خلق الحياة
نظريات خلق الحياة في العلم الحديث
قبل النظر في موضوع الآيات القرآنية التي ورد فيها موضوع خلق الحياة، نسرد فيما يلي تلخيصًا لقصة خلق الحياة وفقًا لما توصل إليه العلم الحديث، بالطبع ليست كل تفاصيلها مثبتة، وما زالت هناك الكثير من الحلقات رهن البحث والتنقيب، إلا أنه يمكن القول أنها بصورتها العامة –لا التفصيلية- تفسر الكيفية التي تطورت وفقها أنواع الحياة المختلفة على سطح الأرض، ويجدر الذكر أن تفسير الكيفية التى أدت الى ظهور أول خلية حية لم يزل قيد البحث ولم يصل العلماء بعد الى الأدلة العلمية التي تؤكد ظهور هذه الخلية تلقائياً، وهذا لا يضعف النظرية ولا يقلل من أهميتها.
تتجه أغلب النظريات الحالية إلى أن كوكبنا الأرضي تكون كجزء من ذراع أحد نجوم الجيل الثاني a ، أثناء تكون هذا النجم منذ خمس بليون سنة، وقد تكوَّن من هذه الذراع أيضًا بقية كواكب المجموعة التي نسميها اليوم “المجموعة الشمسية”، وكان كوكب الأرض في منتصف هذه الذراع تقريبًا فتكون معظمه من المواد الثقيلة كالحديد b ، كان هذا الكوكب عند مولده منذ زهاء 4,6 بليون سنة كرة ملتهبة منصهرة، وبمرور مئات الآلاف من السنين، بدأ سطح الكوكب المنصهر يتكون من المواد الأخف التى طفت على السطح وأخذت تبرد وتتجمد تدريجيًا، ومع الحرارة والضغوط الهائلة التي استمرت في باطنه الحديدي المنصهر، أندفعت منه أبخرة وغازات أحاطت بسطح الكوكب مكونة غلافه الغازي، وظهرت على سطحه البراكين والزلازل، وأنبثقت كميات كبيرة من المياه مكونة الينابيع والبحار والمحيطات، تبخر بعضها ليكون سحبًا ضخمة رعدية ممطرة. ويعتقد العلماء أن الجو في الحقبة الأولى تكون أساسًا من ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء، ومع وجود ثاني أكسيد الكربون الذي يمنع الحرارة من النفاذ الى الفضاء الخارجي، ولا بد أن الحرارة الجوية كانت أعلى مما هي عليه الآن، ومع مرور الزمن، أخذت درجات الحرارة في الإنخفاض تدريجيًا، فتكثفت أبخرة الماء وسقطت أمطار غزيرة على الأرض.
وترى النظريات العلمية الحديثة ان الحياة بدأت على كوكب الأرض ربما منذ أربعة بلايين سنة، عندما كان المناخ مختلفًا الى حد كبير عما هو عليه الآن، فلم يكن هناك كميات تذكر من الأكسجين الحر، مع وفرة الماء وثاني أكسيد الكربون والميثان، وقد أظهرت التجارب أن المركبات العضوية مثل الأحماض الأمينية تتكون تحت الظروف التي نعتقد أنها كانت موجودة في هذه الحقبة الأولى، ويعتقد علماء التطور – ونقول هنا يعتقد وليس لديهم دليلا حتى الآن، وهذا النقص في الأدلة لا يتعدى كيفية وجود الخلية الأولى، أما بعد ذلك، فيوجد بعض الأدلة والتي يعتبرها العلماء كافية لتدل على أغلب المراحل – أن التفاعلات الكيميائية لهذه المركَّبات العضوية في الظروف المناخية الأولى، أدت الى تكون أول خلية حية في المحيطات c ، وأول صورة للحياة هي Prokaryotes ، وهو كائن أولي بسيط ميكرسكوبي ذو خلية واحدة دون نواة، يتكاثر عن طريق الإنقسام، وكان يعتمد في أول الأمر على المركبات العضوية الأخرى في مصدر قوته، وتطور ليتغذى عن طريق التفاعلات الكيميائية المولدة لطاقة d Chemosynthesis ، ثم من الضوء عن طريق خاصية التمثيل الضوئي Photosynthesis e . (نجد لها دليلا في أحفورة Fossil تعود الى منذ 3,4 بليون سنة تقريبًا cyanobacteria blue-green algae &). وقد أنتشرت هذه الكائنات في كل المحيطات، وأدت عملية التمثيل الضوئي الى تحرير الأكسجين في الجو، ونجد أن الطبقة الجوية قبل 1,7 بليون سنة أصبحت تحتوى على أكسجين حر، حيث ظهر في الطبقات الجيولوجية التي تعود الى ما قبل هذه الحقبة حديد مأكسد. وقد ظهرت خلال هذه الحقب كائنات أكثر تطورًا هي Eukaryotes وبالرغم أنها كانت وحيدة الخلية إلا أنها احتوت على نواة وأجهزة لتخزين الطعام والتنفس وكانت تتوالد عن طريق التزاوج بدلاَ من الإنقسام، وأدى هذا الى البدء في ظهور أنواع جديدة، وحتى بليون سنة قبل الآن كانت هذه الكائنات الأولية البسيطة والأنواع التي تطورت عنها هي المسيطرة على الأرض، بعد ذلك ومع توفر الأكسجين في الجو بكميات كافية، ظهرت الكائنات المتعددة الخلايا، وكانت هذه الكائنات ذات أجسام رخوية، ومنها ظهرت Jellyfish & worms التي تعود الى أكثر من 680 مليون سنة قبل الآن، وظهرت الحيوانات الصدفية منذ 570 مليون سنة بعدها ظهرت الفقاريات والأسماك منذ حوالي 500 مليون