الفصل الثالث – تاريخ قصة الخلق في المعرفة البشرية

          تواجد الإنسان على كوكب الأرض منذ عدة ملايين من السنين، ويعود أقدم ما وجد من أدوات حجرية بدائية إلى ما قبل مليون وتسعمائة ألف سنة تقريبًا، ويُعتقد أنه كان يمارس مهنة الزراعة منذ أحد عشر ألف سنة، أما الكتابة، فتعود أول النقوش المكتوبة على الحجر الى ما قبل خمسة آلاف وخمسمائة سنة، وهو زمن قريب نسبيًا.

          وقد واجه الإنسان قضية وجوده في هذا الكون المترامي، وحاول تفسير ما يحيط به من قوى الطبيعة، فتولدت الأساطير التي كانت في عصرها بمثابة النظريات القائمة على إفتراضات، تعتمد بالدرجة الأولى على القدرات الإقناعية وإمكانات التخيل البشرية، والتي بطبيعة الحال لا تحتاج برهان ولا يمكن إثباتها بالمشاهدة أو غيرها، وإنما يشترط التصديق والإيمان بها، وقد تستند في حالات كثيرة، على الرغبة في الإعتقاد بها. وقد لا يختلف هذا عن فرض الإيمان الغيبي الذي تتطلبه الرسالات السماوية، والذي يتطلبه أيضًا بصورة غير مباشرة، أشباه نظريات العلم الحديث مثل نظرية ال Superstring  ، وغيرها مما لا يمكن أثباته بالتجربة، لأن الموضوع الذي نتعامل معه وهو الخلق الكوني، يخرج عن قدرات معاملنا ومُسارِعاتنا، (بينما قد تفيدنا إكتشافاتنا في موضوع الخلق التطوري للإنسان)، ولهذا قد يتوجب علينا في كثير من الأحيان الإعتماد على العقل، ولكن الإعتماد على العقل (والتجربة الفكرية) فقط قد يؤدي بنا إلى أن نضل طريقنا، كما حدث عندما إعتقد أرسطو بناء على الإستدلال المنطقي أن الأرض ثابتة، وبالتالي فان الحركة التي نشاهدها في السماء هي حركة سماوية، وليست كما نعرف الآن -في معظمها- نتيجة دوران الأرض حول نفسها. وهناك أيضًا موضوع حدود صحة الظاهرة عند تطبيقها العملي، إذ أننا يجب أن نضع كل فكرة في حدودها التي وردت فيها، فلو ورد في فكرة ما أن الأرض مسطحة، لا يعني هذا خطأ الفكرة وإنما قد يشير الى نسبيتها ومحدوديتها، فاذا كانت الأرض تعنى قطعة الأرض التي يسكنها أنسان ما، فهذه يمكن التعامل معها على أنها مسطحة، وهذا ما نفعله حتى اليوم عندما نستخدم هندسة أقليدس المستوية في تخطيط منشآتنا، وإن كانت تعنى الأرض ككوكب فسطحه ليس مسطحا، أي أن حدود النظرية ونسبيتها تحدد حدود صحتها ونسبية هذه الصحة، ومتى خرجنا عن هذه الحدود تفقد مصداقيتها، والنظرية المطلقة التي تغطى كل شئ وفي كل الحدود ما زالت من أهداف العلم ولم يبلغها بعد.

          لقد تطورت تفسيرات الإنسان لهذا الكون وكيفية خلقه ونشأته، خلال حقب كثيرة من تاريخ تطوره على الأرض، وكانت في أغلب الأحيان تعكس تقدمه الفكري من جهة، ورغبات السلطة من جهة أخرى، إلا أننا نجد عددا من الطفرات التي حدثت، وتمثل بعضها في الرسالات السماوية، وبعد ذلك في ظهور العلم الحديث، ونبدأ ببعض النماذج عن الأساطير التي تداولها الناس في العصور القديمة، نعرضها من كتاب (الله جل جلاله والإنسان) للدكتور السامرائي: 

           “” تشير أغلب الأساطير القديمة، إلى الماء كأصل الخلق أو أنه المادة الأزلية، ” وأقدم ما تخيله المصريون في أصل العالم المعمور أنه عيلم واسع من الماء طفت عليه بيضة خرج منها رب الشمس وأنجب أربعة من الأبناء، هم شو وتفنوت القائمان بالفضاء و وجب رب الأرض و توت رب السماء، ثم تزاوجت السماء والأرض فولد لهما أوزيريس وإيزيس وست ونفتيس فهم تسعة آلهة في مبدأ الخليقة نشأوا من تزاوج الأرض والسماء ” . وفي قصة الخليقة الهندية شبه بقصة الخليقة المصرية، حيث تقول’’ فالحياة خرجت من بيضة ذهبية كانت تطفو على سطح الماء في العماء والإله الأكبر كان ذكرًا وأنثى فهو الأب والأم للأحياء . وتتفق مصر وبابل والهند على أن الإله الأكبر قد خلق الأرض بكلمة ساحرة فأمرها بأن توجد فبرزت على الفور إلى حيز الوجود‘‘ .

