُتَشَابِه فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْع , وَأَمَّا مَا يُمْكِن حَمْله عَلَى وُجُوه فِي اللُّغَة وَمَنَاحٍ فِي كَلَام الْعَرَب فَيُتَأَوَّل وَيُعْلَم تَأْوِيله الْمُسْتَقِيم , وَيُزَال مَا فِيهِ مِمَّا عَسَى أَنْ يَتَعَلَّق مِنْ تَأْوِيل غَيْر مُسْتَقِيم ; كَقَوْلِهِ فِي عِيسَى : ” وَرُوح مِنْهُ “ [ النِّسَاء : 171] إِلَى غَيْر ذَلِكَ فَلَا يُسَمَّى أَحَد رَاسِخًا إِلَّا أَنْ يَعْلَم مِنْ هَذَا النَّوْع كَثِيرًا بِحَسْب مَا قُدِّرَ لَهُ . “ أنتهى
عليه، فقد ذهب بعض الفقهاء الى أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل، بينما ذهب البعض الآخر الى أنهم يعلمونه، وفي آخر فقرة من المنقول عن تفسير الطبري، بين أن بعضه يمكن علم تأويله، وبعضه الآخر -الذي يدخل في باب الغيبيات- لا يعلم تأويله.
ويتضح من الآية أن الرسوخ في العلم هو الطريق الوحيد الى فهم معاني المتشابه الممكن تأويله، شرط أن يجتمع العلم مع الإيمان، لقوله تعالى{يقولون آمنا به كل من عند الله}. أما المحكم فقد جاء عنه ” أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَر مِنْ الْمُحْكَم الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمه جَمِيع مَنْ يَفْهَم كَلَام الْعَرَب“.
وفي قوله تعالي {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } (19) القيامة . ما يدلنا أن بيان معاني القرآن هو مرحلة تعقب قرءانه وقد تكون مستمرة.
والذي يدل أن الله سيبين للناس آياته العلمية المتعلقة بالكون المشاهد وبأنفسهم قوله تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (53) سورة فصلت. يقول ابن كثير: ”سَنُرِيهِمْ آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أَنْفُسهمْ“ أَيْ سَنُظْهِرُ لَهُمْ دَلَالَاتنَا وَحُجَجنَا عَلَى كَوْن الْقُرْآن حَقًّا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْد اللَّه عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَائِل خَارِجِيَّة ” فِي الْآفَاق “ مِنْ الْفُتُوحَات وَظُهُور الْإِسْلَام عَلَى الْأَقَالِيم وَسَائِر الْأَدْيَان قَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن وَالسُّدِّيّ وَدَلَائِل فِي أَنْفُسهمْ قَالُوا : وَقْعَة بَدْر وَفَتْح مَكَّة وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْوَقَائِع الَّتِي حَلَّتْ بِهِمْ نَصَرَ اللَّه فِيهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحْبه وَخَذَلَ فِيهَا الْبَاطِل وَحِزْبه وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد مِنْ ذَلِكَ مَا الْإِنْسَان مُرَكَّب مِنْهُ وَفِيهِ وَعَلَيْهِ مِنْ الْمَوَادّ وَالْأَخْلَاط وَالْهَيْئَات الْعَجِيبَة كَمَا هُوَ مَبْسُوط فِي عِلْم التَّشْرِيح الدَّالّ عَلَى حِكْمَة الصَّانِع تَبَارَكَ وَتَعَالَى.“
وفي قوله تعالى {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (93) النمل، ما يدل على قدرتنا معرفة هذه الآيات عندما يكشفها الله تعالى لنا.
ولفظ الآيات المذكور في الآيتين السابقتين وغيرهما يراد به المعجزات، ومنها الآيات الكونية وآيات الخلق، وهذه معجزات تدل على الخالق المهيمن. بينما تعود الهاء في أنهُ في {..حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ .. } الى {..وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} 41 فصلت. وهذا يدل على تطابق الآيات الكونية التي سنراها في الآفاق وفي أنفسنا مع الآيات المتعلقة بهذين الموضوعين في القرآن الكريم.
ونلاحظ في هذه الآية الكريمة من سورة فصلت، أن رؤية الآيات تحدد في موقعين، في الآفاق وفي أنفسنا، أما الآفاق، وهي منتهى البصر وحدوده، أي أقصى ما يمكن أن نشاهده في السماء، فهذا كما اكتشف العلماء مؤخرًا، نرى فيها تاريخ الخلق الكوني، فنحن عندما ننظر في الآفاق، نرى الكون كيف كان منذ بلايين السنين، وهي الفترة التي استغرقها الضوء حتى يقطع هذه المسافات الكونية الهائلة، بل وأن كل فهمنا العلمي لمعجزة بدء الخلق الكوني وتاريخه، أستمده العلماء من خلال النظر الى هذا الأفق السماوي، باستخدام تلسكوبات منها الفضائية كهابل ودبليو ماب. أما المعجزة الثانية وهي خلق الحياة فهذه تبينها لنا دراسة الجسم الحي، والتي من خلال علوم التشريح والوراثة والخلايا وعلوم الحفريات والمتحجرات يتمكن العلماء من تكوين فهم لمعجزة خلق الحياة. هاتين هما معجزتي الكون المشاهد، واللتين يمكننا أن نراهما في كل الأزمان والعصور، أما معجزات ما هو خارج الكون المشاهد وما هو خارج الكون، فلم يرد ذكرهما لأنهما من الغيبيات.
أما قوله تعالى{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} الاسراء.. فيدلنا أن عقولنا لا تقدر على الخوض في أمور الغيب لأن علومنا يحدها مجال العالم المشاهد، أنظر قوله تعالى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. وتمنع هذه الآيات البشر من الخوض في الأمور الغيبية رحمة بهم، بينما تدعو الآيات من سورتي فصلت والنمل والكثير غيرهما، الى التفكر في أمور الكون المشاهد كقوله تعالى {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (191) آل عمران. وقوله تعالى {وَفِي الْأَرْضِ ءَايَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(21) الذاريات.
مما سبق نجد في آيتي سورة آل عمران وبناء على ما قال به السلف، أن الراسخين في العلم قد يعلمون تأويل الآيات المتشابهات المتعلقة بالعالم المشاهد، بينما نجد في قوله سبحانه وتعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علمٍ هدى ورحمة لقومٍ يؤمنون * هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ….. } 7/53 وهذه الآيات لم تحدد المتشابهات، وإنما شملت الكتاب كله، وحددت ان تأويله يكون عند إنتهاء الزمان أو البعث، والمخاطب هنا هم المشركين والتأويل هنا كناية عن عاقبة الأمور وما ستؤول إليه وتحقق ما كانوا يوعدون به من حساب وجزاء.
