{ والسماء بنيناها بأييدٍ وإنَّا لمُوسعُون }
51/47 القرآن الكريم – القرن السابع ميلادي
” مما يثير الإهتمام، أنه في المناخ الفكري العام قبل القرن العشرين، لم يقترح أحد أن الكون يتمدد أو ينكمش، فالذي كان مقبولاً بصورة عامة أن الكون موجود منذ الأبد في حالة ثابتة ليست متغيرة، أو أن الكون قد خلق في وقت محدد على الصورة التي نراها الآن ” صفحة 5 Brief History of Time عالم الفيزياء ستيفن هوكنج a 1988م
” إن أكتشاف أن الكون يتمدد، هو من أهم الثورات الفكرية للقرن العشرين، ولو نظرنا إلى الوراء، يسهل علينا أن نعجب كيف لم يخطر هذا على بال أحد من قبل، فنيوتن والآخرون، كان يجب أن يلاحظوا أن الكون المستقر كان لا بد أنه سيبدأ بعد وقت قصير في الإنكماش تحت تأثير قوة الجاذبية ” صفحة 39 Brief History of Time ستيفن هوكنج 1988م
حتى أوائل القرن العشرين، لم يداخل الفلاسفة أو الفلكيون، أي شك في أن الكون الذي نراه حولنا، هو الآن كما كان منذ القدم، بل وربما منذ الأبد، ثابتًا على حاله لم يعتريه تغيير في كليته، وأن النجوم والكواكب وكل الأجسام السماوية تتحرك فيه وفق الأدوار التي حددتها قوانين نيوتن للجاذبية والحركة، (وكان أفق مشاهداتهم الفلكية لا يتجاوز مجرتنا، إلا أن التقدم في صناعة التلسكوبات فتح أعينهم على أفق كوني أضخم بكثير مما كانوا يتوقعونه). إلا أن هذه الصورة المبسطة للكون تغيرت خلال العشرينات، نتيجة التقدم الفكري الذي إستنبط عن مفهوم أينشتين للجاذبية، ونتيجة لما تفتقت عنه مشاهدات الفلكي أدوين هوبل عند رصده ضوء المجرات البعيدة.
من المعروف أن أطوال الموجات الضوئية تختلف وفقًا لإتجاه حركة مصدرها، إبتعادًا أو إقترابًا عن الراصد، فهي تزيح نحو الطول الموجي فوق اللون الأحمر إذا كان المصدر يتحرك مبتعدًا عن الراصد، ونحو تحت البنفسجي إذا كان مقتربًا، وتحدث هذه الخاصية من تغير أطوال الموجات وفقًا لإتجاه الحركة في كل أنواع الموجات المعروفة، فمثلاً ينتشر الصوت عبر الهواء بشكل موجات، ولهذا يختلف الصوت الذي نسمعه عندما يكون القطار متجهًا نحونًا عن ذاك الذي نسمعه بعد أن يتجاوزنا القطار مبتعدًا عنا . وقد وجد هوبل في عام 1929م، أن الضوء القادم إلينا من كل المجرات البعيدة به إنزياح نحو فوق الأحمر، مما يدل أن هذه المجرات تتحرك مبتعدة عنا، وبقياس درجة الإزاحة تمكن هوبل من تحديد سرعة تراجع المجرات عنا. (ويمكن قياس أو تقدير أبعاد المجرات بالنسبة لنا، عن طريق مقارنة درجة إضاءة النجوم من النوع الواحد)، وقد وجد هوبل أنه كلما أبتعدت المجرة عنا، كلما زادت سرعة إبتعادها، أي أن هناك علاقة طردية بين المسافة والسرعة .
إن ما وجده هوبل في عام 1929م، من أن كل النجوم والأجرام البعيدة تتحرك مبتعدة عنا b ، يحمل في طيه فكرة جديدة عن الكون، فالكون ليس في حالة مستقرة ساكنة، وإنما في حالة تمدد دائم، أي توسع دائم، وهذا بالفعل ما تؤدي إليه نظرية أينشتين النسبية العامة، (لو أزلنا الثابت c الذي وضعه أينشتين لمنع الكون من التمدد أو الإنكماش)، فقد تنبأت أن الكون بمجمله لا يمكن أن يكون في حالة ساكنة، فالكون الذي تربطه الجاذبية ببعضه، لا يمكن أن يكون مستقرًا، لأن قوة الجاذبية سوف تجذب كل مادته وأجسامه حتى تتراكم على بعضها، إلا لو كانت هذه الأجسام تتباعد عن بعضها، بفعل قوة معاكسة للجاذبية، أي أن الكون لا يمكن أن يكون ساكنًا متزنًا على المدى الطويل.