          ومن متابعة القصص والإساطير الروايات والوقوف عند الآلهة التي مثلت عقائد الإنسان في العراق نجد أن القوى التي تجمعت فيها عقائد الإنسان تمثلت بالعناصر والمظاهر والقوى الآتية :

1-  كان في البدء عنصر الماء الذي أزليًا وإلهًا في الوقت نفسه ..

2-  تولد من عنصر الماء عنصر آخر هو عنصر الأرض والسماء متحدتين، وكانت الأرض والسماء إلهين كذلك .

3-  وتولد من السماء والأرض المتحدتين عنصر غازي هو الهواء المتمدد الذي فصل بتمدده السماء عن الأرض، وجسموا الهواء وجعلوه إلهًا هو الإله إنليل …

4-  وتولد من الهواء القمر، ومن القمر ولدت الشمس، وجسموا كلا من القمر والشمس وعدوهما إلهين .

5-  وبعد إنفصال الأرض عن السماء نشأت أنواع الحياة الأخرى من نبات وحيوان وإنسان على الأرض، وقد تصوروا أن أصل الحياة والأشياء من إتحاد الهواء والتراب (الأرض)، (الماء) بمساعدة الشمس وهذه هي نظرية العناصر الأربعة . “”  a

           وقد أدخلت الأساطير أيضًا عناصر: الوجود والعدم، الحياة والموت، والنور والظلام، والشر، الخطيئة والعقاب، تناسخ الأرواح، الخلود، الزفانا الأرضية والصمدية، وتخبطت بين آلهة كثيرة ربما تكون الشمس أهمها، والذي يهمنا من كل هذا أن الأنسان كان لديه عقائد تختلف وتتشابه – في بعض الأحيان – من حضارة إلى أخرى . وما قصة الطوفان التي تكررت عند أغلب الحضارات والأديان إلا دليلاً على قدم القصة، مما جعلها من التراث الذي حملته معها القبائل الأولى المهاجرة، ولا شك أن الحضارات كانت تتأثر وتنقل عن بعضها، ولهذا لا غرابة أن نجد تشابه بين الأساطير، ولا عجب أيضًا أن نجد إختلاف بينها إذ تتطور بعد إنتقالها بما يتوافق مع ثقافة وظروف كل مجتمع  .

           ومن أوائل الرسالات التي أشارت إلى خلق الكون بشيء من التفصيل، أحتواها سفر التكوين في العهد القديم، ونحن لا ندري بدقة تاريخ سفر التكوين، والذي يعيده بعض المؤرخون إلى عصر النبي موسى عليه السلام، أي حوالي 1275 ق.م ، وربما كان قبل ذلك، ولا ندري أيضًا من دوَّنه، بالطبع هو جزء من الرسالة اليهودية التي أصل مصدرها الله سبحانه وتعالى، ولكن الأصل ربما يكون قد تغير من جراء التدخل البشري في محاولتهم التوفيق بين المعتقدات التراثية والنص، أو إضفاء قدرات أعظم -وفق تصورهم- الى الخالق تعالى .

           وتتكون كتب الدين اليهودي من ثلاثة أجزاء ويحتوي كل جزء منها على العديد من الكتب، التوراة ( القانون) وهي كتب النبي موسي، وهي الكتب الخمسة الأولى، التي لم تصل إلى صورتها التي نعرفها حتى نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، ومنها سفر التكوين . والجزء الثاني الأنبياء، وهي الكتب القصصية التاريخية . والجزء الثالث هو الكتابات.

           ويجب ملاحظة أن ترتيب الكتب في العهد القديم؛ ليس بالضرورة هو تاريخ كتابتها، وقد نجد في كتاب واحد فقرات من كتب أخرى في عصور أخرى، ونجد في أغلب الحالات أن كتابات من العصور السابقة قد أعيد كتابتها من قِبل كتاب لاحقين، مما أدى إلى وجود أكثر من نص يعبر عن نفس الحدث. وقد كُـتب الكتاب اليهودي أصلاً باللغة العبرية، ثم ترجم إلى الآرامية ثم اليونانية في عصر الإسكندر الأكبر b .

           وحتى وقت قريب، كان أقدم نسخة تحتوى على الجزء الأكبر من الكتاب اليهودي تعود إلى القرن التاسع ميلادي، إلا أنه تم مؤخرًا في الأربعينات من هذا القرن إكتشاف نسخًا من أجزاء الكتاب اليهودي تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وهي ما تسمى مخطوطات البحر الميت.

           وقد أحتوى الكتاب المسيحي المقدس، على أكثر كتب العهد القديم (ومنها سفر التكوين) مضيفًا إليه الأناجيل التي كُتبت بعد عهد السيد المسيح عليه السلام .

           ولو نظرنا إلى سفر التكوين وحده بمنظار ثقافتنا وعلمنا المعاصر، لن يساورنا شك أن هذا النص لا يعبر عن الحقيقة، ولكننا لو نظرنا إلى النص بمنظار معرفة العصر الذي ظهر فيه، وقارناه بالأساطير المتداولة آنذاك، وبالرغم من وجود بعض عناصر التشابه معها، إلا أن النص يعتبر قفزة  في الفكر البشري . فهو يحتوي على إيجابيات كثيرة، قد تقرب النص إلى علمنا الحديث مسافة أقرب عما كانت عليه الأساطير، بالطبع ما زالت المسافة المتبقية كبيرة وشاسعة أيضًا، إلا أنها على أقل تقدير، كانت قفزة في اتجاه الطريق الصحيح .