وقد يدل هذا أن التأويل المطلق أي تحقق كل ما في القرآن من معان سوف يكون في نهاية الزمان، عندما تؤول الأشياء إلى نهاياتها، بينما دلتنا الآيات في سورة فصلت أن الله تعالى سيرينا الآيات في الآفاق وفي أنفسنا فنعرفها فيتبين لنا أن القرآن حق، ويكون هذا في حياتنا وقبل يوم البعث، وحيث أن هذه المعرفة أو الفهم للآيات ليس هو التأويل أي معرفة منتهى الحقيقة المطلقة، وحيث أن المتشابهات تدل على التشابه في التلاوة والإختلاف في المعنى، يدلنا أن النص الثابت قد يدل الى معاني مختلفة متغيرة، أي يتقدم فهمنا لها مع تقدم ما نراه ونتعلمه في الأفاق وفي أنفسنا، وهذا يسمح باستنباط المعاني المرحلية التي تنبثق عن تفاعل النص الثابت مع المعارف الإنسانية في مراحل تقدمها، ليولد المعنى الذي نطمئن إليه لأننا لا نجد فيه تعارضًا مع معارفنا العلمية المرحلية التي نعتقد بصحتها. وقد ذهب السلف الصالح الى تفسير الآيات المتشابهات في الموضوعات التي نحن بصددها وفق معارفهم وعلومهم واطمأنوا إليها.
نعلم أننا في هذا الأفتراض قد أضفنا أن النص لن يتعارض مع العلوم التي يتفق علماء عصر ما على صحتها، وان ثبت عدم صحتها في عصر لاحق، وهذا لم نستدل عليه من النصوص، وإنما مما وجدنا عليه تفسير السلف الذي وافق معارفهم واطمئنوا اليه، وما وجدناه في هذه النصوص من موافقة لعلومنا الحديثة والتي اختلفت جذريًا عما كانوا في السابق يعتقدون به. ولأن التأويل الصحيح المطلق لن يكون إلا في نهاية الزمان، وعليه ففهمنا سيكون مرحليا، وحيث أن هذا الفهم المرحلي سيوافق معارفنا، سيعلم الذين أرتابوا أن النص حق.
وهذا الفرض الذي وضعناه هو فرض بشري يمكن أسقاطه إذا تبين خطأه، وحتى الآن فهو صحيحًا بالدلالات التي أوردناها، والتعميم الذي اتبعناه مستدلين بحالة واحدة صح فيها، ليس كافيُا لدعم الفرض، ولهذا نقول أنه قد يكون صحيحًا حتى يتم نقضه فنسقطه، إذ أن مرجعنا الأول هو دلالة النص.
لقد وضع العلماء في هذا العصر شروطًا وقواعد تحدد صحة الإستدلال العلمي، يصعب معها اجتماعهم على صحة نظرية قد يثبت في المستقبل خطأها في كليتها، وانما يمكن تطويرها الى الأقرب ثم الأقرب من الحقيقة. ولهذا فإن أهم مرحلة كان يتعين على النص أن يتخطاها هي المرحلة التي خطتها المعارف البشرية من عصور المعرفة التي لم تقم على أسس علمية، الى عصر العلم الحديث الذي تتشكل وتتقدم فيه المعارف وفق أصول وقواعد هذا العلم. هذه هي المرحلة الأصعب، وقد إستطاع النص الثابت مواكبتها.
ولهذا نفترض أن الآيات المتعلقة بموضوع العالم المشاهد أي الطبيعة وآيات خلق الإنسان؛ قد صيغت بحيث تتفاعل مع المعارف البشرية حتى يولد المعنى، وطالما أن المعارف بطبيعتها متطورة، فالتفاعل عملية مستمرة، والمعاني متطورة. وكما رأينا كيف أن النص لم يتعارض مع علوم السلف، والتي تبين عدم صحة بعضها، لهذا نتوقع أن النص ذاته لن يتعارض مع علومنا، التي نعتقد بصحتها المرحلية.
وحيث أننا افترضنا تغير معنى النص الثابت، فلن يكون هذا تأويلا، وإنما هو فهمًا بما يتناسب مع مرحلية المعارف البشرية. وهذا لا يختلف عن النظريات العلمية المتطورة التي لا يدعي أي من العلماء أنها الحقيقة المطلقة أو التأويل المطلق لكتاب الطبيعة المشاهد والمحسوس.
أن عجزنا عن التأويل المطلق للنص؛ يقابله عجزنا العلمي عن بلوغ الحقيقة المطلقة، أي أننا عندما نحاول المقارنة ، فاننا نقارن بين فهم تقريبي وعلم تقريبي، إلا أن ما ييسر الأمر علينا، أننا نبدأ ولدينا بعض المعنى الذي نعتقد أن النص يشير إليه، وقد يقول قائل أن المعنى طالما أنعكس عن مرآة المعرفة، لن يتعارض بالطبع معها، إلا أن هذا ليس باليسر الذي ينوه اليه هذ القول، فالنص ألفاظه ثابتة، ومدلولات الألفاظ متفق ومتعارف عليها منذ قديم الزمان، وتحكمنا في هذه العملية قواعد اللغة العربية والتقيد بالمعاني الثابتة لكلماتها، وكل هؤلاء؛ من نص وقواعد ومعاني الألفاظ ومباني الجمل؛ ثوابت لا نملك تعديلها أو تغييرها، وقد أعتمدنا على معاجم اللغة التي سطرت منذ ما يقرب من ألف سنة، وثبتت على ذلك، وأصحابها اعتمدوا على المعاني في اللغة المتداولة قبل وأثناء عصر النبوة، فان أدت هذه المعاني اللغوية الى ما لا يتعارض مع علومنا المعاصرة، فسيكون هذا إعجازًا.
ويجدر القول هنا أن بعض فقهاء الأمة منذ عدة عقود، قد نظروا الى هذا الأمر من زاوية مختلفة، بعد أن تبين لهم أن العلم متطور، وأن نظرياته دومًا متغيرة ومتبدلة، تحل الواحدة محل الأخرى وتنسخها، فقالوا أنه ليس من الحكمة أن نوفق بين معاني النصوص القرآنية ونظريات علمية قد تندثر بعد حين. وهذه وجهة نظر يؤخذ عليها أننا في هذا العصر، بالرغم من علمنا أن العلوم السابقة التي أخذ بها السلف في معرض تفسيرهم للآيات العلمية قد تغيرت وتبدلت، ومع ذلك بقيت تفاسير السلف لهذه الآيات تتداول بين الناس، فأين الحكمة في إبقاء ما نعلم أنه ليس صحيحًا، لأننا ننتظر أن يتوصل العلم الى الحقائق النهائية المطلقة.
قد لا يوجد في العلوم الطبيعية نظريات ثابتة أو مكتملة، إذ أن النظريات حتى الصحيح منه، تظل تتقدم من صحيحة إلى أصح، ومن قريبة من الحقيقة إلى الأقرب، وقد لا تصل أبدًا الى الحقيقة ذاتها. ولا يدعي العلماء أن أي نظرية لديهم وإن ثبتت بالتجارب ووافق المشاهد في الطبيعة توقعاتها أو تنبؤاتها، أنها أصبحت مطلقة أو أن نتائجها حتمية، وإنما تعنى أن إحتمال حدوث النتيجة عند توفر الأسباب والظروف يصبح إحتمالا كبيرًا الى درجة عالية. ولهذا فان إنتظار توصل العلم الى الحقائق الثابتة المطلقة قد يطول، وخاصة أن من الموضوعات الأساسية التي تهمنا، خلق الكون وخلق الحياة، لن يمكن البت فيهما ربما لزمن طويل، وربما أبدًا.