وبالرغم من إعتقاد كل علماء الغرب أن فكرة تمدد الكون تعتبر من أهم إكتشافات الفكر البشري فيما يتعلق بالكون، وأن هذه الفكرة لم تخطر في ذهن أحد قبل سنة 1929م، إلا أن الآية القرآنية {والسماء بنيناها بأييدٍ وإنَّا لمُوسعُون} 51/47، التي نزلت في القرن الميلادي السابع وتكون سابقة للفكر البشري، تدل بوضوح على حالة التوسع المستمر. وحدد العلم أن النجوم تبتعد عنا لا بحركة ذاتية منها وإنما لتوسع الفضاء بينها، أي أن السماء تتمدد وتحملها معها فتبدو وكأنها تتحرك بذاتها متباعدة عن بعضها، وهذا ما حدده القرآن الكريم.
وتباعد كل المجرات عنا بسرعات تتناسب طرديًا مع بعدها عنا لا يعني بالضرورة أننا نقع في مركز هذه الحركة وبالتالي في مركز الكون، أي أننا لا نستعيد الموقع المميز الذي ظن البشر أنه خاص بهم حتى القرن السادس عشر، ربما نكون مميزين كأهم ما تفتق عنه هذا الكون من مخلوقات حية واعية، إلا أن موقع كوكبنا لا يتميز عن غيره بشيء.
لو أخذنا بالون من بالونات الأطفال، ورسمنا على سطحه نقط بالقلم ثم نفخناه، فسنجد أن سطح البالون يتمدد أثناء النفخ، وتتباعد النقط عن بعضها بسرعات تتناسب مع المسافات بينها، ولو تصورنا أننا وقفنا في أي نقطة من هذه النقط ثم رصدنا منها كل النقاط الأخرى، فسنجد أن كل هذه النقاط تبتعد عنا بسرعات مختلفة، إلا أن كل منها يتناسب طرديًا مع مسافته منا، وهذا ما سنرصده أيضًا لو غيرنا نقطة الرصد هذه إلى أي نقطة أخرى، أي أنه لا توجد نقطة مميزة، ولهذا لا يصح أن نقول أن أي نقطة معينة هي المركز .
ولو أعدنا ما سبق، وإستعضنا عن النقاط بدوائر صغيرة قصصناها من ورق مقوى، ولصقناها في أماكن متفرقة على سطح البالون، ثم نفخنا البالون، فسنجد أن التمدد يحدث فقط في المسافات بينها، بينما تبقى الدوائر على مساحتها الأصلية، ولو سمينا الدوائر الورقية مجرات، نجد أن سطح الكون هو الذي يتمدد بين المجرات حاملاً أياها بعيدًا عن بعضها، بينما لا تتمدد المجرات ذاتها، وهذا ما نشاهده في الكون الحقيقي .
ولكن هل يعني هذا أن الكون يمكن تشبيهه بالبالون المتمدد، ربما؛ وربما أيضًا قد يكون سطحه مثل سطح سرج الحصان، وربما لا هذا ولا ذاك، فنحن لا نرى سوى ما هو في حدود أفقنا، وهذا الجزء قد يكون هو كل الكون، وقد يكون جزءًا صغيرًا جدًا من الكون.
ولو شبهنا سطح الكون بسطح بالون أو كرة، نجد أن السطح ليس له مركز، كل النقاط عليه متماثلة لا يتميز أيهما عن الآخر بشئ، وهو سطح مغلق لانهائي، بمعنى أنه ليس له أول ولا نهاية، وأي نقطة عليه يمكن أن تكون البدء والنهاية، فلو بدءنا من أي نقطة عليه وسرنا في خط مستقيم بالنسبة الى سطحه فسننتهي إلى نفس النقطة بعد دورة كاملة أيًا كان الإتجاه الذي نختاره، وسطح الكرة ليس له طرف أو حافة، ولهذا يمكن القول أنه لا نهائي بمعنى عدم وجود بدء وعدم وجود نهاية أو حافة .
والسؤال الذي يطرح نفسه، إلى أي مدى سوف يستمر هذا التمدد الكوني، لو وقفنا على سطح الأرض وقذفنا بحجرًا إلى أعلى، فسوف يرتفع الحجر مرتفعًا، ثم تقل سرعته تدريجيًا حتى يتوقف تقريبًا ليبدأ في السقوط متسارعًا نحو الأرض، والجاذبية هي التي قللت سرعته في الإرتفاع وهي التي سارعتها عند السقوط، ولو قذفنا الحجر بسرعة أكبر فسيبلغ أرتفاعاً أعلى وسيسقط بعد زمن أطول قليلاً، أما لو قذفنا الحجر بسرعة كبيرة جدًا ( تتجاوز 11 كيلومتر في الثانية وهي سرعة الإفلات الحرجة) فسوف يهرب من مجال الجاذبية الأرضي ويستمر في الإرتفاع إلى الأبد، (أو حتى يقتنصه مجال جاذبية آخر) .