 النص كما ورد في سفر التكوين عن الكتاب المقدس عن دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط:

          { في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه . وقال الله ليكن نور فكان نور . ورأي الله النور أنه حسن . وفصل الله بين النور والظلمة . ودعا الله النور نهارًا والظلمة دعاها ليلاً . وكان مساءٌ وكان صباحُ يومًا واحدًا .

          وقال الله ليكن جلد ( أو رقيع وهو شئ مبسوط ) في وسط المياه . وليكن فاصلاً بين مياه ومياه . فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد . وكان كذلك . ودعا الله الجلد سماء . وكان مساءٌ وكان صباحُ يومًا ثانيًا .

          وقال الله لتجمتع المياه تحت السماء إلى مكان واحدٍ ولتظهر اليابسة، وكان كذلك . ودعا الله اليابسة أرضًا . ومجتمع المياه دعاه بحارًا . ورأى الله ذلك أنه حسنٌ . وقال الله لتنبت الأرض عشبًا وبقلاً يبزر بزرًا وشجرًا ذا ثمرٍ يعمل ثمرًا كجنسه بزرهُ فيه على الأرض . وكان كذلك . فأخرجت الأرض عشبًا وبقلاً يبزر بزرًا كجنسه وشجرًا يعمل ثمرًا بزره فيهِ كجنسه . ورأى الله ذلك أنه حسنٌ . وكان مساءٌ وكان صباحُ يومًا ثالثًا .

          وقال الله لتكن أنوارٌ في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل . وتكون لآيات وأوقات وأيامٍ وسنين . وتكون أنوارًا في جلد السماء لتنير على الأرض، وكان كذلك . فعمل الله النورين العظيمين، النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل؛ والنجوم . وجعلها الله في جلد السماء لتنير على الأرض؛ ولتحكم على النهار والليل ولتفصل بين النور والظلمة . ورأى الله ذلك أنه حسنٌ . وكان مساءٌ وكان صباحُ يومًا رابعًا.

          وقال الله لتفض المياه زحَّافاتٍ ذات نفس حيةٍ . وليطير طيرٌ فوق الأرض على وجه جلد السماءِ .  فخلق الله التنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كاجناسها وكل طائرٍ ذي جناحٍ كجنسهِ . وباركها الله قائلاً أثمري واكثري وإملإي المياه في البحار . وليكثر الطير على الأرض . وكان مساءٌ وكان صباحُ يومًا خامسًا .

          وقال الله لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها . بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها، وكان كذلك . فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها والبهائم كأجناسها وجميع دبابات الأرض كأجناسها، ورأى الله ذلك أنه حسنٌ . وقال الله نعمل الأنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض . فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم . وباركهم الله وقال لهم اثمروا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض . وقال الله أني أعطيتكم كل بقل يبزر بزرًا على وجه كل الأرض وكل شجرًا فيه ثمر شجرٍ يبزر بزرًا لكم يكون طعامًا، ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيت كل عشب أخضر طعامًا . ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسنٌ جدًا . وكان مساءٌ وكان صباحُ يومًا سادسًا .

          فأكملت السماوات والأرض وكل جندها . وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، وبارك الله اليوم السابع وقدسه . لأنه فيه إستراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقًا .      

          هذه مبادئ السماوات والأرض حين خلقت، يوم عمل الرب الأله الأرض والسماوات . كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض وكل عشب البرية لم ينبت بعد . لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان ليعمل الأرض . ثم كان ضباب يطلع من الأرض ويسقي كل وجه الأرض . وجبل الرب الأله آدم ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حيوةٍ . فصار آدم نفسًا حيةً . وغرس الرب الأله جنة في عدن شرقًا ……. } أنتهى

 وورد هنا موضوع الستة أيام، الذي يتناقض مع بلايين السنوات التي أستغرقها الكون منذ نشأته الأولى حتى ظهور الإنسان، وهذا موضوعًا سوف نتعرض إليه عند دراسة نصوص الآيات القرآنية، إلا أنه يجب التنويه هنا أننا لا نتوقع أن تتضمن أي رسالة سماوية إلى أهل الأرض في تلك الأزمان، أن مرحلية الخلق أستغرقت بلايين السنوات أو حتى ثلاثمائة ألف سنة، نحن نتذكر أنه حتى عدة قرون مضت، كان البشر يعتقدون أن عمر الأنسان على الأرض لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين، وإله يحتاج إلى بليون أو ثلاثمائة ألف سنة  – في نظر البشر في تلك العصور القديمة – ليس هو الإله القوى القادر، بل هم لم يكونوا يستطيعون تخيل مثل هذه الأرقام، والتي يصعب حتى علينا أن نتخيلها. ولهذا فمعنى الستة أيام نسبي ومرحلي رمزي، ونفترض أن هذا المعنى سيتضح بصورة أفضل عندما يصبح الإنسان مؤهلاً لفهم أن هذه الحقيقة إنما تعبر عن عظمة وقدرة الله تعالى .