هناك فرقًا بين ما نعلمه ونحدده ونصفه من المشاهدة والنظر في الطبيعة Observation, identification, description، وبين ما نستنتجه كتفسير للظاهرة Theoretical explanation of phenomena. بعد إجراء التجارب واستنباط المعادلات التي تحكم العلاقة بين الأسباب والنتائج وبعد مطابقة تنبؤاتها مع الواقع.
إن الذي قد يتغير ويتبدل هو النظرية التي تفسر هذه الظواهر، والى حد ما المعادلات التي يمكن أن تستبدل بما هو أكثر منها دقة أي أقرب للحقيقة ولكن لا تخطئها، مثال ذلك استبدال قوانين الجاذبية لنيوتن بقوانين أينشتين. أما المشاهدات فهذه لا تتغير وإنما يمكن أن يضاف عليها كلما صنع العلماء أجهزة حسية أقوى أو أفضل، أو استطاعوا وضعها في الفضاء لتتمكن من نقل صورة أوضح وابعد.
ولهذا فعندما تصف علومنا الكون أن به نجوم ومجرات وتجمعات، وأن عمره يقدر ببلايين السنين، وأن الحياة وجدت على الأرض منذ بلايين السنين، وأن الإنسان ظهر عليها منذ ملايين السنين، فهذه كلها مشاهدات وحقائق لا يصح أن ينكرها أحد.
أما النظريات التي لها أسس علمية تجريبية سليمة، فقد يمكن أن نجد أكثر من نظرية تفسر نفس الظاهرة، حتى يتبين من مشاهدات ومعلومات جديدة، ترجيح واحدة على الأخرين.
وهناك نظريات مثل تلك التي تبحث في نشأة الكون، تقوم على افتراضات ومعادلات رياضية ونماذج حسابية Computer models، ولدينا عدة نظريات متنافسة، أقدمها الكون المستقر الأبدي، ثم النشأة المفردة أو التي تسمى الإنفجار الكبير، مرورًا بالأوتار الفائقة ونظرية (م)، ثم الكون المتذبذب cyclic universe و kpyrotic scenario . وفيما عدا نظرية النشأة المفردة، فان بقية النظريات تهدف الى ايجاد الكون من شيء آخر سابق له، أي تتحاشى فكرة الخلق أو الوجود من لا شيء، أو تقول بأنه موجود منذ الأبد. وغالبًا تتفق كل هذه النظريات في الأحداث التي أعقبت نقطة النشأة وبعد تكون الذرات. وحاليًا تُرجح نظرية النشأة المفردة، فيما يتعلق بالأحداث التى أعقبت حالة ال Singularity، خاصة بعد نتائج المكوك WMAP التي اعلنت في 2006 .
كل هذا تفاصيل ليس لها تأثير على موضوعنا، فان قالت هذه النظريات أن الكون نشأ من نشأة مفردة أو عبر سلسلة من الأكوان السابقة، فالمنطق العقلاني يرجح أن يكون هناك بدءًا لهذه الأكوان السابقة، كل ما تفعله هذه النظريات هو في إرجاع نقطة البدء الى زمان أسبق، ولكنها كلها تتفق أن هناك بدءًا لكوننا هذا وان كان هناك ما قبله c ، أما من قال أنه كذلك منذ الأبد، فليس هذا من العلم به، وانما افتراضًا لا يقوم على أي دليل من جهة، وهروبًا من البدء في الجهة الأخرى، وهذه نظرية هجرها أغلب العلماء منذ سبعينات القرن العشرين.
فيما عدا المشاهدات التي يجب علينا اعتمادها على أنها صحيحة، يمكن الأخذ بالنظريات على أنها تفسيرات مرحلية لظواهر الكون، والذي يهمنا هنا أننا نقارن بين نظريات علمية تقريبية، وفهمًا مرحليا للنصوص المتعلقة بهذه الموضوعات، والتي وردت في الآيات المتشابهات، والتي نعلم أن تأويلها الصحيح لن يكون إلا في نهاية الزمان، ولهذا فمن الممكن تفسيرها مرحليًا، وكما أن التفسير السابق في المراحل السابقة أدى دوره وقبله الناس لأنه وافق معارفهم، يكون تفسيرعصرنا الحالي وفق علومنا مرحليًا ولا نقول أنه التفسير المطلق، وقد ياتي زمان في المستقبل، يجد فيه أهله تفسيرًا مرحليًا آخر يختلف عن الذي نراه، فلا يخطئون تفسيرنا وانما يقبلون أنه كان تفسيرًا مرحليًا وافق معارفنا.
وظيفة النص العلمي في الخطاب الديني:
نتوقع من أي رسالة سماوية أن تحتوى على إجوبة مقنعة للأسئلة التي تدور في أذهان الناس، عن من أين جاء هذا الكون، وكيف خلقنا وما هو مصيرنا وهل هناك شيئا بعد الموت.
ولو نظرنا في المعلومات المتعلقة بعالم الشهادة، أي العالم المشاهد، سترد هذه المعلومات في الرسالة السماوية بقصد تأكيد صدقها، أي كحجة وبرهان، ولهذا لا نتوقع أن يرد ذكر موضوع خلق الكون كمادة علمية مجردة، لأنه لو ورد كمادة علمية لما أدى دوره كحجة وبرهان لدى قوم يجهلون النظريات العلمية الصحيحة، ولهذا كان من الحكمة أن تصاغ المعلومات الصحيحة في صيغة تتناسب مع معارف المتلقي، فالحجة يجب أن تكون مقنعة حتى تقوم بالغاية المطلوبة منها. ولأن الحجة لا يراد منها أن تصبح قضية يُجادل فيها؛ توجب فيها ألا تتعارض مع المعارف الإنسانية في أي مرحلة من مراحل تطوره.
وقد بدأنا القول بما يؤدي الى أن الفهم البشري للنصوص في هذا العصر؛ قد يتعارض بعضه فعلا مع العلم المعاصر، وأن السبب في ذلك يعود الى تخلف التفسير عن مواكبة التطور العلمي، وأنه ما زال يعتمد في أكثره على تفاسير السلف؛ دون أن يتفاعل هذا النص مع المعارف الحديثة حتى يتولد الفهم المرحلي الجديد.
وعليه، نجد أن النصوص الكونية ونصوص الخلق في القرآن، وردت على إنها حجة وبرهان لدعم جوهر الرسالة الروحي، وأنها ليست مقصودة في حد ذاتها أي بمعناها العلمي البحت، وليس الغرض منها تعليم الناس أو إحداث طفرة علمية لبشر ليسوا مؤهلين لتلقيها أو فهمها.