وتمدد الكون، قريب إلى حد ما، من الحجر الذي مثلنا به، فإذا كانت طاقة التمدد الكوني (قوة القذف) أكبر من قوة الشد الجذبي، فان الكون سوف يستمر في التمدد إلى الأبد . أما إذا كانت قوة الجذب إلى الداخل أكبر من قوة التمدد، فسوف يتوقف التمدد في وقت ما، وسيبدأ الكون في الإنكماش بسرعة متزايدة تتشابه مع التسارع عند السقوط الحر على الأرض .
وعليه، فإن هناك سرعة إنطلاق حرجة عند بدء تمدد الكون، وإذا كانت السرعة التي إنطلق بها الكون أعلى من السرعة الحرجة، فإن قوة الجاذبية لن تستطيع أن توقف تمدده، وسوف يستمر الكون في التمدد الى الأبد، أو إلى أن يفقد طاقته التمددية كلها، وهذا الكون ما يسمونه كونًا مفتوحًا. أما إذا كانت سرعة إنطلاقه أقل من السرعة الحرجة، فان الجاذبية سوف توقف تمدده في زمن مستقبلي، وتجذبه لينكمش حتى يعود الى نقطة البدء، عندما كانت كل مجراته ومادته وطاقته في نقطة واحدة، وهذا الكون ما يسمونه كونًا مغلقًا .
والذي يدعو إلى بالغ العجب، أن السرعة التي إنطلق بها الكون عند بدء تمدده، قريبة جدًا من السرعة الحرجة، لدرجة أن العلماء لا يستطيعون تحديد هل هي أعلى بقليل أو أقل بقليل، والفرق الذي يذكرونه متناه في الصغر، إلا أنه ما يحدد مصير كوننا، هل هو كونًا مغلقًا أو مفتوحًا. فالعجب هنا أنه لو قلت سرعة الإنطلاق كثيرًا عن السرعة الحرجة، لإنكمش الكون بعد وقت قصير؛ قبل أن يتسنى له الزمن الكافي لتكوين المجرات والنجوم والكواكب، وظهور الحياة وظهورنا. ولو زادت سرعة الإنطلاق كثيرًا عن السرعة الحرجة، لتمدد الكون بسرعة بالغة فتناثرت مادته متباعدة عن بعضها قبل أن يتسنى للجاذبية المحلية الفرصة لتجميعها في سحب ليتكون منها بعد ذلك النجوم والمجرات والحياة، حقًا إن التوازن الدقيق الذي يوجد عليه الكون، هو توازن غاية في الدقة، إلى درجة لامتناهية، بما قد نعجز معها عن قياس مقدار إختلاف سرعة الإنطلاق عن السرعة الحرجة، وهذه الحالة، التي يسميها العلماء “الإستواء” Flatness of the Universe ، قد تكون هي النموذج العلمي الوحيد الذي يمكن أن تتكون فيه الحياة.
وهذا الإستواء الكوني، قد يفسر سبب الحجم الهائل لهذا الكون، فبدون هذا الحجم لا يكون كونًا فيه حياة، مثل تلك التي على كرتـنا الأرضية، وفي هذا رد على المتسائلين لماذا الكون كبيرًا هكذا.
وحيث أن الكون يتمدد ويكبر مع مرور الزمن، فإنه أصغر الآن عما سيكون عليه بعد ساعة واحدة، وبعد عام، ولو أعدنا عقارب الساعة، فسنجد أن الكون كان أصغر في العام الماضي عما هو عليه اليوم، وكان أصغر من ذلك في الأعوام التي سبقته، ولو واصلنا رحلتنا في الماضي، وإفترضنا إستمرار هذه الحركة دون أن يداخلها أي تغير، سنجد أن الكون ينكمش تدريجيا كلما توغلنا أكثر في الماضي، حتى ننتهى إلى زمن في الماضي السحيق عندما كان كل شئ فيه ملتصقًا ببعضه، ولو توغلنا أكثر نجد أن المادة فيه تنضغط أكثر وأكثر حتى تصبح صغيرة وحارة للغاية، صغرًا لا تستطيع معه أن تنضغط وتصغر أكثر، صغيرة لدرجة أنها قد تكون في حجم يقارب الذرة وتحتوى كل مادة الكون وطاقته، وهذا هو أقصى ما قد تمكننا به العلوم المعاصرة إلى الرجوع عليه، لأن عند هذه النقطة تفشل كل القوانين التي نعرفها، وهذا في رأيها – أي العلوم المعاصرة – هو بداية الكون .