 أما ما يأخذه البعض على أن فترة الخلق التي عبر عنها بوحدة الأيام الزمنية، لا يصح لأن اليوم هو دورة الأرض حول نفسها، والصباح والمساء يتعلقان بوجود الشمس، بينما الأيام الثلاث الأولى لم يكن هناك لا شمس ولا أرض. إلا أن هذا النقض ينطبق أيضًا على العلماء الذين يؤرخون مراحل التكوين بالسنوات، فيقولون مثلاً أن الشعاع ذو الموجات الطويلة Background Radiation  صدر عن الكون عندما كان عمره 300,000 سنة، والسنة التي يقصدونها هي زمن دورة الأرض حول الشمس، ولم يكن أيهما قد وجد آنذاك.

           بعد سفر التكوين، أو مزامناً له، نجد أن أهم المحاولات البشرية لتفسير الكون، هي النظريات الفلسفية اليونانية، ونلاحظ أن الفكر العلمي اليوناني تأسس على نظريات تقوم على العقل دون أن يكون لها أي أساس تجريبي، إذ بدأ ديمقريطس حوالى سنة 400 قبل الميلاد، بنظريته أن كل المواد والأجسام مكونة من تجمع واتحاد أعداد كبيرة جدًا من الدقائق الصغيرة التي لا نستطيع رؤيتها، وسمى هذه الدقائق الذرات بمعناها في اللغة اليونانية “الغير قابلة للإنقسام” أي أننا يمكننا تقسيم المواد إلى أجزاء أصغر حتى نبلغ الحد الصغير جدّا وهو الذرة ولن يمكننا تقسيمها أقل من ذلك . وأعتقد ديمقريطس أن هناك أربعة أنواع مختلفة من هذه الوحدات أو الذرات، ذرة الحجر، ذرة الماء، ذرة الهواء، وذرة النار .

           وفي سنة 384 ق.م ، ولد أرسطو والذي أشتهر لعبقريته الفذة، والذي تتلمذ الإسكندر المقدوني على يديه، وبالرغم من عبقرية أرسطو في مختلف مجالات المعرفة، إلا أن تصوره الخاطئ للكون قد طبع الفكر البشري طيلة ألفي سنة بنظريته، لدرجة أنها لم تصبح فقط أساس الفكر اللاهوتي المسيحي، وأنما غدت من المسلمات والبديهيات التي لم يجد البشر حاجة في البحث في أمر صدقها. 

           ان فكرة أرسطو عن الكون، والتي سيطرت قرابة ألفي عام، كانت مبنية على المشاهدة البشرية، هناك نجوم ثابتة لا تتغير مواقعها في السماء التي تدور حولنا، وهناك خمسة نجوم متحركة بالنسبة للنجوم الثابتة سميت كواكب، وهناك الشمس والقمر وهما يدوران أيضًا حول الأرض، وقد فسر أرسطو هذه المشاهدات على أن الكون عبارة عن ثمان قبب بلورية فوق بعضها البعض مثبت على كل قبة على التتالي الشمس والقمر والكواكب الخمسة (كل كوكب على قبة) ثم كل النجوم الثابتة في آخر وأعلى قبة، وتدور هذه القبب أبديًا حول الأرض الثابتة في مركزهم. 

           إن فكر أرسطو الذي كان من المسلمات العلمية حتى القرن السادس عشر، لم يكن صحيحًا، وقد وجد جاليليو عدم صحته عندما تناول موضوع أن الأرض ثابتة وأن الأجسام السماوية تتحرك في أفلاك حولها، فالأرض ثابتة وفق فكر أرسطو؛ لأن الأشياء تسقط على الأرض من الأماكن العالية (كبرج مثلاً) وفق مسار رأسي تمامًا، ولو كانت الأرض تتحرك لسقط في مسار مائل ولاصطدم بسطح الأرض بعيدًا عن قاعدة البرج، لأن البرج يكون قد تحرك مع الأرض أثناء سقوط الجسم، وليكن حجرًا مثلاً ، ولأن الحجر يسقط عند قاعدة البرج وليس بعيدًا عنها فأن هذا يعني أن الأرض وما عليها ثابتة لا تتحرك. وكلنا نعرف اليوم أن الأرض تدور حول نفسها دورة كل 24 ساعة، ومع ذلك فالحجر يسقط من أعلى البرج ويصطدم بالأرض أسفل البرج مباشرة. ويسهل تفسير ذلك لأن الحجر عند تحرره وسقوطه من البرج، يحمل معه سرعة أفقية مثل تلك التي تدور بها الأرض حول نفسها، ونرى ذلك عندما نشاهد رواد الفضاء يخرجون من سفينتهم التي تدور حول الأرض، مثل محطة ميرس الفضائية، فهم يسبحون حولها وكأنها ثابتة، بينما نعلم أنها تدور حول الأرض بسرعة فائقة.

           وقد نشأ إعتقاد أرسطو من فكرة أن الأجسام تتحرك نتيجة قوة مؤثرة عليها، ومتى توقفت القوة توقف الجسم، مثل العربة التي يجرها حصان فهي تتوقف عندما يتوقف الحصان عن الجري، ولهذا ظن الناس حتى القرن السادس عشر، أن حجرًا يقع من صارية سفينة متحركة على سطح الماء سوف يصطدم بسطح السفينة عند مؤخرتها، لأن الحجر الذي يسقط من السفينة ينفصل عنها فيتوقف تأثير قوة دفعها بينما تستمر السفينة في الحركة أثناء سقوطه الرأسي فيصطدم بسطحها عند المؤخرة.

