عندما نفهم الآيات المتعلقة بالخلق وعلوم الطبيعة في ضوء معارفنا وعلومنا المعاصرة، يقولون لنا:
لم يقل أحدٌ بمثل هذا من قبل، إذهب وأقرأ تفاسير السلف والتزم بها، كيف تأت بفهم مغاير لما قال به الأوائل، هل أخطء المفسرون الأوائل ومن جاء بعدهم خلال أربعة عشر قرن حتى تأتي أنت بفهم جديد مغاير لما فسروه!
هذه كلها إعتراضات صحيحة. ويتوجب علينا أن نعرف لماذا الإختلاف في الفهم؛ لا يدل على صواب طرف وخطء الطرف الثاني. ألا يمكن أن يكون كلاهما على صواب. لهذا وضعت هذه الدراسة للإجابة على هذه التساؤلات.
بالطبع؛ أطّلعت وقرأت تفاسير السلف الصالح في آيات الخلق والعلوم الطبيعية، تفاسير الأئمة الطبري والقرطبي وابن كثير رضي الله عنهم، ولم أقل أن تفسيرهم خطء وفهمي صواب، بل أننا كلانا أصاب في فهم المعنى المراد له أن يفهمه. مع وضع خط تحت جملة: المعنى المراد له أن يُفهم.
لأن المعنى المراد، هو ما يتأتَ من تفاعل النص الثابت مع المعارف والعلوم المعاصرة التي في ذهن المتلقي، الفكرة المسبقة والموجودة في ذهن المتلقي لها تأثير على ما يفهمه من دلالة النصوص والكلمات، وحيث أن النص ثابت بينما المعارف والعلوم متغيرة، ينتج عن هذا تغير المعاني.
ويجب التنويه هنا أننا لا نتحدث عن معاني باطنية، وإنما نتحدث عن المعنى المباشر الذي يتأتى من معاني الكلمات المستقاة من معاجم اللغة ومن تراكيب الجمل، وهذا بعد تجميع كافة الآيات المتعلقة بالموضوع الذي ندرسه، سواء كان خلق الحياة، خلق الكون، أوصفات الكون وظواهر الطبيعة.
نعود الى موضوعنا، قلت أن المعنى المراد، هو ما يتأتَ من تفاعل النص الثابت مع المعارف والعلوم المعاصرة التي في ذهن المتلقي. لو أخذنا خلق آدم مثالاً، المعروف لديهم في القرون الأولى أن آدم خُلق من الطين مباشرة، إذ كان هذا الشائع وفق إعتقاد الناس حتى قرون قليلة مضت، الله تعالى خلق آدم مباشرة من الطين أو التراب، كما ورد في كتب اليهود في سفر التكوين:
(وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً) (تكوين 2 : 7)
نجد في هذه النصوص التوراتية، خلق آدم مباشرة من تراب الأرض. ونعلم أنه يوجد في كتب التفسير الكثير من الإسرائيليات، إذ كانت هذه هي معارف وعلوم الأوائل. فصيغت آيات خلق الإنسان بحيث تسمح بفهمها وفق هذه المعارف التي كانت مقبولة ومجمع عليها في زمانهم، وصيغت هذه الآيات أيضًا بحيث تسمح بفهمها وفق العلوم والمعارف التي ستتقدم وتتغير وفق مسيرة تقدم المعارف البشرية في القرون المستقبلية. أي أن النص الثابت، وضع بصيغة تسمح بتغير دلالاته مع تغير وتقدم العلوم والمعارف البشرية. وهذا ما نجده في آيات الخلق إذ نجد فيها المعنى التطوري الموجه كما تبين في الدراسات التي عرضناها من قبل، بل وسيصعب علينا التفسير لو أصررنا على معاني الخلق المباشر، الذي ولى زمانه.
وهذا يأخذنا الى سؤالين وربما أكثر، وهما لماذا؟ وكيف؟
لماذا لم تنص هذه الآيات – من البدء – بإحكام ووضوح، على معاني العلوم الصحيحة المطلقة؟
وكيف استطاع القرآن الكريم مخاطبة مختلف العصور كلا وفق علومه ومعارفه؟
للإجابة على السؤال الأول، يجب أن ننظر في وظيفة النص العلمي في الخطاب الديني.