أي بفرض صحة الإفتراضات التي وضعناها، وليس لدينا دليل على ذلك، يمكن القول أن الكون قد بدأ من نقطة، وهذا معناه أن للكون بداية، وهذا غير ما كان معتقدًا به حتى أوائل القرن العشرين، من أن الكون لا يحتاج إلى بدء وأنه قد يكون موجودًا كما هو منذ الأبد، مما دعا العلماء إلى إغفال دراسة طبيعة أي نشأة له، وإعتبر هذا نوعًا من الفلسفة السوفسطائية والفكر الديني، إذ ليس له تأثير على هذا الكون المستقر المتزن، أما بعد إكتشاف تمدد الكون، فقد فتح هذا الفهم الجديد الباب أمام البحث العلمي للخوض في طبيعة هذه النشأة .
الذي يجب أن نشير الإنتباه إليه هنا، أنه حتى عهد قريب، في الستينات، كانت النظريات العلمية التي تبحث في طبيعة الكون، تنحصر في هاتين النظريتين المتعارضتين، النشأة المفردة؛ والكون الأبدي المستقر، وكان الفريد هويل يتزعم نظرية الكون الأبدي المستقر المتزن، والتي كانت هي الأكثر ترجيحًا بين العلماء، أما عن تمدد الكون الذي أكتشفه هوبل، فقد إستطاع الفريد هويل أن يفسره ببراعة في إطار نظرية الكون الأبدي، الكون المستقر تنخلق فيه المادة باستمرار في الفضاء ما بين المجرات، فإذا زادت كثافة الكون عن حد الكثافة الحرجة تمدد حتى تقل الكثافة عن الحد الحرج فينكمش حتى تزيد عن الحد الحرج، وهكذا يتراوح الكون بين تمدد وإنكماش إلى الأبد، وطالما نحن نتحدث عن الأبد، فمرحلة التمدد الواحدة قد تتجاوز بلايين السنوات .
ولهذا لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن نظرية النشأة المفردة للكون أو الإنفجار الكبير ليست الوحيدة التي تفسر تمدد الكون، وأن الحقيقة الوحيدة التي لدينا أن الكون يتمدد ويتسع منذ أمد بعيد جدًا، منذ بلايين السنين، ولأن النجوم المتباعدة عنا والتي شاهدها هوبل يبعد عنا بعضها بلايين السنين، فما بعد عنا بليون سنة نراه كما كان منذ بليون سنة وليس كما هو الآن . الشعاع الضوئي يقطع الكون بسرعة ثابتة هي أسرع ما عرفناه في هذا الكون، إذ تبلغ سرعته 186,000 ميل في الثانية، وعندما نقول أن النجم يبعد عنا عشرة سنوات ضوئية، فأننا نقول بذلك شيئين، أولهما أن المسافة بيننا وبين النجم ما يقطعه الضوء في عشرة سنوات، ( أي على مسافة 58,697,136,000,000 ميل، وقد نستطيع تصور هذه المسافة إن عرفنا أن القمر يبعد عنا فقط 250,000 ميل، وان عشرة ملايين سنة ضوئية هو مكان قريب جدًا جدًا بمعيار هذا الكون الواسع)، وثانيهما أن ما نراه هو ما كان النجم عليه منذ عشرة سنوات، أي كما كان في سنة 1985 من التقويم الأرضي إذا كانت المشاهدة في سنة 1995.
وإذا علمنا أن الكون به بلايين من المجرات في كل مجرة مئات البلايين من النجوم، وتتراوح أبعاد هذه النجوم عن الأرض بين ثمانية دقائق ضوئية ( نجمنا المحلي الذي نسميه الشمس )؛ الى بلايين السنوات الضوئية، يمكننا القول أننا نستطيع مشاهدة نجوم ومجرات الكون ممتدة زمنيًا، كما كانت منذ بلايين السنين حتى قبل بضعة دقائق مما قد نسميه الآن بمعيارنا الأرضي، أي أن السماء هي كتاب تاريخ كوني مفتوح d . وأهم مادته أن الكون يتمدد منذ بلايين السنين . وما يخرج عن أفقنا البصري والإشعاعي، أي ما هو أبعد مما تستطيع أجهزتنا قياسه هو مجهولا وغيبًا لا نعرفه، وبالرغم من أن صفحاته مغلقة إلا أننا قد يمكننا إستنتاج بعض خصائصه بسبل الإستدلال العلمي، وبفرض أنه إستمرارًا لما نراه .