سنة، ومنذ 400 مليون سنة خرجت بعض النباتات والكائنات من الماء الى اليابسة، وظهرت الزواحف reptiles منذ 330 مليون سنة، وظهرت الأسماك المتنوعة وسمك القرش في البحار. وظهرت أيضًا أول أنواع الحشرات، ثم ظهرت الديناصورات منذ 220 مليون سنة والتي انقرضت منذ 65 مليون سنة، وزامنها تنوع كثير في أنواع الحياة الأخرى من حيوانات وحشرات وكائنات بحرية. وظهرت الطيور منذ مائتين مليون سنة، والنباتات الزهرية منذ مائة وستة وثلاثون مليون سنة، ثم الثدييات Mammals ، وظهر الإنسان المنتصب على رجلين منذ 10 مليون سنة تقريبًا. وقد تطور الإنسان وتفرع عدة فروع منذ ذلك الزمن، وانقرضت كل هذه الفروع فيما عدا الفرع الذي جاء منه كل الناس اليوم، وقد نما حجم مخه تدريجيًا خلال تطوره، قد تبين التدرج في نماء حجم مخ الإنسان من 500 سم3 الى متوسط 1300-1500 سم3 من قياس حجم الفراغ داخل الجماجم التي تم العثور عليها والتي تعود الى عدة أزمان من هذه الحقبة الطويلة.
وقد قام العلماء حتى الآن بتسجيل ووصف أكثر من مليونين من الأنواع النباتية والحيوانية، ويوجد عدد أكبر بكثير من الأنواع والتي لم يسجلها العلماء بعد، وتتراوح تقديراتهم أن هناك بين 10 ملايين الى 30 مليون نوعا يوجدون على كوكب الأرض، وقد يتجاوز العدد الفعلي هذه الأرقام.
وتفسر نظرية الإنتخاب الطبيعي، عملية التحولات النوعية في الكائن الحي، والتي أدت الى هذا التنوع الذي بدء من خلية واحدة، على أنها نتيجة تراكم التغيرات النوعية الطفيفة التي تحدث في الكائن الحي نتيجة محاولته التكيف بصورة أفضل مع تغيرات الظروف البيئية المحيطة به، وهذه التغيرات الطفيفة تحدث تعديلاً طفيفًا في السلسلة الإهليجية التي تتضمن تعليمات إنشاء وصيانة الكائن ذاته ( DNA ) والتي يورثها الكائن الى نسله، فإن نجح هذا التغيير في جعل الكائن أكثر تكيفًا مع بيئته فانه يستطيع الأستمرار والتناسل، بينما التعديلات الفاشلة ينتج عنها كائنات هي وذريتها ضعيفة غير قادرة على التكيف مع بيئتها، فتندثر هذه الكائنات الأقل ملائمة، وخلال فترات زمنية طويلة، يبقى فيها فقط أصحاب التغييرات الصالحة، فتتقدم الكائنات وتتنوع وفق الظروف والبيئات التي تتعرض لها، وخلال عدة بلايين من السنوات ومع تراكم هذه التغييرات الطفيفة التي قد لا يمكن حصرها، وصل تنوع الحياة الى ما هو عليه الآن. والأنسان وفق هذه النظريات ما هو إلا فرع من الفروع الكثيرة التي تشعبت اليها شجرة الحياة، ولا يختلف تكوين ال DNA الإنساني عن ذلك الموجود في بقية انواع الحياة وحتى عن ذلك الموجود في الأشجار والنباتات إلا بجزء صغير من تلك الأوامر البنائية للمخلوق.
هذا تبسيط لما توصل اليه العلم الحديث، مع بعض إختلاف النظريات التي تفصَّل الأسباب والسبل التي أدت الى التطور، ونقص التفسيرات فيما يتعلق ببعض التفاصيل الهامة وخاصة فيما يتعلق بخلق أو تطور العقل الإنساني، وكيفية بدأ الخلية الأولي.
رأي بعض الباحثين المسلمين في نظرية أصل الأنواع لداروين
قدم الدكتور محمد دودح الباحث العلمي بالهيئـة العالميـة للإعجاز العلمي في القرآن والسنـة في رابطة العالم الإسلامي مكة المكرمة، بحثًا قيمًا بعنوان ” خلق الإنسان تقدير وقصد” . وقد رفض الدكتور نظرية داروين التي وردت في كتابه أصل الأنواع ورفض أيضًا نظريات أتباعه التي جاءت تحت أسم الداروينية الجديدة وخاصة فيما يتعلق بمبدأ الصدفة التي قالوا أنها تحكم النشوء والتطور، وقد بين زيفهما في أجزاء البحث، والذي يهمنا هنا هما الجزئين الخامس والسادس، وخاصة الجزء السادس الذي جمع فيه آراء الباحثين المسلمين، الذي قد يتبين منها عدم رفض بعضهم لفكرة التطور طالما كان هذا التطور من سنن الله تعالى في خلقه. ونعرض هذين الجزئين كما وردا في البحث فيما يلي:
(5) رأي الكنيسة:
اعتمادا على سفر التكوين geneses رفضت الكنيسة الداروينية ليس لسبب تجاهل تدبير الله فحسب وإنما لمصادمة نصوص يستحيل حملها على التطور تدل على أن آدم هو اسم أول إنسان على الأرض وأنه خلق مباشرة من ترابها بلا أطوار تسبقه: “وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة” تكوين 7, وأنه فقد ضلعا خُلقت منه امرأته مباشرة: “فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما وبني الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم” تكوين 21و22, ولذا اختارت الكنيسة رفض التطور بحزم وإلا شككت في صحة التدوين.