من الصحيح ان الدين الإسلامي قد جاء بطفرة أو ثورة إجتماعية سياسية إقتصادية غيرت من أخلاق وتقاليد وعادات المجتمع العربي خاصة والبشر عامة، ولكن ليس صحيحًا أو مطلوبًا أن يأتي الدين الإسلامي أو غيره بثورة علمية. لقد جابهت الدعوة الإسلامية الجديدة معارضة عنيفة كادت أن تودي بها في المهد، وليس من المنطق السليم أن نتوقع منها إحداث ثورة علمية أيضًا. لقد كان الرسول صلعم محاطًا باليهود ينظرون في الآيات ويمحَّصونها ويحكمون بصحتها أو زيفها بناء على معتقداتهم التوراتية، وخاصة فيما يتعلق بالكونيات وقصة خلق البشر، وكان بعض العرب الذين يتلقون هذه الرسالة يرجعون إليهم ويعتبرون برأيهم ويحكمون بموجبه على مصداقيتها، والتي أعلنت عن نفسها أنها آخر الرسالات السماوية وإنها مصححة ومكملة وخاتمة لما سبقها. أضف إلى كل هذا أن مبلغ العلوم الكونية عند العرب والبشر عامة؛ كان لا يتعدى خليطًا من النصوص السابقة؛ ومن كون أرسطو وأفلاطون؛ وما تفتقت عنه الأساطير والمعتقدات القديمة، فلماذا تأتِ الرسالة بطفرة علمية تحدثها في قوم ليسوا مؤهلين لتلقيها أو فهمها. أو تتضمن برهان عليها يحتاج في حد ذاته إلى برهان.
ذكرنا أنها ثورة في أكثر من مجال فلماذا قلنا أنها لا تكون علمية أيضًا. إضافة الى أن هذا يخرج بالرسالة عن موضوعها الأساسي، سوف نجد أن العلم يختلف عن غيره من المعارف، ولا يستفاد منه إلا بالترقي فيه درجة درجة وجيلا بعد جيل، العلم لا يمكن إيجازه في كتاب، وإنما هو ثمرة محاولات وتقدم وتجارب ومشاهدات.
يقول لسنج ( مجموعة مؤلفات لسنج عن تاريخ الفلسفة في الإسلام لدي بور – هامش ص259- نقلاً عن كتاب في فلسفة ابن رشد – الدكتور محمد بيصار -ص95): ”لا ينحصر فضل الإنسان في إمتلاكه الحقيقة، وإنما فضله في الجهد الذي يبذله مخلصًا في السعي إليها . ولا تنمو ملكات الانسان بامتلاك الحقيقة، بل بالبحث عنها، وكماله المتزايد ينحصر في هذا وحده، بل إن إمتلاك الإنسان للشئ يميل به إلى الركود والكسل والغرور. ولو أن الله وضع الحقائق كلها في يمينه، ووضع في شماله شوقنا المستمر إليها وإن أخطئناها دائمًا؛ ثم خيَّرني، لسارعت إلى إختيار ما في شِماله “.
ان الرسالات السماوية ليس من أغراضها إحداث طفرة علمية، وإنما الإرتقاء الروحي والتوجيه الأخلاقي، ولهذا تحرص على عدم خلخلة الفكر العلمي المعاصر لها، ولهذا جاءت كلها بحيث لا تتعارض مع المعتقدات العلمية آنذاك، ولأنها رسالة إلى كل البشر اللاحقين، والذين سوف تتطور معارفهم العلمية وتتغير، كان يجب على هذه الآيات إما:
(أ) أن تخاطب بشر المستقبل بما لا يتعارض مع معارفهم، أو
(ب) تعتمد على تقديرهم أن الجزء العلمي الذي تضمنته الرسالة، إنما كان وقتيا ليتناسب مع معارف ذلك العصر السابق، لتفادي إحداث زلزلة فكرية قد تضر بالتدرج التطوري للفكر الإنساني. وأنه متى إستـتبت الرسالة الدينية وقويت، فان عنصر الإيمان الغيبي سوف يتغلب على عدم توافق بعض هذه الآيات العلمية مع المعرفة الحديثة، وسوف يستطيع الإنسان المتأخر زمنيًا والمتقدم علميًا أن يعي مرحلية هذه الآيات ورمزيتها.
ولا شك أن (ب) هو ما نراه حولنا الآن، فبالرغم من تنازل المسيحية عن المعنى المطلق لسفر التكوين، فالمسيحيون عامة مؤمنون بالدين المسيحي وبالوجود الألهي، ومقتنعون بفكرة القصد الرمزي لها. بينما إستطاع المسلم أن يمضى في طريقه دون التأثر كثيرًا بالمعركة التي دارت رحاها في أوروبا في القرون الأربعة الماضية .
إلا أن ثراء النص الإسلامي والتفصيل الذي ورد فيه، وقدرته على التفاعل مع الفكر المعرفي في كافة عصور التطور البشري، لا يسمح لنا بالتقاعس واللجوء الى مقولة رمزية النص، إذ أنه الدين المصحح المتمم الخاتم.
وقبل أن نترك هذا الفصل، يجب التنويه هنا أن البرهان الذي ذكرناه ليس هو البرهان التجريبي القاطع، وأنما هو البرهان الكلامي المقنع، الذي تطمئن إليه النفوس لأنه يوافق المعروف والمتعارف عليه. وقد سبق أن بينًا أن البرهان المطلق القاطع ليس متاحًا في هذه الحياة الدنيا.
حدود الخطاب الديني:
أما وقد تبين لنا أن الغرض من سرد النصوص الكونية قد يكون الحجة والبرهان، مع تصحيح ما شاب نصوص الرسالات السابقة من جراء الإضافات التي قام البشر بوضعها عن حسن أو سوء نية، علينا أن ننظر الى وسيلة الخطاب الديني ومدى قدرتها على نقل المعلومات، ووسيلة الخطاب هي اللغة d ، واللغة لا تصلح إلا بناء على معرفة سابقة، ليس بها فقط وإنما بالموضوع ذاته أو ما يماثله أو يشبهه، وقد تعجز اللغة في حالات كثيرة أو نضطر لتقريب المعنى الى درجة قد يفقد معها الكثير من واقعه، منها كيف نصف عوالم أخرى تختلف كلية عن عالمنا ولا يوجد لها مثل فيه.
لا شك أن هناك حالات يستحيل فيها التعبير اللفظي، فاللغة لا تستطيع سوى التعبير الدقيق عن الموجودات التي يمكن معرفتها بالجوارح، وما يمكن الإشارة إليه أي الأسماء. فيما عدا ذلك فاللفظ المعبر عن أي شئ يعود الى التجربة السابقة ودرجة الفهم والقدرة على التخيل، وهذا ينطبق على كل ما هو ليس بمحسوس كالزمن والجاذبية والضمير والروح والغيبيات، وأغلبها نعرفها بآثارها وليس بذاتها، وعجزنا عن معرفة الذات الإلهية هو عجز مطلق، يبينه قوله تعالى {ليس كمثله شئ وهو السميع البصير} الشورى 11.
نحن نصف الإشياء، والوصف هو استخدام محسوس أو مشاهد لتقريب شيء غيبي، ولكن ماذا عن محاولة وصف ما لم يره أو يحسه أحد منا قط (عدا الواصف طبعًا)، يشترط في الواصف أن يستدل بأشياء محسوسة ليدل على أشياء غيبية، فلو لم تتوفر الأشياء المحسوسة التي من خلالها يمكن وصف الشئ الغيبي، كان عليه الإستدلال بأقربها شبهًا، أو تركيب أجزاء من المتشابهات لوصف الكل الذي ليس له مثل، وفي هذا تنازلاً عن الدقة المطلقة رغبة في نقل المعلومات، أي أن الفرق بين الفكرة والتعبير اللغوي عنها قد يكون كبيرًا الى حد قد يصل إلى أن تتشوه معه صورة الفكرة الأصلية.