إلا أن الثلاثة عقود الماضية، شهدت تحولاً كبيرًا من أنصار نظرية الكون الأبدي إلى نظرية النشأة المفردة، إذ إستطاع عالمان في الستينات أن يرصدوا موجات فضائية منتظمة cosmic microwave background radiation تأتي إلينا أينما يكون الإتجاه الذي وجها إليه مرصدهما، وإعتبر أنصار نظرية النشأة المفردة أن هذه الموجات هي ما تبقى من إنفجار الكون وقت نشأته، أي هي صدى هذا الإنفجار الذي ما زال الكون يتمدد منذ حدوثه . وبالرغم من أن هذا التفسير لم يكن جازمًا، إلا أنه قد أدى الى توجه العلماء الى البحث عن طبيعة النشأة المفردة، وظهرت النظريات التي تصف هذا الحدث وتحدد تاريخه، وتراوحت تقديرات عمر الكون بين ثمانية بلايين وعشرين بليون سنة، ووجد العلماء أن أهم أحداث هذا الكون والتي تقرر من خلالها نجاحه على البقاء والإستمرار وإنتاج الحياة ونحن منها، تكمن في الثلاثة دقائق الأولى حتى الثلاثمائة ألف سنة الأولى من عمره، وقد جابهوا كثيرًا من المصاعب تم التغلب على بعضها، وما زال البعض قيد البحث، ولا يمكن البت بالصحة المطلقة لأي نظرية، وهذا من طبيعة النظريات العلمية، وكل ما يمكن قوله أن أي نظرية مرجحة على غيرها لأنها تستطيع تفسير ظاهرة ما، ولأنه يمكن التنبأ عن طريقها بنتائج يمكن التحقق منها بالتجربة أو بالمشاهدة والرصد. وقد تنبأت نظرية النشأة المفردة أن درجة حرارة الموجات الفضائية يجب أن تكون أكثر من درجتين فوق الصفر المطلق وقد صح هذا، ثم وجدت أنه حتى تتكون النجوم والمجرات، فان هذه الموجات الفضائية، يجب أن يكون بها قدرًا متناهٍ في الصغر من الإختلاف ، وحيث أن الرصد من على سطح الكرة الأرضية لا يتيح درجة الدقة المتناهية المطلوبة لرصد هذا الإختلاف البسيط، ترقب العلماء بلهفة نتائج الرصد التي قام بها القمر الصناعي كوبي COBE ، الذي إطلق في عام 1989، وبعد عامين من الترقب وفي إبريل 1992، رصد القمر الصناعي إختلافًا متناهيًا في الصغر في هذه الموجات، موافقًا لما توقعه أنصار نظرية النشأة المفردة، وبهذا توافقت أولى المشاهدات مع توقعات النظرية، وأصبحت بذلك أكثر جدية عما قبل، إلا أنه ما زال أمامها الكثير من التفاصيل عليها أن تفسرها قبل التأكد من صحتها، وأهم العقبات أمامها في الوقت الحالي هو تحديد ثابت هوبل، والذي متى تحدد يُعرف عمر الكون، وتتراوح تقديرات العلماء لهذا الثابت بين 30 و 90 ، وأولهما يعطى لهذا الكون عمرًا طويلاً يجاوز خمسة عشر بليون سنة، بينما ثانيهما يعطيه عمرًا أقصر في حدود ثمانية بلايين عام، ولو صح الأخير فإن هذا سوف يؤدي إلى مشكلة كبيرة لأن كونًا عمره ثمانية بلايين سنة لا يمكن أن يكون فيه نجومًا تتجاوز أعمارها عشرة بلايين سنة، وفق ما ثبت بالعلوم المعاصرة الأثبت من تلك التي تحدد ثابت هوبل بما فيه عمر الكون، إن على الفلكيون والعلماء الإجابة على هذا الأمر قبل أن يتم الجزم في كثير من الأمور الكونية، إلا أنه بالرغم من هذه العقبة المؤقتة، والتي جابه العلم مثلها في مجالات كثيرة أخرى من قبل، إلا أن الباحثون مستمرون في دراسة طبيعة النشأة المفردة، وفي الصورة التي بدأ بها الكون والتي قد ينتهى عليها.
وقد توصل العلماء مؤخرًا الى أن عمر الكون على أقرب تقدير 13،7 بليون سنة ( في حدود زائد أو ناقص 200 مليون سنة) وفق نتائج WMAP والتي حددت أن ثابت هوبل هو (70) ورجحت صحة نظرية التضخم في صورها الأبسط (أطلق المكوك سنة 2001 نشرت القراءات في 2003 والنتائج في 2006).