(6) رأي الباحثين المسلمين:
رفض جُل الباحثين المسلمين الداروينية إجمالا باعتبارها أحد شباك الإلحاد كما يُرفض الطعام كله إذا خالطه سم, قال الدكتور أحمد أبو خطوة: “نحن كمسلمين لا نتفق إجمالا مع نظرية التطور إن لم تُدخل في اعتبارها القدرة والمشيئة الإلهية” (5), واكتفى البعض برفض الصدفة وتوقفوا في إمكان الأطوار المقدرة كتفسير للتنويع الهائل في أشكال الكائنات الحية على الأرض, فوافقوا نظريات حديثة تجعل التقدير أساسا للتطور إن صح كمقولة التطور الموجه بوعي Rational Directed Evolution وتجنبوا الخوض فيما لم يفصل فيه العلم بعد؛ فقد جاء في فتاوى الأزهر: “ورد أن اللّه خلق الإنسان نوعا مستقلا لا بطريق النشوء والاشتقاق من نوع آخر، وإن كان كلا الأمرين من الجائز العقلي الذي يدخل تحت قدرة اللّه تعالى، قال بعض العلماء: إنه لا يوجد فى النصوص أن الله خلق الإنسان الأول من تراب دفعة واحدة أو بتكوين متمهل على انفراد فسبيل ذلك التوقف وعدم الجزم بأحد الأمرين حتى يقوم الدليل القاطع عليه فنعتقده ما دام أن الذي فعل ذلك كله هو الله تعالى, ثم إن النواميس المذكورة فى مذهب داروين ظواهر واضحة في الكون ولا حرج في اعتقادها ما دام أن الله هو الذي خلقها ووجهها فهي لا تحقق وجودها من نفسها: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ} الأنعام 102، فهو خالق المادة والنواميس”(6), “(ولكن) قولهم إن المخلوقات خُلقت عشوائيا بغير تدبير سابق وعلم محكم يرده قول اللّه سبحانه {إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} القمر 49″(7).
وقال الأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم: “يقرر العلم الحديث أن الحياة ظهرت على هذه الأرض أول ما ظهرت على شواطئ المسطحات المائية حيث يتكون بجوارها الطين الذي نشأ منه.. النبات فالحيوان فالإنسان وأن هذا التطور في حالات الطين وأشكاله.. حدثت عبر ملايين السنين حتى أثمرت.. وكان أكمل وأكرم ثمره من ثمارها في النهاية هو الإنسان, والقرآن الكريم لم يبين لنا كيف تفرعت هذه الشجرة حتى كان الإنسان أحد فروعها ولكنه أشار في أكثر من آية إلى الصلة الوثيقة بين الإنسان وعالم الأحياء الناشئ من الماء الممزوج بالتراب, ففي قوله تعالى: “وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ” النور 45, وقوله سبحانه: “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ” الأنبياء 30؛ دلالة قوية على أن الأحياء كلها ومنها الإنسان مخلوقة من مادة واحدة هي الماء”(8),
وقال سيد قطب: “شطر الآية.. “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ” الأنبياء 30؛.. يقرر.. حقيقة.. أن الماء هو مهد الحياة الأول.. وأقصى ما يُقال.. إن نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النص القرآني في هذه النقطة بالذات”(9).
وساق البعض نقولا عن علماء مسلمين تصرح بأن التدريج مع التنويع وتطور الأشكال ظاهرة واضحة في الكون ولا تُعارض أن الله تعالى هو المدبر وإنما تُبين كيف بدأ الخلق, فغاية الوجود معرفة الله وعبادته ولذا كانت الوجهة منذ خلق الكون والأرض هي إيجاد الإنسان صاحب الفكر ليقوم بالمهمة, والتطوير دليل على التقدير وإلا ما كانت الوجهة دائما نحو الأرقى, قال ابن خلدون: “أنظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج, آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف.., ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر”(10), وقال البروسوي: “يكون الإنسان في زمرة الجمادات وأول نعمة عليه أن الله تعالى كرمه فنقله من عالم الجماد إلى عالم النبات ثم عظم شأنه فنقله من عالم النبات إلى عالم الحيوان فجعله حساسا متحركا بالإرادة ثم نقله إلى عالم الإنسان فجعله ناطقا وهى نعمة أخرى أعظم مما سبق”(11), وفي تفسير الميزان: “العناية الإلهية تهدي أنواع النبات والحيوان إلى كمال خلقها وغاية وجودها”(12).