البلاغ الديني هو الخطاب الصادر عن الله تعالى إلى البشر في صورة الرسالة اللغوية الثابتة والدائمة ( القرآن الكريم)، وفي صورة السنة الوقتية المجسمة في مُبلّغ الرسالة وهو الرسول صلعم، وإقتصار الرسالة الدائمة على وسيلة التعبير اللغوي فقط يحصر إمكاناتها، في حدود قدرة هذه اللغة على البيان من خلال حجم مفرداتها وإرتباط هذه المفردات بالمعاني التي تدل عليها، واللغات بصورة عامة تتطور في حجم ودلالات مفرداتها، إلا أنها تظل محدودة بحدود الأفق المعرفي للمجتمع الذي يستخدمها، ولا يمكن أن تعبر اللغة في أي وقت عما لا يعرفه هذا المجتمع، أي لا يمكن أن يوجد لفظ في لغة يدل على شئ لا يعرفه الناس بعد، خيالا e كان أم حقيقة ، ولهذا فإن قدرة البلاغ اللغوي محدودة في إطاري قدرات اللغة ومعارف الأمة، وحيث أن المعرفة مستمرة في النمو والتطور، فإن على اللغة المعبرة عن هذه المعارف أن تستمر في النمو والتطور لمواكبة متطلبات النماء الفكري والعلمي (خاصة)، ولا شك أن التعبيرات اللغوية العلمية في القرن السابع كانت محدودة للغاية، وقد تعجز لغات العالم عن التعبير لمواكبة الطفرات العلمية المستوردة، ولهذا نشأت المصطلحات العلمية التي يُتفق بين العلماء على مدلولاتها.
جاء القرآن برسالة إلى كل البشر في كل العصور، ولهذا لم يعتمد كغيره من الرسالات التي سبقته على المعجزات المباشرة، فالمعجزة لا يمكن إعادة إجراءها في كل عصر، ولو تم هذا لفقدت صفة المعجزة، واصبحت من الظواهر الكونية المتكررة ولوجدنا لها قانونًا يحكمها. والمعجزة رهن بصدق المشاهد وتصديق المتلقي لخبرها، وتفتح بابًا للمجادلة والإنكار، لا يمكن معه التحقق العلمي من صحتها، والعهود اللاحقة ليس لديها سوى الكتاب والسنة. التفاسير والكتابات البشرية التراثية تعاملت مع الكتاب في آيات الكون والخلق بفكر عصرها، ولا يفترض فيها ما يصح أن يفترض في القرآن، ولهذا يجب أن يكون الإعتماد الأول في الآيات العلمية على الكتاب، الذي بين أيدينا كما نزل من عند الله تعالى، وهو الرسالة السماوية الموجهة إلى عصرنا وإلى غيره من العصور البشرية.
حدود قدرات المتلقي:
والرسالة لها أركانها، الـمُرسلُ والموضوع والوسيلة والـمرسل إليه، والمُرسل هو الله تعالى ذو العلم المطلق والقدرة المطلقة، والمرسل إليهم هم البشر ذوي القدرات المحدودة، والموضوع هو الهدى وتعليم الحكمة؛ والوسيلة هي اللغة المنطوقة أي الكلام، وتحددت اللغة بالعربية f فكانت معاني الألفاظ طبقًا لدلالات الكلمات في هذه اللغة {إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون} يوسف2. ولهذا فعلينا أن نسلم أن الرسالة حتى تكون مفيدة يجب أن تصاغ في حدود قدرات من يتلقون الرسالة وفي حدود إمكانيات لغتهم. أي أن محدودية الرسالة منوطة بمحدودية المتلقي وقدرات لغته؛ ولا علاقة لها البتة بقدرات المُرسل طالما كانت أرقى من قدرات المتلقي في كل النواحي الفكرية وغيرها g.
قضية التعارض:
نسلم أنه لا يجوز أن يكون هناك تعارضًا بين المعتقدات الصحيحة المنبثقة عن الفهم الصحيح للنصوص الدينية التي تتعلق بأي من الموضوعات العلمية كالكونيات والخلق والطبيعة، وتلك التي توصل إليها العقل البشري بطريق وسائل المشاهدة والإستدلال والإستنباط العلمي، فكلاهما يعود إلى نفس المصدر الإلهي، وكلاهما يهدف إلى تفسير الظواهر الطبيعية، التي بالضرورة الدينية نشأت نتيجة الإرادة الإلهية، ولهذا فإتباعًا لأسس الفكر الديني نجد أن الطبيعة والنص الديني صادرين عن مصدر واحد، ولا يجوز أن يشوبهما أي تعارض. ويتم فهم الرسالة الدينية ورسالة الطبيعية من خلال العقل البشري، الأولى من خلال النصوص والثانية من خلال المشاهدة والإستنباط العلمي والتجربة، ولو فرض وجود تعارض فالتعارض سيكون بالضرورة نتيجة خطأ في الفهم لأي من الرسالتين. ويجب أن لا يغيب عن ذهننا أن فهمنا رهن بتطور وصحة معارفنا، ولا يستطيع أحد أن يدعي أن معارفنا البشرية قد إكتملت، بل وفي هذا العقد من الزمان، يعرف الراسخون في العلم أننا بعيدون عن ذلك، أبعد مما كنا نعتقده عندما نعمت البشرية بالثقة المفرطة في عالم نيوتن ذو الزمان والمكان المطلقين .
من المسلمات الدينية الغير قابلة للجدل، أنه لا يجوز أن يكون هناك تعارض بين الدين والعلم. والدين من جانبه يدعو الإنسان إلى طلب العلم وتطويره، حيث أن العلم أداة هامة في عملية إعمار الأرض المنوط بها الإنسان، إضافة إلى أن العلم يؤدي إلى فهم أفضل لطبيعة الكون، ويمتلأ القرآن بالآيات المشيرة إلى أهمية العلم، ويخاطب العلماء خاصة لقدرتهم على الفهم الأفضل لعظمة الخلق بل ولإعجاز القرآن ذاته، إن دعوة القرآن الى الإهتمام بالعلم والحث عليه جلية واضحة لا تترك ذرة من شك في مضمونها.
ولهذا فنحن نجد أن الدعوة القرآنية لتحصيل العلم وممارسته، وأسلوبها في الحث على المشاهدة والإستنباط دعوة متقدمة على وسائل الفكر العلمي آنذاك، الذي كان يقوم على المنطق العقلي وحده، والذي يعود إلى فلاسفة اليونان، قد لا نستطيع البت في أن أسلوب التجربة قد ورد في القرآن، إلا أنها نتيجة طبيعية للمشاهدة، فالتجربة هي في أبسط صورها محاولة تكرار الظاهرة التي تبينت من المشاهدة، وقد نجد في قصة النبي إبراهيم عليه السلام، التي وردت في القرآن الكريم، { وإذ قال إبراهيم ربي أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم أجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم أدعهن يأتينك سعيًا واعلم إن الله عزيز حكيمٌ} 2/260، نوعًا من حث البشر على التساؤل والتيقن بالتجربة، فإن صحت في واحد من موضوعات المعتقدات الدينية الغيبية، فأولى بها أن تصح في علوم الطبيعة.
