حتى القرن السادس عشر الميلادي، كان عالم السماء غير عالم الأرض، عالم الأرض هو عالم الزوال والتحلل والتآكل والفساد؛ بينما الأشياء في السماء خالدة دائمة منتظمة لا يعتريها تغير ولا فساد، كانت الأرض مسطحة وكان الكون كله مسخر من أجلها، الشمس والكواكب والنجوم كلهم مصابيح في القبة السماوية، تتحرك في أفلاك مركزها الأرض، كانت صورة الكون لم تزل كما هي منذ تصورها أرسطو وبطليموس، أي منذ سنة 340 ق.م، عندما أعتقد أرسطو أن الأرض ثابتة في مكانها وأن القمر والكواكب والشمس والنجوم تدور حولها، وطور بطليموس هذه الفكرة في القرن الثاني بعد الميلاد عندما صور نموذج الكون على أن الأرض في المركز يغلفها سبع قبب تدور فوقها، هي مستويات القمر – عطارد – الزهرة – الشمس – المريخ – المشتري – زحل، ويعلو الجميع قبة أو سقف السماء المعلقة عليه النجوم الثوابت .
وقد تمكنت هذه الصورة من الفكر البشري حتى أصبحت الصورة الدينية للكون، أي التي تأخذ أهمية قدسية، وهي ليست كذلك. وقد أدى هذا إلى تكفير الكنيسة لكل من قال بعدم صحتها في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين. ويجب التنويه هنا أنها ليست مذكورة في النصوص الإسلامية، والذي ورد في القرآن هو “السبع سماوات” والتي فسرها البعض على أنها تلك المستويات، ولكن النص ذاته لم يشر إلى ذلك مطلقًا.
جاء في تفسير ابن كثير : ” الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل” ، وهذا ما كان في علوم القرن السابع الميلادي، وقد نحا أكثر المفسرون الأوائل إلى تفسير السماوات السبع على أنها هي هذه المدارات أو المستويات التي تشغلها هذه الأجسام السماوية، ولاحظ قولهم السيارات المتحيرة، لأنهم إتبعوا فكرة أنها تتحرك بالنسبة إلى الأرض الثابتة أو بالأصح بالنسبة للمشاهد الواقف على سطح الأرض، فكانت حركة الكواكب (الشمس والقمر ليسا من الكواكب) متحيرة لأنها لم تتبع فلك دائري منتظم بالنسبة للأرض (لأنها تدور حول الشمس).
ولو أخذنا بتفسير السبع سماوات الذي جاء عن بعض المفسرين المسلمين الأوائل كما سبق، فإن المستوى الأخير الأعلى والذي به النجوم الثابتة – وفق علمهم آنذاك – يصبح مستوًا ثامنًا، وهذا التفسير شابه الى حد ما نموزج أرسطو وبطليموس الذي كان سائدًا في هذه العصور والذي احتوى القبة الثامنة، وهذا التوافق بين التفسير الغير صحيح والعلم الخاطئ كان كافيًا لتأدية الغرض المطلوب في تلك المرحلة.
ولا بد أن المفسرين الأوائل قد عانوا بعض الشيء من محاولة التوفيق بين النصوص وهذا المعنى، ففي القرآن الكريم {فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا ذلك تقدير العزيز العليم } والمصابيح وفق علم القرن السابع هي النجوم الثابتة، وقد تعني الكواكب أيضًا، وجاء القمر كمصباح أيضًا، وهؤلاء كلهم في السماء الدنيا. وأيضًا { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } 37/6 وهذه سماء واحدة – من السبع سماوات – وفيها المصابيح والكواكب السيارة، ولهذا فلا يمكن أن يكون تفسير السماوات السبع هو المستويات التي تحدث عنها أفلاطون، والتي أعتبرها المفسرون ألأوائل ومثلهم الكنيسة التفسير الصحيح لما ورد في الرسالات.