ولكن علماء الإسلام لم يستخدموا كلمة التطور Evolution على نحو ما تعنيه في الداروينية وإنما بمعنى الترقي المتدرج في التنويع بيانا لوحدانية الله تعالى وقدرته, فوحدة الخلق في الأصل والطبيعة دليل على وحدانيته وطيف التدرج الواسع في التنويع دليل على قدرته تعالى, قال جوهري: “سنة التطور والارتقاء .. تجري عليها الطبيعة في جميع أركانها من الذرة.. إلى النظام الشمسي”(13), و”سنة الكون الترقي من أسفل إلى أعلى”(14).. “لا يُخلق الأعلى إلا بعد خلق الأدنى فلم يُخلق الحيوان إلا بعد خلق النبات ولم يُخلق الإنسان إلا بعد خلق الحيوان”, ولكن “شعار الكون هو ذا: الوحدة في التفنن, فإن صعدت في سلم العوالم وجدت وحدة النظام والخلقة مع تفنن لا يعرف حده في تلك الأجرام الفلكية, وإن أجلت بنظرك في مراتب الحياة من (أدنى) الكائنات إلى أعلاها وجدت وحدة التناسب والتسلسل, كذلك القوى الطبيعية كلها صادرة بالتسلسل عن قوة أصلية واحدة”(15), وقد “خلق اللهُ العالم من مادة واحدة ليستدلوا على (وحدانيته) وقدرته”(16), وفي بيان الحكمة وراء خلق الجنين الإنساني في أطوار قال ابن عاشور: “التطور هو مقتضى الحكمة وهي من شؤون العلم وإبرازُه على أحكم وجه هو من أثر القدرة” , و”الأطوار دالة على حكمة الخالق وعلمه وقدرته فإن تطور الخلق.. والذاتُ واحدة.. دليل على تمكن الخالق من كيفيات الخلق والتبديل في الأطوار”(18), وقال سيد قطب: “ليس هناك ما يمنع من وجود أنواع من الحيوان في أزمان متوالية بعضها أرقى من بعض بفعل الظروف السائدة في الأرض ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة حياتها ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة, ولكن هذا لا يحتم أن يكون بعضها متطوراً من بعض”(19).
وتجنب آخرون المأثور وسلكوا مسلك التأويل على وجه غير شائع في التفسير بغير جزم, فقالوا مثلا: الزواحف تمشي غالبا على بطنها كالتمساح لثقله وتمشي الطيور على رجلين والثدييات على أربع؛ فإذا كان هذا هو ترتيب خلق أنواع الحيوان قبل الإنسان فهو نفس الترتيب مع بيان وحدة الأصل في قوله تعالى: “وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ فَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” النور 45, ولم يقل القرآن بأن الطين أصل مباشر للإنسان بل جعله بداية فحسب: “الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ” السجدة 7، ولم يعتمد القرآن رواية الضلع المفقود وإنما أفاد اصطفاء آدم كالأنبياء من بين أقوامهم وبقية الأجناس مما يحتمل أنه نبي جد رأس أمة: “إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ” آل عمران 33, وفي قوله تعالى: “إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ” آل عمران 59؛ قد يقال أن عيسى كآدم وكانت نشأته مباشرة فكذلك يجب أن تكون نشأة آدم من التراب مباشرة, ولكن لا توجد دلالة صريحة على خلق آدم فجأة وإنما المقام بيان للاقتدار فالمثلية في الاقتدار وظاهر المعنى أن الذي قدر على إيجاد آدم من تراب رغم الفرق الشاسع بينهما أهون عليه خلق عيسى نظيره بلا أب, وتقدير خلق آدم أطوارا يعمق الفرق ويبين القصد ويجلي الاقتدار, والقول بخلق الإنسان أطوارا يفيد أن خلقه هو المقصود على طول أطوار خلق العالم, ولذا يرجعه القرآن عند التفصيل إلى صلصال أو طين لازب, وفي قوله تعالى: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ” الحجر 26؛ الحمأ المسنون أشبه ما يكون بصخر ناري طحنته السنون وكلها أحوال مرت بها الأرض, وعندما يحدثك القرآن قائلا: “خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ” العلق 2؛ فلا يعني خلق الجنين مباشرة مما يماثل علق البرك وكذلك النوع, وقوله تعالى: “خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ” الأنبياء 37؛ يرجع الإنسان للحالة الأولى للكون حيث لم تكن مادة وإنما موجة أو اهتزازة تتردد في عجل كتعبير عن الشيء بلازمه, والمقام يتعلق بمادة خَلقه وطبيعته بعكس السائد أنه وصف لخُلُقه وطبعه نحو قوله تعالى: “وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً” الإسراء 11, ولكن الفيزياء نجحت بالفعل في إثبات توحد معظم القوى وتسعى جاهدة لإثبات توحدها جميعا في حالة سميت بالتوحد الكبير super unification أساسها قوة واحدة سميت بالقوة الكبرى Super Force قد نشأت منها كل القوى والمواد وتطورت أشكال الذرات والمجرات وأخيرا ظهر الإنسان, وفي قوله تعالى “مّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلّهِ وَقَاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً” نوح 13و14؛ قالوا: لا قيد يخصص الوصف بأطوار الجنين وظاهره مجموع النوع الإنساني منذ كان نباتا خاصة مع الاستطراد بعده بآيتين: “وَاللّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرْضِ نَبَاتاً” نوح 17, قال الجاعوني: “الكلام مسوق سوق الحقيقة من غير تشبيه واستعارة.. (و)استدلّ بها (الشيخ الوائلي) على أنها قد تشير إلى خلق الإنسان التدريجي من طور إلى آخر.. (وقال) هذه النظريّة أي تطوّر النبات إلى حيوان ثمّ إلى إنسان.. إذا قلنا.. عفوًا (أي ذاتيا صدفة؛ فهي) مرفوضة من أساسها.. (لأنه) لا شيء عفوًا بل بإرادة الله, (و)إذا قلنا.. (بتقدير) الخالق.. لا عفوًا فلا ضير من ذلك”(20), ومجمل القول أنه لو ظهر يوما ما بمعزل عن الداروينية دليل يرجح التطور بتقدير الله فالإسلام لا يصادم حقيقة مطلقًا أما اليوم فالدليل مفقود, والاستنصار لنشأة الإنسان خاصة من الحيوان بلا دليل علمي يؤيد تحوله ولا قرينة صارفة لظواهر المأثور سيظل كذلك ادعاء محل شك, ويسبق القرآن في بيان أول حالة للكون دليلا على الوحي وتأكيدا لخلق الإنسان بتقدير وقصد مهما كانت الكيفيات كحلقة متميزة من جملة حلقات موجهة بوعي منذ البدء؛ وذلك وفي قوله تعالى: “خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ” الأنبياء 37.