وتعود قضية هذا الخلاف مع العلم الى القرن السادس عشر الميلادي، عندما اتخذت الكنيسة المسيحية موقفًا متشددًا من كوبرنيكس وجاليليو، لقولهما أن الأجسام السماوية لا تدور حول الأرض وإنما حول الشمس، وقد اعتبرت الكنيسة أن هذه الأفكار تتعارض مع النصوص والمعتقدات الدينية، وحاربتها بضراوة إلا أنها إضطرت مكرهة الى التراجع والتنازل عن موقفها بعد إنتشار نظريات نيوتن وثبوتها بالتجارب والمشاهدات، وكانت نهاية الصراع لصالح العلماء عندما صدر كتاب أصل الأنواع لداروين في منتصف القرن التاسع عشر، واعتبرت الكنيسة أن التصوير الديني للأمور العلمية هو تصويرا رمزيًا ولا يجب أن يؤخذ كحقيقة علمية مجردة. وقد نتج عن هذا الموقف انفصال الفكر الديني عن الفكر العلمي، ومع توالي الإكتشافات العلمية وما قدمته للبشرية من مخترعات كثيرة، أتخذ العلم لنفسه مركزًا مرموقًا اتسم عند البعض بالغرور وأتاح لهم الفرصة لنقض الفكر الديني والتطاول عليه .
قد لا يكون هذا الخلاف حقيقيًا، لأنه قد نتج إما عن فهم الكنيسة الخاطئ للنصوص الدينية، أو إعطاءها قدسية لنصوص ليست دينية من الأصل، إذ أن فكرة دوران الكواكب والشمس والقمر والنجوم حول الأرض ليست مستنبطة من النصوص المقدسة وإنما هي نتاج الفكر الفلسفي اليوناني، ولا يوجد نص ديني يقول بذلك، أما موضوع نظرية تطور المخلوقات فقد لا تتعارض أيضًا مع النصوص السماوية، أي أن الخلاف بين العلم والدين، ليس خلافًا بين العلم والنصوص الدينية؛ وإنما هو خلافًا بين العلم والفهم الخاطئ للنصوص الدينية. وسوف نبين في هذا البحث الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه النتيجة .
وبالرغم من أهمية هذه القضية، إلا أن الأديان كلها تتواري عن مجابهتها وجهًا لوجه بأسلوب يعتمد على العقل، والعقل هو العامل المشترك، العقل والفؤاد هما المخاطبين في الخطاب الديني، بينما العقل وحده هو المخاطب في الخطاب العلمي، وحتى يصح التحاور بين الدين والعلم، يجب القبول بالإلتزام في حدود الحوار العقلي فقط، أي عدم الخوض في الحوار الميتافيزيقي أو الثيولوجي.
**************
يقينية العلم:
يقول برتراند راسل : أن العلم يقرر أحكامًا على سبيل التقريب لا على سبيل اليقين .
تقوم النظم الرياضية على إنسجام قضاياها فيما بينها بطريقة صورية، وقد لا تكون لها علاقة بالواقع، ومقياس اليقين هو مطابقة الفكر مع الواقع، ولا يقين إذا تطابق الفكر مع إفتراضاته.
ان المبدأ العلمي الذي يقول بوجود الإضطراد في الطبيعة، وينكر الأخذ بالصدفة في القوانين العلمية، يقبل بوجود الصدفة في أهم موضوعاته العلمية وهو وجود هذه القوانين ذاتها ووجود موضوع البحث العلمي وهو الكون الذي تعمل فيه القوانين العلمية .
نحن بصورة عامة نفترض صدق وصحة كل ما هو علمي، ولكن أكثر النظريات العلمية ينحصر تطبيقها في مجالات محددة، ولا تدعي لنفسها أنها صحيحة في كل المجالات والأبعاد، وتفقد مصداقيتها متى خرجت عن هذه الحدود. وقد تتعارض تصورات النظريات العلمية مع بعضها إذا خرجت عن حدودها، مثال ذلك، تصورات النظرية النسبية العامة لتأثير المادة على النسيج الكوني ولطبيعة قوة الجاذبية وكلاهما يعمل بصورة دقيقة في حدود العالم التلسكوبي؛ تختلف وتتعارض هذه التصورات مع تصورات نظرية الكم (الكوانتم) للقوى في العالم الميكروسكوبي والأصغر منه، ويتعارض مبدأ الحتمية الذي تدل عليه نظريات نيوتن ومن بعده أينشتين، بالقول بامكانية معرفة مستقبل أي جسم إذا عرفنا موقعه وسرعته الحالية واتجاهها والقوى الخارجية التي تؤثر عليه، مع مبدأ هيزنبرج في عدم إمكانية التيقن عند إجراء القياسات لموقع وعزم حركة الجسيمات الأولية مثل الإلكترونات وما مثلها، ويعجز العلم عند محاولة فهم طبيعة الزمن، وأسباب وجود القوانين والثوابت الفيزيائية على ما هي عليها، أضف الى هذا عشرات النظريات التي تقوم على افتراضات ونماذج ومعادلات رياضية يضعها العلماء، وتنشغل بها أكبر المعاهد والمؤسسات العلمية لعشرات السنوات ثم يهجرونها الى غيرها وغيرها.
إن من الأهمية البالغة إزالة وهم رسخ في أذهان الناس وأصبح حقيقة لا تقبل الجدل، وهي الثقة المطلقة في العلم، التي أصبحت من المسلمات التي يعتقد بها الإنسان العادي، ولهذا فعلينا أولاً الفصل بين العلم النظري والعلم التطبيقي ، العلم التطبيقي – التكنولوجيا – هو الذي وفر لنا كل المخترعات التي ننعم بها، وأساسه العلم النظري، ولكن نجاح المخترعات لا يعنى بالضرورة صحة فهمنا المطلق أو شمولية النظرية التي تقوم عليها هذه المخترعات، فكل أجهزتنا الكهربائية مثلاً تقوم على معلوماتنا المتعلقة بالكهرباء، وأهم مكوناتها الإلكترون، وبالرغم من نجاح هذه الأجهزة من تليفزيونات وحاسبات إلكترونية وغيرهم، إلا أننا لا نستطيع حتى الآن معرفة كنه الإلكترون، هل هو جسيم أم موجة أم كليهما، فلو تعاملنا معه كموجة وجدناه يتصرف مثل الموجات، ولو تعاملنا معه كجسيم نجده يتصرف كجسيم، ونحن نعرف الإلكترون من آثاره وليس من ذاته، وبالرغم أن القوة الكهرومغناطيسية، هي المسئولة عن تنوع العناصر وفقًا لعدد الشحنات الموجبة (البروتونات) والسالبة (الإلكترونات) في هذه العناصر، وهي المسئولة أيضًا عن تنوع المواد المركبة وفقًا لطُرق تبادل الإلكترونات بين ذرات عناصرها، إلا أننا لا نستطيع مثلاً قياس موقع الإلكترون وحركته ( السرعة والإتجاه) في آن واحد (Heisenberg Uncertainty Principle) ، وإنما أفضل ما نستطيعه هو أن نتبع مبدأ تقدير أفضل الإحتمالات Probabilities))، لا شك إن الطبيعة الإزدواجية -الجسيمية والموجية – للعالم الأصغر من الميكروسكوبي تتعارض مع المنطق العقلاني ومع المعقول وفق مسلماتنا، فالشئ لا يمكن أن يكون جسيم وموجة في آن واحد، الجسيم هو ما له كتلة وحجم، والموجة في أبسط صورها تخلخل في الوسط، وليس لها كتلة. وقد جابه فكر نظرية الكم معارضة عنيفة تزعمها ألبرت أينشتين، ومساجلاته مع بوهر أبو نظرية الكوانتم مشهورة، وبالرغم من هذا إلا أن نظرية الكم أصبحت واقعًا يقبله كل العلماء؛ أي أنهم يؤمنون بصحته وإن اعترفوا بعجزهم عن تفسيره وفق المنطق العقلي الذي يبنون عليه كل نظرياتهم، ولو تجاوزنا مشكلة إزدواجية الإلكترون والبروتون وكل مكونات الذرة، والتي تنطبق أيضًا على الفوتونات وهي الكم الضوئي، قد نتعجب أكثر من مشكلة التنسيق أو تبادل المعلومات عن بعد، بين اتجاه الدوران حول المحور Spin لإلكترونين بدءا متساويين في العزم، إصطدما فاتجها إتجاهين متعاكسين، المفروض أن مجموع عزمهما سيكون مساويًا لما قبل التصادم، واتجاه دوران كل منهما حول محوره معاكسًا للآخر، ودائمًا لو قسنا إتجاه الدوران في أحدهما نجد الآخر ولو كان على بعد شاسع يضبط إتجاه دورانه ليضاد الذي قسناه في الآخر، وكأن هناك إتصال معلوماتي آني، وهذا يشترط معه إمكانية إنتقال المعلومات والتنسيق بسرعة آنية، وهذا يتعارض مع النظرية النسبية التي تؤدي الى عدم تخطى أي شئ في كوننا لسرعة الضوء .