           والفكر العلمي اليوناني، يعتمد على المنطق العقلي بصورة أساسية ولا يهتم بالتجربة، وكان الإقتناع العقلي كافيًا لصحة أي نتيجة علمية، ولم تكن التجربة لها أهمية فمن المسلم به أن ما هو منطقي سوف يثبت بالتجربة ولهذا فإجراء التجربة يعتبر في رأيهم مضيعة للوقت، ولو كلف أي بحار نفسه بإلقاء حجر من أعلى صارية السفينة لوجد أن الحجر يسقط رأسيًا عند قاعدة الصاري بالرغم من أنه أنفصل عن السفينة لحظة رميه، وأن السفينة ظلت بعد ذلك تتحرك على سطح الماء .

           لأننا لو أسقطنا حجر من فوق صارية سفينة بخارية مثلاً متحركة بسرعة ما، فإن هذا الحجر سوف يسقط تحت الصاري مباشرة، والسبب أن الحجر عند لحظة إسقاطه يكون له سرعة أفقية مساوية لسرعة السفينة وفي نفس إتجاهها، ولهذا فسوف يستمر أثناء سقوطه الرأسي في حركة أفقية موازية لحركة السفينة ومساوية لها، وسيبقى دائمًا فوق قاعدة الصاري، بينما يؤدي سقوطه الرأسي الحر (وفق معدل التسارع من أثر الجاذبية) الى أن يسقط بجاور قاعدة الصاري مباشرة تحت النقطة التي أسقط منها . إن المثال السابق يمكن تقريبه إلى أذهاننا بفرض أننا نجلس في طائرة تطير بسرعة 500 ميل في الساعة، فلو سقط منا قلم فهو يقع رأسيًا تحت مقعدنا ولا يقع في مسارمائل تحت مقعد في عدة صفوف خلفنا، وهذا واضح لدينا الآن، إلا أن الإعتقاد البشري حتى القرن السادس عشر، أي قبل عصر جاليلو، كان غير ذلك .

           وقد ناسبت نظرية أرسطو معتقدات الكنيسة، والكتب السماوية آنذاك. الأرض ثابتة والسماء تدور حولها، والقبب البلورية تتحرك في دقة ونظام بقدرة الله تعالى، ولهذا فقد حاربت الكنيسة كل من كانت تسول له نفسه تغيير هذا النظام الذي يعتمد إعتمادًا كليًا على الله سبحانه وتعالى. وكان من أهم نظرياته أيضًا أن كل شئ يتحرك إنما يتحرك نتيجة فعل قوة عليه، أي أن لكل متحرك محرك، وطالما أن هذا سوف يأخذنا في سلسلة من المتحركات والمحركات، فلابد أن ننتهي إلى محرك أول، هو الخالق. وبالرغم أن أرسطو لم يقل أن المحرك الأول هو الله تعالى، إلا أن المؤسسات الدينية وجدت في هذه النظرية الدليل العلمي الذي تحتاج إليه للإستدلال على وجود الخالق عز وجل.

           وهناك أيضًا قضية تناسب الكون وكمال تصميمه، في شكليه الميكانيكي والعضوي، وقد شغلت هذه القضية منذ بزوغ الحضارة وحتى القرن التاسع عشر، الجزء الأكبر من الجهد الفكري اللاهوتي والفلسفي،  ولها صداها في علومنا الحديثة مثل علم أنثروبي Anthropy  c.             لقد بدأ الإنسان في ملاحظة روعة وكمال التصميم منذ قديم الزمان البشري، ونجد هذا في الفكر اليوناني عند سقراط وبلاتو ثم ارسطو، وقد سبقهم الطبيعيون وأولهم طاليس (624-550 ق.م) والذي ذهب إلى أن الماء أصل كل شئ، بينما عارضه في ذلك انكسمندر، والذي ذهب إلى أن المادة لامتناهية لا في الكم ولا في الكيف، وهي مزيج من المتضادات، كانت كلها في البدء شيئًا واحدًا وبفعل الحركة حدثت إنفصالات وتجمعات بين بعضها والبعض الآخر بنسب متفاوتة فتكونت عنها الأشياء الطبيعية المختلفة، منوهًا بأهمية دور الحرارة في هذه التكوينات. واستنتج أن المادة لامتناهية ثابتة غير حادثة وأبدية غير مندثرة، وتوجد الأشياء بطريق الحركة التي تجمع الأشياء وتفرقها، وليس لهذه الحركة أي غاية أو هدف . ثم جاء انكزمنيس الذي رأى أن أصل العالم هو الهواء، وذهب هيرقليطس الى أن أصل العالم النار وهي المبدأ الأول للوجود . بينما ذهب فيثاغورث إلى أهمية الأعداد والنغم، وأعاد أصل العالم الى الأعداد. واقترب ديمقريطس بعض الشئ من الحقيقة حين قال أن أصل الأشياء هو الذرة التي لا تنقسم الى ما هو أصغر منها، وما الأشياء إلا تجمع عدد من الذرات وما فسادها إلا نتيجة تفرق الذرات التي تكونها، وبالرغم أن مذهب ديمقريطس مادي إلا أن أحد أتباع مدرسته وهو أنكسجوراس قال أن الحركة التي تجمع هذه الذرات أو تفرقها في نظام وجمال لا يمكن أن تكون بفعل قوة عمياء أو بمحض الصدفة، وإنما تسيرها وتحكمها قوة عاقلة واعية ذكية، توجهها نحو هدف وغاية محددة.  