نتوقع من أي رسالة سماوية أن تحتوى على إجوبة مقنعة للأسئلة الكبرى التي تدور في أذهان الناس، مثل: من أين جاء هذا الكون؟ وكيف خلقنا؟ وما هو مصيرنا؟ وهل هناك شيئا بعد الموت؟
الأسئلة الكبرى التي ذكرناها، وغيرها الكثير، تتعلق بعالمين، عالم الغيب وعالم الشهادة. عالم الغيب وهو ما قبل الكون وما بعده وما خارج حدوده، وهو ما كان في الكون غائبًا عنا لا يمكن أن تدركه حواسنا، كل هؤلاء ليس لدينا وسيلة عقلية للإطلاع عليهم أو معرفتهم، لهذا أشترط الوحي أن نؤمن بالغيب، والغيب هو الغيب الحسي وغياب سبل الإستدلال العقلي عليه، وورد هذا في أول الكتاب بعد سورة الفاتحة:
{الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)} سورة البقرة.
قال المفسرون: الغيب هو ما غابَ عن العباد من أمر الجنة وأمرِ النار. الذين يؤمنون بالغيب “: آمنوا بالله وملائكته ورُسُلِه واليومِ الآخِر، وجَنّته وناره ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت. فهذا كله غيبٌ.” وهذا نؤمن به كما ورد في الرسالة السماوية ولا نفسره أو نتأوله أو نخوض فيه. وهذا ليس منوط بالدين وحده، وإنما ينطبق على كل علومنا المعاصرة، التي تقف عند حدود الكون المشاهد، وليس لها أي عطاء علمي في ما قبله وما بعده وما هو خارجه.
أما عالم الشهادة، أي عالم الكون المشاهد، فهذا يقع في نطاق حواسنا ومعارفنا. ولهذا نتوقع أن المعلومات المتعلقة بعالم الشهادة، سترد في الرسالة السماوية، بقصد تأكيد صدقها، أي أنها سترد كحجة وبرهان. وليس كمادة علمية. لهذا لا نتوقع أن يرد ذكر موضوع خلق الكون وخلق الحياة كمادة علمية مجردة، لأنه لو ورد كمادة علمية لما أدى دوره كحجة وبرهان لدى قوم يجهلون التصورات العلمية الصحيحة، ولهذا كان من الحكمة أن تصاغ المعلومات الصحيحة في صيغة تتناسب مع معارف المتلقي، فالحجة يجب أن تكون مقنعة حتى تقوم بالغاية المطلوبة منها. ولأن الحجة لا يراد منها أن تصبح قضية يُجادل فيها؛ توجب ألا تتعارض مع المعارف الإنسانية في أي مرحلة من مراحل تطوره، وخاصة زمن التنزيل.
وعليه، نجد أن النصوص الكونية ونصوص الخلق في القرآن، وردت على إنها حجة وبرهان لدعم جوهر الرسالة الروحي، وأنها ليست مقصودة في حد ذاتها أي بمعناها العلمي البحت، وليس الغرض منها تعليم الناس أو إحداث طفرة علمية لبشر ليسوا مؤهلين لتلقيها أو فهمها.
من الصحيح ان الدين الإسلامي قد جاء بطفرة وثورة إجتماعية سياسية إقتصادية غيرت من أخلاق وتقاليد وعادات المجتمع العربي خاصة والبشر عامة، ولكن ليس صحيحًا أو مطلوبًا أن يأتي الدين الإسلامي أو غيره بطفرة علمية. لقد جابهت الدعوة الإسلامية الجديدة معارضة عنيفة كادت أن تودي بها في المهد، وليس من المنطق السليم أن نتوقع منها إحداث ثورة علمية أيضًا. لقد كان الرسول محاطًا باليهود ينظرون في الآيات ويمحَّصونها ويحكمون بصحتها أو زيفها بناء على معتقداتهم التوراتية، وخاصة فيما يتعلق بالكونيات وقصة خلق البشر، وكان بعض العرب الذين يتلقون هذه الرسالة يرجعون إليهم ويعتبرون برأيهم ويحكمون بموجبه على مصداقيتها، والتي أعلنت عن نفسها أنها آخر الرسالات السماوية وإنها مصححة ومكملة وخاتمة لما سبقها. أضف إلى كل هذا أن مبلغ العلوم الكونية عند العرب والبشر عامة؛ كان لا يتعدى خليطًا من نصوص الأديان التي سبقته؛ ومن كون أرسطو وأفلاطون؛ وما تفتقت عنه الأساطير والمعتقدات القديمة، فلماذا تأتِ الرسالة بطفرة علمية تحدثها في قوم ليسوا مؤهلين لتلقيها أو فهمها. أو تتضمن حجة وبرهان عليها يحتاج في حد ذاته إلى برهان.