وفي العلم أيضًا يوجد العلم اليقيني، والعلم الشبه يقيني، وأهل العلم قد يصرون على أنه لا يوجد شئ أسمه علم شبه يقيني، وأنا أتفق معهم في ذلك بفرض توصلهم للمعرفة المطلقة ولو في أحد الجوانب العلمية، ولكنهم يعلمون جيدًا أن علومهم ذاتها تتعارض في أسسها -بعض الأحيان- مع بعضها الآخر، فكما ذكرنا فإن النظرية النسبية لأينشتاين، تتعارض في تحديد طبيعة القوى مع نظرية الكوانتم، (إينشتاين يعتبر أن المادة والطاقة تحددان إنحناءات النسيج الكوني وإنحناء النسيج الكوني يحدد تصرف المادة والطاقة، وأن الجاذبية هي تقعر/تحدب في هذا النسيج، بينما نظرية الكوانتم تعتبر أن القوى تنتج عن تبادل جسيمات صغيرة ومنها جرافيتون الجاذبية) وكلاهما ثابتة صحته بصدق توقعاته ثم تأكدها بالمشاهدة أو التجربة، كلاهما يعتبر صحيح في مجاله، أي ان التعارض لا يعني بالضرورة خطأ نظرية وصحة الأخرى، وإنما صحة كل نظرية في مجالها وفي داخل حدودها، وعندما يقبل العلماء بهذا التعارض، يعلمون أنهم لم يصلوا بعد إلى النظرية المطلقة التي تفسر كل القوى تفسيرًا متجانسًا.
والذي يجدر الإشارة إليه ههنا؛ أن النظرية ليست إلا تفسيرا للحقيقة، وليست هي الحقيقة ذاتها، فهي ليست إلا تقريب لها، وتستبدل النظرية بأخرى أفضل منها كلما أقتربت الأخيرة أكثر من الحقيقة، ولا يكون هذا إلا إذا جاءت بتفسير أفضل أو بمعنى آخر أكثر دقة. ومثال ذلك النظرية النسبية التي حلت محل نظرية نيوتن في أكثر من مجال. ومثال آخر هو الحدود الضيقة لتطبيقات الهندسة الإقليديسية في القياسات المساحية، والتي اعتقد الناس بكمالها قرابة ألفين عام، بينما هي محدودة بقياسات المساحات المستوية، وكوننا ثلاثي الأبعاد وكذلك سطح كرتنا الأرضية، إلا أننا نستطيع التغاضي عن هذه الحقيقة في المساحات الصغيرة نسبيًا، وحتى في هذه الحالات الضيقة، فنتائجها وإن كانت قريبة جدًا من الحقيقة ومفيدة للغاية من الوجهة العملية، إلا أنها ليست الحقيقة ذاتها.
ويهمنا هنا أن التعارض بين أهم نظريتين علميتين في عصرنا الحديث، لم يمنع العلماء من الأخذ والعمل بهما معًا كلا في مجاله، ولم ينادي أي مناصر لأحدهما بإلغاء الأخرى لتعارضها مع نظريته، بل قبل الجميع أن كلا منهما صحيح في مجاله، والمجال هنا هو في الحجم الكوني لنظرية النسبية والحجم الذري لنظرية الكوانتم، وهذا يدعونا إلى التساؤل هل تعارض أي نظرية علمية مع الدين يستدعي نقض أحدهما، أم أنه هنا أيضًا قد يكون للمجال تأثير بالغ على قراراتنا، فالعلم يتعلق بالماديات، بينما الدين يتعلق بالأمور الإعتقادية والأخلاقية والروحية.
أما عن العلم الشبه يقيني، وهو ما تعمل في مجاله أكثر هيئات الأبحاث الجامعية وغيرها من المنابر العلمية المتقدمة، من أشباه نظريات لم ترتقي بعد إلى مستوى النظرية المقبولة علميًا، والتي إنما توصلوا إليها عن طريق المعادلات الرياضية Mathematical Theories، مثل Superstring & Super Symmetry ، ولا أحاول هنا التقليل من أهمية هذه النظريات العلمية التي لن يتوفر للإنسان القدرة على إجراء تجارب لإثبات صحتها أو عدم صحتها ربما لعدة قرون، وربما إلى الأبد، وإنما أحاول أن أذّكر العلماء أن الشروط التي يضعونها للبحث العلمي، عندما يتناول هذا البحث الأمور الكونية أو الأمور المتناهية في الصغر أو حالات Singularity فإنهم قد يضطرون إلى مواصلة البحث دون الإعتماد على التجربة، والقبول بالنتائج التي يتوصلون إليها عن طريق المعادلات الرياضية والنماذج أو التجارب الفكرية Thought Experiment، أي بما يمكن تسميته بالعلم الغيبي، والغيب هنا في غياب التجربة المعملية أو المشاهدة.