ولهذا فتفسير السماوات السبع كما سبق كان مرحليًا، وكان يعكس مدى علمهم ويناسب مداركهم ويقوم بالغرض المطلوب منه آنذاك، ولكنه ليس صحيحًا، لا علميًا ولا بالنصوص القرآنية كما بيَّنا، والخطأ العلمي يتأتي من أن الكواكب السيارة في الحقيقة أكثر من الخمسة الذين جاء ذكرهم، فهناك ثمانية كواكب أساسية وخمسة أقزام وفق التقسيم المعاصر، والنجوم كلا منهم على مستوى وهؤلاء لا يمكن حصر عددهم ، وكلهم في سماء واحدة، والأهم من هذا أن هذا التفسير لا يؤدي إلى أي مدلول ذي أهمية إذا قيست هذه الأجسام السيارة بحجم الكون المشاهد، فالكواكب والقمر والشمس لا يتعدون نقطة من بحر هذا الكون المترامي الإتساع.
تنحو بعض التفسيرات المعاصرة الى تفسير السماوات السبع أنها المجرات، مع العلم أن في الجزء المشاهد من السماء أكثر من مائة بليون مجرة، وقد قالوا أن الرقم سبعة يشير إلى عدد هائل، كما هي العادة في الكتابات القديمة ومنها اليونانية، وقد أتخذ القرآن الأسلوب التشبيهي عند بيان الأعداد الكبيرة، مثل قوله سبحانه وتعالى: { ولو أنما في الأرضِ من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} لقمان 27، وقوله: {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها} سورة إبراهيم 34. ولكننا نعلم أن المجرات ما هي إلا تجمعات نجمية هائلة، وأن المجرات والنجوم كلها في السماء الدنيا، كما جاء في قوله تعالى {وزينا السماء الدنيا بمصابيح} والمصابيح هي النجوم، ومن الأوصاف القرآنية للسماوات السبع أنها طباقًا، ولا يمكن وصف المجرات أنها طباقًا، فهي تختلف في الشكل والسُمك والعُمر وعدد النجوم ومنها الكبير ومنها ما دون ذلك.
لا بد إن للسماوات السبع تفسير يتناسب مع مدارك القرن العشرين، ليس الكواكب أو المجرات أو غيرهم مما نجده في بعض التفسيرات المعاصرة، وسوف نقدم فهمًا مرحليًا نستنتجه في جزء لاحق من هذا البحث، وقد لا يصل الى درجة التفسير، ونترك الرأي فيه، مثله مثل كل ما يرد في هذا الكتاب، الى علماء وفقهاء الأمة، مع علمنا أن التفسيرات المرحلية قابلة للتعديل والتبديل والنسخ متى تقدمت علومنا البشرية وتقدم فهمنا للكون الذي نحيا فيه، وهذا ما سوف تبت فيه علوم ومدارك القرون القادمة.
ونعود إلى القرن السادس عشر، لنجد أن مشاهدات الفلكيين تعقدت كثيرًا من جراء محاولاتهم تصوير هذا الكون وفق المفهوم الشائع آنذاك من مركزية الأرض في الكون، إذ كانت مسارات الكواكب تبدو لهم لولبية معقدة غريبة، وفي عام 1530م أتم الفلكي البولندي كوبرنيكس a مشاهداته التي أظهرت له أن الشمس هي مركز الكون، وعندما جعل كل الأجسام السماوية تدور حولها، إنتظمت حركة الكواكب في مسارات دائرية أنيقة b ، ولكن كوبرنيكس لم ينشر نتائجه إلا قبل وفاته بفترة قصيرة خوفًا من سلطة الكنيسة، ومر قرابة القرن قبل أن تؤخذ فكرة كوبرنيكس بجدية، عندما رأي جاليلو من خلال منظاره المكبر أن هناك أقمارًا تدور حول كوكب المشتري (جويبتر)، مما أكد أنه ليس صحيحًا أن كل الأجسام السماوية تدور حول الأرض . وعندما درس كيبلر جداول المشاهدات الفلكية لمن سبقوه وعدل مدارات كواكب كوبرنيكس الدائرية إلى مدارات بيضاوية، وافق حساب المدارات الفلكية مشاهدات المراصد .