ذكرنا أنها ثورة في أكثر من مجال فلماذا قلنا أنها لا تكون علمية أيضًا. إضافة الى أن هذا يخرج بالرسالة عن موضوعها الأساسي، سوف نجد أن العلم يختلف عن غيره من المعارف، ولا يستفاد منه إلا بالترقي فيه درجة درجة وجيلا بعد جيل، العلم لا يمكن إيجازه في كتاب لن يفهمه أو يستفيد منه أحد، وإنما هو ثمرة مشاهدات وتجارب ومحاولات، وتقدم بطيء يزيل الغموض عن أسرار الكون طبقة بعد طبقة بعد طبقه .
العلوم والمعارف الحديثة، لا يصح إيجازها وسردها على الناس في هذه العصور القديمة، كيف يخبرهم الوحي أن الكون عمره أكثر من ثلاثة عشر بليون سنة، وأن الحياة بدأت من خلية واحدة تطورت عبر أكثر من ثلاثة بلايين سنة حتى ظهر الإنسان منذ بضعة ملايين سنة، وأنهم يعيشون فوق كرة تدور حول الشمس، وأن هناك مثل شمسنا مائة بليون شمس أخرى (أي نجم) في مجرتنا درب التبانة فقط، وإن هناك ترليون مجرة أخرى في كل منها نجوما مثل ما في مجرتنا، وهذا فقط في الجزء المرئي من هذا الكون المتسع الشاسع فوق أي حجم قد يتخيلونه، أو حتى نتخيله نحن في هذا العصر الحديث، هل كانت علومهم ستتسع لتشمل هذه المعارف، هل كانوا سيقبلون هذه العلوم التي تخالف وتتحدى فهمهم المتواضع البسيط، بالطبع لا، بل وسيؤدي هذا الى رفضهم الرسالة لما تحتويه من علوم تخالف الفكر السليم، وفق تصورهم وفهمهم.
بل وما الفائدة التي ستعود عليهم من إخبارهم بأي من هذه العلوم، سوى البلبلة الفكرية والإختلاف وربما الإقتتال بين من يصدق ومن يرفض، وهل يكون التصديق بهذه الأمور من شروط الإيمان بالرسالة الجديدة. بالطبع لا.
إن الرسالات السماوية ليس من أغراضها إحداث طفرة علمية، وإنما الإرتقاء الروحي والتوجيه الأخلاقي وحفظ الأنفس والحقوق ونشر العدل والمساواة، ولهذا تحرص على عدم خلخلة الفكر العلمي المعاصر لها، وعدم التدخل أو التأثير على التقدم الطبيعي للمعارف والعلوم البشرية. لهذا جاءت بحيث لا تتعارض مع المعتقدات المعرفية المعاصرة لها. ولأنها رسالة أيضًا إلى كل البشر اللاحقين، والذين سوف تتطور معارفهم العلمية وتتغير، كان يجب على هذه الآيات التي أحتوتها الرسالة الأخيرة، والتي تخاطب الناس في كل الأزمنة، أن تصاغ بحيث تخاطب كل عصر بما يتوافق مع معارفهم. وهذا ما نجده اليوم في الآيات القرآنية المتعلقة بالخلق وطبيعة الكون.