           وبعد ذلك، كان سقراط وتلميذه أفلاطون، الذي اعتمد دليل النظام الظاهر في كل أجزاء الكون، وأعتمد على الحركة الجارية فيه والمتعاقبة على كل الموجودات، للتدليل على وجود القوة المدبرة للكون والمهيمنة عليه. واعتقد سقراط أن الحقائق حاصلة في العقل، وجاء أفلاطون بنظرية المثل، لتقريب الحقيقة التي لا يدركها العقل بمثلها أو ما هو أقرب شئ لها من الموجودات التي يستطيع العقل أن يحسها.

           واعتقد أرسطو أن كل شئ له سبب وغاية وهدف، ولا يوجد شئ في هذا العالم دون غاية أو وجد هباء   in vain وان كل شئ يجري في العالم يعود الى علة أولى ومحرك أول، وتحريكه الأشياء لعلة وغاية، فكل متحرك لابد له من محرك، وهذا المحرك لا بد له من محرك، ويتسلسل الأمر حتى نصل إلى المحرك الأول الأزلي، الذي يحرك ولا يتحرك أو لا يحتاج إلى محرك، وإلا لتسلسل الأمر إلى ما لانهاية، وهذا المحرك الأول هو الله Y، ولم يوضح أرسطو صلة إلهه بالكون، هل هي صلة أولى أم مستمرة. وقال أن معرفة ظروف نشأة الكون أو البدء ليس لها أهمية لأنها ليس لها تأثير على وضعه الراهن، واعتقد أنه على الأغلب أنه لم يكن للكون بدء، وأنه موجود هكذا منذ الأزل ولا يتغير، وحيث أن كل موجود له غاية يسعى اليها، فالمهم هو معرفة غايات ونهايات الأشياء. واعتبر أرسطو الزمان مقياس للحركة، ولهذا لا يتحدد الزمان إلا بوجود حركة ومتحرك وعقل يعي حركة المتحرك ويقيسها. أما المكان فهو ما حوى شئ موجود، ولهذا ينكر وجود الفراغ المطلق الخالي من أي شئ .

           وكونت هذه المدرسة اليونانية نموذج كوني من عدة قبب سماوية مركزها الأرض، الثلاثة الأولى الأقرب إلى الأرض إحتوت على الماء والهواء والنار، يعلوها سبعة قبب تحتوي كل منها على أحد الأجسام السماوية المتحركة، ويعلوهم قبة خارجية تحتوي كل النجوم الثابتة . ولاحظ أرسطو الإنتظام والسمو في حركة ودوام الأجسام السماوية العليا، التي لا يعتريها تغير وتتميز بالحركة الدائرية والتي إعتبرها -أي الدائرة- أسمى الأشكال الهندسية لتماثلها التام، وهذا الدوام والإنتظام يختلف عن الأجسام الأرضية التي تتعرض للتغير والتحلل والفناء .

           وقد استدل ديوجين ( 400-325ق.م) من تعاقب الشتاء والصيف والليل والنهار والمطر والريح وغيرهم من الكثير من المظاهر الطبيعية، أن هذا التنظيم المتكامل لا بد أن يكون ناتجًا عن تحكم قوة مفكرة، وقد إعتقد أن هذه القوة تكمن في الهواء. وعارض ثيوفوستوس (372-287ق.م) صحة قضية أن كل شئ في الكون له هدف وغاية، مستدلاً بأمثلة منها القحط والفيضان والمجاعات، التي ليس لها هدف بناء، ونوه أن شرط الهدف والغاية لا ينطبق على كل الظواهر، وانه لا يجب إلقاء أهمية كبيرة عليه .

          بينما ظهرت في نفس الفترة أيضًا الأفكار المادية بدءًا بديمقريطس (450ق.م) كما ذكرنا، ثم بالمدرسة الأبيقورية المادية ( 341-270ق.م) التي قالت أن العالم بدأ في وقت معين في حالة فوضى مطلقة، تطورت – ربما بطريق الصدفة- من خلال عمل قوى طبيعية بحتة، لينتج عالم منتظم به حركة دائرية منتظمة، ولم تهتم المدرسة الأبيقورية بتقديم هيكل النموذج الكوني لعدم إهتمام الأبيقوريين بالبحث المنطقي أو العلمي .

          وقد أعتبر المفكرون اليونانيون المتأخرون أمثال سيسيرو (106-43ق.م) بوجود الآلهة بدليل وجود التصميم في الكون، وتبعه الطبيب جالين (131-201م) في بيان قدرة  وروعة التصميم الألهي في أعضاء المخلوقات وخاصة فيما يتعلق بتناسق وتكامل الجسم البشري، واعتبر أنه يستحيل أن يمكننا أن نحسن في تصميم الجسد البشري.