واكتشفوا أيضًا أن معدل تسارع تمدد الكون في ازدياد، أي أن سرعة تمدده تزداد عما كانت عنه في الماضي.
نظرية النشأة المفردة:
إن أقرب صورة مبسطة للطريقة التي يعتقد العلماء أن الكون وجد عليها، في وقت معين في الماضي السحيق، أنه خلق من فراغ أو من طاقة أو كإمتداد عن كون آخر، أو أي شيء آخر، فالعلم لا يستطيع البحث في نقطة البدء لأن كل القوانين والثوابت التي تحكم الكون لم تكن قد وجدت بهذه الصورة بعد، قد يسعفنا العلم ببعض التصورات عما حدث بعد ذلك فورًا، أي عندما كان عمر الكون 10-43 من الثانية (أي واحد مقسومًا على “واحد أمامه 43 صفر”)، فقد كان عبارة عن كم صغير للغاية، وكانت كل طاقة ومادة الكون مركزة في هذه النقطة اللامتناهية في الحرارة والضغط، وكانت الجسيمات كلها في أصولها البدائية الأولى، تتحرك وتتداخل مع بعضها بتأثير قوة واحدة هي أصل كل القوى التي نعرفها، وكان الكون كله يتمدد ويكبر e . وفي اللحظة اللاحقة، وحتى أصبح عمر الكون 10-33 من الثانية، تضخم الكون فجأة، بمعدل يكبر كثيرًا عن معدل تمدده السابق، وكبر في زمن قصير للغاية من حجم أصغر من جسيم ذري أولى ( Elementary Particle ) إلى حجم كبير نسبيًا قد يوازي حجم كرة متوسطة الحجم، وأنفصلت الجاذبية عن القوة الواحدة لينتج قوتين، قوة الجاذبية وقوة المجموعة المتحدة ( القوتين النووية القوية والضعيفة، والقوة الكهرومغناطيسية )، وأدى تصادم كثير من الجسيمات مع ضد الجسيمات إلى فناءهما وصدور أشعة عن هذه العملية، إلا أن العلماء يقدرون أن عدد الجسيمات كان أكبر قليلا من ضد الجسيمات، مما تبقى وكون بعد ذلك مادة الكون .
وعندما أصبح عمر الكون عُشر البليون من الثانية، إنفصلت القوة النووية القوية عن المجموعة المتحدة، وأصبح في الكون ثلاث قوى، هم الجاذبية والقوة النووية القوية والقوة المتحدة، والأخيرة إنفصلت (عندما كان عمر الكون جزء من مائة مليون من الثانية) إلى قوتين هما القوة النووية الضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية، وبهذا أصبح في الكون أربعة قوى تؤثر عليه وتضبطه .
وكان هناك فقط ليبتون وكوارك . وعند عُشر المليون من الثانية، كان الكون قد برد بدرجة كافية تستطيع معها جسيمات الكوارك أن تجتمع معًا لتكون الجسيمات الأولية . فأصبح الكون حمأ من جسيمات أولية (بروتون ونيوترون وإلكترون وكل بقية الجسيمات الأولية القصيرة العمر)، وبعد هذا كان في الكون ليبتون وبحر من الجسيمات الأولية. وكلما أتحد بروتون ونيوترون لتكوين نواة بفعل القوة النووية القوية، صدمتها الأشعة والجسيمات الأخرى وشتتت مكوناتها.
وبين دقيقة واحدة وثلاثة دقائق : عندما أنخفضت حرارة الكون إلى تحت البليون درجة كلفن، تسارع حدوث التفاعلات النووية بفعل القوة النووية القوية بينما قلت قدرة قوة الصدم على تشتيت النوى، فتكونت نوى الغازات الأولية كالهليوم والديوتيرم ثم الليثيوم، إلا أن هذا التفاعل الإتحادي النووي توقف بعد ذلك بفترة قصيرة نتيجة إستمرار تمدد الكون وإنخفاض الكثافة والحرارة بسرعة نحو المائة مليون درجة كلفن، وإستمر الكون في التمدد بعد ذلك، مع تناقص حرارته وكثافته.
إن الكون بدأ كونًا معظمه طاقة، ثم تدرج ليصبح كونًا معظمه مادة، وقد تكونت ذرات الهيدروجين والغازات البسيطة بتعلق الكترون مع بروتون عندما انخفضت درجة الحرارة الى 4000 – 3000 ْ كلفن . وهذا عندما انفصلت الأشعة عن المادة، وحدث هذا عندما أصبح عمر الكون نحو 300,000 سنة، وقبل ذلك كانت الجسيمات (إلكترونات وأنوية) في حالة حرة، يسميها العلماء سائل البلازما، وكان كلما أنضم إلكترون حول نواة، صدمه جسيم سريع وأخرجه من مداره، وكان وجود الإلكترونات السالبة الحرة يشتت الأشعة، فلما إجتمع الإلكترون مع النواة الموجبة في ذرة متعادلة، أنفصل الشعاع عن المادة إلى الأبد، ومضى كلا منهما في طريقه.