وهنا نصل الى السؤال الثاني: كيف استطاع القرآن الكريم مخاطبة مختلف العصور كلا وفق علومه ومعارفه؟
الآن يأتي دور الآيات المتشابهات، والتأويل والتفسير المرحلي:
الآيات الكريمة التي أشارت الى خلق الكون وخلق الحياة، تدخل ضمن الآيات المتشابهات، والتي ورد ذكرها في الآية الكريمة من سورة آل عمران:
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ(7)}
والتأويل هو إما أعادة الشئ إلى أوله أو إلى ما سيؤول إليه، وقد يبدو من ظاهر هاتين الآيتين، أن هذه المعرفة القاطعة المطلقة إما أنها فوق قدرات فهم البشر، أو أن القرآن قد وضع بطريقة لا يمكن معها تأويله قبل أوانه.
ويهمنا النظر ببعض التفصيل، في موضوع الآيات المتشابهات، لأن له إتصال وثيق بموضوع هذه الدراسة.
أختلف الفقهاء في تعريف المحكم والمتشابه، وفي رأي لابن عباس أن المحكمات هي التي يؤمن بها ويعمل بها؛ أي هي آيات التشريع العملي من أحكام وحدود وفرائض، أما المتشابهات فهي التي يؤمن بها ولا يعمل بها؛ ومنها كل ما يتعلق بالغيبيات وآيات الخلق والأمثال.
جاء في تفسير الإمام الطبري: ”وَأَمَّا قَوْله : { مُتَشَابِهَات } فَإِنَّ مَعْنَاهُ : مُتَشَابِهَات فِي التِّلَاوَة , مُخْتَلِفَات فِي الْمَعْنَى.“ إنتهى
التشابه في التلاوة والإختلاف في المعنى، هو ما يدلنا أن النص الثابت قد يدل الى معاني مختلفة متغيرة، وقد يكون هذا التغير نتيجة طبيعية لتطور المعارف البشرية. وهذا التفسير قد لا يطبق إلا على آيات الكون المشاهد بما فيه من ظواهر طبيعية وأحياء، أما الإخبار بأمور الغيب، فهذه لا نعلم بها وتخرج عن قدرات العقل البشري في تأويلها، ولهذا فهذه لا تؤول وأنما يؤمن بها.
جاء في تفسير الإمام القرطبي: ”اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ” وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم “ هَلْ هُوَ اِبْتِدَاء كَلَام مَقْطُوع مِمَّا قَبْله , أَوْ هُوَ مَعْطُوف عَلَى مَا قَبْله فَتَكُون الْوَاو لِلْجَمْعِ . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر أَنَّهُ مَقْطُوع مِمَّا قَبْله , وَأَنَّ الْكَلَام تَمَّ عِنْد قَوْله ” إِلَّا اللَّه “.“
” وَمَذْهَب أَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّ الْوَقْف التَّامّ فِي هَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا هُوَ عِنْد قَوْله تَعَالَى “وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ “ وَأَنَّ مَا بَعْده اِسْتِئْنَاف كَلَام آخَر، وَهُوَ قَوْله ”وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ“. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَأُبَيّ بْن كَعْب وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة . وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ نَسَق ”الرَّاسِخُونَ“ عَلَى مَا قَبْله وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ . وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْض أَهْل اللُّغَة فَقَالَ : مَعْنَاهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ آمَنَّا “
” قُلْت: مَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مُجَاهِد غَيْره فَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الرَّاسِخِينَ مَعْطُوف عَلَى اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي عِلْم الْمُتَشَابِه ، وَأَنَّهُمْ مَعَ عِلْمهمْ بِهِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِه “
” وَاحْتَجَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَة أَيْضًا بِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه مَدَحَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْم؛ فَكَيْفَ يَمْدَحهُمْ وَهُمْ جُهَّال وَقَدْ قَالَ اِبْن عَبَّاس: (أَنَا مِمَّنْ يَعْلَم تَأْوِيله) وَقَرَأَ مُجَاهِد هَذِهِ الْآيَة وَقَالَ: أَنَا مِمَّنْ يَعْلَم تَأْوِيله “
” قُلْت: وَقَدْ رَدَّ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْقَوْل إِلَى الْقَوْل الْأَوَّل فَقَالَ: وَتَقْدِير تَمَام الْكَلَام”عِنْد اللَّه“ أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه يَعْنِي تَأْوِيل الْمُتَشَابِهَات، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَعْلَمُونَ بَعْضه قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا بِمَا نَصَبَ مِنْ الدَّلَائِل فِي الْمُحْكَم وَمَكَّنَ مِنْ رَدّه إِلَيْهِ. فَإِذَا عَلِمُوا تَأْوِيل بَعْضه وَلَمْ يَعْلَمُوا الْبَعْض قَالُوا آمَنَّا بِالْجَمِيعِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا، وَمَا لَمْ يُحَطْ بِهِ عِلْمنَا مِنْ الْخَفَايَا مِمَّا فِي شَرْعِهِ الصَّالِح فَعِلْمه عِنْد رَبّنَا”
“وَالْوَقْف عَلَى هَذَا يَكُون عِنْد قَوْله ” وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم “. قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عُمَر: وَهُوَ الصَّحِيح ; فَإِنَّ تَسْمِيَتهمْ رَاسِخِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَر مِنْ الْمُحْكَم الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمه جَمِيع مَنْ يَفْهَم كَلَام الْعَرَب. وَفِي أَيّ شَيْء هُوَ رُسُوخهمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَم الْجَمِيع .