           ولم تقدم الحضارة الرومانية أي جديد في العلوم الفلسفية والكونية، ودخلت الأفكار اليونانية الى المعتقدات المسيحية، ويبدو التوفيق واضحًا بين بعض المذاهب اليونانية كفلسفة أرسطو والمعتقدات اللاهوتية المسيحية، حيث اتفقا على أن العالم قد وجد من أجل غاية معينة، بينما ناسب نموذج كون أرسطو سفر التكوين، فاتخذته الكنيسة نموذجًا دينيًا . 

           أما بالنسبة للعصر الإسلامي، قد اعتمد القرآن الكريم دلائل التصميم الكوني والعضوي، بقصد تقديم الحجج المقبولة من البشر آنذاك {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت} الغاشية 17-20 ، ولهذا فقد صيغ النص بما يؤدي إلى معنى ظاهر مقبول ينبثق من تفاعل النص مع المعارف البشرية، ولهذا فاذا تغيرت المعرفة البشرية تغير المعنى الظاهر، أما المعنى الحقيقي المطلق، فلا يُبلغ إلا عند بلوغ المعرفة البشرية الحقيقة المطلقة.

           وقد قام العرب بدور هام في ترجمة الكتب اليونانية والمحافظة عليها، وأسهموا بدور فعال وهام في تقدم علوم الفلك والفلسفة، وكانوا أول من طبقوا مبادئ العدل والمساواة بين كل الأجناس، ووضعوا علم الجبر والمقابلات (المعادلات) وعلوم الأحياء والكيمياء والجغرافيا وعلم الإجتماع، واخترعوا الاسطرلاب وقدموا الأرقام العربية وكانوا اول من استخدم الصفر في الحساب، بينما شرح ابن رشد فلسفة أرسطو وأضاف الكثير إليها، وتلقفت أوروبا علومه وعلوم العرب لتبدأ عصر التنوير الذي تأسس على العلوم التي أخذتها عن العرب. وفضل حضارة الاسلام وما قدمته الى الحضارة البشرية أعظم من أن تشمله بضع سطور في هذا البحث، وليس هنا مكان سرده حيث أنه مفصلاً في العديد من الكتب المتخصصة، العربية منها والأجنبية.

          أما عن البلاغ القرآني فيما يتعلق بالكون والخلق، فقد جاء القرآن بصورة كونية مكملة من جهة، ومصححة من الجهة الأخرى للمعلومات التي سبقته، {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه} المائدة 48 ، وفي حدود المتطلبات التي بيناها في الباب الأول. وسيرد بالتفصيل إن شاء الله في البابين الثالث والرابع من هذا الكتاب.

وفي العصور الوسطي، ومرورًا بعصري التنوير والنهضة، كان الجدال بين أصحاب مذاهب الإستدلال على وجود الخالق بدقة وكمال التصميم – في المجالين الكوني الميكانيكي والعضوي – وأصحاب المذاهب المادية القائلين بعدم جدوى هذا الإستدلال لأنه ليس حاسمًا ولأنه يمكن الإستدلال منه أيضًا عن عدم كفاءة وعدم كمال التصميم .

           ان التفسيرات التي قدمتها الفلسفات اللاهوتية، ركزت على تكامل وتناسب المخلوقات مع بيئتها، والذي يعود الى التصميم الرائع الذي وضعه الله تعالى في هذا الكون، وركزت أيضًا على التصميم الميكانيكي للحركة الدقيقة التي تتبعها الأجسام السماوية، وأهمية مواقعها وتأثير بعضها على البعض، مما نشأ عنه الظروف الطبيعية والمناخية الملائمة للمخلوقات، ودللوا على أن أي إختلاف بسيط في هذا التوازن سوف يؤدي إلى فناء الحياة، وأن القدرة الإلهية هي التي أوجدت هذا التوازن الدقيق وهي التي ترعاه وتحافظ عليه. وكان الإعتقاد اللاهوتي حتى القرن التاسع عشر، أن المخلوقات تتدرج في سلم يبدأ في أسفله بالمخلوقات ذات الخلية الواحدة، ويتدرج في الترقي حتى يصل الى الإنسان الذي يشغل مكانًا متوسطًا، يعلوه الملائكة. وكانت هذه الأنواع ثابتة غير متطورة، لا تزيد أو تنقص لأن الله تعالى خلقها وما خلقه الله على كماله لا يمكن تحسينه أو فناءه إلا بمشيئته. وكانت هذه الأفكار مقبولة وراسخة حتى تحدتها نظرية أصل الأنواع (النشوء والإرتقاء) وأدت الى تقويضها، والتقويض – الظاهري أو المرحلي – لكل الإستدلالات التي إعتمدت دقة التصميم البيولوجي العضوي للكائنات الحية، فملائمة الأعضاء الدقيقة لإستخداماتها، لم ينشأ عن تصميم وإنما نشأ عن تطور هذه الإعضاء لتناسب البيئة والعمل المطلوب منها، فالعين لا ترى لأنها صممت لترى الأطوال الموجية الغالبة من الشعاع الشمسي، وإنما لأنها بدأت كرد فعل لما حولها ثم تطورت لتستخدم الموجود من الأطوال الموجية، لنقل المعلومات اللازمة للبقاء النوعي، ولأنها تطورت لتناسب الموجود ناسبت الموجود بدقة، ولم تناسب غيره، مما بدا لنا كدقة في التصميم، وهو ليس إلا تفاعلاً بين الكائن الحي وبيئته.   