المراجع / الهامش:
5. د. أحمد نبيل أبو خطوة العدد الخامس من مجلة الإعجاز العلمي.
6. فتاوى الأزهر ج7ص399.
7. فتاوى الأزهر ج7ص412, مجلة الأزهر ج2ص749, مجلة الهداية البحرين عدد مارس 1993.
8. القرآن وإعجازه العلمي – الأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم ج 1ص97.
9. في ظلال القرآن لسيد قطب المتوفى سنة 1386 هـ ج5ص155.
10. مقدمة ابن خلدون ج1ص40.
11. تفسير حقي البروسوي المتوفى سنة 1137 هـ ج13ص71.
12. تفسير الميزان للطباطبائي المتوفى سنة 1402 هـ ج9ص293.
13. تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ج7ص140.
14. تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ج2ص48.
15. تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ج2ص180.
16. تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ج1ص146.
17. تفسير الطاهر بن عاشور المتوفى سنة 1393هـ ج11ص101.
18. تفسير الطاهر بن عاشور المتوفى سنة 1393هـ ج15ص337.
19. في ظلال القرآن لسيد قطب المتوفى سنة 1386 هـ ج3ص195.
20. النشوء والارتقاء ورؤية القرآن للخلق – تاج الدين محمود الجاعوني.
(*) خديعة التطور – عدنان أوكطار (هارون يحيى, جاويد يالجن)””” >> أنتهى
مما جاء في البحث المذكور، يتبين أن الرفض كان رفض إرجاع كلاً من النشأة الأولى وديناميكية التطور الى مبدأ الصدفة، وقبول فكرتي النشأة الأولى والتطور إذا كانتا بمشيئة وقدرة وتقدير الله سبحانه وتعالى. والتقدير هو التحديد المسبق لما سيؤول إليه الشيء المخلوق، ولا يمكن الجزم أن التقدير الألهي كان عند خلق الخلية الحية الأولى، إذ أن الأولى والأكمل أن يكون التقدير لحظة خلق الكون نفسه أو ما قبل ذلك، لأن لحظة خلق الكون تخرج عن مجال وقدرة علوم البشر المعاصرة والمستقبلية، بحيث يبدو الخلق ومراحل تطوره بعد هذه اللحظة كله معقولاً، سواء نظرنا إليه نظرة المؤمن بقدرة الله، أو المعتقد بمبدأ الصدفة، فيتحقق بذلك مبدأ عدالة الإختيار، في عالمنا الذي أبلغنا الدين أنه عالم إختبار، والذي يتبين من قوله تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا … } (الملك 2)، وفي قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا…}.
علوم الإنسان في عصر فجر الإسلام:
عرف القدماء ان جسد الإنسان يجف ويتحلل عندما يموت، ثم يصبح في نهاية الأمر ترابًا، واستنبطوا من هذا أنه مكونٌ من ماء وتراب، مثله مثل كل المخلوقات الحية الأخرى f ، أما كيف تحول هذا الطين الى مخلوقات فكان عليهم أن يوجدوا نظرية تفسر هذه العملية. كانوا يصنعون من الطين أواني وتماثيل، وكانت بعض هذه التماثيل تشبه المخلوقات إلا أنها جماد لا حياة فيها، فكان من التفسيرات التي توصلوا اليها أن الله عمل من هذا الطين تماثيل، ثم نفخ فيها روحًا فدبت فيها الحياة، ثم خلق لها أزواجا فتزاوجت وأنجبت وهكذا حتى امتلأت الأرض. ولا بد أنه كان هناك فروعا كثيرة تنبع من نفس الفكرة، منها أن الله خلق ناس وحيوانات كثيرة من أول الأمر، ومنها أنه خلق رجل وامرأة فأنجبا ثم تكاثرت ذريتهما. وكانوا بالطبع يعرفون أن الإنجاب يكون من مني الرجل يقذف في رحم المرأة ليصبح جنينًا ثم يولد طفلاً، وقد يفشل الحمل فيسقط الجنين وهو في أحد مراحل تطوره، فتبين لهم من ذلك صور بعض مراحل نمو الجنين في الرحم.