وبعد ذلك أنتشر مادة الكون مع تمدده، وتكونت السحب الفضائية، التي تولد في داخلها النجوم وتكونت المجرات. ويولد النجم عندما ينضغط جزء من السحابة الهائلة المكون معظمها من الأيدروجين بفعل الجاذبية المحلية لهذا الجزء، وعندما ينضغط الغاز ترتفع درجة حرارته، إذ تتحول طاقة الجاذبية إلى طاقة حركية لذراته (Kinetic energy )، ومع إرتفاع الحرارة إلى درجات عالية يحدث التوازن بين الجاذبية وقوى الضغط المتولدة، فيولد النجم من كرة الغاز هذه، و يبدأ التفاعل النووي في نواته ليؤدي إلى تحول الأيدروجين إلى العناصر الأثقل، وبعد عدة بلايين من السنين، وعندما ينتهى مخزونه من الطاقة، قد ينفجر النجوم إذا من حجم معين، ملقيًا الى السحب الفضائية هذه العناصر الثقيلة ومنها الكربون والحديد، وعندما تتكون نجوم الجيل الثاني بنفس الطريقة، تلفظ هذه النجوم أثناء تكونها هذه العناصر الثقيلة مع بعض الغازات في ذراع تمتد الى مسافات شاسعة تدور حولها لتقليل سرعة دوران النجم الحديث حول نفسه، فتتكتل هذه العناصر بفعل مراكز جاذبية محلية على الذراع، مكونة الكواكب السيارة التي تكمل دورانها حول نجمها الأم، والشمس أحد هذه النجوم التي تكون حولها عدة كواكب سيارة الأرض أحدهم.
بالرغم مما عرضناه فيما قبل هذا، فإن كل ما طرحناه من حقائق لا يتعدى أن الكون الذي ندركه يتمدد في هذه المرحلة من تاريخه، والتي تمتد لعدة بلايين من السنين، ونعرف أيضًا إن النجوم لها دورة حياة، تولد وتحيا ثم تموت، ليولد غيرها وهكذا، وإن هذا الكون متسع للغاية وبه مجرات ونجوم تحصى بمئات البلايين، وعندما نتحدث عن الكون فإننا نتحدث فقط عن أفقنا الكوني، وليس الكون كله، والأفق هو أقصى ما يصل إليه مدى أجهزتنا الحسية، أي أقصى ما نراه بالبصر وبالأجهزة، بما فيها كل مراصدنا التي ترصد الضوء ومختلف الإشعاعات والموجات الأخرى ودرجات الحرارة واللمعان، وحيث أنه لا شئ يستطيع التحرك أسرع من سرعة الضوء، فإن أقصى ما نستطيع أن ندركه هو مسافة ضوئية لا يمكن أن تتجاوز عمر الكون، (أو منذ أنفصل الإشعاع عن المادة والمقدر حدوثه عندما كان الكون عمره تقريبًا ثلاث مائة ألف سنة)، فلو كان الكون عمره 14 بليون سنة مثلاً، فهذا هو كل الوقت المتاح للضوء أن ينتقل فيه، وهذا أقصى ما نستطيع أن نرى، لأن الضوء الذي صدر عن مجرات تبعد عنا أكثر من 14 بليون سنة ضوئية، لم يصلنا بعد، وما زال في طريقه إلينا . وكلما توغلنا في المستقبل كلما إتسع أفقنا، وكلما إستطعنا أن نري أكثر في هذا الكون .
لقد سادت نظرية النشأة المفردة لقرابة الخمسة عقود الماضية، ألا أن الأعوام الأخيرة شهدت ظهور نظريات منافسة لنظرية النشأة المفردة، مثل الأوتار الفائقة بصورها الخمسة والتي نتج عنهم نظرية (م)، ونظرية الكون المذبذب، وآخرها ekpyrotic scenario التي أضافت أغشية على نظرية الأوتار وافترضت أن الكون بدأ من اصطدام غشائين متوازيين يتموجان مما نتج عنه بدء تمدد كوننا.