نحن لا نحاول التقليل من أهمية العلم وإنما نضعه في مكانه الصحيح، خاصة عندما يضع نفسه في موقع الحاكم المطلق على صحة أو خطأ غيره، مستندًا إلى ما قدمه الى البشر من مخترعات لا ينكر أحد منا فضلها في تحقيق الرفاهية للناس، وما هي إلا علوم تطبيقية لا تختلف كثيرًا عن الحجر الذي وجده الإنسان الأول فصقله وصنع منه أدواته وسلاحه، وكما لم يتبحر الإنسان الأول في الحجر نفسه وأخذه على ما هو عليه، فمخترعاتنا كلها ما هي إلا إستخدام لما هو موجود أمامنا، ومسخر لنا، والعلم لم يخلق حجرًا من العدم ولا يستطيع ذلك. أما فهمنا المطلق لهذا الكون وما فيه، فما زال العلم بعيد عنه. ولهذا يجب أن نفصل بين العلم، وهو الفهم التقريبي النسبي المحدود بالظروف التي وجدنا أنفسنا فيها، وبين الحقيقة المطلقة. بل وكل علومنا محدودة بمشاهداتنا في أفقنا الكوني، ولا نعلم هل هذا الأفق الكوني هو كل الكون أم جزء صغير منه، وهل يمكننا أن نفترض أن ما لا نشاهده أو نحسه بأجهزتنا مثل ما نشاهده، إن من الغرور العلمي – الغير مستند على أي دليل منطقي أو علمي- أن يظن أي من البشر أنه في موقعًا يمكنه أن يحكم بصحة أو عدم صحة أي نموذج لما سبق بدء الخلق الكوني، أو أي نموذج لما هو خارج هذا الكون، إذ لا يوجد لدى العلماء الوسيلة أو التجارب التي من خلالها يستطيعون إثبات أو نقض أي نظرية علمية تفسر بدء خلق الكون، ومع غياب التجربة ليس لدينا سوى المنطق العقلاني الغيبي، والتاريخ العلمي البشري مليء بالنظريات الزائفة التي تكونت من خلال هذه العملية، ويعلم العلماء أنفسهم كم قاسوا لنقض وتجاوز بعض هذه النظريات الزائفة.
وأخيرًا، وقبل أن نترك هذا الموضوع، يجب أن نعود ونؤكد على أهمية العلم، وصحة الكثير مما توصل إليه، طالما حرصنا على معرفة الحدود الزمانية والمكانية التي تعمل فيها نظرية معينة، واعترفنا أن هذه النظرية وإن فسرت المشاهدات ونتائج التجارب التي نقوم بها؛ وتنبأت بنتائج مستقبلية ثبتت صحتها، إلا أنها لا تتعدى مجرد كونها تفسيرا مرحليا تقريبيا لهذه الظواهر؛ وليست التفسير الوحيد الممكن، ومن المحتمل بل ومن المتوقع أن تظهر في المستقبل نظرية أخرى تفسر هذه الظواهر بصورة أكثر دقة وأوسع حدودًا.
ويجب أن نتذكر دائمًا أن العلم لم يقدم لنا حتى الآن نظرية كاملة تكفي لتفسير كل شيء، Theory of Every Thing ولا يستطيع أن يتطرق إلى ما هو خلف العالم المحسوس، فيما يتعلق بما قبل التكوين، وما خارج الكون، وما بعد نهايته، ولم يقدم لنا أي تفسير لماذا الكون يتبع هذه القوانين والثوابت الطبيعية ومن أين أتت، ومازال يبحث عند نقطة البدء singularity ، العلم يصف لنا فقط ما هو عليه الكون، ولا يعرف وربما لا يهتم أن يعرف لماذا هو كذلك.
لا نشك أن المنهج العلمي هو أحد الطرق الأساسية نحو المعرفة، ولكنه له حدوده وقدراته، وحتى يستطيع العلم أن يصل الى الحقيقة أو قريبًا منها، يشترط أن تكون هذه الحقيقة معقولة وفقًا لمبادئ الفكر البشري؛ وقابلة للمعرفة، وبعبارة أخرى أن تسمح له.
تم الباب الأول في ديسمبر 1995م
وجرت إضافات وتعديلات بعد ذلك.
<< previous page | next page >> |
- ضرب الله تعالى الأمثال للناس في مواقع كثيرة في القرآن، مبينًا رمزية السرد خاصة فيما يتعلق بالغيبيات وغيرها لتقريب المعنى الى ذهن البشر بما يعقلونه. وفي قوله تعالى {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} ما يدل أن معناها الحقيقي يتجاوز المعنى المباشر الذي قد يفهمه عامة الناس. {كذلك يضرب الله للناس أمثالهم}47/3 وهي تبين أن الأمثال صيغت بما يتناسب مع فهم الناس. ولفظ مثل الذي ورد كثيرًا في القرآن يقصد به التشبيه والتصوير، والمجاز هو تجاوز المعنى المباشر للعبارة إلى معنى آخر يتعلق به تعلقًا ما. (back)
- قد لا تفيد هذه الآية بعجز البشر عن التأويل، وقد ذهب البعض من الأوائل إلى القراءة بما يؤدي إلى أن الراسخون في العلم قادرون على تفسيره، وفي الحديث أن رسول الله صلعم دعا لإبن عباس فقال : (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. (مختصر تفسير ابن كثير 265/الجزء الأول) (back)
- ليس في النص ما يدل على أنه لم يكن هناك أي شيء قبل خلق العالم، بل وتدل الآيات عن وجود الماء والعرش، والكون المخلوق يستدعي بالضرورة أن هناك ما قبله وما حوله وما بعده، وكل هؤلاء من الغيبيات التي ليس لنا مصدر لمعرفتها إلا النص، نؤمن به كما نزل، ولا نبحث فيه. (back)
- تحمل اللغة دلالات و معان ورموز للتعبير عن عالم الأشياء و الظواهر. (back)
- حتى الخيال يجب ان يكون مركبًا من محسوسات، فالملائكة قد نتخيلها كمخلوقات لها أجنحة وكلاهما معروف. (back)
- {إنا جعلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون} الزخرف 3 ، { فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} الدخان58، { كتاب فصلت آياته قرءانًا عربيًا لقوم يعلمون} فصلت 3، { وكذلك أوحينا إليك قرءانًا عربيًا لتنذر أم القرى ومن حولها …} الشورى 6 (back)
- يقول السيد سعدون محسن ضمد تحت عنوان حدود الإدراك في منظومة التلقي الإنساني: ”وهنا تبرز إشكالية قصور آلة الإدراك الإنسانية ـ من جهة المتلقي، حيث أن هذه الآلية ستعمل على تقييد المعطيات المستوردة من جهة ما وراء الطبيعة لجهة الطبيعة، وعندها ستفقد تلك المعطيات الكثير من قيمتها باعتبارها منزلة من قوة فوق إنسانية، لأنها ستترجم بلغة أو بمفاهيم الإنسان، وحينها ستتحول إلى معطيات إنسانية، أو لا أقل، إلى معطيات نصف إنسانية، ولن تعود معطيات فوق إنسانية مئة بالمئة. فكيف يتسنى للإنسان أن يفهم المعطيات الغير طبيعية، وهو يعتمد على آلية المعالجة، التي تستند بدورها لجمة مفاهيم طبيعية، بعبارة أوضح، فعندما تعمل هذه الآلية على استيراد مفهوم ماوراء طبيعي، فإنها وخلال عملية فهمه، ستضطر لمعالجته (مقارنة، تشبيه، استنباط)، بالمفاهيم الطبيعية، وهكذا ستجري عملية قياس يكون نتيجتها مفهوم إنساني (طبيعي أو نصف طبيعي)..“ (back)