لَكِنَّ الْمُتَشَابِه يَتَنَوَّع , فَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَم الْبَتَّة كَأَمْرِ الرُّوح وَالسَّاعَة مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِغَيْبِهِ , وَهَذَا لَا يَتَعَاطَى عِلْمه أَحَد لَا اِبْن عَبَّاس وَلَا غَيْره. فَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاء الْحُذَّاق بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ عِلْم الْمُتَشَابِه فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْع، وَأَمَّا مَا يُمْكِن حَمْله عَلَى وُجُوه فِي اللُّغَة وَمَنَاحٍ فِي كَلَام الْعَرَب فَيُتَأَوَّل وَيُعْلَم تَأْوِيله الْمُسْتَقِيم، وَيُزَال مَا فِيهِ مِمَّا عَسَى أَنْ يَتَعَلَّق مِنْ تَأْوِيل غَيْر مُسْتَقِيم; كَقَوْلِهِ فِي عِيسَى : ” وَرُوح مِنْهُ “ [ النِّسَاء : 171] إِلَى غَيْر ذَلِكَ فَلَا يُسَمَّى أَحَد رَاسِخًا إِلَّا أَنْ يَعْلَم مِنْ هَذَا النَّوْع كَثِيرًا بِحَسْب مَا قُدِّرَ لَهُ “ أنتهى الإقتباس.
عليه، فقد ذهب بعض الفقهاء الى أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل، بينما ذهب البعض الآخر الى أنهم يعلمونه، وفي آخر فقرة من المنقول عن تفسير الإمام القرطبي، بين أن بعضه يمكن علم تأويله، وبعضه الآخر -الذي يدخل في باب الغيبيات- لا يُعلم تأويله.
ويتضح من الآية أن الرسوخ في العلم هو الطريق الوحيد الى فهم معاني المتشابه الممكن تأويله، شرط أن يجتمع العلم مع الإيمان، لقوله تعالى{ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا }. أما المحكم فقد جاء عنه ” أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَر مِنْ الْمُحْكَم الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمه جَمِيع مَنْ يَفْهَم كَلَام الْعَرَب“.
والنتيجة أن المتشابهات، والتي عرّفها الإمام الطبري أنها “مُتَشَابِهَات فِي التِّلَاوَة، مُخْتَلِفَات فِي الْمَعْنَى”، الآيات من المتشابهات المتعلقة بالكون المشاهد يمكن للذين رسخوا في علوم الكون والطبيعة والخلق في عصر ما، هم فقط يمكنهم تأويلها. والإختلاف في المعنى الذي أشار إليه الأمام، هو ما ينتج عنه التفاسير المرحلية المتزامنة مع تقدم العلوم والمعارف.
دلالة لفظ التأويل
في القرآن، استخدمت كلمة “تأويل” في الآيتين 78 و 82 من سورة الكهف ، لبيان أسباب التصرفات الغريبة التي قام بها العبد الصالح الذي رافقه النبي موسى كما ورد في الآيات من 65 إلى 82 من سورة الكهف، إذ قال العبد الصالح لموسى: {قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (78)} وهنا عرف النبي موسى تأويل ما رآه فقط عندما أُخبر به.