بالطبع هذه النظرية البسيطة – وكعادة النظريات حتى المعاصرة منها – أنها تدفع الى الأذهان بأسئلة أكثر بكثير مما تجيب عليه، ولكن لابد أنها كانت أفضل الموجود آنذاك تفسيرا وإقناعًا.
ولا شك ان العرب في القرن الميلادي السادس، قد عرفوا بعض قصص الخلق التي تمخضت عن المعتقدات والأساطير التي كانت شائعة في مختلف الحضارات القديمة. وكان العرب قبل الإسلام يعبدون أصنامًا تقربهم الى الله، هم بمثابة ملائكة لها مكانة وشفاعة وسلطان g . ونظرًا لتوطن اليهود في المدينة وهي قريبة من مكة، ونظرًا لوجود قلة مسيحية في الجزيرة العربية، فان طبيعة الفضول عند الإنسان تستدعي ان نفترض ان أهل مكة وأهل المدينة قد عرفوا ولو بصورة عامة وتقريبية قصة الخلق التوراتية المذكورة في سفر التكوين، والتي لخصت موضوع كيفية الخلق في أن الرب خلق السماوات والأرض والناس والحيوانات والطيور والأسماك والنباتات وكل شيء في ستة أيام، أي ان الرب خلق الحياة بكل أنواعها في عدة أيام، وكان خلق كل نوع دفعة واحدة بجنسيه المذكر والمؤنث، والتي ورد فيها أيضًا قصة خلق آدم، وخلق زوجته من ضلعه، ثم خروجهما من الجنة.
ومن المتوقع مع بزوغ الدين الجديد، أن يتناول هذا الدين موضوع خلق الحياة بصورة عامة، وخلق الإنسان بصورة خاصة، وحيث أن الإسلام أعلن أنه امتدادًا للأديان التي سبقته، خاصة اليهودية والمسيحية، وأنه تصحيحًا لما شابها من تحريف وإضافة ونقصان، كان لا بد أن يتشابه بعض السرد القرآني مع ما سبقه في التوراة والأنجيل، وأن يختلف عنهما فيما سوف نعتبره تصحيحًا للمعلومات التي شابها التحريف خلال القرون السابقة له.
سنبحث في هذا الفصل موضوع خلق الإنسان، وهو أحد الموضوعات التي تناولتها بعض الكتب المعاصرة تحت باب الإعجاز العلمي للقرآن، وقد ساهم فيه الكثير من فقهاء وعلماء الأمة، وقدموا أبحاثا قيَّمة في هذا المجال، وما هذا البحث، إلا إضافة متواضعة وخطوة صغيرة ضمن المسيرة الطويلة المستمرة والمتجددة، وما التوفيق إلا من عند الله سبحانه وتعالى.
ومنهجنا في البحث أن ألآيات المتعلقة بموضوع ما، يجب أن تدرس كلها، ولا يصح إنتقاء آية بمعزل عن الأيات الأخرى، لأنها تؤدي المعنى التوفيقي المطلوب، هذا ليس هدفنا ولا يصح، بل هدفنا أن نعي الرسالة السماوية كما جاءتنا، ونفهم معانيها دون أن نسمح لمعلوماتنا المُسبقة بالتأثير عليها، ولا ننكر صعوبة هذا الأمر، ولا يعني هذا أننا لن نستفيد من علومنا ومعارفنا الحديثة، فهذه أيضًا من أسس البحث، وأنما ستكون معاني ألفاظ وجمل النص هي العامل الوحيد المطلق في تحديد دلالة الآيات، فأن توافق المدلول مع معارفنا، فالحمد لله، وان تعارض، أشرنا الى ذلك، وأعدنا النظر في علومنا.
أما عن بيان ما هو إعجاز النص، فان النص إذا أتى بإشارة الى حقيقة معروفة في عصر نزوله فهذا ليس إعجازًا، بل هو وصفًا لمعلوم أو لمشاهد، وتذكرة للناس بما أنعمه الله عليهم. بالطبع كل ما في هذا الكون آيات معجزة، من ورقة الشجر الى الفراشة، من الدواب الى الشجر والنجوم، من الجبال والسماء الى الرياح والمطر، هذه كلها معجزات سواء نظرنا إليها نظرة العالِم المتفحص أو نظرة المؤمن الخاشع، ولكنها معجزات الخالق وليست من معجزات القرآن وهي كثيرة، فالمعجزة القرآنية هي أن يتضمن النص معلومات لم تكن معروفة زمن نزوله، وان لا تتعارض دلالات النص مع العلوم الصحيحة في أي عصر.