           أما الإستدلال بدقة التصميم الكوني d ، أي الإستدلال الميكانيكي، فقد قضي عليه ظاهريًا أيضًا، بفكرة أن الجزء الذي نحيا فيه من الكون قد يكون هو الوحيد الصالح للحياة، ولهذا وجدنا فيه، وان الكون من الكبر والكواكب من الكثرة، حتى أنه يمكن إحتمال تصادف وجود واحدًا منها بالظروف التي وجد فيها كوكبنا، ولهذا فالإحتمال -وإن كان ضعيفًا- إلا أنه يمكن حدوثه، ولأنه حدث وبمحض الصدفة، فقد أدى إلى وجودنا، ولأننا نتجنا عنه، نستطيع أن نتساءل ونتعجب من دقة ملائمة الظروف لوجودنا، ثم نستدل من ملائمة الظروف وتوازنها الدقيق على روعة التصميم، والحقيقة التي يعتقدها أصحاب هذا التفسير، أننا وجدنا بمحض المصادفة ونتيجة تجمع هذه الظروف التي أدت إلى نشأتنا ووجودنا. وقد تطور هذا التفكير، إلى الإعتقاد بوجود أجزاء أخرى من الكون الذي نراه، والذي لا نراه، لم يسعدها الحظ بتوافر الظروف والعوامل التي تؤدي إلى نشوء الحياة فيها، ولهذا فهي أجزاء ميتة لا حياة فيها، ثم تطورت الفكرة مع ظهور نظرية النشأة المفردة، والتي تبين منها أن الكون نفسه تطور من خلال عمليات متعاقبة دقيقة الإتزان، إلى أن هناك عدد لا متناه من الأكوان الأخرى التي لم تتطور مثل كوننا، ولم تؤدِ إلى ظهور حياة، أي أكوان فاشلة بمقاييس البشر؛ والتي تعتبر أن النجاح لا يكون إلا في تطور الأكوان حتى تستطيع خلق المناخ الملائم لظهور الحياة التي تتطور بدورها حتى ظهور الإنسان. 

          وبالرغم أن الإستدلالات السابقة يمكن الإعتقاد بصحتها المرحلية، ونقصد بهذا أنها نجحت لفترة طويلة في تقديم تفسيرات تحل محل التفاسير التي تعتمد على التصميم، إلا أنها لا تسقط مطلقًا صحة فكرة الإستدلال على وجود الخالق بأدلة التصميم، حيث أنها تقدم تفسيرًا آخر، وإن كان لا يعتمد على القوى الغيبية، إلا أنه قد يتجاوز الحدود المعقولة للإعتقاد في إمكانية حدوث ما يمكن قبول إحتمال حدوثه ولو مرة واحدة في عدد لا متناهي من المحاولات.         

 أن نظرية أصل الأنواع لداروين (النشوء والإرتقاء) مع تعديلاتها الحديثة، لا تتعارض مع التصميم الألهي، وخاصة لو كان التطور من سمات هذا التصميم، والفكر الفلسفي اللاهوتي السابق لنظرية داروين، أعتمد مبدأ الخلق الآني المتكامل لكافة المخلوقات، أي أن الله تعالى قد خلق كل أنواع المخلوقات الحية في وقت واحد، الطيور والأسماك والحيوانات والزواحف والأشجار والنباتات والإنسان، كل هؤلاء في الستة أيام، وبالرغم من المذكور في سفر التكوين، إلا أن آيات الخلق القرآنية، وخاصة تلك التي تشير الى الستة أيام؛ لم تدل على خلق أي من المخلوقات الحية في هذه الفترة، وإنما أشارت الى خلق الكون من سماوات ومادة وطاقة. أما عن خلق الحياة، فهذا ما سنفصله في الباب الثالث.

<< previous page next page >>
  1. من كتاب ‘الله جل جلاله والإنسان’ الدكتور السامرائي، صفحات 32 و33و50 عن كتابي “الله” للعقاد و “مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة” لطه باقر .  (back)
  2. ويجب أن نتذكر أن ما وصلنا هو ترجمة النص الأصلي، الذي وصلنا عبر عدة لغات، والترجمة تعبر عن فهم المترجم للنص الأصلي، والذي ينتج من تفاعل النص مع المعارف الإنسانية في زمن الترجمة، وهذه ليست بالضرورة المعاني التي قد يعبر عنها النص الأصلي، لو اختلفت هذه المعارف في زمان لاحق، أي ان الترجمة تجمد معنى النص، فيتوقف عند زمان الترجمة.  (back)
  3. Teleology: Doctrine of final causes, view that developments are due to the purpose or design that is served by them. Anthropy: study of man and society  (back)
  4. لقد أخرج كوبرنيكس وكبلر وجاليلو الإنسان من موقعه المميز في مركز هذا الكون، وأخرجه داروين من مركزه المميز بين المخلوقات، إلا أن الفكر البشري وجد أن أهمية الإنسان لا تعود إلى الموقع أو المركز الذين قد يشغلهما، وإنما إلى قدرته على التفكير، وبالأحرى قدرته على المشاهدة والرصد، والتساؤل، ثم قدرته على تبادل المعلومات وحفظها جيل بعد جيل.  (back)