كما تم استخدام لفظ تأويل في سورة يوسف (في الآيات 6 و 21 و 36 و 37 و44 و 45 و 100 و 101) ليعني تفسير الأحلام في قصة سيدنا يوسف، وفي قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ…} وهنا أيضًا تعلم يوسف التأويل، أي لم يكن ليستطيع لو لم يكن تعلمه.
أستخدم لفظ تأويل أيضًا بقصد حدوث شيء تتحدث عنه الآية ، كما في الآية 53 سورة 7:
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ …… (53)} سورة الأعراف
تخبرنا هذه الآية أن التأويل المطلق والنهائي سيأتي (أو سيحدث) في نهاية العالم (أي في يوم القيامة).
بينما في الآية التالية من سورة يونس، تفيد أنهم كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.
في قوله تعالى: {بلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (39) سورة يونس
تبين لنا الآيات السابقة أن التأويل يحتاج عامل آخر خارج عن النفس، الإخبار في حالة النبي موسى، التعليم في حالة سيدنا يوسف، الحدوث في حالة آية سورة الأعراف، والإحاطة بعلم ما وأن يأتهم تأويله في حالة الآية من سورة يونس.
أما في حالة الآيات الكونية وآيات الخلق، فتعرف دلالاتها عند وصول العلم إلى المعرفة المعنية بها هذه الآية. أي كلما تكشفت لنا تصورات أو نظريات علمية جديدة، أمكننا تأويل الآيات المتعلقة بها.
وعليه، الآيات المتشابهات المتعلقة بعلوم عالم الشهادة، لا يمكن تفسيرها إلا من قبل العلماء بعد أن يصبحوا راسخين في المعرفة. والوصف “الراسخ في المعرفة” ينطبق اليوم على العلماء عامة، وخاصة علماء الكون والطبيعة والأحياء والفلاسفة.
لذلك ، يمكن فقط للعلماء، والأشخاص المطلعين على أحدث الأبحاث العلمية، فهم بعض آيات المتشابهات، تلك التي تتناول عجائب الكون والحياة والخلق، بقدر ما تسمح به معرفتهم العلمية وفي أوانها، أي بعد التوصل إلى هذه المعارف.
الذي يدل أن الله سيبين للناس آياته العلمية المتعلقة بالكون المشاهد وبأنفسهم قوله تعالى:
{سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (53) سورة فصلت.
يقول ابن كثير: ”سَنُرِيهِمْ آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أَنْفُسهمْ“ أَيْ سَنُظْهِرُ لَهُمْ دَلَالَاتنَا وَحُجَجنَا عَلَى كَوْن الْقُرْآن حَقًّا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْد اللَّه عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَائِل خَارِجِيَّة ” فِي الْآفَاق “ مِنْ الْفُتُوحَات وَظُهُور الْإِسْلَام عَلَى الْأَقَالِيم وَسَائِر الْأَدْيَان قَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن وَالسُّدِّيّ وَدَلَائِل فِي أَنْفُسهمْ قَالُوا : وَقْعَة بَدْر وَفَتْح مَكَّة وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْوَقَائِع الَّتِي حَلَّتْ بِهِمْ نَصَرَ اللَّه فِيهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحْبه وَخَذَلَ فِيهَا الْبَاطِل وَحِزْبه وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد مِنْ ذَلِكَ مَا الْإِنْسَان مُرَكَّب مِنْهُ وَفِيهِ وَعَلَيْهِ مِنْ الْمَوَادّ وَالْأَخْلَاط وَالْهَيْئَات الْعَجِيبَة كَمَا هُوَ مَبْسُوط فِي عِلْم التَّشْرِيح الدَّالّ عَلَى حِكْمَة الصَّانِع تَبَارَكَ وَتَعَالَى.“
بالإضافة الى تفسير الإمام الذي وافق زمانه، نلاحظ في هذه الآية الكريمة من سورة فصلت، أن رؤية الآيات تحددت في موضوعين، في الآفاق وفي أنفسنا.