والسرد القرآني؛ وان كان موافقًا في دلالته الى حد كبير لما دل عليه الفكر الشائع آنذاك، إلا أنه لم يتبع النظريات المعاصرة لزمن نزوله في تفاصيلها، وأثار قضايا ربما لم تكن لتخطر على بال هؤلاء الناس، وأهمها قضية مرحلية الخلق والتطور والبعد الزمني لهذه العمليات. أتصور إن القدماء وان شاب نظريتهم المبسطة كثيرا من الفجوات والتساؤلات، إلا أنهم لم يكونوا ليستطيعوا أن يتخيلوا أن الخلق له بدء وأطوار حتى وصل الى ما هو عليه، بل ان الناس حتى عهد قريب لا يتجاوز مائة وخمسون سنة قبل اليوم، كانوا يقدرون عمر الإنسان على الأرض ببضعة آلاف من السنين، ولم يكن لديهم سبب حتى يتطرقوا الى فكرة ان التركيب الجسماني الإنساني ربما يكون قد تطور، فالتطور الجسماني الوحيد الذي عرفوه كان النمو الجسدي سواء كان في الرحم أو خارجه.
ولو نظرنا الى النصوص القرآنية المتعلقة بهذا الموضوع، يمكن إيجازها في أنها تشير الى أن الله تعالى خلق كل دابة من ماء، وبدء خلق الإنسان من طين، ومن سلالة من طين، ومن طين لازب، وخلق البشر من تراب، ومن حمأ مسنون، ومن صلصال كالفخار. وأنه تعالى خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة، ثم خلق النطفة علقة، فخلق العلقة مضغة، فخلق المضغة عظاما، فكسا العظام لحمًا، ثم أنشأه خلق آخر، ثم بعد ذلك يميته، ثم يبعثه يوم القيامة.
وورد أن الله تعالى خلق آدم وكرمه وعلمه واصطفاه وفضله على العالمين، وأنه خلق الناس كلهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء.
وأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة فمستقر ومستودع، وما خلقنا وما بعثنا إلا كنفس واحدة. وأنه تعالى خلق الأزواج كلها. ووأنه تعالى خلق من كل شيء زوجين.
وأنه تعالى أنشأنا h من الأرض، وأنبتنا من الإرض إنباتا i ، وأنه أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن فيه شيئا مذكورا. وأنه تعالى خلقنا أطوارا.
مما سردناه سابقًا نجد ان النصوص القرآنية، وان أخذت في اعتبارها المتعارف عليه عند البشر في تلك العهود الماضية، إلا أنها أضافت إليه معلومات في غاية الأهمية، يمكن القول أنها لم تكن لتخطر ببال البشر في هذه العصور بل وربما كانت خارج حدود مداركهم.
ومن الملاحظ أنه لم يرد في أي من النصوص القرآنية أي من الأساطير والخرافات التي كانت شائعة في هذه العصور، كما لم يرد فيها مثل ما ورد في النصوص التوراتية من أن كلا من الخلق الكوني وخلق الحياة بكل أنواعها تم في الأيام الستة الأولى، بل إن النصوص القرآنية تفصل بوضوح بين خلق الكون وخلق الحياة، وتفصل بين الأزمنة التي خلق فيها أو ظهر فيها كل نوع على حدة، سواء كان من أنواع الحياة الكربونية المعروفة لدينا أم تلك الغيبية منها كالملائكة والجن . ويشير النص القرآني الى أن خلق السماوات والأرض تم أولا في الفترة النسبية التي عبر عنها بالستة أيام، ثم خلق بعد ذلك الجن ثم خلق الإنسان، لا يوجد زمان لخلق الملائكة ولكن المؤكد أنهم وجدوا قبل البشر ومن الأرجح وفق السرد أن يكونوا قد خلقوا قبل الجن، ولكن خلق الملائكة والجن ليس من الموضوعات التي يجدر بنا أن نخوضها .
تشير النصوص القرآنية الى أن الله تعالى خلق كل دابة من ماء، وفي هذا توحيد لمكونات خلق كل الأنواع الحية التي تسكن كوكبنا، وبالرغم أن هذا قد يكون معلومًا آنذاك؛ إلا أنه يضع الإنسان في مكانه المتواضع في الكون، حيث ان القرآن اشار أيضًا الى ان كل المخلوقات أمم مثلنا j ، وأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم ثم علمه البيان وأكرمه، وأنه لولا أنه علمه البيان وأكرمه لظل أبد الدهر شيئًا غير مذكورًا. ويجدر الإشارة هنا أن النص القرآني لم يشر في أي مكان الى أن الله خلق الأنسان على صورة الله ذاته، بل يؤكد غير هذا، حيث ان الله ليس مثله شيء، وتشير النصوص الى أن “بدء” خلق الإنسان كان من طين، والأهمية هنا في لفظ “بدء”، وهذا دلالة على مرحلية الخلق وأن له بدأ ومرحلية واكتمال، وان بدء الخلق لم يكن بالإرادة الإلهية الفورية “كن فيكون” k ، أي انه قد يكون خاضعاً لقاعدة الأسباب ومعقولاً. والبدء قد تدل على طول المرحلة التالية حتى وصول الإنسان الى صورته التي هو عليها.
وأشارت النصوص أنه سبحانه خلق الإنسان من “سلالة” من طين، وهذا قد يدل – إذا أخذنا معنى سلالة أنه إنحدار قوم أو نوع من أصل واحد مشترك- ان الإنسان لم يظهر من الطين دفعة واحدة، أو من خلال عملية واحدة، وإنما عبر سلالة هو آخر حلقاتها. بل وليس في أي من النصوص القرآنية على كثرتها؛ ما يشير الى أن الله خلق أول إنسان من الطين في عملية واحدة وفي نفس الوقت، بل أنها تؤكد ان هذا الخلق كان له ابتداء ثم امتداد خلال فترة زمنية، وليس في النص ما يحدد طول هذه الفترة، وليس فيه ما يمنع أن تكون فترة طويلة من الزمن.