الإختلاف بين كل هذه النظريات يكمن فقط في كيفية حدوث الأشياء في الدقائق الأولى من عمر الكون، إذ يوجد إجماع يعتد به، في علمنا بما حدث منذ أن كان الكون عمره 300,000 سنة حتى الآن، وإجماع لا بأس به على الفترة التي تلت الدقائق الأولى من عمر الكون. الإختلاف كان بسبب عدم اقتناع بعض العلماء بعدم جدية الخوض في لحظة البدء وما قبلها، فخاضوا فيهما وجاءوا بنماذج تفسر الكون وكيفية ظهوره وتطوره وتعطى نتائج مستقبلية لهذه النماذج تماثل التى نراها في الكون المشاهد، وبعضها لم يحتاج الى فكرة التضخم السريع إذ لم يحتاجها نموذجه مثلما إحتاجها نموذج النشأة المفردة.
إن لحظة الخلق وما قبلها، والتي ما زالت قيد البحث العلمي، هي المختلف عليها بين هذه النظريات، أما ما حدث بعدها بدقائق، فأنه في خطوطه العريضة متفق عليه، وان لم يستطع العلم فك كل إلغازه كالمادة المعتمة ولماذا الجاذبية ضعيفة بالنسبة لبقية القوى، وأن ما نراه ونحسه لا يتجاوز جزء صغيرُا من مادة وطاقة الكون.
إلا أن نتائج المكوك WMAP التي نشرت في مارس 2006 رجحت صحة نظرية التضخم، التي تعمل عندما كان الكون في الجزء من الثانية الأولى من عمره. والتالي هو ما ملخص النتائج:
WMAP provided higher accuracy measurements of many cosmological parameters than had been available from previous instruments. According to current models of the universe, WMAP data show:
- The universe is 13.7 billion ± 200 million years old.
- The universe is composed of:
- 4% ordinary baryonic matter
- 22% of an unknown type of dark matter, which does not emit or absorb light.
- 74% of a mysterious dark energy, which acts to accelerate expansion.
- The cosmological scenarios of cosmic inflation are in better agreement with the three-year data, although there is still an unexplained anomaly on the largest angular measurement of the quadrupole moment.
- The Hubble constant is 70 (km/s)/Mpc, +2.4/-3.2
- The data are consistent with a flat geometry.
- CMB polarization results provide experimental confirmation of cosmic inflation favoring the simplest versions of the theory.
<< previous page | next page >> |
- ستيفن هوكنج هو أستاذ الفيزياء في جامعة كامبردج ببريطانيا، وهو نفس المركز الذي شغله نيوتن، ويعتبر ستيفن هوكنج من أشهر علماء العصر الحديث. (back)
- عندما يتحرك شئ مبتعدًا عنا يكون في اللغة العربية مُدبِرًا، لاحظ اللفظ القرآني { وإدبار النجوم } (back)
- عندما أنتهى أينشتين من معادلاته، وجد أنها لا تمثل كونًا مستقرًا متزن، وإنما يتمدد أو ينكمش، لهذا أضاف ثابتًا الى المعادلة حتى يمنع هذا التمدد، ولما أكتشف هوبل بعد عدة أعوام أن الكون يتمدد، قال أينشتين عن هذا الثابت أنه: My biggest blunder لأن فكرة تمدد الكون كانت من نتائج معادلاته. (back)
- { فلا أقسم بمواقـع النجـوم ، وأنه لـقسم لو تعلمون عظيم } بالإضافة الى العدد الهائل وإنكسار الضوء وانحرافه وغيرهما مما يؤثر على حقيقة ما نراه في السماء، فان النجوم التي نراها ليست الآن في المواقع التي نراها فيها، حيث أن ما نراه هو ما كانت عليه عندما بدأ الشعاع الضوئي رحلته منها منذ سنوات للنجوم القريبة ومنذ بلايين السنوات للبعيدة، أما أين هي الآن لو لم تكن قد إندثرت، فهذا لا يعلمه إلا الله، وكذلك هناك في السماء نجوم حديثة الولادة، لا نراها بعد لأن ضوءها لم يزل في رحلته نحونا ولم يصل بعد، وهذه أيضًا نجوم موجودة لا نعلم عنها شيئًا حتى يصل شعاعها الضوئي الينا. (back)
- في نظرية ال Superstring Universe ، كان الكون كثير الأبعاد عند لحظة خلقه، ذو ستة وعشرون بعدًا أو ذو عشرة أبعاد، وعندما تمدد في الجزء الأول من الثانية، المعادل لثابت بلانك، 10-43 من الثانية، وأصبح قطره 10-33 سم، توقف تمدد ستة من الأبعاد، بينما أستمر أربعة في التمدد حتى اليوم، وهم الثلاثة أبعاد المسافية (طول وعرض وسمك) والبعد الزمني الرابع. ولا يوجد دليل على وجود هذه الأبعاد الستة التي توقفت عن النمو، ونظرًا لصغرها فمن المستحيل رصدها أو قياسها. (back)