أما الآفاق، وهي منتهى البصر وحدوده، أي أقصى ما يمكن أن نشاهده في السماء، فهذا كما اكتشف العلماء مؤخرًا، نرى فيها تاريخ الخلق الكوني، فنحن عندما ننظر في الآفاق، نرى مراحل تطور الكون وكيف كان منذ بلايين السنين، وهي الفترة التي استغرقها الضوء حتى يقطع هذه المسافات الكونية الشاسعة، بل وأن كل فهمنا العلمي لمعجزة بدء الخلق الكوني وتاريخه، أستمده العلماء من خلال النظر الى هذا الأفق السماوي، باستخدام تلسكوبات منها الفضائية كهابل ودبليو ماب.
أما المعجزة الثانية وهي خلق الحياة فهذه تبينها لنا دراسة الجسم الحي، أي أنفسنا كما ورد في الآية الكريمة، والتي من خلال علوم التشريح والوراثة والخلايا والبيولوجيا الجزيئية والسلسلة الأهليجية الجينوم وعلوم الحفريات والمتحجرات يتمكن العلماء من تكوين فهم لمعجزة خلق وتنوع الحياة.
الآية واضحة تبين أن عجائب الكون والمخلوقات ستتكشف لنا في المستقبل، وكلما تكشفت حقائق علمية جديدة، سنتمكن من تأويل وفهم آيات في القرآن تتعلق بهذه الظواهر.
وفي قوله تعالى {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (93) سورة النمل، ما يدل على قدرتنا معرفة هذه الآيات عندما يكشفها الله تعالى لنا، فتصل إليها علومنا.
ولفظ الآيات المذكور في الآيتين السابقتين وغيرهما يراد به المعجزات، ومنها الآيات الكونية وآيات الخلق، وهذه معجزات تدل على الخالق المهيمن. بينما تعود الهاء في لفظ أنهُ في {..حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ .. }(53) سورة فصلت، الى الآية التي سبقتها{..وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (41) فصلت. وهذا يدل على تطابق الآيات الكونية المستقبلية التي سنراها في الآفاق وفي أنفسنا مع الآيات المتعلقة بهذين الموضوعين في القرآن الكريم.
أي أن هذه الآيات ذات النص الثابت منذ زمن التنزيل، تحمل معاني ودلالات علوم مستقبلية لم يكتشفها الإنسان بعد، والذي عندما يكتشفها في المستقبل، سيجدها مذكورة في آيات القرآن الكريم، فيتبين له أنه؛ أي القرآن؛ الحق من عند الله تعالى. وهذا في حد ذاته يرد على القائلين إذا كان القرآن به هذه العلوم فلماذا لا تستخرجوا منه نظريات علمية حديثة؟. إكتشاف النظريات والتصورات الحديثة يسبق فهم دلالات هذه الآيات، وليس العكس، لقوله تعالى {سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} أي نرى الآيات أولاً، بمعنى نحقق الإكتشافات العلمية أولاً، ثم {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} لأننا بعد أن نكتشفها سنجدها مذكورة في آيات القرآن الكريم، فنتيقن أنه الحق من عند ربنا، أي القرآن.
وهل معنى هذا أن هذه الآية خاملة حتى نكتشف العلوم التي تخصها، بالطبع لا، فالعلوم متطورة تتقدم بإستمرار، ومعاني الآية يتوافق مع مراحل هذه العلوم والتصورات الإنسانية، أي أن الآية مصاغة بحيث لا تتعارض مع علوم البشر في مختلف مراحل التقدم، بحيث يجد كل عصر المعنى الذي يتفق مع العلوم المتفق على صحتها في ذلك العصر، سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة، متى تحقق في هذه المعلومة شرط الإتفاق عليها وقبولها.
مثال ذلك، خلق الإنسان، السلف الصالح فهموا الآيات أنها تشير الى خلق مباشر من التراب، لأن هذا كان مدى علمهم. واليوم نجد في نفس الآيات أن بدأ الخلق كان من الطين، وأنه إستغرق أزمانا ودهورا مرت على الإنسان لم يكن شيئًا مذكورا، حتى استوى واكتمل الإنسان، ثم خلقه الله تعالى خلقا آخر هو البشر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رابط الفيديو في قناة المضاربة على اليوتيوب:
التأويل والتفسير المرحلي لآيات خلق الكون وخلق الحياة في ضوء معارفنا وعلومنا الحديثة