وورد أيضًا أنه سبحانه خلق الإنسان من حمأ مسنون، ومن صلصال كالفخار. وأنه بعد أن خلق الإنسان من سلالة من طين، أنشأه خلق آخر، أي ان الخلق لم يصل الى صورته الحالية الا بعد أن أنشأه الله خلق آخر.
ويجب التنويه هنا أنه أصبح من الملاحظ علميًا، ان الفترات الأولى لنمو الجنين في الرحم، قد تتبع الى حد ما، ما يعتقده علماء التطور، المراحل التي مرت بها الكائنات خلال تطورها من الخلية الأولى حتى وصولها الى الدرجات الراقية التي وصلت اليها، وينطبق هذا على أجنة الحيوانات الأخرى، إذ تتشابه بعض الأجنة في مراحل تطورها الأولى ثم تبدأ في الإختلاف بعد ذلك طبقًا لنوعها. ولهذا نجد أن التفسيرات القرآنية المرحلية السابقة قد وجدت في تطور الأجنة المعاني الصحيحة للآيات القرآنية المتعلقة بالخلق في الرحم، والتي قد تدلنا أيضًا على الخلق التطوري.
<< previous page | next page >> |
- نجوم الجيل الأول هي النجوم التي تكونت من تكاثف الغازات الأولية كالهيدروجين وانضغاطها بتأثير الجاذبية وارتفاع حرارتها حتى بدأ التفاعل النووي فيها، والذي استمر عدة بلايين من السنوات وتم خلاله تكوين العناصر الأثقل من الكربون حتى الحديد وما بعده، وعند انتهاء مخزون الطاقة النووية لهذه النجوم، انفجر بعضها – السوبرنوفا – وانتشرت هذه الذرات الثقيلة في الفضاء مختلطة بسحب الهيدروجين والغازات الخفيفة الأخرى، لتكون نجومًا جديدة ( هي نجوم الجيل الثاني ) والتي تميزت بهذه العناصر التي طردت خلال انضغاط الكتلة الغازية، مكونة الذراع الذي منه تكونت الكواكب التي تدور حول النجم الجديد، مثل الأرض. (back)
- يتكون باطن الأرض من المواد الثقيلة كالحديد والنيكل، ويمتد حتى قطر 4000 ميل، أما طبقة الوسطى فقطرها 2000 ميل تقريبًا فتتكون من الأحجار السليكية الخفيفة الغنية بالحديد والمغنسيوم، ويبلغ سمك القشرة بين خمسة أميال إلى عشرين ميلا وهي طبقة من الأحجار الخفيفة. (back)
- هناك بعض العلماء االذين يعتقدون أن الفترة الزمنية التي توفرت منذ تكون الأرض حتى ظهور الحياة فيها قد لا تكون كافية حتى تنتج هذه التفاعلات الخلية الأولى، ويعتقدون أن بذرة الحياة تكونت في الفضاء الخارجي وهبطت الى الأرض مع الشهب حيث نمت وانتشرت. (back)
- Synthesis of carbohydrate from carbon dioxide and water using energy from chemical reaction . (back)
- The process by which the chlorophyll- containing cells in green plants use lights as energy source to synthesize carbohydrates from carbon dioxide and water. (back)
- ولأنه يتحلل من خلال عملية لها رائحة غير طيبة فقد يكونوا قد اعتقدوا أنه مكون من طين منتن وماء آسن. (back)
- ويجدر الذكر هنا أن بعض العرب قبل الإسلام كانوا يعرفون الله ولا ينكرونه، ولكنهم جعلوا له شركاء، وهذا ما جاء الإسلام لتصحيحه. (back)
- أنشأ دارا : بدأ بناءها وكل من ابتدأ شيئا فقد أنشأه، والنشء أحداث وصغار الناس، وأنشأ الله الخلق أي ابتدأ خلقهم، وقوله تعالى: {هو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات} أي إبتدعها وبدء خلقها. (back)
- { والله أنبتكم من الأرض نباتا } نوح 17. ذكر المفسرون ان نباتا مصدر على غير المصدر، والمعنى أنبتكم إنباتا. (back)
- عندما نشر داروين نظريته في كتاب أصل الأنواع، كان أشد ما أثار حفيظة الناس عليه أنه جعلهم من سلالة الحيوانات وأن أصلهم من القردة، وهذه مرحلة من المراحل، والبدء كان من مخاليط من الماء الآسن والتراب، وهذا يتفق الجميع فيه، أما أن يعود أصل الإنسان الى القردة فهذا لم يثبت، بل الأرجح أن يعود أصل الإنسان الى ما قبل ذلك، وان الفرع الإنساني لم يأت من فرع القرود. (back)
- { ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } آل عمران:59 “كن فيكون” في خلق آدم وعيسى لم تعبر عن خلق فوري من العدم، بل دلت على أنه في هاتين الحالتين خلقهما الله من تراب، أي أن الخلق بمعنى تقدير ما منه وجود الشيء وربما وجوده تم قبل أمر الله كن فيكون، لأن ثم تشترط إنقطاع ما قبلها قبل بدء ما بعدها، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل فيما بعد. (back)