إلا أن هذا تعارض مع كبرياء الإنسان ورغبته في أن يكون موقعه في مركز كل شئ، أليس هذا ما ظن الإنسان أنه ما قالت به الأديان، ولم يدر بخلد أحد آنذاك أن يعيد النظر في صحة الفهم البشري للرسالات السماوية فيما يتعلق بالكونيات، الكنيسة تعجلت الحكم فحاربت بضراوة هذا الإكتشاف العلمي، وكفرت من تجاسر بالقول بمثل هذه الأقوال، لإعتقادها الخاطئ أن النص الإلهي يضع الأرض في مركز الكون.
يعتبر الغربيون أن جاليليو (1564 – 1642م) هو أول من قام في المعمل بتجارب علمية ودون نتائجها وإستنبط منها علاقات تعمل في مجال حركة الأجسام على الأرض، وأن كيبلر ( 1571 – 1630 ) الذي عمل في مجال علم الفلك، هو أول من قام بدراسة وتحليل جداول وسجلات مشاهدات الفلكيون الذين سبقوه وأجرى الحسابات ووضع معادلات واكتشف أن مدارات الكواكب إهليجية بيضاوية وليست دائرية .
ومع خلافنا مع هذه الأقوال، حيث أن كثير من العلماء المسلمين قد أعتمدوا التجربة ودونوا مشاهداتهم وإستنبطوا نتائج منها، وخاصة في علوم الكيمياء والأحياء والفلك . إلا أن ما يهمنا هنا هو أن كلا من جاليلو وكيبلر قد أعتمدا على التجربة عند الأول والمشاهدة عند الثاني؛ وقاما بتحليل المعطيات والخروج بنتائج علمية، بخلاف معاصريهم ومن سبقهم – في أوروبا – من الفلاسفة الذين كانوا يعتمدون على المنطق العقلي وحده .
وفي القرن السابع عشر جاء نيوتن ( 1642- 1727 م) ليبين أن الأجسام التي تسقط على الأرض كالتفاحة التي إشتُهر أنها سقطت أمامه من الشجرة، إنما تسقط لأن هناك قوة هي الجاذبية بينها وبين الأرض، ووجد نيوتن أيضًا إن الجاذبية التي توقع الأشياء على الأرض، هي نفسها التي تحفظ القمر في مداره حول الأرض، وهي نفسها التي تحفظ الأرض في مسارها حول الشمس، فهي تحرف مسار الأرض المستقيم فينحني شيئًا فشيئًا حتي ينتهي في مدار حول الشمس، وتستقر في المدار بفعل تعادل الجاذبية مع القوة الطاردة المركزية .
وأهمية إكتشاف نيوتن، أنه بيَّن أن الأجسام السماوية تخضع لنفس المعادلات الرياضية التي تحكم العالم الأرضي، فالقوة التي أوقعت التفاحة هي نفسها التي تحفظ القمر في مداره حول الأرض، وفجأة أصبحت الأجسام السماوية والأرض يتبعان نظاما كونيا واحدا، وكلاهما يدور وفق نظام محدد يستطيع العقل البشري أن يخوض فيه ويعقله، وبهذا أصبحت السماء والأرض في متناول العلم البشري، وولد آنذاك العلم الحديث، وولدت معه الثقة البشرية المفرطة في قدرتها على فك ألغاز هذا الكون إعتمادًا على العقل والمشاهدة والتجربة والإستنباط . وتوجت هذه الثقة عندما قدر أدموند هيلي ( 1656-1742م) مدار المذنب المسمى بإسمه، وتنبأ بأنه سيعود للظهور مرة أخرى، فلما ظهر النيزك في ديسمبر 1758م؛ تأكد العلماء أن الكون يعمل وفق قوانين ثابتة مثله مثل الساعة المنتظمة.
لقد شهد القرن الثامن عشر بدء تحول الفكر الغربي في أوروبا من الإيمان المطلق بالروحانيات والترتيب الكوني والطبقات العليا، إلى تفكير علمي يعتقد بإمكانية وصول العقل البشري إلى الحقائق الكونية المطلقة، ثم تطور نتيجة الثقة المفرطة إلى تفكير مادي بحت لا مكان فيه للروحانيات. وشتان بين الغرور الذي أكتنف العلماء آنذاك، وحالة الشك التي تحيط بهم في عصرنا الحديث، وخاصة بعد نظريات الكوانتم، وغيرها من النظريات الكونية التي تمتلأ بها معاهد الأبحاث.
<< previous page | next page >> |